للتذكرة والتصحيح
هذا باب جديد، يحاول أن يقدم للقاريء بعض الإيضاحات (والتصحيحات) اللازمة فى مواجهة معلومات خاطئة، أو جزئية، أو غامضة، أو مختلف عليها. وقد احترنا فى تسميته وغلب على هيئة التحرير رفض المسميات القديمة مثل “خدعوك فقالوا’ أو “قل ولا تقل’ فأخذنا هذا الاسم مؤقتا لحين إسهامك – عزيزى القاريء – باقتراحات مناسبة
هذا، وسوف لانحدد ابتداء لمن نوجه الحديث ونوصى بالتصحيح، أن نوجهه للقاريء غير المختص، أم للطبيب الممارس العام، أم للمرضى بالذات، أم لأهلهم، أم للطبيب النفسى الأصغر، أم لكل هؤلاء: كل حسب اختياره واهتمامه، ففضلنا أن ندع التوجـه دون تخصيص ولـيـنـتـق كل ما يشاء، ويستسغ.
وفى هذا العدد نرد على أقوال حول ما يلي:
(1) هل المرض النفسى مثل مرض البول السكرى
(2) هل ندع القلق لنبدأ الحياة، أو نستوعب القلق لننطلق فى الحياة ؟
(3) هل يستمر النمو الإنسانى بعد العشرين ؟
(4) متى يلزم تصوير المخ بالكهرباء أو الأشعة المقطعية (بالكمبيوتر)
(1)هل المرض النفسى مثل مرض (البول السكرى)؟
يقال إن:
المرض النفسي، أو أغلب المرضى النفسيين، والعقليين، هو مثل مرض السكرى (البول السكري) وأنه كما يأخذ المريض الإنسولين، أو الحبوب المضادة للسكر، تعويضا عن النقص الناتج عن العجز عن إفراز الكمية المناسبة من إنسولين الجسم، كذلك لابد أن يأخذ المريض النفسى العقاقير التى تعوض نقصا ما فى مواد بذاتها (الموصلات النيورونية) فى المخ ، وبالتالى ، فالمفهوم ضمنا أن المريض سيأخذ هذه المواد التعويضية “على طول’.
ونقول:
إن المسألة ليست كذلك بالضبط، صحيح أن العقاقير هامة جدا فى علاج كثير من الأمراض النفسية، لكن ليست بهذه الصورة الميكانيكية التعويضية، وليست بصورة دائمة، وليست بمفهوم تعويض نقص محدد (بدل ناقص) فالمرض النفسى (والعقلي) إذا كان حادا، فهو يحتاج فعلا إلى عقاقير ضابطة، ومهدئة، وأحيانا مضادة لحالة بذاتها (مثلا: مضادة للاكتئاب) لكن ذلك كله ينتهى بانتهاء النوبة الحادة، وقد يستمر بعدها لبضعة أسابيع أو أشهر، ثم يعاد تقييم الحالة بما وصلت إليه، وينظر فى الاستمرار على العقاقير من عدمه من ناحية، وفى إعطاء عقاقير لمنع النكسة من ناحية أخري.
وكل ذلك ليس “تعويضا لنقص مؤكد فى مادة بذاتها’ ( مثلما هو الحال فى مرضى السكر) وإنما هو مبنى على نظريات وفروض راجحة، من واقع الملاحظات الواقعية التى يلاحظها الطبيب والباحث لمفعول هذا العقار أو ذاك، ومن أهم هذه الفروض أن الإنسان كائن حى نابض له مستويات مختلفة ، وأن العقاقير تعمل على هذه المستويات انتقائيا حتى تعود النبضات متسقة مع بعضها البعض ، وبالتالى فلابد من عقاقير فى أغلب الأحوال، ولكن على أساس انتقائى سليم بفرض تثبيط المستوى الناشز (أى الذى نشط مستقلا عن التكامل مع مستويات المخ الأخري)، وتعطى العقاقير للمدة اللازمة لا أكثر ولا أقل، وتبعا للملاحظة الدقيقة المتجددة، وربما تعطى لمنع النكسة إذا كان التعامل مع النكسة خفيفا، أو كانت النكسات متوالية وخطيرة.
(2) هل لا بد أن ندع القلق لنبدأ الحياة؟
يقال إنه:
دع القلق وابدأ الحياة: باعتبار أن القلق إذا زاد جدا بمعنى الخوف والتوجس والتردد وتوقع الإخفاق من أى شيء وكل شيء، والتسرع، والفزع أحيانا، كل ذلك هو من معوقات الفعل، والتكيف، والإنتاج، والرضا.
