مدخل إلى:
التناقض بين الدولة الاسلامية والدولة الدينية
د. أحمد صبحى منصور
كلمة فى المنهج
المنهج السائد فى الدراسات الأصولية هو فهم القرآن من خلال مصطلحات التراث ورواياته وفتاويه، وبسبب الإختلاف الشديد فى مصطلحات التراث ورواياته وفتاويه وأحاديثه فإن فهم أصحاب هذا المنهج للقرآن يقع فريسة للاختلاف والاضطراب، ومن هنا يبررون هذا الإختلاف بمقولة منسوبة كذبا للإمام على بن أبى طالب، وهى أن “القرآن حمال أوجه”، وعليه فالباحث الأصولى المتمسك بهذا المنهج ينتقى الرأى الذى يهواه سلفا، وينتقى له الأدلة من التراث، وينتقى له ما يشاء من الآيات القرآنية ويتجاهل سواها، وهو مطمئن لمقولة “أن القرآن حمال أوجه”.
ولكن هل القرآن فعلا “حمال أوجه”؟ أى نرى فيه الرأى ونقيضه؟ ونرى فيه الاختلاف فى الرأى الواحد؟ وبحيث تنتقى الرأى الذى تختار ويكون لمن يخالفك فى الرأى أن ينتقى هو الآخر من آيات القرآن ما يؤيد وجهة نظره؟ وهل فعلا قال الامام “علي” هذا الكلام عن القرآن؟
إن ما نتصوره عن الامام على بن أبى الطالب وملازمته للنبى عليه السلام يجعلنا ننكر نسبة هذه المقالة له، لأنه لا يمكن له أن يسئ للقرآن بمثل تلك المقالة الخطرة التى تخالف ما قاله رب العزة جل وعلا عن كتابه العزيز.
إن القرآن الكريم – أيها الناس – “كتاب أحكمت آياته، ثم فصلت من لدن حكيم خبير”: (هود 101) “وهو كتاب لا مجال فيه للعوج “قرآنا عربيا غير ذى عوج لعلهم يتقون”: (الزمر 28) “الحمد لله الذى انزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، قيما”: (الكهف 101).
وهو كتاب لا مجال فيه للاختلاف ‘ أفلا يتدبرون القرآن”، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه . اختلافا كثيرا” ( النساء 82).
لكن إذا كان القرآن لا تتناقض آياته ولا تتصادم حقائقه وليس كما يقولون”حمال أوجه” فلماذا يتبارزون فى اختلافاتهم بالآيات؟ ولماذا ينتقى كل فريق ما يؤيد وجهة نظره فى مواجهة الفريق الآخر؟
والإجابة تكمن فى المنهج الذى يعتمدونه، وهو فهم القرآن بما يتمشى مع ما اختاروه من مصطلحات التراث ورواياته، والفرق الأخرى والمذاهب الأخرى لها مصطلحاتها التراثية ورواياتها وفتاويها، وبالتالى تختار من الآيات ما تراه يتمشى مع مذهبهم، ويغطون عورة هذا الإختلاف بمقولة أن القرآن حمال أوجه ويستسهلون إتهام القرآن بهذه التهمة، والمنهج الذى اختاروه هو الأحق بهذه التهمة. إذن، فما هو المنهج العلمى الذى نفهم به القرآن ونتأكد به من أن القرآن فعلا لا مجال فيه للتناقض والاختلاف؟
إن المنهج العلمى يفرض عل الباحث ألا يبدأ بحثه بأحكام مسبقة، وإذا كان يبحث فى كتاب ما فإن عليه أن يلتزم بمصطلحات هذا الكتاب ومفاهيمه، لأن المفاهيم التى يعتمدها المؤلف فى كتابه تكون بمثابة عقد بين المؤلف والقاريء أو الباحث ، فاذا التزم القاريء أو الباحث بتلك المفاهيم والمصطلحات التى يقوم على أساسها نسق الكتاب أمكن للقاريء أو الباحث بسهولة أن يستوعب كل حقائق الكتاب المبحوث. وهذه أصول المنهج العلمى التى نراعيها فى بحث المصادر والكتب البشرية. وهى نفسها أصول المنهج العلمى التى يطالبنا رب العزة باتباعها فى تدبرنا للقرآن.
إن الله تعالى يأمرنا فى القرآن بالتدبر لآياته، “أقلا يتدبرون القرأن؟ أم على قلوب أقفالها”؟ ( محمد 24). والمنهج العلمى للتدبر يكمن فى بنية الكلمة نفسها فالتدبر يعنى أن تكون فى دبر الآية، أو خلفها، أى أن تكون الآية القرآنية أمامك (بفتح الهمزة) وأن تكون إمامك (بكسر الهمزة) والمعنى أن تبدأ بآيات القرآن، وليس بفكرة مسبقة، وأن تتبع كل الآيات فى الموضوع المراد بحثه فى القرآن، والمعنى أن يخلو ذهنك تماما من كل أحكام ومفاهيم أخرى خارج القرآن، طالما تريد أن تتعرف على الرأى القرآنى مجردا ومخلصا وحينئذ ستجد أمامك كل الآيات المحكمة والآيات المتشابهه تقول نفس الرأى وتؤكد نفس الحقيقة غاية ما هناك أن الآيات المحكمة تؤكدها وفى النهاية تجد كل الآيات المحكمة والمتشابهة تؤكد نفس المعنى وتؤكد لك أيضا أن القرآن الكريم أحكم الله تعالى آياته بعد أن فصلها على علم وحكمة سبحانه جل وعلا.
وعليه فاذا اتبع الباحث التراث فى فهم القرآن فسيقع فى الإنتقاء والإبتعاد عن حقائق القرآن، والتناقض مع القرآن ومع المنهج العلمى أيضا ولن يضيف إلا المزيد من الشقاق والإختلاف الذى عرفته المذاهب والفرق “الإسلامية”.
