(البنية – المعنى)(1)
حرف الألـف
انتحـار(2)
يمكن تعريف الإنتحار فى صورته المألوفة عند العامة، وفى الطب النفسى أنه (فعل جاد، يقوم فيه الشخص بايذاء نفسه وتحطيمها حتى الموت فعلا).
ونحن لا ندعى أن هذا التعريف جامع مانع، ولكنه على الأقل يغطى مساحة مناسبة من المتعارف عليه تحت إسم هذه الظاهرة:
(أ) فهو يتضمن أن الفاعل والمفعول به هو نفس الشخص.
(ب) وهو يشير إلى حدة الفعل، سواء من ناحية جرعة التحطيم أم تركيز الزمن.
(جـ) وهو يشترط النهاية بالموت (حتى يسمى كذلك).
لكن هل هذا صحيح؟؟
- هل حقيقة أن المنتحر يؤذى نفسه، أم أنه يؤذى نفسا فى نفسه،أم أن نفسا فى نفسه تؤذيه؟
- وهل يحدث الموت بمعنى التخلص من الحياة، أم هو تخلص من “آخر” داخلي، فأخذ الحياة معه تورطا؟
- وهل هو فعل إيذاء وتحطيم أم هو فعل خلاص وعتق وسعادة (أحيانا على الأقل)؟
وقبل أن نحاول الإجابة على هذه الأسئلة لابد من الإشارة الى صعوبات منهجية تجعل دراسة الانتحار مستحيلة إلا بالاستنتاج والقياس والمعايشة الفينومينولوجية، لأن المنتحر فعلا لم يعد فى متناول الدراسة، وكل ما دون ذلك ليس كذلك، لهذا فإننا سوف نقدم ما نريد من واقع عمق الخبرة الإكلينيكية فى معايشة مأزق إرادة الموت، وتبريرات الهرب الأقصي، وخاصة كما نلقاها فى “مأزق العبور” فى العلاج الجمعى.
قتل ومقتول:
الواقع إنه من الناحية التركيبية، لا يوجد ما يسمى انتحارا، هو قتل لا أكثر ولا أقل، هوقتل “ذات” لذات (أو ذاوت أخري) فيتصادف أن الاثنين تلبسان نفس الجسد، أو أنها جميعا لها نفس الوجد البدني، ولا رجعة.
والقاتلة (الذات الفاعلة) تدرك بقدر ضعيف احتمال عدمها، لكنها تقدم مع ذلك على القتل حيث لا بديل، فهى تقدم عليه بأمل غير واضح أنه قتل بسيط ممكن، وليس فناء جماعيا، تورطا، ولكى تتم هذه المخاطرة لابد أن تتوفر عدة ملابسات معا، أهمها:
1- أن تكون هناك تحديات ومواجهة بين قوى شديدة الصلابة والاصرار (فى الداخل أساسا).
2- أن تكون هذه التحديات والمواجهة فى حركية مذبذبة، لا فى تجمد راسخ، بما يشير الى توالى الجولات بلا منتصر. (فى الداخل أيضا رغم عدم نفى الاثارة من قوى الخارج).
3- أن يتأكد اليأس لدى كل طرف، ولدى الأطراف مجتمعة من أى احتمالات بديلة، مثل: التسوية أو التنحية، أو التبادل..الخ (داخلية).
4- أن يصل التهديد بتغيير ميزان القوي، أو طبيعة التواجد المكوكى (أنظر بعد) حدا يبدو معه أنه أصبح حتميا، وفى نفس الوقت يقر قرار أحد الأطراف (أو جميعها) على استحالة قبول ذلك، لاستحالة الخطو الى المجهول. (قد يأتى التهديد من الخارج لكن المهم هو طبيعة استجابة الداخل).
5- أن يتزايد الخوف من الإحتمال الآخر الى درجة تبرر قوة الاندفاعة القاتلة، فالموت (تورطا).
