المطاردة
السيد نجم
….. وخرجت من باب المدينة
الريف …..
يا ابناء قريتنا أبوكم مات
قد قتلته أبناء المدينة
ذرفوا عليه دموع إخوة يوسف
وتفرقوا
…………….
يا إخوتى…. هذا أبوكم مات !
ماذا، لا…. أبونا لا يموت.
بالأمس طول الليل كان هنا
يقص لنا حكايته الحزينة
( من قصيدة قتل القمر للشاعر أمل دنقل)
….. حتى الخامسة صباحا لم ينم. ذات اليمين وذات الشمال يصلى الأرق الأكبر… لا ينام ولا يصحو عليه فى براثن القلق الغامض ، والخوف المتجدد. فتشتعل لفائف مخه وبؤرة صدره. هذا ما كنزه من سنين عمره. يذوقه الآن متجدداً…. إنه يوم ميلاده
منذ سنوات بعيدة، فى الخامسة والخمس دقائق ودعته أمه، بعد أن وقفت عند رأسه حتى ارتدى كل ملابسه. دست له سرة من الأوراق المالية وأخرى من الأوراق الهامة وقبله. بئس قُبله هلعة… فزعة. قالت:
“اذهب الآن. يهون على فراقك، ولا يهون على مقتلك”.
الآن نهض من فوق السرير حاول، أخيراً وقف ، راسه متورمة، منبعجة ، أحسها تتراقص به. رقبته عاجزة عن جمل الرأس المثقل بالأفكار ، يبدو داخل أسوار حجرته كشبح على شاشة التلفاز، يعرض بالحركة البطيئة للاعب كرة عجز عن إحراز هدف مؤكد !
أفرط فى شرب الخمر ليلة الأمس من كؤوس جمعها الخمار بالسفنجة ، بها يجمع ما يسقط من الشاربين على المنضدة….. يصبها ثانية !
“عارف عبد العليم” همس إلى نفسه” القذر، الغشاش، سيأتى يوم الحساب معك سيكون سعيرك فى الدنيا معى. ستكون فى الدرك الأسفل على كل حال. آخرون سوف ينالون منى الكثير…. قبلك “.
اتجه إلى النافذة. نظر من خلف الزجاج. ألصق أنفه. فتحتا أنفه المربعتين ازدادتا انبعاجا. كثيراً مايرى العيون الجاحظة. تطل عليه من خلال مصراعى النافذة فترة. تأمل السحابات البعيدة…” إلى متى سأظل أعدو – منذ أن قالت أمى – اجرى ياعارف. لو استيقظ عمك الآن وشعر بك سوف ينتقم لنفسه، ليس الآن فقط ، فى أى زمان وأى مكان”.
عاد وارتمى فوق المقعد الوحيد بجوار النافذة. هو صاحب تنفيذه وتصميمه أيضا.
خرط القوائم الأربعة على شكل مسلة فرعونية ذات حلية نحاسية بأعلى قاعدة المقعد ممتدة إلى الأمام مثل المقاعد الملكية، الظهر صنع بحيث يكون أعلاه كورقة من زهرة اللوتس..
حتى مسندى المقعد جعلها مقوستين إلى أسفل مثل مقاعد الملوك القدماء!
بدأ يتنفس بانتظام.
تذكر أباه. سنوات عمره الأول – كما قصتها عليه أمه – محفورة خلف عظام رأسه وصدره” لحظة ميلادى كان أبى يرتدى جلبابا بلا لون، اختلطت ألوانه طين الأرض، وكان قلقا بغير خوف ترقبا بدون توجس، انتظارا بلا ملل. ظل متأملا عنقود عنب مدلى”. ما أن خرجوا له: “مبروك لاسمك ولرسمك يا عبد العليم” أسرع إلى العنقود ثم دخل إلى أمى وأسكن فى فمها حبة عنب وقال لها: “ما كنت شجرة خبيثة يا….. يا أم عارف”.
“عبد العليم” يملك ثلاثة قراريط يزرعها ومثلهم ورثها أخيه الذى باعها على ملذاته أما”أم عارف” فقد كانت سليلة عائلة كبيرة… كم كانت تحث زوجها على مصارعة إخوتها لفصل أرضها عنهم….. وحاول.