أما إذا اتبع المنهج العلمى القرآنى وقام بفهم القرآن من خلال القرآن نفسه، واتجه لكتاب الله تعالى طالبا الحق والهدايه دون رأى مسبق وبتصميم على أن يعرف الحقيقه مهما خالفت الشائع بين الناس، فإن من اليسير عليه أن يعرف رأى القرآن، وسيفاجأ بأن مفاهيم القرآن ومصطلحاته تخالف بل وتتناقض أحيانا مع مفاهيم التراث ومصطلحاته، وأنه من الظلم للقرآن والمنهج العلمى أيضا أن تقرأ القرآن وتفهمه بمفاهيم ومصطلحات تخالف وتناقض مفاهيم القرآن ومصطلحاته.
ويطول الأمر لو فصلنا القول فى الإختلاف أو التناقض بين مفاهيم القرآن ومصطلحاته وبين مفاهيم التراث ومصطلحاته، ولكن لا بأس بإعطاء أسئلة سريعة، وننصح معها بالرجوع إلى المعجم المفهرس لألفاظ القرآن وكتب التراث للتأكد وللمزيد من التفصيل.
1 – فالإيمان يعنى فى التعامل مع الله الإعتقاد، أى “آمن بـ” أى إعتقد، أما الايمان فى التعامل مع الناس اى “أمن لـ” فيعنى وثق واطمأن، فالمؤمن فى التعامل بين الناس هو المأمون الجانب الذى يتمتع بالثقة، هذا هو مفهوم القرآن عن الإيمان، وكلمة الإيمان مشتقة فى الأصل من “الأمن” وكذلك الحال مع الإسلام، وهو مشتق من السلام، فالإسلام فى التعامل البشرى هو المسالمة، والمسلم هو من سلم الناس من أذاه، أى هو الإنسان المسالم، أما فى التعامل مع الله تعالى فهو الذى أسلم لله تعالى وجهه اى إنقاد وأطاع بقلبه وجوارحه، والذى يجمع بين الإيمان والإسلام – وهما بمعنى واحد – فى تعامله مع الله تعالى وفى تعامله مع الناس بأن يكون مخلصا لله تعالى فى قلبه وأعماله وبأن يكون مسالما مأمون الجانب فهو فى الآخرة يتمتع بالأمن والسلام ويدخل الجنة دار السلام ويقال له ولأصحاب الجنه “أدخلوها بسلام آمنين” لأن الجزاء من جنس العمل وهذا الفهم القرآنى يخالف مفاهيم التراث عن الإيمان والإسلام.
2 – والدين فى مفهوم القرآن يعنى الطريق والسبيل، والصراط والطريق قد يكون مستقيما وقد يكون معوجا، وقد يكون الدين أو الطريق معنويا أى العلاقة بالله تعالى وقد يكون الدين أو الطريق حسيا ماديا كقوله تعالى عن أهل المدينة فى عصر النبى يعلمهم فن القتال “وما كان المؤمنون لينفروا كافة، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ‘ (التوبة 122) فالآية تتحدث عن النفرة للقتال وضرورة إرسال فرقة إستطلاع تتعرف على الدين أو الطريق ثم تنذر الناس وتحذرهم، ومن الخبل أن نفهمها على أن يترك المؤمنون رسول الله عليه السلام فى المدينة ثم يذهبوا للتعلم خارج المدينة، وهى موطن العلم بالإسلام، وغيرها مواطن الشرك فى ذلك الوقت.
3 – ولكن مصطلحات التراث جعلت التفقه قصرا على العلم بالشرع، مع أن مفهوم التفقه فى القرآن يعنى العلم والبحث العقلى والمادى فى كل شيء.
4 – والسنة فى اللغة العربية تعنى الشرع، تقول “سن قانونا” أى شرع قانونا، وفى القرآن تأتى فى التشريع بمعنى الشرع حتى فيما يخص النبى (الاحزاب 38) وتكون حينئذ منسوبة لله تعالي، أما النبى فهو صاحب القدوة والأسوة (الاحزاب 21) فالسنة لله تعالي، ولنا فى النبى أسوة حسنة، وتأتى منسوبة لله تعالى أيضا فيما يخص تعامله جل وعلا مع المشركين، وتكون هنا بمعنى المنهاج والطريقة (الاحزاب 62، فاطر 43، الفتح 23) ولكن السنة فى التراث تعنى شيئا مختلفا سياسيا ومذهبيا وفقهيا، والحديث فيها يطول.
5- و“الصحابه” فى التراث هم أصحاب النبى وأصدقاؤه ممن أسلم، ولكن فى مفهوم القرآن فالصاحب هو الذى يصحب فى الزمان والمكان، لذلك تكرر فى القرآن وصف النبى عليه السلام بأنه صاحب المشركين (النجم 2، سبأ 46، التكوير 22).
6 – والنسخ فى القرآن يعنى الإثبات والكتابة والتدوين، ويعنى فى التراث العكس تماما، أى الإلغاء (إقرأ كتابنا : لاناسخ ولامنسوخ فى القرآن).
7 – ومفهوم الحكم فى القرآن يعنى التحاكم القضائي، وليس مقصودا به على الإطلاق ما يتردد فى التراث من انه الحكم السياسى أو الحاكمية.
8 – وكذلك الحال مع “أولو الأمر“، فالمقصود بهم فى القرآن هم أصحاب الشأن وأصحاب الخبر والإختصاص فى الموضوع المطروح (النساء 59، 83) وليس المقصود هم الحكام كما يتردد فى التراث.
9 – و”الحدود” فى القرآن تعنى الشرع والحق، ولاتعنى العقوبات (راجع كتابنا : حد الردة).
10 – و“المكروه” فى مفهوم القرآن هو أفظع المحرمات وأكبر الكبائر كالقتل والزنا والكفر والتسوق (الإسراء 38، الحجرات 7′)، ولكن المكروه فى الفقه التراثى هو الحلال الذى ينبغى الإبتعاد عنه.
