الافتتاحية (2)
هذا العدد .. خطوة على طريق الألف ميل؟!
فريد زهران
ما الذى حدث فى مصر؟ وما هى بالضبط جذور الأزمة التى راحت تضرب بعنف فى جنبات وجوانب المجتمع المصرى؟ ومن أين يبدأ المخلصون رحلة الألف ميل للنجاة بالوطن من هذا الإنهيار والتردى؟!
الإجابة عن هذه التساؤلات ليست منبتة الصلة على الإطلاق بهذه المحاولة التى نجحت فى أن تجمع بين دفتى الإنسان والتطور يحيى الرخاوى، وإيهاب الخراط، وأحمد عبد الله ونبيل القط، ومن لف لفهم، وبين فريد زهران، وأحمد صبحى منصور وشبل بدران ومحمود نسيم ومن سار على دربهم وبهذا المعنى عزيزى القارئ – فإن هذا العدد من الانسان والتطور هو بداية السير – أو السباحة – ضد التيار، والتيار الذى نقصده هنا هو تيار الفردية الذى نجح فى تفكيك أوصال المجتمع المصرى بدءا من منتصف السبعينات وحتى الآن.
عندما يجد الإنسان نفسه عاجزا عن مواجهة متطلبات المعيشة، ومرتبه لا يكفى “العيش الحاف”، فمن الطبيعى أن يشترك هذا الإنسان مع أقرانه فى مساومة اجتماعية – من المفترض أنها مشروعة – من أجل تحسين شروط الحياة أو العمل، ومن خلال هذه المساومة الاجتماعية يصل المجتمع إلى حالة التوازن والاستقرار، وبديهى أن هذه المساومة لا يمكن أن تنجح – أو بالأحرى لا يمكن أن تبدأ أصلا – ما لم ينتظم الناس فى جماعات متبلورة من خلال الأحزاب أو النقابات أو اتحادات رجال الأعمال .. إلى أخر أشكال التنظيم الاجتماعي.
إذا كانت المساومة الجماعية أمرا غير مشروع، فعلى الحاكم المستبد ألا يمس القوت الضروري؛ لأنه فى غيبة هذه الألية لعلاج الصراع الاجتماعى سيصبح اندلاع الاضطرابات الاجتماعية وشيوع حالة من عدم الاستقرار أمرا طبيعيا مهما بلغت درجة الاستبداد السياسى ، ولكن الدولة المصرية نجحت فيما لم ينجح فيه أحد من قبل عندما جعلت مرتب خريج الجامعة لا يشترى سوى خمسة كيلو لحم، وأصرت على أن تعطى مفتش التموين الذى قضى عشرين عاما فى الخدمة مرتبا لا يتجاوز مائتين وخمسين جنيه، وصادرت فى نفس الوقت على حق المساومة الاجتماعية!!.
وهكذا فإن موجة الاضطرابات الاجتماعية التى عرفتها مصر فى الفترة من 1975 وحتى الذروة فى 18، 19 يناير 1977، لم تندلع مرة أخرى، لماذا؟ وكيف نجحت الدولة المصرية فى تمرير الكثير والكثير من السياسات الاقتصادية التى أدى أقل القليل منها إلى انتفاضة شعبية جارفة فى 18، 19 يناير 1977؟!
هناك سببان يفسران هذه الظاهرة الغريبة: السبب الأول هو الهجرة إلى بلاد النفط ومثلما كتب على معظم الشباب المصرى أن يقضوا بعضا من الوقت فى القوات المسلحة خدمة للعلم، فقد كتب على معظم الشباب المصرى أيضا أن يقضى بعضا من الوقت فى بلاد النفط خدمة للريال أو الدولار الذى بات وجوده ضروريا لتوفير مسكن أو إنجاز “جوازة”.
السبب الثانى الذى يفسر استقرار الأوضاع رغم عدم معقولية السياسات الإقتصادية يرجع إلى أن الدولة المصرية قد ثبتت فى الآونة الأخيرة ما سبق أن قررته الدولة المصرية أيام حكم المماليك عندما كانت تعجز عن دفع رواتب صغار المماليك، فكانت تحل هذه المشكلة بتوجيههم إلى نهب أحد الأسواق!، وبالمثل فإن المدرس عليه أن يحل مشكلته ويعطى دروسا، والطبيب عليه أن يسرق المرضي،والصول فى الطريق عليه أن يأخذ ما تيسر بدءا من السيجاره وانتهاء بــ “اللحلوح”!
كنا نذهب للناس المطحونة ونحدثها – وفقا للأصول – عن ضرورة الانتظام فى الأحزاب أو النقابات حتى يتسنى لهم عبر نضال جماعى منظم ومساومة اجتماعية منطقية أن يحصلوا على حقوقهم، وكنا نؤكد لهم أن هذا هو الطريق الوحيد لاستمرارهم أحياء فى ظل السياسات الاقتصادية غير المنطقية، وكنا نفاجأ بإنصراف الناس عن هذا الكلام؛ لأن هناك – على حد تعبيرهم – حلولا أخرى، وقد شاءت الظروف أن تكون هذه الحلول الأخرى قادرة على أن تحل مشاكل البعض وأن تكون أملا دائما بالنسبة للبعض الأخر،وهو الأمل الذى كان يحول على الدوام دون انخراط هذا البعض الأخر فى أى عمل جماعى يستهدف التغيير بالذات. إن مثل هذه الأعمال كانت تكلف المنخرطين فيها الكثير من التضحيات فى ظل استبداد سياسى عام، وهامش ديمقراطى محدود، يتعرض على الدوام للانكماش وفقا لمزاج الدولة ورغباتها.
