مثل وموال: متنوعات
يعود هذا الباب فى شكل جديد، وهو يحاول أن يورد عددا أكبر من الأمثلة العامية، لا لدراستها وتفسير ألفاظها، ولكن لاستلهامها وتحديد منافع ثقافية تلزمنا من خلال الوعى بنبضها وتوجهاتها، وذلك بدلا من أن يصاغ وعينا بالمستورد من “كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر فى الناس” (مثلا)، وهذه الثروة حتى وإن لم تـعـد تمثل حضورا جاهزا فى وعى الجيل الأصغر، يمكن أن تكون مدخلا إلى معرفة النفس، ومعرفة الناس، ومعرفة الآخر.
(1) أحبـك أحبـك، لكن أد نفسى لأ
الحديث عن الحب، مازال يسود أوساطا تربوية، ونفسية، ومن ثـم عامة، بصورته المثالية قصيرة العمر، وهذا المثل يشير إلى قاعدة بسيطة، وهو أن الحب يبدأ بحب النفس (وليس الأنانية), ومن ثم يأتى حب الغير، هذا المثل يكاد ينفى أولا: خدعة أن تحب نفسك فى الآخر.
ينقل أبو حيان التوحيدى عن أرسطو فى رسالة الصداقة والصديق “الصديق هو أنت إلا أنه بالشخص غيرك“، وهذا الإسقاط، والتوحد “أنا من أهوى ومن أهوى أنا” هو أخبث خدع العلاقة بالموضوع، لآن معناه البسيط أن الإنسان لا يحب إلا نفسه، وحتى إذا أحب الآخر فهو يحب فيه نفسه، وهذه هى الأنانية، لكن الوجه الآخر الذى يقدمه المثل هو الإعتراف بحب النفس ككيان يستأهل ذلك وبالتالى لا داعى لإسقاطه على الآخر حتى أحب فيه، ومتى أحببت نفسى بوضوح وشبع، فاضت ثقتى بوجود على وجود الآخر، وبالتالى أحببته هو بما هو وليس بما أسقطت نفسى عليه، فمن لا يستطيع أن يحب نفسه (بذكاء يرفض الأنانية) لا يستطيع أن يحب غيره، وهذا الاعتراف الطيب يؤكد الوعى الواقعى فى الحب بين الناس البسطاء الذى خرج هذا المثل من وعيهم .
(2) إداين وازرع ولا تداين و تبلع
مثل له تطبيق “سياسي” حالى , وهو شديد الحساسية، هل يا ترى يمكن أن نحسب ديوننا (ديون الدولة) قديما وحديثا كم منها ذهب للإنتاج (وازرع)، وكم منها ذهب للبلع (القمح) ناهيك عن الذى راح لمكاتبهم الإستشارية، ونزع الرخام الجميل القديم، ولصق “جرانيت” حديث يتزلق عليه المشاة؟ (فى قصر العينى مثلا).
(3) جت الدودة تقلد التعبان، اتمطعت، قامت اتقطعت
هل مازلنا بعد ذلك نسير وراء وهم الديمقراطية الغربية، وإشاعات حقوق الإنسان التى هى صنع بلاد بـره، وبرامج البحث العلمى الموصى عليها من الخارج لخدمة أغراضهم قبل حل مشاكلنا، آن الأوان ألا نكون دودا، فإذا كان هذا هو الواقع فلنكن دود قز يفرز الحرير، بدلا من أن نكتفى بتقليد الثعبان.
(4) جمل بارك من عياه، قال حـملوه يقوم
يفهم هذا المثل – لأول وهلة – باعتباره جهلا بما يحدثه المرض من عجز، وقسوة من الذى لا يمـيز بين جمل بارك للراحة، وآخر بارك بسبب المرض.
لكن للأمر وجها آخر – لا أعتقد أنه كان يغيب عن وعى الناس حين قالوا هذا المثل، ذلك لأنه ثمة مرضا نفسيا يكون أقرب إلى الكسل الاختياري، (ليس إدعاء، ولا دلعا، أنظر الحالة الطويلة فى باب فى حالات وأحوال), ويكون العلاج هو أن تدفع مثل هذا المريض ليواجه مسئوليته التى لا يملك إلا أن يقوم بها، مثل الذى تقذف به إلى البحر وقد نسى العوم إلا قليلا، فيضطر أن يعوم، أو مثل المريض النفسى الذى طالت إقامته بالمستشفي، ثم تحسن قليلا أو تحسن إلا قليلا، وكلما لـوح له بالخروج ظهرت الأعراض : دون قصد واع، وقد يخدع ذلك الأطباء، فى هذه الحالة قد يكون أفضل علاج هو إخراج المريض فجأة لمواجهة الحياة بأعبائها، فإذا به يلم نفسه ويكتمل شفاؤه.