11 – وكذلك المستحب أو المندوب فى التراث يعنى الحلال المباح، ولكن المستحب فى مفهوم القرآن هو الفرض الواجب (الحجرات 7)
12 – والتعزير عند الفقهاء هو الإهانه والعقوبه، ولكن التعزير فى القرآن يعنى التكريم والتمجيد والتقدير والإعزاز والنصرة لله تعالى ورسوله (المائدة 12، الأعراف 157، الفتح 9).
والأمثلة كثيرة.. ولكن يبقى السؤال مطروحا، هل يمكن أن نفهم القرآن فهما صحيحا إذا قرأناه بمصطلحات التراث ومفاهيمه، بعد أن اتضح ذلك التفاوت والإختلاف، بل والتناقص بين “مفاهيم القرآن الأساسية ومفاهيم التراث؟.
إن منهجنا الذى نتمسك به، هو المنهج العلمى الذى أمرنا به ربنا جل وعلا فى تدبر القرآن. وتدبر القرآن. جعلنا نتأكد من الفجوة الهائلة بين مفاهيم القرآن وحقائقه وبين مفاهيم التراث وحقائقه ونرجو أن يتمسك الباحثون بهذا المنهج لنكتشف المزيد من حقائق القرآن وتشريعاته، وحتى نزداد بالقرآن علما .. وهداية.
والله تعالى المستعان.
مقدمة :
1 – السائد بين الناس أن للإسلام دولة دينية، والعلمانيون يرفضون الدوله الدينيه مهما كانت حججها، وينادون بالفصل بين الدين والدولة، وبالفصل بين السياسة والحكم، والعلمانيون وأنصار الدولة الدينية هما معا أكبر طائفتين متصارعتين، وفى منتصف الطريق بينهما أتوقف لأخالفهما معا، فأنا أؤمن بأن الإسلام دين ودولة وفى ذلك أتفق مع التيار الديني، ولكن أخالفه فى أن الدولة الإسلامية هى دولة مدنية تتناقض تماما مع الدولة الدينية التى لايزال فكرها السياسى والتراثى مسيطرا على القلوب والعقول وأخالف أيضا البناء العلمانى الذى يقطع أواصل الصلة بين الدين والدولة ويتجاهل أن الإسلام أقام دولة وأنشأ حضارة عالمية
2 – وواقع الأمر أن النبى عليه السلام أقام دولة مدنية وبقى منها أصولها القرآنية وما تواتر فى التاريخ والسيرة النبوية عن إقامة تلك الدوله فى الجزيرة العربيه، تلك الدولة التى ما لبثت أن غيرت تاريخ العالم ولكن الذى حدث أن دولة الإسلام المدنية ما لبثت أن تحولت الى الإستبداد السياسى والحكم القبلى بعد الفتنة الكبرى وتأسيس الدولة الأموية، ثم تحول الحكم الاستبدادى القبلى إلى حكم دينى سياسى فى الدولة العباسية، واستمر هذا النظام سائدا إلى سقوط الدولة العثمانية تحت إسم الخلافه. وقد اصطلح المؤرخون على تسمية الدولة المدنية الإسلامية بعد النبى بالخلافة الرشيدة أو الرائدة، وأطلقوا على الدول التالية مسمى الخلفاء فقط، أى لم يكونوا خلفاء راشدين. وهذا فى حد ذاته دليل على تحول هائل فى نظام الحكم دفع المسلمون ثمنه غاليا ولا يزالون. وقد تم تدوين الترات فى عصر الخلفاء غير الراشدين. وذلك التدوين تجاهل التدوين الحقيقى لدولة النبى والراشدين، وقام بتدوين مايتفق وإيديولوجية الدولة الدينية العباسية.
3- وفى هذه الورقة البحثية سنناقش سريعا التناقض بين الدولة الإسلامية فى عصر النبى والراشدين والدولة الدينية فى العصر العباسى وماتلاه.
أساس التناقض بين الدولتين الإسلامية والدينية:
سبق العلامة إبن خلدون فى الإشارة إلى الإختلاف بين الدولة الدينية والدولة التى نعرفها الآن بالعلمانية، ففى فصل فى المقدمة بعنوان”معنى الخلافه والإمامه” يقسم النظام الملكى الى نوعين وهما الملك الطبيعى وهو الذى يحكم بالهوى والشهوه، ويراه فجورا وعدوانا، والملك السياسى وهو الحكم بالعقل فى طلب المصالح ودفع المضار. ويراه أيضا مذموما لا ينظر بغير نور الله. وفى النهايه يرى إبن خلدون أن نظام الخلافه هو الأفضل، لأنه حمل الكافه بالشرع للنظر فى مصالحهم الدنيوية والأخروية ‘ أى هى خلافه عن صاحب الشرع فى حراسة الدين وسياسة الدنيا به(1).
باختصار يرى إبن خلدون أن أساس الدولة هو إدخال الناس الجنة، وإلزام الناس بإقامة الشرع. ولكن هدف الدولة غير الدينية إذا كانت عاقلة هو جلب المصالح للناس ودفع الضرر عنهم. وإين إبن خلدون باعتباره قاضيا شرعيا ينحاز للدوله التى يعيش فى كنفها ويسيطر عليه تراثها. ونحن هنا نختلف معه ومع الآخرين.
فليس إدخال الناس وهدايتهم الى الحق هو الأساس فى إقامة الدوله الاسلاميه. لأن الهداية مسئولية شخصية لكل انسان “من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها. ولا تزر وزارة وزر أخرى (الإسراء 15) “بل إن الهدايه ليست وظيفة النبى حتى حين كان حاكما، يقول تعالى له “ليس عليك هداهم. (البقرة 272 ). ويقول له “إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء (القصص56) ويقول له ليؤكد عدم الإكراه فى الدين “لا إكراه فى الدين” (البقرة 256) “أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (يونس 99 ).
