دوائر الرؤية / المسئولية، ومأزق الطب النفسى
(فى لجة الطب يلقى فيه بالمرض)
خاطرة د. أسامة عرفة
المسألة التى احاول طرحها من خلال هذه السطور تتعلق أساسا بمسئولية الرؤية، ومدى هذه المسئولية وحدودها، وبديهى أن ذلك لا يرتبط بالطبيب الفنسى فحسب، بل يمتد ليشمل كل من أوتى ملكة الرؤية وحذق فنها، وإن كنت قد خصصت فى العنوان الطبيب النفسى، فربما كان ذلك نابعاً أساسا من ذاتية موقفى، وظروف عملى التى تجعلنى أكثر قربا ومعرفة بالطبيب النفسى عن الأدباء والمفكرين والفنانين.
وما سأطرحه هنا لا ينسحب بالتالى على كل من تخصص فى الطب النفسى، ولكنه بالأساس برتبط بهؤلاء المعالجين المغامرين الذين لم يتوقفوا عند حدود التشخيصات والتصنيفات والوصفات العلاجية، بل تعدوا ذلك كله ليواجهوا الوجود البشرى ذاته بكل طبقاته وأبعاده وتفاعلاته ودفاعاته وتماسكه وتناثره فى مرضاهم وفى أنفسهم .. هؤلاء المغامرين الذين كان عليهم أن يصاحبوا ويستوعبوا مرضاهم وهم فى أشد حالات الوجود البشرى تناثرا، وبكل ما يحمل ذلك من تهديد لذات المعالج وتوازناته، وكان عليهم أن يواكبوا مرضاهم فى معركة الشفاء جاعلين من أنفسهم أدوات للعلاج وخط دفاع ضد قوى التفسخ والتنافر. إن هذه النوعية من المعالجين تتوالد لديها وتتنامى القدرة على الرؤية حتى يصبحوا أكثر قدرة على قراءة الإنسان تركيبا وتفاعلا ونموا وسلوكا، سواء فى ازمة المرض أو فى الحياة اليومية وسط الأصحاء.
وهنا أعيد السؤال الذى طرحته فى البداية: ماذا بعد الرؤية؟؟ حسبما رأيت فإن الاستجابات تتعدد بعد الرؤية على الوجه التالى: إما هروباً (ما اقدرشى استحمل)، أو تبلدا (وأنا مالى)، أو عجزاً (العين بصيرة والإيد قصيرة)، أو ادعاء (لابد من التغيير – إعلان – ودمتم) أو محاولة جادة مسئولة (أنا وأنت، هنا والىن فى فعل مشارك).
وبنظرة عابرة نجد أن المواقف الأربع الأولى عادة ما ترتدى أفخر الثياب وأكثرها بريقا: فالهروب والتبلد تجده يرتدى ثوب “الدكاترة”، وكتابة العقاقير، وتجد العجز والادعاء يرتدى بسهولة شديدة ثوب الأدب والفكر والفن فيصبح التعبير بديلا عن التغيير (شفنا ووصفنا وفكّرنا وألفنا ورسمنا وأنتهت الشغلانة)، وهذا يفضى بنا إلى نتيجة واحدة وهى أن الرؤية مسئولية، وتتعاظم المسئولية بقدر تعاظم الرؤية، ويمكن القول أن من لا يلزم نفسه بمسئولية ما أوتى من رؤية لا شرف له، فالرؤية أمانة، ومن لا يتحمل تبعتها فقد خان الأمانة.
وإذا ما انتقلنا إلى مدى المسئولية وحدودها أتساءل: هل المعالج النفسى الذى سبق أن وصفته بالمغامر: هل تقف مسئوليته عند حدود مرضاه؟ فى تصورى أن المسألة عندئذ تختلف تماما، وقد يستنكر أحد بشدة فكرة إلباس المعالج النفسى رداء المصلح الاجتماعى أو الثائر أو السياسى، لكننى أرى أن الرؤية لا تتجزأ، وأن المسئولية لا تختزل، فمعالج بهذه الرؤية هو مسئول عن المجتمع بما هو إنسان، وهنا يستوى الأمر بين المعالج والأديب والمفكر والفنان، بمعنى أن حركته اليومية على المستوى الشخصى والاجتماعى لابد وأن تتسق مع ما يطرحه لمرضاه أو فى أدبه أو مؤلفاته أو إبداعه الفنى.
ويمكن أن نعتبر أن ما ذكرناه حالا هو – من جانب بذاته – الفيصل بين أن يكون الإبداع بديلا عن وجود المبدع، أو أن يكون الإبداع جزءا لا ينفصل عن مسيرته الكلية مؤثرا فى الواقع والآخرين بما له من رؤية أعمق وأكثر اتساعا، وكأننى أجد نفسى فى النهاية أريد أن أؤكد أن المعالج النفسى من الوعية التى سبق ذكرها .. لا يصح ولا يقبل منه أن تبقى مسئوليته محصورة فى علاج مرضاه، بل لابد أن تتعداها إلى حمل رسالة التغيير التطور خارج أسوار المصحات النفسية ليتفاعل بها مع المجتمع بكل دوائره ومستوياته.