وقد تعمدت أن أتحدث فى الفقرة السابقة بلغة (الأطراف) حتى لا أستدرج للغة الذوات أو اضطر لاختزال المعركة الى (أنا أعلي) معاقب، أو أنا يائسة (فرويد)، ولا إلى “ذات طفلية”، و “والدية”: ..الخ (إريك بيرن)، ذلك أن المهم أن الحديث عن التحدى والمواجهة يفهم بلغة تعدد الذوات وتحاور التنظيمات أيا كانت طبيعتها، وبالتالى ننبه على عدم الإستسلام إلى الشائع من أن القاتل عادة هو الذات الوالدية دون الطفلية، ذلك أن الطفل أكثر بدائية وأقل حيلة وأسرع اندفاعا وأسهل تورطا، فلا يوجد ما يمنع أن يكون هو القاتل، كذلك قد يأتى القتل من ذات أخرى وأخرى غير الأطراف المواجهة، لكنها (= الذات / الذوات الأخري) تشترك فى الرعب من أى احتمال آخر، أو تغيير غير محسوب فتعدم البدن المحتوى على “الجميع” لذلك فكثيرا ما يكون من الصعب أن نحكم على (من) ذا الذى يقتل (من)، والمهم الآن أن نحدد المظاهر السلوكية التى تعلن طبيعة التركيبة المنذرة السالفة الذكر، فتشير الى ما يلي:
1- حدة الأعراض الاكتئابية ليست من ذاتها منذرا بالانتحار، وإنما المهم حركتها الدائرية، ورحلاتها المكوكية (أنظر بعد).
2- يظهر ما أسميناه “الرحلات المكوكية” فى القلق الحركى (ذهابا – جيئة)، وقد تختلف مدة ومدى هذا التحرك المتساوى من جزء من الدقيقة الى أيام وأسابيع، ومن خطوات فى حجرة مغلقة الى السفر المتكرر بين نفس المحطات (القاهرة – طنطا – القاهرة – طنطا.. وهكذا) وقد يشير هذا القلق الحركى إلى قهر وسواسي، أو قلق انفعالى دائري، لكن المسألة تقترب من الخطر القاتل إذا لم تفرغ حركة المكوك: التوتر بدرجة كافية، وإذا زادت الاندفاعة فى بعض الرحلات بلاحسبان.
3- التردد الحاد، وتحت الحاد (ونادرا تحت المزمن وأكثر ندرة المزمن) وهو ليس التردد الذى يعلن العجز عن اتخاذ قرار، لكنه التردد الذى يعلن القدرة على اتخاذ قرارين متضادين، بالتبادل السريع قبل أى إمكانية للاختبار والتنفيذ، وبعض مظاهره تقترب ممايسمى الوجدانAmbivalence أو ثنائية الأفكار Ambithou وثنائية الإتجاهاتAmbitendency ، على أن هذه الأعراض فى ذاتها ليست منذرة، إلا إذا صاحبها تهديد بترجيح أحد القرارات ضد الاطمئنان إلى تكافؤ الشحن وتساوى المسافات.
4- الاقتراب الحقيقى والموضوعى من ظروف ملحة وملاحقة: تعرض احتمالات أخري، تغرى بتغيير نوعي، إلى أسوأ أو الى أحسن (سواء) مثل التهديد بفشل لعبة الماكوك الدائرية باقتراب تهديد بالتناثر (نحو الفصام)، أو على النقيض من ذلك: التهديد بعلاقة مع “موضوع” (معالج مثلا) علاقة موضوعية وواعدة، ومن ثم مطمئنة وحافزة، ولكن بجرعة سريعة وغامرة، فتصبح النقلة خطوة أكبر من الحسابات القائمة سواء كانت خطوة نحو هوة التناثر، أم نحو ألم الحوار والاختلاف، يتصاعد الرعب، وتحتد اليقظة، فيحشذ العناد، وتنطلق الاندفاعة إلى النهاية الحاسمة.
كيف يحدث الإنتحار؟
يعيش المنتحر خبرة الحركة فى المحل، جنبا الى جنب مع الحلم بالحل (على شرط أن يكون الحل مستحيلا) فلا هو يهمد لأنه مستحيل، ولا هو يبحث عن الممكن، فتظل حيرته .. حركته الماكوكية توهمه بالسير، ويظل تساوى المسافة يطمئنه الى الثبات، وأحيانا ما يتصادم بعضه مع بعضه فى إحدى رحلاته المكوكية، عفوا، أو تبريرا لصدق محاولته محتومة النهاية، فيظهر هذا التصادم الذى قد يطول فى صورة ما يسمى اكتئابا، ثم يفض الاشتباك قليلا أو كثيرا وترجع الحركة الماكوكية دون أن تختفى آثار ومظاهر ما يسمى اكتئابا، ثم يحدث أحد أمرين: 1- إما أن ينهك أحد ذراعى (أو أذرعة) الماكوك.