أما الأساس في: إقامة الدولة الإسلامية فهو إقامة القسط بين الناس، أو بتعبير الفقهاء رعاية حقوق العباد أو بتعبيرنا رعاية حقوق الإنسان. والفقهاء المستنيرون أكدوا على أن حقوق الله تعالى من الإيمان به جل وعلا، وعبادته هى مسئولية شخصية والحكم فيها مرجعه لله تعالي. أما حقوق العباد فهى مسئولية الأئمه فى هذه الدنيا. والله تعالى يقول “لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط” (الحديد 25)’ أى أن الهدف الأساسى من إنزال الكتب السماوية وإرسال الأنبياء والرسل هو أن يقيم الناس القسط بينهم. والقسط نوعان، القسط أو العدل فى التعامل مع الله تعالى بحيث لا نشرك به أحدا، والله تعالى يقول “إن الشرك لظلم عظيم (لقمان 13) . والحكم فى هذا الموضوع مرجعه لله تعالى يوم القيامة فى كل ما يخص تصورات البشر عن ربهم جل وعلا. يقول تعالى “قل: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهاده أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ( الزمر 46) أما النوع الثانى فهو القسط أو العدل فى التعامل مع البشر وذلك يستلزم نظام حكم، وبقدر نجاح ذلك النظام فى إقامة العدل تكون إسلاميته، وذلك معنى قوله تعالى “ليقوم الناس بالقسط ‘، ولذلك كانت العقوبات فى تشريع القرآن تهدف أساسا لحقوق العباد أو حقوق الإنسان فى الحياة والمال والعرض والشرف. ومن إقامة القسط تتفرع كل حقوق الفرد وحقوق المجتمع والتوازن بين العدل والحريه فى منظومه رائعة تفتقدها البشرية المعاصرة.
أما فى الدولة الدينية فالامر مختلف فكل دولة دينية تتبنى مذهبا دينيا ترغم الناس على قبوله وتستخدمه فى تدعيم سلطتها، بحيث يتمتع الحاكم وحده بالسلطة والثورة وبحيث يحتكر الدين ويصير بكهنوته واسطة بين الناس ورب الناس، وبحيث يصير انتقاده خروجا على الدين، وبطبيعة الحال يعاونه فى ذلك مجموعة من الشيوخ وقوة عسكرية، وبهم يصير فى إعتقاد الناس متحكما فى الدين والدنيا والآخرة، وبينما يكتفى الإستبداد العادى بقتل المعارضين فإن الإستبداد فى الدولة الدينية يصادر حق الخصوم فى الدنيا وفى الأخرة أيضا. وكل ذلك تحت لافتة الشرع وإقامة الدين. وفى ذلك ظلم عظيم لله تعالى ورسوله ودينه. وهذه خلاصة التاريخ الواقعى للدول الدينية فى الشرق والغرب فى كل العصور القديمة والوسطى والحديثة والمعاصرة .. وهذا ينافى إقامة القسط، وهو الهدف الأساسى للدولة الإسلامية.
التناقص فى حقوق الإنسان بين الدولتين:
أولا: فى الدولة الاسلامية
- إقامة القسط بين الناس فى الدولة الإسلامية تتوازن فيها حقوق الفرد مع حقوق المجتمع، كما يتوازن فيها العدل مع الحريه. أما فى الدولة الدينية فلا يحتاج الأمر إلى هذا التشابك والتداخل، حيث يتمتع فيها فرد واحد بكل الحقوق وهو الحاكم، وتنتهى الأمور عند هذا الحد.
ونأتى الى التفصيل
فللفرد حق مطلق فى الدولة الإسلامية فى شيئيين وهما القسط وحرية الفكر والإعتقاد
وللمجتمع حق مطلق فى ثلاث أشياء ، وهى السلطة والثروة والأمن. وللفرد حقوق نسبية فى هذه الأشياء الثلاثة.
(1) حق الفرد المطلق فى القسط
لن نتوقف بالتفصيل مع الآيات القرآنية التى توجب إقامة العدل والقسط فى التعامل مع العدو أو الصديق مثل قوله تعالى “إن الله يأمر بالعدل والإحسان” (النحل 90) “واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل” (النساء 58) “واذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربي” (الانعام 152) ‘ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله، ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين، إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوي” (النساء 135)”يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، إعدلوا هو أقرب للتقوي، واتقوا الله، ان الله خبير بما تعملون” (المائدة 8)
لن نتوقف مع هذه الآيات الكريمة إلا فى تقرير حقيقة قرآنية واحدة، وهى أن الحكم المقصود فى الآيات هو الحكم القضائي، أو الحكم بين الناس، وإقامة ذلك الحكم بالقسط يعنى أن الوظيفه الأساسيه للدوله الإسلاميه هى إقامة العدل والقسط، أو الحكم بين الناس بالعدل، وليس حكم الناس. والمعنى المقصود أن يقتصر تدخل الدولة بين الناس على إقامة القسط فى الداخل. ولكن إلى أى حد؟ نقول إلى حد القسط المطلق للأفراد. أى بنسبة مائة فى المائة، ونتعرف على ذلك من التفرقة الدقيقة بين حكمين قرآنيين وهما “المقسطين”، و”القاسطون” والمقسط هو تعبير مبالغة يفيد تحرى القسط دائما، أى القسط بنسبة مائة فى المائة.
ويتكرر فى القرآن قوله تعالى “إن الله يحب المقسطين” ثلاث مرات (المائدة 42) (الحجرات 9، الممتحنه 8) فالذى يرعى العدل بنسبة 100% يحبه العدل، أما القاسط الذى يراعى العدل بنسبة أقل من 100% فمصيره جهنم، يقول تعالى ‘ وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا”( الجن 15 ).
