الافتتاحية (1)
… ثم إن ناسا مصريين جدا، طيبين متحمسين مازالوا، لم يفقدوا الأمل على الرغم من كل شئ (كل شئ)، جاؤوا يسألون أين أنتم؟ ولماذا توقفتم؟ وفى محاولات الرد والاعتذار والتفسير والتبرير، عادت ” الإنسان والتطور ” للظهور، بفضلهم، وفضل نداء الضمير العام
هذا ما كان من أمر هذه العودة هكذا، ولا نزيد، فلم يعد ثمة مجال لتكرار نص “الاعتذار- الأمل-الوعد، الاعتذار- الأمل- الوعد..”
. . . فرحت أقلب فى أوراقي، فوجدت افتتاحية العدد بعد الأخير، الذى لم يظهر أبدا تقول “ختم نجيب محفوظ روايته الباكرة زقاق المدق” بصحبة الشيخ رضوان وهو يتساءل: “أليس لكل شيء نهاية؟. ثم يرد على نفسه: “بلى لكل شئ نهاية”، ثم أفيق بعد هذه السنوات على هؤلاء الطارقين بابنا فأرد على الشيخ رضوان بعد جملته الأخيرة: بلي، لكل شيء نهاية، وبعد كل نهاية بداية، ياه !! حقا؟ سوف نري.
(1)
كلام كتير كتير، بعضه جيد، وبعضه جيد جدا ، حجم الجدية يزداد، لكن أغلب الكلام هو كما تعلم ، وبالرغم من ذلك فإن الأمل يتسحب: يبزغ مبدع هنا، وناشر هناك، يتحملان مسئولية الكلمات “الأخري” ويحسبانها بطريقة أخري، فيطل المستقبل حاضرا واعدا بما يجرى فعلا، لا بما سيجرى غدا، ومع ظهور الأمل هكذا (على الرغم من كل شيء) يمتد الوعي، فيزيد الألم، لنظهر من جديد، نحاول أن نواكب الجديد الذى لا نعرفه.
(2)
ولكن هل يكفى الكلام، الكلام، الكلام، و بماذا يمكن أن تسهم هذه المجلة، ومثلها، يقرؤها – إن قرأها – بضع مئات من القراء؟ تسهم فى زيادة عدد الكلمات الجادة والواعدة؟ تؤكد أن العمى لم يكتمل تماما؟ تضيف صوتا خافتا فى اتجاه طيب؟.
وتختلف اللغة، تموت ألفاظ، وتولد أخري، فيتوقف الحديث عن اليمين واليسار، بل حتى عن الفوق والتحت، وأكاد أقول عن الوطنية والتحرير، ولا تحل محل ذلك محاور تتفق مع دورات الزمن الحتمية، ولكننا نسمع تلويحات تستعمل رطانا لم يتغلغل بعد فى وجودنا فعلا يوميا، رطانا له أبجدية لامعة، لكنها فى وطننا هذا، فى وقتنا هذا، لم تستطع بعد أن تتجمع فى كلمات دالة، ناهيك عن ” جمل مفيدة”
وحتى لا نغمض أكثر، نورد عينات من هذه الأبجدية التى تنتظر أن تتآلف فى كلمات، خذ عندك “المستقبل – المستقبليات – المعلومات- المعلوماتية – الثقافة العلمية – العولمة هذا بالإضافة إلى رطان مستورد، يكتب بحروف عربية على الرغم من أن قلة من أهل العربية يمتلكون ناصيته،، وذلك مثل ” ما بعد الحداثه” وما بعد الكولونيالية، والتفكيكية، والسهمتية (طبعا لا يوجد شيء اسمه السهمتية، ولكن يمكن أن يوجد: نسبة إلى سهم، أو إلى سهام، أو لعله اسم حركى للخلوتية الجودية، من يدرى ؟).
(3)
ولا بأس من كل ذلك لكن البحث مازال جاريا عن جملة مفيدة، وفعل قادر، والانتظار يأمل فى ذلك، أو يهم بذلك، أو يبين ذلك، وبعضهم يعيد تشكيل صفوفه وإن لم يحقق شيئا كاملا حتى الآن على ما يبدو.
المراجعة!! المراجعة !! هل صحيح أنها جارية فى الاتجاه السليم ؟ .