فتهدد المسافة بالتغيير فالخلل فاحتمال “المضى أكثر” من الحساب أو 2- إما أن تتغير الظروف فى الخارج إلى أحسن (بالحب أو بالعلاج) أو الى أسوأ (بالقهر أو بالحرمان) فيشعر باختلال المستحيل، وذلك بأنه أصبح ممكنا أكثر مما يحتمل، أو أن إستحالته تعرت بالقدر الذى لم يعد يبرر الحركة الماكوكية أصلا، فيرغب من الخطوة التالية: (التغير قادم لا محالة، وأنا لا أعرف كيف ولا لحساب من، ولا إلى أين، وأنا “نحن” لن أسمح لا أستطيع، لن يكون، وفى هذه اللحظة إما أن يصدر أمر القتل باتفاق الأطراف (الذوات) على أن يقتل أحدهم الآخرين (ونفسه – حتى لو حلم أنه سيخدعهم وينجو) (وقد ظهر مثل هذا مسقطا فى الانتحار الجماعى فى جوايانا – جيم جونز – وكذلك يحكى التاريخ البيولوجى مثل ذلك قديما وحديثا عند بعض الطيور والأسماك وغيرها)، وإما أن يرحب أحد الأطراف – سرا – بالأمل فى الممكن الجديد – من الداخل أو من الخارج -، فينقض نقيضه عليه، (أو هو لا يصدق نفسه فيغرى بانقضاض نقيضه عليه) فى إحدى جولات الرحلة الماكوكية (بكل مستوياتها الفكرية والانفعالية والحركية) فيقتله، فيموت الجميع فى بدن واحد.
مكافآت الانتحار:
بما أن ما يكافيء الانتحار هو ليس انتحارا، فلابد أن نضع له تعريفا مستقلا، فتقترح: هو فعل حاد أو مزمن، يقوم فيه الشخص بتغيير ذاته (مجتمعة فى العادة) تغييرا نوعيا يوحى بإلغاء القديم، أو يلغيه فعلا، لفترة مؤقتة أو دائمة، ويشمل الإيذاء فالتحطيم، كما يشمل الخطو الى المجهول بمغامرة فائقة فى العادة.
فهو يشمل بذلك:
(أ) أن الفاعل والمفعول به هو نفس الشخص.
(ب) أن خطوة الإيذاء – أو خطواته – جسيمة، كذلك قفزة المغامرة.
(جـ) أن النهاية هى تغيير نوعي، ولو مؤقت.
ولا نستطيع بما تسمح به هذه الموسوعة أن نعدد كل أنواع مكافآت الانتحار، وما دمنا قد أخذنا التغيير النوعى الايجابى الدائم فى الاعتبار، فإن مسيرة النمو وخاصة فى مآزق نقلاتها النوعية ليست الا إعادة ولادة، بما يشمل الموت – البعث، وهو ما ينطبق على هذا التعريف السابق نصا، لذلك سوف نكتفى هنا ببعض الأمثلة لبعض المجموعات.
المكافأت المزمنة:
نستطيع القول أن كل ما أوقف النمو البشرى بمعناه الحقيقى (من حيث هو تغير نوعى مستمر فى حلقات نبض متلاحقة)، هو نوع من ترجيح الموت على الحياة، وبالتالى فهو انتحار بشكل أو بآخر، ولكن لكى يكون كذلك لابد أن نتصور أن للفرد دور إرادى فى ذلك على أى مستوى كان، لأنه – نظريا على الأقل – إذا كان هذا التوقف قهرا من الخارج بلا بديل من نظم سياسية أو دينية .. الخ فهو قتل جماعى أكثر منه انتحارا، ومع ذلك فيصعب – ربما نظريا أيضا – أن نعفى (أو نحرم) فردا فى مجتمع مهما كان قاهرا من شرف – أو عار – انتحاره.