منذ 1977، وحتى الآن، لعقدين كاملين، كان الحل الفردى هو المخرج، ولم يكن هذا الحل الفردى من خلال النفط وهما كما كان بعض المعزولين من قيادات اليسار يرددون بثقة، بل كان حلا حقيقيا بالنسبة للملايين من المصريين الذين لم يستطيعوا الحصول على مسكن إلا من خلال هذه الهجرة، ولم يستطيعوا الزواج إلا من خلال هذه الهجرة، بل ولم يستطع مئات الألوف منهم أن يؤسسوا مشروعا صغيرا إلا من خلال هذه الهجرة، وبالمثل كانت الدروس الخصوصية والعمولات و “الحسنة” هى أدوات الحل الفردى لملايين أخري.
فى بلاد النفط كانت “اللقمة” مغموسة فى الذل والإهانة، وكان تبرير ذلك بالكذب الجماعى والنفاق الجماعى الرامى إلى إخفاء هذا الذل والهوان أمرا ضروريا حتى يصبح استمرار السفر ممكنا، بل وأصبح الهروب من الجيش أمرا غيرمعيب؛ لأن الجيش كافر، وتقاضى الرشوة غير معيب لأن ذلك “سعي”، وهو حلال شرعا (كما أكد لى موظف مرتش كان قد لاحظ أنى اندهشت لأنه قطع الحديث عن مقدار الرشوة التى يطلبها لكى “يخطف العـشاء”)، وبشكل مواز نمى داخل العقل المصرى إحساس بالذنب لأن لقمة العيش أصبحت محاطة باللبس والشبهات سواء هنا أو فى بلاد النفط، وهكذا أضافت النزعة التطهيرية سببا جديدا لازدهار الرغبة فى الخلاص الدينى والبكاء خلف المشايخ الذين يتهدج صوتهم بدءا من عمر عبد الرحمن وانتهاء بـ عمر عبد الكافي.
لقد أصبحت النزعة الفردية بمقتضى كل ما تقدم أحد أهم مقومات الشخصية المصرية فى الآونة الأخيرة، ولذلك انهار كل ما هو جماعى وانتعش كل ما هو فردى، فالشارع غالبا شديد القذارة، ومدخل العمارة بشع، والمصعد عطلان معظم الوقت، ورائحة السلم عطنة، وتتوقع بعد ذلك أن تكون الشقق بشعة .. ولكن صديقى الخواجة الذى نبهنى لهذه المفارقة كان يندهش عندما يجد الشقة التى يزورها على الدوام نظيفة ومرتبة، والتناقض ما بين قذارة مدخل العمارة ونظافة كل الشقق هو فى النهاية نتيجة لانهيار كل ما هو جماعى وازدهار كل ما هو فردى، ولذلك فليس صدفة أن تتحول المؤسسات التى يفترض أنها جماعية مثل الأحزاب والنقابات والجمعيات .. إلخ إلى منشأت فردية يستطيع الرئيس فيها أن “يرفد” و “يعين” من يشاء.
فى هذا المناخ الرديء نسمع كل يوم عن انهيار أو تصدع أو انشقاق جماعة من الجماعات سواء كانت هذه الجماعة حزبا أو نقابة أو جمعية أو حتى شركة، ولا نسمع بالطبع عن تضافر لجهود أو تجمع لمواهب أو كفاءات.
العمل الجماعى الناجح لا تتوفر له اجتماعيا مقومات النجاح، والنجاح فى حد ذاته مثير للشبهة؛ فالآلاف اللذين صنعوا أنفسهم عبر الذل فى بلاد النفط أو عبر الأبواب الخلفية للرزق فى داخل الوطن يتشككون فى كل نجاح ويتوقون لتلويث الآخرين لإحساسهم المرضى الدفين وغير المعلن بـ “وساختهم”.
كان من الممكن للإنسان والتطور أن تستمر كما كانت، ولم تكن الإنسان والتطور عملا منقوصا أو معيبا، وكان يمكن للمجموعة التى مدت يدها للإنسان والتطور أن تصدر مجلة خاصة بها، ولم يكن من المتوقع أن تكون هذه المجلة أيضا معيبة أو منقوصة، ولكن أن تلتقى مجموعتان فى مصر الآن لا يدفعهما فى ذلك إلا حب الوطن والتفكير النقدى الشجاع فى كل ما يحيط به من أخطار وتحديات هو أمر غير مسبوق منذ فترة طويلة، وهو – بدون أى مبالغة – خطوة هامة ولها دلالة كبيرة على طريق الألف ميل .. طريق عودة الروح الجماعية إلى عقل مصر ووجدانها.