ثم نورد بعض ملامح الجارى ( دون تعميم من فضلك):
(أ) الحركة الطلابية (السبعينيون !! ) تجمعوا خلف وتحت نعش أروى صالح يتساءلون: ياه، أهكذا؟ إذن ماذا ؟ ومن نحن وماذا يمكن ؟ .
(ب) والناصريون تجمعوا فى صحيفة وحزب وحماسة تحافظ على أمل لم يتحقق أبدا، بل لم تتبين معالمه أبدا ، فظلت الحماسة والبكاء على الأطلال يحفظان ماء الوجه، ويؤكد صلابة جدران المتاهات.
(جـ) والإخوان المسلمون يرفعون راية الديمقراطية (دون إشارة إلى عمرها الإفتراضي) يدعون إلى حوار مبدع محتمل (دون مساس بالنص).
(د) والشيوعيون يحاولون تغيير “محل السكن” المثبت فى البطاقات القديمة من الاتحاد السوفيتى إلى الصين، وهم يفعلون ذلك على البطاقات فحسب، آملين فى نصيب ما، من نظام ما، يؤكد لهم أن الحلم لم يمت ، وبالتالى أنهم مازالوا يضربون فى الأرض.
(هـ) والمثقفون الخصوصيون تزداد شللهم عددا، وتقل ترابطا، فينتشر فى القاهرة – على ما سمعت – أكثر من مائتى صالون ثقافي، يعقد مرة أسبوعيا، أو شهريا، أو كيفما اتفق، وكلهم يتبادلون الكلمات الجيدة، والآراء الهامة، وأشياء من هذه جدا، (جدا).
ويمكن أن أستطرد إلى غير ذلك مما هو مثل ذلك .
(4)
إلا أن الحوار العملى والحقيقى هو الذى يجرى على محورين:
المحورالأول: بين حملة السلاح: البوليس والجيش، والبلطجة الرسمية على ناحية، والمتدينين المغلقين الأصوليين المسلحين أيضا فى الجانب الآخر.
والمحورالثانى: بين الأثرياء الجدد، والعدوانيين السلبيين، والإسم الرسمى للأثرياء الجدد هو “مجموعات رجال الأعمال” – أما الاسم الحركى للعدوانيين السلبيين فهو: الممتنعون (عن الانتخابات وعن العمل المنتج، وعن الالتزام بالقانون، وعن الأمل حالة كونهم منتظرين ومساهمين فى الانهيار الوشيك الذى هو بداية الحل الآخر ، يعنى !!.)
ولا توجد وراء هذين المحورين أية بنية أساسية يرتكز إليها عامة الناس، بغض النظر عن المنتصر القادم، لا توجد حكومة إدارية متماسكة وضابطة طول الوقت فى وعى الناس خاصة، كما لا توجد آلية لتداول السلطة (على الرغم من كل مزاعم هوامش الديمقراطية) ولا يوجد تعليم أساسي، عام ولا يوجد تعليم غير أساسى متفق عليه، ولا توجد لغة مشتركة، ولا يوجد فن مبدع ليفرض نفسه(مثلما فعلت السينما فى إيران الإسلامية على الرغم من كل شئ) .
(5)
وعلى الصعيد الخارجي، وسوف أوجز أشد الايجاز تجنبا لألم قد يوقف كل شئ:
نحن نـهان كل ثانية إهانات لا تتفق مع أى كرامة أو استمرار، فلا نحن نستسلم لنبدأ من جديد، فنوفر مصاريف التسليح والجهد المبذول لحبك الكذب ، ولا نحن نحارب طول الوقت، طول العمر مهما كان، مهما كان، ولا نحن (ولا هم-نيابة عنا- ممن يملكون ذلك ) نسحب نقودنا من عندهم، فلا يبقى لنا بعد هذا إلا استجداء أن ندخل عندهم نبنى لهم المستوطنات فى أرضنا ليحتج ساستنا فى الاجتماعات وأروقة الأمم المتحدة على ذلك، وأيضا يبقى علينا أن نساهم فى الحفاظ على أمنهم أولا وأساسا وتماما، ويا حبذا أن نجتهد بكل ما نملك من حجج قوية للعودة إلى مائدة المفاوضات (لو سمحتم).