(2)الحق المطلق فى الفكر والعقيدة
يقول الشيخ محمد الغزالى أنه أحصى مائتى آية قرآنية تؤكد حرية الفكر والعقيدة، ونحن نقول أن فى القرآن الكريم أكثر من خمسمائة آية قرآنية تؤكد حرية العقيدة وحرية التعبير عنها وحرية الفعل العقيدة إيمانا وكفرا، وإرجاع الحكم فى العقائد لله تعالى يوم القيامة، وأن ذلك يسرى على النبى نفسه. ونكتفى من مئات الآيات القرآنية التى تؤكد حرية العقيدة ببضع آيات قلما يستشهد بها الناس.
فالله تعالى يقول للبشر “إن تكفروا فإن الله غنى عنكم، ولا يرضى لعباده الكفر، وإن تشكروا يرضه لكم. ولا تزر وازرة وزر أخري، ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون، إنه عليم بذات الصدور”( الزمر 7) إذن هى حرية مطلقة فى الإيمان والكفر، ومسئولية شخصية. والحساب عليها أمام الله تعالى يوم القيامة.
والله تعالى يقرر أيضا حرية الفعل الإلحادى مع آيات الله، ويجعل العقوبة عليه يوم القيامة، ويؤكد حفظ كتابه الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. يقول تعالى “إن الذين يلحدون فى آياتنا لا يخفون علينا. أفمن يلقى فى النار خير أم من يأتى آمنا يوم القيامة؟ إعملوا ما شئتم، إنه بما تعملون بصير، إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ( فصلت 40:42)
ويوم القيامة يكون البشر حسب تصوراتهم عن الله قسمين كل منهما خصم للآخر، وأحدهما فى النار والآخر فى الجنة، والله تعالى يقول “هذان خصمان إختصموا فى ربهم، فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار (الحج 19 ). والملفت للنظر أن القرآن الكريم ساوى بينهما فى وصف الخصومة، ولم يحمل أحد الخصمين حكما على الآخر، إذ كيف يكون الشخص خصما وحكما فى نفس الوقت. هذا مع أن أحد الخصمين هم طائفة المؤمنيين، بل إن النبى سيكون يوم القيامة خصما لأبى جهل وأبى لهب وعقبة بن معيط واميه بن خلف وعتبة وشيبه ابن ربيعة، والله تعالى يقول للنبى وخصومه “وإنك ميت وإنهم ميتون، “ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون” (الزمر 30 -31 ) فالنبى عليه السلام سيختصم معهم أمام الله تعالي، والآيه تساوى بين النبى وبينهم فى الخصومة واستحقاق الموت،.وهكذا فان الفرد يتمتع فى الدولة الإسلامية بحق مطلق فى العدل وحق مطلق فى حرية الرأى والعقيدة فى الإيمان والكفر، فى الهداية والضلال طالما لا يتعرض فى حريته القولية والفعلية لحق من حقوق الآخرين الشخصية، وإلا وقع فى عقوبة القذف.
(3) حق المجتمع المطلق فى السلطة السياسية” أو :الشورى”
- الله تعالى وحده هو الذى لا يسأل عما يفعل، وما عداه يتعرض للمساءلة (الأنبياء 23) وعليه فإن المستبد بالسلطة والذى يتعالى عن المساءلة من الشعب إنما يجعل نفسه مدعيا للآلوهية، ولذلك فإن الفوارق واهية بين الإستبداد وإدعاء الألوهية، وفرعون أوصله إستبداده لهذا المستنقع، وهذا هو موقع الشورى فى عقيدة “لا إله إلا الله” الإسلامية.
ومن المنطقى أنه إذا كان النبى عليه السلام مأمورا بالشورى فى قوله تعالى “وشاورهم فى الأمر (آل عمران 159) ، فإن أى حاكم يستنكف من الشورى يكون قد رفع نفسه فوق مستوى النبي، أى يكون مدعيا للألوهية.
على أن الآيه الكريمة “وشاورهم فى الأمر” تؤسس حق المجتمع المطلق فى السلطة، أو أن الأمة مصدر السلطات. تقول الآية فى خطاب النبى “فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم، وشاورهم فى الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله” أى بسبب رحمة من الله جعلك لينا معهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، وإذا انفضوا من حولك فلن تكون لك دولة ولن تكون لك سلطة، لأنك تستمد سلطتك من اجتماعهم حولك، وإذن فهم مصدر السلطة والقوة لك، وبهم تكونت لك دولة وانتهت قصة اضطهادك فى مكة، ولأنهم مصدر السلطة فاعف عنهم إذا اساءوا إليك واستغفر لهم إذا أذنبوا فى حقك وشاورهم فى الأمر لأنهم أصحاب الأمر، فإذا عزمت على التنفيذ فتوكل على الله.
- إذن فالنبى حين كان “حاكما” للدولة الإسلامية لم يستمد سلطته من الله كما يدعى أصحاب الدولة الدينية، وإنما يؤكد القرآن على أنه كان يستمد سلطته من الأمة ومن إجتماعها حوله، ولذلك جعله الله تعالى برحمته لينا هينا معهم، ولو كان فظا غليظ القلب لتركوه وانفضوا عنه وانهارت دولته. وهذا هو النبى وتلك دولته الإسلامية..!!
- والدولة الإسلامية تتفق مع الدولة العلمانية فى أن الأمة أو المجتمع هو مصدر السلطات. وتختلف الدولتان (الإسلامية والعلمانية) عن الدولة الدينية فى الأمر. الا أن الدولة الإسلامية تختلف أيضا مع الدولة العلمانية فى تطبيق مبدأ “الأمة مصدر السلطات” الذى يعبر عن حق المجتمع المطلق فى السلطة فالدولة العلمانية فى تنفيذها هذا المبدأ تعتنق نظرية العقد الاجتماعي، وهو أن الأمة تتنازل عن جزء من سيادتها لحاكم، ومجموعة من الناس لكى تحكم بالنيابة، وتنتخب الأمة مجموعة تمثلها فى البرلمان وتنوب عنها فى التشريع ومساءلة الحاكم. باختصار، فالامة فى الدولة العلمانية لا تحكم وإنما تنيب عنها من يحكمها وتنيب عنها من يتحدث باسمها. وهذه نقطة الخلاف بين الدولة المدنية الإسلامية والدولة المدنية العلمانية.