فنقول:
كثير من الناس والأطباء ينسون الشرط المذكور عاليه، أى ينسون أن هذا كله لا يكون كذلك الا “إذا زاد القلق (جدا)’، إذن لابد أن نحدد ما معيار زيادة القلق إلى الحد الذى ينبغى أن نسارع معه إلى إزالته، وإلا وقعنا فى خندق الإشاعات الغالبة التى تقول بأن الحياة السوية هى الحياة المطمئنة’ جدا، الخالية من القلق . وهذا تشويه لطبيعة حركية الحياة الإنسانية وترويج لمفهوم “مجتمع الرفاهية’ الذى قد لا يكون مناسبا أصلا لشعوب مكافحة، أو فقيرة، أو مبدعة، وعلى ذلك فعلينا أولا أن نحذر من تكرار هذ القول، “دع القلق وابدأ الحياة’ وربما يجدر بنا أن نستبدله بقول مثل آخر”تحمل القلق وانطلق فى الحياة’، أو’ واجه القلق واستمر فى الحياة’، أو “صاحب القلق واستعمله فى دفع الحياة’، وربما كان الأنسب أن نبحث عن كلمة أخرى غير القلق نصف بها هذا الوعى النشط الذى يتصف به القلق الصحي، أو العكس، أى ربما يجدر بنا أن نلحق صفة ‘ المرض ‘ بالقلق الذى ينبغى علينا أن ندعه لنبدأ الحياة ، فنقول بسخف ممجوج: دع القلق المرضى وابدأ الحياة أو “حافظ على الانتباه النشط والتوجس الحافز، واقتحم الحياة’.
(3) هل يستمر النمو الإنسانى لما بعد العشرين؟
يقال:
إن مرحلة النمو الإنسانى تتوقف ( أو تبطيء جدا) بعد سن الثامنة عشرة، وإن فرصة تغيير الشخصية (إلى أحسن ;; أنضج ;; أبدع) تتركز فى الطفولة والمراهقة أساسا، ويقول الشاعر العربى المتعجل “إذا بلغ الفتى عشرين عاما، ولم يفخر، فليس له فخار”
ونقول:
صحيح أن الإنسان فى الطفولة وحتى المراهقة يكون عجينة لينة (كيانا حيويا مرنا) وبالتالى فإن ما يصله وما يتعلمه يساهم فى تشكيله بصورة تستمر مدة طويلة حتى السن المتأخرة، لكن هذا لايعنى إطلاقا أن “النمو يتوقف’ أو أن الفرصة تنتهي’، ذلك أنه توجد مدارس نفسية عديدة تعتبر أن النمو هو “عملية دائمة’ طالما هناك خلايا تنبض، وتحارب وتتجدد، صحيح أن التغيير هو أصعب فى السن المتأخرة، ولكنه وارد دائما ومحتمل.
بل إن التغير فى منتصف العمر – وهى مرحلة طويلة جدا تمتد من سن العشرين إلى الستين وتقسم عادة إلى مرحلتين – نقول إن التغير فى منتصف العمر يكون من خلال وعى يقظ يسمح ويضمن اضطراد وتأصيل السمات الجديدة، فتتفجر، وهذا هو مجال الفخر الحقيقى (ياشاعرنا العربى: لا تقفلها علينا)، ففى الطفولة ينمو الواحد منا حسب ما أريد له، أو به أما فى منتصف العمر فإن النمو والتغير يكونان باختيار نسبى من جانبنا، وبالتالى يكون هذا هو محل الفخر.
أم ماذا ؟
(4) متى يلزم التصوير المقطعى للمخ (بالكمبيوتر)؟
قيل: (كتاب اليوم الطبى: يونيو 1987)
… يمكن تصوير المخ بأجهزة خاصة ملحقة بالكمبيوتر لدراستها وتحديد أبعادها المرضية، وتظهر أهمية هذه الطريقة الحديثة، فى دقة التشخيص لكافة أمراض المخ، وفى تحديد موضع المرض’ …إلخ
ونقول:
إن أجهزة تصوير المخ هى إضافة رائعة للفحوصات الممكنة فى بعض حالات الاضطرابات النفسية والعقلية، وهذه الأجهزة تختلف من نوع لأخر
(أ) فهناك أجهزة لتصوير النشاط الكهربى للمخ فى مختلف أجزائه، وتظهر نتيجتها على شكل صورة جميلة “بالألوان الطبيعية’ (;;) وهى نوع من رسام المخ الكهربائى المعامل بالكمبيوتر ليقلب عدد النبضات والموجات (وحجمها، وتواترها) إلى مساحة ملونة حسب كثافة النشاط الكهربى وتوزيعه، وهذا الجهاز الظريف ذوالصورة الملونة الجميلة (!!!)، لا يغنى عن رسام المخ العادى (بالخطوط) فى تشخيص كثير من حالات الصرع مثلا، كما أن فائدته التشخيصية (تمييز مرض عن مرض آخر) هى فائدة ضعيفة جدا، حتى تكاد تكون معدومة، لكنه يفيد إضافة بعض معلومات محدودة قد لا تكون ضرورية أبدا.