(6)
وكل هذا لا يبرر اليأس بقدر ما يلزم بالبحث، فثمة حركة تحت السطح، ومحاولات، وقلق، وترقب، ولابد أننا قادرون على أن “نكون” من جديد.
هناك أمل واقعى لسبب بسيط وهو أن الإنسان لم ينقرض بعد، والإنسان المصرى هو إنسان قديم رائع، وجديد واعد (فى الأغلب).
وبالرغم من كل ذلك، وبسببه تظهر رواية حسنى حسن (اسم آخر للظل)، وتمثل على الهناجر مسرحية سعد الله ونوس (طقوس الإشارات والتحولات) وتظهر “قضايا فكرية”، وتتنامى جهود التوثيق والتعريب،
وتنجح دار نشر ” شرقيات، وتظهر مجلة أدبية أسبوعية !!”. ومع ذلك فمازلنا فى منطقة الكلام والكتابة والكلمات والنشر ودمتم،
إذن ماذا؟.
ننشيء حزبا ينزل إلى الشارع يلتقط إيجابيات البؤر الخفية التى تتجمع تلقائيا حتى لا تفقد الأمل؟.
نستمر فرادي، أو جماعات صغيرة كل فى موقعه فى إنتظار الإنهيار الكامل لتتجمع البؤر المرتعشة فى نبضة منقذة؟.
نتوقف تماما – أمانة مع أنفسنا – حتى لا نتصور أنه بمزيد من الكلمات المتبادلة فى الصالونات (الثقافية!!) أو المنشورة فى مثل هذه المجلة، نتصور أنها الحل، وهى ليست إلا هربا منظما فى الأغلب؟.
ننسى كل شيء ونتعمق فى اللحظة لأنه للكون قدر يدبره “وللحياة نبض يحميها” و”للإيمان رب يرجحه”؟.
ليست عندى إجابة.
(7)
لكن هذه المجلة ليست مجرد كلمات، هذا ما نتصوره حقيقة (يا ليت).
وهذا العدد ربما يمثل النقلة التى كنا ننتظرها.
فبعد ضخ الدم الجديد، الذى أشرت إليه فى بداية الافتتاحية، تلك العملية التى تجرى فى حجرة الإنعاش.بكل إمكانيات “الرعاية المركزة” يظهر هذا العدد ليحافظ على الخطوط العامة لتاريخ المجلة، وفى الوقت ذاته يحاول أن يقلل من سلبياتها قليلا قليلا، فتتحدد معالم الأقسام، ويشاركنا أهل الاختصاص – دون وصاية جاثمة مانعة، يشاركونا فى انتقاء المواد الأدبية والإبداعية العامة، وتتحدد مستويات الجرعات العلمية والمعلوماتية فننزل إلى احتياجات القارىء العادي، لنعرض فى أبواب جديدة بسيطة بعض التصحيحات الواجبة (باب: للتذكرة والتصحيح، على مستويات مختلفة: القارئ العادى، الطبيب الممارس، الباحث العلمي… إلخ)، ونفتح بابا جديدا للرد على التساؤلات والمشاكل (بادئين هذا العدد برسائل قديمة، داعين القراء لإرسال ما شاؤوا من استفسارات).
كما نعرض حوارات فعلية، أو متخيلة، حول بعض المسائل النفسية العامة فيما نعتقد أنها تندرج تحت الباب القديم الذى لم يكتب له الإستمرار، باب محو الأمية النفسية.
كذلك نعد أن نحافظ على أبواب قديمة أخرى مثل “مقتطف وموقف” بإعادة قراءة المعلومات المعاصرة والتراثية، وأيضا نرحب بكل من يسهم فى أبواب عزيزة علينا مثل “مثل وموال” .
وبالنسبة إلى باب “حالات وأحوال” فقد رجحنا أن تكون الحالات أكثر اختصارا، مع عرض عينات دالة من كلام المرضى أساسا مع التعليق المناسب، تتبادل أحيانا مع ذكر حالة واحدة متوسطة كلما أتيحت الفرصة.
كذلك سوف نلتزم بنشر موجز واف مبسط عن الندوات العلمية التى تعقدها الجمعية (جمعية الطب النفسى التطوري، والعمل الجماعي)، وكذلك الندوات الثقافية.