ويشمل ذلك كل أنواع الاغتراب، واضطرابات الشخصية (النمطية خاصة) والاقتناءات الزائفة و الرمزية والأهداف الدائرية والأمراض العقلية المستتبة بلا نكسة أو إفاقة، مما لا مجال لتفصيله هنا.
ولهذا – فيستحسن أن نستبعد هذه الفئة كمكافيء للإنتحار بأن ننبه الى ضرورة كون المكافيء حاد بشكل ما حتى تدركه كفعل جسيم له معالمه الخاصة، وإنما تعمدنا أن نورد هذه الفئة هكذا لننبه أن مثل هؤلاء المنتحرين لا يحتاجون لأن ينتحروا بفعل حاد، إذ لا موت لميت، على أن بعض صور الانتحار المزمن قد أدرجت فى بعض المراجع تحت فئة إيذاء الذات، لتتضمن الأفعال المتكررة حتى الإزمان، رغم وعى فاعلها بضررها المؤكد على حياته (مثل التدخين حديثا).
وأخيرا فإن ذكر هذه المجموعة هنا – هكذا – فيه تنبيه ضمنى للطبيب خاصة ألا يفرح بإلغاء فكرة الإنتحار أو التأكد من الوقاية منه بمجرد أن يحل محله ما يكافئه مع فرق الازمان فحسب، اللهم إلا أن كان لا يملك إلا ذلك حقيقة وفعلا.
المكافآت المؤقتة والدائرية:
ونعنى بهذه الفئة بعض الأفعال الحادة (أو تحت الحادة) التى تتضمن ذلك التغيير النوعي، والتى تتكرر بانتظام أو بغيره، ولكنها تنتهى عادة، ولو بعد حين، إلى إلغاء التغيير الذى حدث، أن الذى كان مرجوا استمراره على الأقل، وهنا سوف نورد أمثلة لبعض الأنواع السلبية، وبعض الأنواع الايجابية، على حد سواء (ملحوظة: لا يمكن أن نعتبر الفعل ايجابيا أو سلبيا فى ذاته فى هذه المرحلة، إلا إذا أخذنا فى الاعتبار ناتجه، مما لا يمكن التنبؤ به مسبقا فى كثير من الأحوال – كذلك كان ينبغى الإشارة الى الاغتراب الإيجابى فيما هو انتحار مزمن، وتعنى به توقف نمو الفرد، أى موته أو انتحاره، ولكن لصالح المجموع مما لا مجال لتفصيله هنا -ولسوف نسمى الفعل سلبيا أن إيجابيا هنا بغلبة نوع ناتجة وليس على الاطلاق، انتهت الملحوظة وتعمدت ألا تكون هامشا).
المكافآت السلبية:
أمثلة: نشير هنا الى الهجاجFugue، كذلك الى نوع خاص من الميسر وتعاطى المخدرات، وهو ذلك النوع المؤقت والمتكرر والمندفع بما وراءه من رغبة فى محو الذات القائمة بما يحل محلها من جديد نوعى مجهول – أو يؤمل أن يكون مجهولا فى كل مرة – وأخص بالذكر كمثال “تعاطى الهيروين” خاصة، حيث يحقق تعاطية سرعة التغيير النوعي، وإزالة الذات القديمة، (ولو مؤقتا) وتوحد الفاعل والمفعول به، وكل ذلك يحقق ما يتطلبه تعريف الإنتحار، بالإضافة الى ضمان العودة، فالقدرة على الإنتحار من جديد وهكذا، ورغم أننا ننصح المدمن أن ما يفعله هو انتحار لنحذره مما يفعل، فإننا ننسى أننا بذلك نمتدح فيه قدرته على الإنتحار المتكرر بغير أن يختفى إلى العدم !! (لذلك وجب التنويه).
ثم قس على ذلك بعض الإستغراق فى الميسر، أو فى الخمر .. الخ.