(ب) وهناك نوع من الأجهزة لتصوير نشاط المخ تستعمل فيه موادا مشعة خاصة، تحقن بطريقة خاصة، ويقيس هذا التصويرالتمثيل الغذائى المختلف لأجزاء المخ فى أطوار نشاط معين، أو مراحل مرض معينة، ومثال ذلك مايسمى “قاذف البوزيترون’ PET وهذا نوع لايستعمل – عادة – إلا للبحث العلمي، وليس له فائدة عامة ولا هامة فى الممارسة العادية فى التشخيص والعلاج أصلا
(جـ) ثم يأتى الرسم بالأشعة المكمبتة، (يقول العامة عنها: الكمبيوتر أو أشعة بالكمبيوتر)، وتسمى الأشعة المقطعية، وهو إجراء أكثر فائدة من التخطيط المساحى الكهربائى الملون، (بالألوان الطبيعية) وقد يلزم هذا التصوير بالأشعة المقطعية فى الحالات المشتبه فى تشخيصها بالذات: من حيث وجود ورم بالمخ أو جلطة محددة، أو ضمور، وهذا الإجراء انتقائى وليس “لكافة أمراض المخ’، وله نتائج خادعة يعرفها أخصائى الأشعة كما يعرفها الطبيب النفسى وطبيب الأمراض العصبية، ويحتاج تشخيص ضمور المخ البسيط الذى يظهر أحيانا فى الأشعة المقطعية إلى مقاييس شديدة الدقة فأحيانا ما يظهر هذا التعبير فى تقرير (بالكمبيوتر) فى حالات من يعانون من اضطرابات فى الشخصية، ولايدل ذلك على مرض خطير أو تدهور عقلي، وقد لا يكون ضمورا أصلا، وإنما قد يكون نتيجة لتجاوز فى دقة استعمال المقاييس، لذلك لابد أن يقرأ مثل هذا التقرير فى ضوء الصورة الإكلينيكية، ولا نخبر المريض بنتائج الأشعة هكذا “مجردة’ دون ربطها بسائر المعلومات لأن المرضى (وأحيانا الأطباء) ينزعجون انزعاجا شديدا من مثل هذه التعبيرات “ضمور فى المخ’ .. إلخ
(ء) ثم تأتى أحدث وأهم أنواع تصوير المخ هذه وهى ما يسمى “صورة بالرنين المغناطيسي’، وأهمية هذا الفحص الدقيق هو أنه لا يكتفى برسم مقطعى لما يمكن أن يظهر بالأشعة من أنسجة ضامة وكثيفة تسمح بذلك، بل إنه يعطى صورة واضحة ومحددة لكل الأنسجة: اللين منها والكثيف، تصبح الصورة كأنها رؤية مباشرة ودقيقة وتفصيلية لكل أجزاء المخ.
وعلى الرغم من هذا الإنجاز الرائع، فإنه كثيرا مايستعمل هذا التصوير بغير داع، وهو باهظ التكاليف جدا (عدة مئات من الجنيهات)، وهو أيضا “لا يشخص أمراض المخ كافة’ على رغم كل ماسبق، وإنما يساعد فى تشخيص الحالات العضوية (السابق ذكرها أساسا: الضمور، والأورام، والاضطرابات الوعائية مثل الجلطة الدموية) وفرق بين كلمة “يشخص’ وكلمة يساعد فى التشخيص.
خلاصة القول:
1 – إن هذا التعميم الذى يصف تصوير المخ – دون تحديد- بأنه يصلح في: “دقة التشخيص لكافة أمراض المخ وفى تحديد موضع المرض’ يجعل المرضى يطلبون هذا الإجراء بإلحاح، مما يكلفهم مصاريف باهظة (قلنا تصل إلى مئات الجنيهات) فى ظروف غير ملائمة، ولا ضرورية.
2 – إن اعتماد أغلب الأطباء بشكل متزايد على مثل هذه الأدوات مع تقديس نتائجها يجعل الطبيب أقل اهتماما بربط هذه النتائج بشكوى المريض، وحالته الإكلينيكية وفحصه المباشر.
3 – إن استعمال هذه الوسائل فى بلاد أخرى (أ) شديدة الثراء (ب) مؤمن على مواطنيها للعلاج (جـ) معرض أطباؤها للشكاوى التعويضية، له مايبرره، لأن الطبيب هناك فى بلاد الوفرة والرخاء يهمه أن يحمى نفسه بكل وسيلة حتى لا يفوته فحص يمكن أن يساءل بسببه أمام القضاء لم لم يقم به حتى لو كان الاحتمال واحد فى المليون، والمسألة تختلف عندنا هنا، فالثقة بين المريض والطبيب مازالت قائمة (على الرغم من كل ما ينشر فى بعض الصحف) والطبيب – فى الأغلب – يهمه مصلحة المريض قبل حماية نفسه (لأنه حتى الآن غير معرض لكل سوء الظن والهجوم مثلما هو معـرض هناك) والفقر عندنا شديد معوق، والحالات التى تحتاج هذه الإجراءات نادرة فعلا.
لكل ذلك نقول ثانية:
لابد من عمل الفحص اللازم إذا احتاج الأمر، ويستحسن دائما تجنب فحوص لا لزوم لها، حتى لو طلبها المريض، ولابد من أن تظل مصلحة المريض وقدراته المادية هى فى بؤرة الاهتمام قبل كل شيء، ولكن ليس على حساب صحته إطلاقا.