وبالنسبة لباب “النقد” فسوف يكون مفتوحا على أكثر من محور، فبما أن ثروتنا الحقيقية هى التفكير النقدى وإعادة النظر، فنحن نأمل أن يشمل ذلك نقدا للنظريات العلمية، وللنصوص الأدبية، وللاتجاهات العلاجية، وأن نستلهم من موقف المرضى النفسيين وكلامهم “الناقد”، على الرغم من فشله، ما يعيننا على تنمية هذا التفكير الذى كاد ينقرض فى حياتنا على كل المستويات، أليست المجلة هى “مجلة النقد الفكرى والأدبى والعلمى والثقافي”؟.
آخر لحظة:
مساء السبت: 30 / 8 / 1997، مذبحة أخرى فى الجزائر، مائتان [منهم أطفال وشيوخ ونساء] ذبحوا، تعرت بطون بعضهم، ولا أحد يفهم شيئا، مع أنه أمر دال حتم إلا أنه ما زال غير قابل للفهم. صباح الأحد: 31 / 8 / 1997 مصرع ديانا ودودي، ليكن قد زاد عدد المصروعين اثنين. للموت حرمة، ومع ذلك لم أفهم الدلالة لهذا الطوفان الغامر من مشاعر الشعب البريطانى والعالم أجمع، بما فى ذلك العالم العربى !!. أهو الحزن على الشباب؟ أهو التقدير الخاص للحب، ولكن كم شابا فى العالم يستأهل الحسرة نفسها (على شبابه) وأكثر، وهل الذى فجـر نفسه فى القدس لم تكن له خطيبة أو حبيبة، ربما أجمل وأرق، وربما ماتت بعده حزنا عليه.
إنا لله وإنا إليه راجعون، لكل أجل كتاب، فهل لكل مذلة نهاية ؟
(ملحوظة يوم 25/9/1997 نشرت إحصائية فى الأهرام تقول إنه قد زادت معدلات الاكتئاب – رسميا- فى إنجلترا عقب موت ديانا، فهل هذا الاكتئآب هو حزن على ديانا، أم على ما وصل إليه العالم من اهتزاز قيم، أم أنه:”ما للجنازة حارة، قال: كل من هو يبكى على حاله ؟”
صباح الثلاثاء 29 / 9 / 1997:
لا يمكن أن يخرج هذا العدد دون إشارة إلى حادث تفجير الحافلة السياحية فى ميدان التحرير، وهو حادث سخيف مرعب قذر، وفى نفس الوقت هو يثير قضايا خطيرة تماما ، علمية وقانونية، نأمل أن نعود لها تفصيلا فى عدد قادم.
هذا العدد
يشمل هذا العدد إضافة إلى الأبواب السابق الإشارة إليها تفضلا من شيخنا الجليل نجيب محفوظ وهو يحكى لمحة منه مع الشيخ زكريا أحمد (الأمر الذى وعدنا أن يكرره عن آخرين، ما أتيحت الفرصة ، أطال الله عمره)، ثم بحثا عن الدولة الدينية والإسلامية يقدمه ثائر أصولى، زميلنا فى التحرير د. منصور، كما يشمل حوارا متخيلا مع إريك بيرن، عن علاقة الدين بالنفس والوجود، وكذلك الفصل الأول من قراءة نقدية هى تشكيلات على أصداء نجيب محفوظ، كما يهدينا شاعر شاب (إدوار الخراط) قصيدة جديدة ،نضعها بجوار قصيدة “الماسة” للدكتور أحمد تيمور آملين فى تكامل حقيقي، وتستمر محاولات قراءة مواقف النفرى التى لا تنتهى طرق واجتهادات قراءتها.
وختاما:
لا بد مما ليس منه بد، والذى ليس منه بد -بعد مقاومة دامت سبع عشرة عاما- هو أن نرحب بالإعلانات مثلنا مثل غيرنا، آملين أن نحسن الترحيب ، ونحسن الانتقاء، ونحسن الفصل بين مسئولية التحرير، ومحتوى الإعلان.
ملحوظة: الشطر الثانى لبيت الشعر الذى بدأت هذه الفقرة بشطره الأول يقول: والقوس له وتر عرض، و معناه أن: الشيئ لزوم الشيء !!!، ورغم أن هذا من بديهات الحياة عبر التاريخ إلا أننا لم نتبين أن الإعلان لزوم الاستمرار إلا أخيرا ، ياه !!!
ى.أ.