المكافئات الايجابية:
أروع أشكال الانتحار الإيجابى هو العمل الفدائى الحقيقى الذى تصبح فيه الذات خالدة فى المجموع حقيقة وامتدادا، مما لا مجال لتفصيله هنا، ثم نشير الى نوع من الرحلات الحقيقية، وخاصة الى ما هو جديد غير محدد المعالم، وكذلك الى نوع من القرارات الجسيمة غير النمطية، وأخيرا إلى نوع من الابداع الحقيقى (الذى يفرزه صاحبه ثم لا يعيشه بالضرورة بعد انتهائه منه وقد لا يترك فيه – شخصيا – أثرا باقيا) ففى كل ذلك نجد توحد الفاعل والمفعول به (فالابداع الحقيقى حتى لو كان ذا أثر مؤقت على نوعية ذات صاحبه هو يخترق الذات حتما (فاعلة مفعول بها)، كما نلحظ فيه اندفاعة المغامرة، وطبيعة التغير النوعي، حتى لو لم يدم.
نجد توحد الفاعل والمفعول به (فالإبداع الحقيقى حتى لو كان ذا أثر مؤقت على نوعية ذات صاحبه هو يخترق الذات حتما (فاعلة مفعول بها) كما نلحظ فيه إندفاعة المغامرة، وطبيعة التغير النوعى.
المكافأت الايجابية الباقية الأثر:
وهذا ما يمكن أن نسميه (الانتحار إلى أعلي) فإذا كان الانتحار – تركيبيا – هو اندفاعة جسيمة، تلغى كل المتصارع، بالعدم، فإن هذا الانتحار (الإيجابى الباقى الأثر) هو أيضا اندفاعة جسيمة، ولكن فى ظروف مواتية – داخليا وخارجيا معد لها فى الأغلب – اندفاعة توليفية تلغى الأطراف المتصارعة (المتناقضة) بأن تستوعبها فى الكل المتخلق، فهو إعدام للسابق لحساب المتولد ولافا منه، وهذا ما يحدث فى قفزة النمو الديالكتيكى فى فترات أزمات النمو خاصة، على أنه لكى يكون كذلك، فلابد أن يحدث بدرجة من الوعى وكثير من الإرادة (على مختلف المستويات) وإلا فإنه سوف يفتقر الى توحد الفاعل والمفعول به، لذلك يصعب أن نعتبر قفزات النمو الولافى فى مرحلة الطفولة المبكرة (وجزئيا فيما بعدها مباشرة) انتحارا إيجابيا، ويستحسن ألا يطلق هذا التعبير إلا فى مسيرة النضج اللاحقة، وفى أوقات تكثيف الوعى وحدة الإرادة للفرد بما يسمح بإدراجه تحت التعريف السابق، وقد يكون مناسبا أن يذكر بنموذج لذلك، وهو مآزق التغيير أثناء العلاج الجمعى النشط فإننا فى هذا العلاج متى اقتربنا من إنهاك القوى الأقدم، وتعرية السير فى المحل، واغلاق مسار الرحلات المكوكية، فإن المريض يجد نفسه بإرادته – ما دام يحضر بإنتظام – مواجة يحتم اتخاذ قرار تجاه اندفاعاته التالية، وهنا تطل أنواع الإنتحار ومكافئاته، ويتوقف الاختيار على مرحلة الاعداد وحسن التوقيت، كما يتوقف على وعى المريض وإرادته، ومن هذا المنظور، وباعتبار أن الإنتحار حتم الكيان البشرى النامي، فإن مسئولية الطبيب (والمجتمع) لا تكمن فى تجنب الانتحار بقدر ما تكمن فى تهيئة أفضل السبل والظروف التى تسمح باختيار نوع الانتحار الايجابى إلى أعلى دون غيره، وعادة ونحن نقترب من هذا المأزق يتحدث المريض عن تفكيره فى الإنتحار حديثا جادا، مبلغا، أو مهددا متراجعا، أو مستغيثا واعيا، وقد يكون حديثه هذا مصاحب بظهور أعراض محددة من الأعراض السالفة الذكر دون إعلان مباشر، ويكون الإختيار الحقيقى لكل المشاركين وخاصة المعالج هو فى حسن التوقيت – بما فى ذلك التأجيل – وحسن الإعداد والمواكبة ليختار الإيجابى المتبقي، ما أمكن ذلك.
وكأن الموقف العلاجى – فى المهنة والحياة – هو أن نحقق للمنتحر انتحاره دون التلاشى فى العدم، فإذا كان المنتحر يريد بانتحاره أن يقول: أنا قوى، أستطيع، فأفعل، لن تنالوني، حقيقة لا أقدر على الاستمرار هكذا، لكن الحقيقة الأهم أنى لن أتغير لحسابكم، وهذا هو الدليل ما دمتم تصرون (…).