- فالخطاب السياسى والتشريعى فى القرآن لا يتوجه إلى حاكم مسلم فيما يخص التشريع والتطبيق. دائما يتوجه إلى الأمة التى تحكم فعلا نفسها بنفسها وفق ما يسمى بالديمقراطية المباشرة والتى يكون فيها الحاكم موظفا بعقد وبأجر ولمدة محددة لينفذ المطلوب منه باعتباره أجيرا وخادما للأمة. فاذا انتهى عقده رجع إنسانا عاديا يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق.
- ولكى تمارس الأمة هذا الحق المطلق لها فى السلطة فإن القرآن قام بتحويل هذا الحق إلى فريضة ملزمة واجبة وقرنها بالصلاة والزكاة، وذلك فى سورة “الشوري” قبل أن يقيم المسلمون لهم دولة، وسورة الشورى مكية، وفيها يقول تعالى يصف المجتمع المسلم المدنى فيقول من ضمن ملامحه “والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون”( الشورى 38) فإذا جاءت الشورى بين الصلاة والزكاة لتؤكد أنها فريضة كالصلاة تماما، فإذا كانت الصلاة فرض عين فالشورى كذلك، وإذا كانت الصلاة تؤدى فى المسجد فكذلك كانت الشوري، واذا كانت الصلاة لا تصح فيها الإستنابة والتمثيل النيابى فالشورى أيضا كذلك. كما أن الحديث عن الشورى جاء وصفا للمجتمع القوى الذى يمسك زمام أموره بنفسه، فقال تعالى “وأمرهم شورى بينهم”
- وهنا يتأكد نفس الخطاب القرآنى فى التوجه للمجتمع بأسره دون حاكم. مع ملاحظة أن القرآن فى قصص موسى وفرعون كان الخطاب موجها لفرعون باعتباره الحاكم الذى كان يملك الأرض ومن عليها، أما فى التشريع الاسلامى فى الدولة الاسلامية فالخطاب دائما للمجتمع عندما يكون التشريع عاما وغير مختص بعصر النبى وحده، وأقرأ مثلا “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة (الأنفال 60) ‘ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص (البقرة 178) “وان خفتم شقاق بيتهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها” (النساء 35) “ولا تؤتوا السفهاء أموالكم وابتلوا اليتامي” (النساء 5، 6)
- وعندما انتقل المسلمون إلى المدينة وأقاموا لهم دولة “مدنية” كانت مجالس الشورى تعقد فى المسجد وينادى على الناس بأذان يقول “الصلاة جامعة” وفى بداية الأمر تثاقل بعض الأنصار عن حضور مجالس الشوري، وبعضهم كان يعتذر للنبى قبل الحضور وبعضه كان يعتذر بعد الحضور وبعضهم كان يتسلل لواذا بعد الحضور دون استئذان. ولأن ذلك التثاقل يعنى أن ينفرد بالأمر قلة لا تلبث أن تحتكر السلطة وتتعطل فريضة الشورى ويضيع حق الأمة بسبب تهاون أبنائها وتحولهم الى “أغلبية صامته” من أجل ذلك نزلت الآيات الثلاث الأخيرة من سور النور، وهى من أوائل السور المدنية، نزلت الآيات لتجعل حضور مجالس الشورى فريضة إيمانية وتهدد وتحذر من يتهاون فى الحضور. والتزم المسلمون بعدها فى حضور مجالس الشوري، وتحدثت سورة المجادلة عن مكان المنافقين وإشاعاتهم فى تلك المجالس (المجادلة 7:13) .
- وفى مجالس الشورى هذه تخرج أعلام المسلمين الذين بهروا العالم وغيروا تاريخه . . ولذلك فإن النبى عليه السلام حين مات لم يرشح بعده حاكما لأنه ترك أمه تحكم نفسها بنفسها. ولذلك أيضا فإن الشيخ على عبد الرازق وغيره ممن قاموا بالفصل بين الإسلام والدول أساء فهم الآيات لأنها كانت تخاطب مجتمعا ولا تخاطب حاكما أو رئيسا، ولأن العقول عاشت على وجود رئيس يستأثر بالسلطة ويتوجه إليه الخطاب فإن الشيخ على عبد الرازق فهم خطأ أنه ليس فى الاسلام دولة، وفعلا فأنه ليس فى الاسلام دولة ديموقراطية أو حتى دولة رئاسية، وإنما فيها دولة يحكمها شعبها وفق نظام فريد لسنا الآن فى موضع التفصيل له، وان كان نظام الدولة السويسرية أقرب النظم له. إلا أن أساس قوة هذه الدولة فى قوة أفرادها وقوة المجتمع، والشورى فى مصطلح القرآن وشريعته هى فى ممارسة القوة. وكل فرد مفروض عليه أن يمارس الشأن العام بحيوية وفعالية. وليس من حق أحد أن يستأثر بالسلطة. وإذا حدث ذلك فإن الشورى تصبح فريضة غائبة.
(4)حق المجتمع المطلق فى الثورة
الثورة فى الأصل ملك لله تعالي، وقد جعلها حقا مطلقا للمجتمع، وهى حق نسبى للأفراد بحسب العمل وحسن الاستغلال والاستثمار، وحق للورثة طالما أحسنوا الإستغلال والإستثمار، فإذا تصرفوا بسفاهة قام المجتمع بالحجر عليهم والإلتزام بالإنفاق عليهم وحسن معاملتهم. نستفيد من قوله تعالي: “ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله بكم قياما، وارزقوهم واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا، وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم” (النساء 6 ) فالمال حق مطلق للمجتمع ولهذا كان الخطاب للمجتمع فى الاشراف على الثروة “ولا تؤتوا السفهاء أموالكم” والمجتمع هو القائم على تنمية الثروة “التى جعل الله لكم قياما” فإذا أحسن الفرد القيام على تنمية ثروته كانت حقا له “فادفعوا إليهم أموالهم” ويتجلى هذا فى الفرق بين كلمتى “اموالكم” و “أموالهم” فى الآية.