وثمة موقف آخر يؤكد هذا الفهم الثانى للمثل وهو ما نصح به” إريك بيرن ” صاحب مدرسة التحليل التفاعلاتى من أن نخاطب ونعامل المريض باعتباره مازال يمتلك تنظيما بيولوجيا وتركيبيا : ناضجا قادرا مسئولا حتى لو بدا فى الظاهر مشـوشا ناكصا منسحبا، فيبدو موقفنا ونحن نخاطبه بجديه، ونطلب منه منطقا واقعيا يبدو- لأول وهلة – أننا لا نفهمه، أو لا نحترم تشوشه، أو لا ندرك ضعفه، لكن إريك بيرن ينصح أن يخاطب مثل هذا المريض بمنطق عادى عام بسيط، وأن نطلب منه، ونتوقع – فى وسط كل هذا التشوش والنكوص – أن يرد ردا سليما له علاقة بالواقع وبالمنطق العام أكثر بكثير من تصورنا له أو توقعنا منه، وهذه العملية يسميها إريك بيرن “أوصـل السـلـك بالناضج” (أو ضع كوبس الناضج فى فيشة الواقع Plug in the adult وهو يعنى بذلك أن “الذات الواقعية” للمريض، أى الذات الحاسبة، الملتزمة، تظل جاهزة للعمل معظم الوقت، حتى لو بدت غير ذلك، أى مهما طغت عليها الذات لطفيلية، أو شوهتها عدة ذوات مختلطة متصارعة متنافرة، وأن عملية افتراض وجود “منظومة الناضج” جاهزة وقادرة وسط كل تشوش المريض وخلطه، هى فرض يمكن تحقيقه، وعلى الفور، دون انتظار شفاء تام أو إعداد طويل.
وكثيرا ما يتعجب أهل المريض، والطبيب الأصغر، حين يرى أمامه استجابة ناضجة، ومحترمة، من مريض كان يبدو متفسخا عاجزا، وهذا ما استلهمته من هذا المثل، وهو أن تحميل الجمل يتضمن ثقة بقدرته، فيقوم من بركته ويؤدى مهامه.
(5) “جهنم ما فيهاش مراوح”
يبدو أن هذا المثل حديث نسبيا، مع أن المروحة معروفة من قديم، لكننى استشعرت أن جهنم تحتاج إلى “مروحة حديثة قوية تماما”, وليس إلى مراوح من الريش، المهم أن هذا مثل آخر يمكن أن يقرأ على عدة مستويات:
1- فقد يقوله رجل دين بمعنى سطحى وهو ينبه إلى أن جهنم ليس فيها رحمة ولا تخفيف عذاب، ولا التماس عذر فيستعمله للترهيب من ارتكاب معصية إلخ
2- وقد يقال للتحذير من صعوبة أو استحالة الحلول الوسطية، بمعنى أن جهنم هى جهنم لا أكثر ولا أقل، نار تزداد اشتعالا، فمن أين يتوقع داخلها أن يجد نسيما يلطف من لفح لهيبها. وهذا تحذير لمن يقال عنه “عين فى الجنة وعين فى النار” .
3- وقد يفهم على أنه دعوة إلى تعميق الاختيار، فالذى يختار الصعب، المؤلم، القاسي، عليه أن يواصل تحمل اختياره، خذ مثلا اختيار الحرب فى مواجهة إسرائيل، الحرب حرب، قتل ودم وتقشف واستمرار واستشهاد وتحد وتضحية وحرب، (وما هو عنها بالحديث المرجـم)، وهى نار تضرى إذا ضريتموها فتضرم، فالذى ذهب منا سنة 1967 (أو حتى سنة 1956) إلى سيناء، لم يخطر بوضوح أنه ذاهب ليحارب، أعرف عددا من الضباط الشبان ذهبوا إلى هناك وقد أخذوا لباس البحر معهم (المايوه) ليعوموا على شاطيء تل أبيب، وهناك فى سيناء اكتشفوا أن “جهنم ما فيهاش مراوح“،
وعندى أن هذا المثل أقوى من حيث مواجهة الواقع المؤلم، إذا ما فرض علينا اختياره، من التحذير من دفع ثمن غال لمطلب غال مصداقا للمثل الآخر الذى يقول “إللى عايز الجميلة يدفع مهرها” أو “إللى عايز الدح ما يقولشى أح” لأن الجميلة والدح مطلبان يمثلان قيمة تحتاج للصبر وتحمل الألم فى سبيلهما. لكن مثلنا الحالى “جهنم ما فيهاش مراوح”، يجعل الهدف ليس الحصول على ست الحسن والجمال، أو التمتع بالدح، وإنما هو ينبه لواقع قد يفرض نفسه، أو قد نختاره بشرف الوجود وإقدام المضطر، فلا ننتظر منه إلا ما “هو“.
وهذا المثل يذكرنى بلعبة، أو حدوتة (لست متأكدا) قديمة حين كانوا يخيروننا فيها أن :نختار الجنة الخضرة، ولا الجنة النار، وكنا نختار عادة الجنة الخضرة، وبما أنى لا أذكر التفاصيل، فلست أعرف ما هى الظروف والإغراءات التى كانت تلوح لمن يختار “الجنة النار” وظل هذا التساؤل معى حتى مؤخرا حين بدأت أغوص فى احتواء التناقض، وفهم الجدل، والحركة مع الكم المتداخل، هنا فقط رجعت إلى احتمال أن ثمة اختيارا أكثر حيوية يمكن أن يكون هو “الجنة النار” بديلا عن الجنة الخضراء، الساكنة الفاترة، ولكن هل الجنة النار هى مراوح فى جهنم؟ طبعا لا، ولكن الشيء بالشيء فيبدو أن، جهنم – فعلا – ليس بها مراوح!!.