فإن الموقف العلاجى لابد أن يرد (فعلا مشاركا) يقول: ليكن، فهذا أروع ما فيك – وفينا – لكنها ليست قضيتك وحدك، فانظر حولك، وإذا كان التغيير حتميا، والعدم مرحلة لا مفر منها، فلنعد أنفسنا ليكون عدما الى..، وليس عدما (من) .. (بعيدا عن)، وإذا كانت شجاعة الإندفاعة الى المجهول دليل قوتك، فشجاعة العودة الى مجهول آخر دليل أكبر.. وهكذا (وبديهى أن أيا من هذا لا يقال بالألفاظ أصلا، وبديهى أنه لا يقال فيصدق إلا من منتحر مغامر…الخ).
لحظة الانتحار:
بقيت ملاحظة أخيرة واجبة، وهى أنه لا أحد يستطيع أن يجزم عن طبيعة لحظة الانتحار بما هي، وكل ما نريد التنبيه إليه هو أن هذه اللحظة، وما يسبقها مباشرة ليس لها علاقة وثيقة بما قبلها من حيث وجه الشبه، ذلك أنها لحظة انتقال نوعي، وكثيرا ما نلاحظ قبيل الانتحار اختفاء الاكتئاب دفعة واحدة، أو أن يغمر المريض (أو السليم) سكون يقينى سابغ، إلى آخر مثل ذلك مما يقربنا أكثر فأكثر مما هو يقين ضلالى Delusional Conviction أو عدم فصامى وفى الأول: لا سبيل الى الاقناع أو الحوار أو الاختراق، وفى الثاني: لا وجود لموضوع Objectأو مواجهة أو زمن (مما لا مجال لتفصيله هنا) وشدة اقتران الانتحار بما هو اكتئاب، هو السبب فى الخطأ الشائع لإغفال هذا الاحتمال (الانتحار) فى الاضطرابات الأخرى من أول حالات البارانويا حتى حالات الفصام مارين أحيانا بالوسواس القهرى. (ملحوظة: لم أدرج هنا أصلا أية إشارة إلى محاولات الإنتحار السطحية والتمثيلية مما تتصف به بعض أنواع الهستيريا واضطراب الشخصية) فحقيقة الأمر أن الانتحار محتمل وقريب فى مراحل التحول بلا اعداد كاف فى أى شخص يغض النظر عن طبيعة تكوينه المرحلية أو نوع مرضه.
هامش حول ندرة الانتحار فى مصر:
نفخر أحيانا – وقليل هو ما نفخر به فى حاضرنا – أننا فى مصر، نضرب الرقم القياسى عالميا فى ندرة الانتحار، وأحسب أنه بعد هذا العرض، قد يجدر بنا أن نعيد النظر فى أسباب هذه الندرة.
يا تري:
- هل ذلك لأننا لا نتحرك بالقدر الكافي، داخليا وخارجيا، والانتحار حركة قصوي؟
- هل ذلك لأن بدائل الانتحار المزمنة (أنظر قبلا) تقوم باللازم؟
- هل لأننا لا نعيش أفرادا بل وحدات باهتة فى مجموع هيلامى والإنتحار فعل فردى فى النهاية؟
- هل لأننا – بتاريخنا الحضارى – نعيش وحدة زمنية ممتدة، بحيث يصبح التصرف فى عمر الفرد الواحد – هكذا بالانتحار – غير ذى معنى.
- هل ذلك لأن إيماننا راسخ بحيث لا نتصرف إلا فى حدود ما نملك، ونحن لم نأت بحياتنا فلا نملكها حتى يتصرف فيها من هو صاحبها؟
[1] تقدم هذه الموسوعة المصطلحات النفسية من منظور تركيبى (علاقة تنظيمات الشخصية ببعضها البعض)، وغائى معنى الظاهرة النفسية، ورسائلها، ووظيفتها وغايتها) أكثر من كونها رص لمفردات التراث، أو تعريف سلوكى محدد.
[2] نورد الألفاظ فى هذه الموسوعة كما شاعت وليس فى أصلها اللغوي، فنورد لفظ الانتحار تحت حرف الألف وليس النون (نحر).