وبالنسبة لمن يعجز عن الكسب فإن له حقا فى ثروة الأمة، والقرآن يؤكد على “حق” السائل والمحروم وحق المسكين وابن السبيل فى الصدقات الفردية والصدقات الرسمية كقوله تعالى “والذين فى أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم ( العارج 25،24)، “وفى أموالهم حق للسائل والمحروم” (الذاريات 19) “وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل”( الإسراء 26) “فآت ذا القربى والمسكين وابن السبيل” (الروم 38) “وآتوا حقه يوم حصاده” (الانعام 141 ).
(5) حق المجتمع المطلق فى الأمن
الوظيفة الأساسية للدولة الإسلامية نحو أفرادها إقامة القسط وتوفير الأمن الداخلى والخارجي. وأمن المجتمع الداخلى ككل، يعنى أن يكون له جيش قوى يرهب الأعداء من الإعتداء عليه “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوا الله وعدوكم.، (الأنفال 60) وهذا الإستعداد لإرهاب العدو يقع ضمن مشروعية القتال فى الدولة الإسلامية. وهى مشروعية تتفق والقسط والعدالة. فالآيات التى تحض على القتال هى أوامر تشريعية تخضع لقواعد تشريعية تحصر القتال فى الدفاع ورد الإعتداء بمثله”وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين” ‘ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم” (البقرة 190 ، 194) ثم المقصد النهائى للقتال هو أن يكون لمنع الإضطهاد والإكراه فى الدين، والمصطلح القرآنى هو الفتنة وتعنى الإكراه فى الدين، يقول تعالى “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله (البقرة 193) “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله” (الأنفال 39) ومعنى أن يكون الدين كله له أى بدون كهنوت، وأن يكون الناس أحرارا فى اختيار ما يشاءون من عقائد حتى لا تكون لأحدهم حجة أمام الله تعالى يوم القيامة.
إذن فالعدل والقسط هو أساس التعامل مع العدو الخارجي، ويكون بتكوين دوله قوية بجيشها وأهلها، لتؤكد حق المجتمع المطلق فى الأمن. كما أن من حق الأفراد النسبى أن يعيش كل منهم آمنا وعلى أساس التساوى وبحيث لا يستأثر فرد واحد بالحماية دون الآخر، حتى لو كان ذلك الفرد هو رئيس الدولة، ورأينا كيف كان عمر بن الخطاب ينام تحت الشجرة، ولم تسمع أن النبى فى المدينة كانت له حراسة، إذ يتساوى كل فرد مع الآخرين فى استحقاق من الأمن.
ثانيا: فى الدولة الدينية
1- وكل ذلك أضاعته الدولة الأموية فى سياستها العملية، ثم جاءت الدولة العباسية وقامت بتشريع ذلك الإبتعاد عن شرع الله تعالى عن طريقين:(1) إسناد أحاديث زائفة للنبى تشرع ذلك الخروج عن شرع الله تعالى، (2) إلغاء التشريع القرآنى الذى يخالفهم بدعوى أنه منسوخ، مع أن النسخ فى مصطلح القرآن يعنى الاثبات والكتابة وليس الحذف والإلغاء، والأهم من ذلك كله أن الدولة العباسية التى شهدت تدوين التراث تجاهلت تدوين السنة الحقيقية للنبى فى إعداده للأمة وتربيته لأفرادها. والقرآن الكريم أشار إلى مهمة النبى فى المدينة ومنها أن يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، أى يسمو بهم. وكان ذلك يتم عن طريقين، الأولى فى خطب الجمعة والأخرى فى مجالس الشوري. ولقد عاش النبى فى المدينة عشر سنوات، وخطب أثناءها الجمعة أكثر من خمسمائة مرة، ومع ذلك تجاهل التدوين العباسى تسجيل تلك الخطب كما أهمل تسجيل ما كان من حوار سياسى ونقاشات فى مجالس الشوري، وظلت الآيات التى تحدثت عن هذه المجالس فى سورتى النور والمجادلة بدون روايات تاريخية تعززها.
2- والواقع أن الدولة الأموية كانت تحكم بقانون القوة، ولم تكن تهتم كثيرا بإستصدار فتاوى تبرر ما تقوم به من فظائع بلغت قتل الحسين وآله، وانتهاك حرمة الكعبة والحرم واستباحة المدينة، وقتل مئات الألوف فى ولاية الحجاج على العراق. ولعل خطبة عبد الملك بن مروان سنة 75 هـ أمام أهل المدينة توضح هذه السياسة، إذ قال “أما بعد، فلست الخليفة المستضعف – يعنى عثمان – ولست الخليفة المداهن – يعنى معاوية – ولست الخليفة المأمون – يعنى يزيد ين معاوية – ألا وإنى لا أداوى هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لى قناتكم، فلن تزدادوا الإ عقوبة حتى يحكم السيف بيننا وبينكم، والله لا يأمرنى أحد بتقوى الله بعد مقامى هذا إلا ضربت عنقه(1). ‘ ومن يتأمل هذه الخطبة لا يصدق ان حاكما يقولها لمواطنين فى دولته.
وجاءت الدولة العباسية تكرر نفس السياسة ولكن تقوم بتبريرها وتشريعها عن طريق فقهائها، ولذلك كان ابو جعفر المنصور يخطب فيعلن فى عرفات للناس “انما أنى سلطان الله فى أرضه أسوسكم بتوفيقه ورشده، وخازنه على فيئه أقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه.(2) وهذا هو المبدأ الأساسى للدولة الدينية فى الخلافة العباسية والفاطمية والعثمانية، وهذا أيضا نفس المبدأ للأمبراطورية الرومانية القديمة، أن يحكم الخليفة أو الأمبراطور بالسلطة الإلهية ويملك بها الأرض ومن عليها، ويعاونه فى ذلك رجال الدين وفقهاء السلطة، ومن هذه السياسة نبتت تعبيرات مختلفة مثل “الراعى والرعية” و “وأهل الحل والعقد” وتعنى أن الحاكم المتأله هو الراعى وأن المجتمع مجموعة من القطعان يتصرف فيهم الراعى كيف يشاء باعتبار أنه يملك هذه الرعية ومسئول عنها أمام الله وحده، ولا يمكن لأحد من القطيع أن يسائل الراعي. ولكن الذى يعاون الراعى فى قيادة القطيع هم الملأ الذين يستسيرهم الراعى وهم أهل الحل والعقد.
ومن العبث هنا أن تتساءل عن القسط أو عن الحق فى حرية العقيدة والتعبير أو سائر الحقوق النسبية، فقد احتكرها شخص واحد وصار بها مستبدا مدعيا للألوهية.
التناقص فى حقوق المواطنة بين الدولتين:
إذا كان هذا هو حال الأفراد المسلمين داخل الدولة الدينية، فما هو وضع غير المسلمين فيها. . ثم ما هو وضعهم فى الدولة الاسلامية؟:
1- نبدأ بالدولة الإسلامية
ونشير الى أن مصطلح الإيمان والاسلام فى التعامل البشرى بين أفراد الأمة والمجتمع يعنى الأمن والأمان والسلم والسلام. فالمؤمن هو المأمون الجانب مهما كانت عقيدته، والمسلم هو المسالم مهما كان دينه. والجميع مهما اختلفت أديانهم هم مسلمون مؤمنون طالما لا يرفع أحدهم السلاح ضد الآخر، والجميع مهما اختلفت دياناتهم وعقائدهم ومذاهبهم موعدهم أمام الله تعالى يوم القيامة ليفصل بينهم فيما كانوا فيه مختلفين. وإلى أن يأتى هذا اليوم فالناس فى المجتمع يعيشون فى إطار العدل والقسط والمساواه ولهم نفس الحقوق، وعليهم نفس الواجبات. والآيات فى ذلك بالمئات فى القرآن، ولكن نستشهد بآية واحدة جاء فيها الإذن بالقتال، ونصت على حيثيات الإذن بالقتال واختتمت بالمقصد التشريعى للقتال وهو حماية دور العبادة من صوامع وبيع وصلوات للهنود والنصارى ومساجد للمسلمين وفيها جميعا يذكر أصحابها الله تعالى كثيرا (الآية 40 من سورة الحج).
ثم نستشهد بآية أخرى فيها مفهوم المواطنة، يقول تعالى “إن فرعون علا فى الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم (القصص 4 ) فالطائفة المستضعفة كانوا بنى إسرائيل والقرآن، يعتبرهم ضمن أهل مصر مع اختلافهم العرقى والديني. أى أن تشريع القرآن يجعل الوطن للمجتمع بدون أقلية أو أكثرية. وفى نفس الوقت فإن الدين كله لله تعالى بلا كهنوت فى الدنيا، ومرجعه لله تعالى يحكم فيه فى الآخرة. أى أن مقوله “الدين لله والوطن للجميع” هى تشريع قرآني.
2- ولكن ذلك التشريع القرآنى خالفته الدولة الأموية حين تعصبت عنصريا ضد غير العرب من الموالى والأقباط المصريين والأقباط فى الشام والبربر فى شمال أفريقيا. ثم جاءت الدولة العباسية منذ خلافة المتوكل العباسى وتعصبت ضد غير المسلمين من النصارى واليهود ومن غير السنيين المسلمين من الشيعة والصوفية، وفرضت زيا معينا لتحقير أهل الكتاب، وقبل ذلك تم فرض الجزية على غير المسلمين خلافا للتشريع القرآنى واعتبرهم مواطنين درجة ثانية فى إطار أنهم أهل الذمة. وتبارى فقهاؤهم فى التقعير الفقهى لذلك التشريع المخالف للقرآن الكريم.
وفى النهاية
فهذا مدخل للدراسة مجرد فاتح للشهية يؤكد بدون تفصيلات – التناقص بين دولة الإسلام والدولة الدينية.
ونستخلص من هذا المدخل الحقائق التالية:
1- إن الدولة الإسلامية ليست يوتوبيا خيالية، بل قد أمكن تأسيسها من لاشيء فى عصر النبى وصمدت بعدها. وكان نتيجة انهيارها فى الفتنة الكبرى حروبا طوالا، أى لم تسقط بهدوء، ولكن قامت بشراسة حتى أن المقاومة استطاعت إنهاك الدولة الأموية وإسقاطها فى عنفوان شبابها. ثم جاءت الدولة العباسية بعد أن خدعت المسلمين بشعار “الرضى من آل محمد” وإعادة الدولة الإسلامية التى أسقطها الأمويون. ولكنهم مالبثوا أن أقاموا دولة تتمسح بالدين وتناقضه فى نفس الوقت.
2- برغم التحريف وإرساء قواعد تشريعية للدولة الدينية فى العصر العباسى فإن حقائق القرآن المنزه عن التحريف لا تزال تحتفظ بأسس الدولة الاسلامية وتناقضها مع الدولة الدينية التى عرفها المسلمون والغرب على السواء.
3- إن الدولة العلمانية الحديثة هى الأقرب للدولة الإسلامية، ولكن أقرب النظم الحديثة للدولة الإسلامية هو نظام الديمقراطية المباشرة فى الإتحاد السويسري.
4- إن نظام العقوبات أو ما يعرف بالحدود فى الدولة الإسلامية يستلزم بحثا خاصا فى إطار التشريع القرآنى واختلافه عن تشريع الدولة الدينية وتراثها.