ضوء باهت يفرض نفسه من خلال زجاج النافذة. عارف يشعر بدوار شديد، يريد أن يشرب قهوة فهى عنده مزاجا ودواء. شعر برغبته فى قراءة الفنجان” ما أحوجنى إلى شئ، أى شئ يطمئن قلبى”. يشعر وكأنه رماداً اشتدت عليه الريح، وباليأس… بعد مضى هذه السنين الطويلة، أمضاها بحثا عن حقيقة ما قيل عن أبيه.
أنها وصية أمه، قالت له:( ابحث عن أبيك…… وتأكد).
منذ أن عمل بالملهى الليلى فور وصوله إلى القاهرة…… ينام نهاره ويستيقظ ليلا. الخفاش يفعل ذلك والبوم وعارف، راديو صغيرملقى بجواره، فتحه، سمع دقات الساعة، سبع دقائق.
تذكر أن من يستيقظ فى الصباح الباكر يتناول طعام الأفطار… دخل المطبخ.
أخيرا اكتشف بيضة ووجد قدرا من السمن. وضعها على النار وجرى لشراء الجريدة ورغيفين عاد إلى رائحة الدخان المتصاعدة. كسر قشرة البيضة ألقى زلاها وصفارها… كانت تالفة رائحتها النفاذة جعلته يجتر افرازات معدته الحمضية… (ماأصعب البكاء فى لحظة يستوى عندها كل شئ!!)
هذا ما همس به عارف إلى نفسه، ثم أسرع الخطى إلى حجرة نومه. ثانية شرد:
( ماكنت أشعر بالجوع مع أمى وأبى، كانا يبسان لى العيش فى السمن البلدية ويرشان فوقه السكر)
نهض واقفا. اكتشف أنه نهض بغير داع…. تابع شردته:
( فيما بعد… اختفى أبى. مات أو سجن. قالت أمى ضمن ما قالت:( سافر إلى بلاد بعيدة)
قال أهل القرية أن عمى دبر له مؤامرة. بالحيلة والدهاء وبالقانون نجح عمى فى الحصول على حكم بأن أبى مفقودا. تزوجها وتمرتع فى خيراتها بعد أن كان أبى قد نجح فى الحصول على كل أرضها، بدأ يتفرغ لتعذيبى. قرر منعى من الذهاب إلى المدرسة كى أتفرغ للعمل فى محل البقالة الذى اشتراه من أموال أمى. ولكى يتفرغ هو للجلوس على المصطبة وتدخين الحشيش إلى ما بعد منتصف الليل. ذات ليلة سمعت صوت بكاء أمى، وكثيرا ما سمعت نقاشا مبتوراً وآهات تلصصت عليهما. رأيت أمى عارية.. ثدياها المترهلتان إلى قرب السرة، بطنها المنتفخ بارز وأردافها القميئة.. كلها محتقنة تدمى. كان يضربها بكل قسوة فتخرج الكلمات من بين شفتيها كغريق يعب الماء عبا، ولا يسمع له صوتا.
لم أشعر إلا وأنا متعلق فى رقبته(سوف أقتلك)، وضربته على أم رأسه أمى سترت جسدها بجسد عمى، نهرتنى، أمرتنى بالخروج.
عمى على الأرض لا حول له ولا قوة. كان مخدراً. فى صباح اليوم التالى أمرتنى بترك القرية. نفذت فورا، أهرول الخطى على الطريق الزراعية!!
رجفة خبيثة جعلته يفيق من شردته. بدأ يقرأ الجرائد. كانت صفحة الوفيات. شدته سطور ثلاث بالذات…..(….. توفى إلى رحمة الله باستراليا.ستشيع الجنازة فور وصول الجثمان إلى مطار القاهرة. ألقى الجريدة:” آلاف الأميال كى يلقى بالجثمان هامدا. ترى فى أى أرض قبورك ياأبى لو حقا كنت ميتا!!! “.
قال له الدرويش ذو العمامة الخضراء – أول من قابله فى القاهرة – هل أنت ابنه؟
“من؟!…” عبد العليم الفلاح. ألف رحمة تنزل عليه “.
“هل مات حقا….. واثق؟”…” نعم. كل من عليها فان “.
“كيف عرفتنى؟!”…. “رسمك منحوت على قالب أبيك”.
“إذن قص علَّى ما تعرف”…. “تعالى معى”.
دخل إلى المسجد.” توضأ يا ولدى” فعل. “صلَّ ركعتين لله”
فعل.” الآن اسمع”.
قصّ عليه قصة طويلة. شرح له كيف أن عبد العليم والدرويش حاولا الهروب معا من السجن. قبض عليهما. عزلا انفراديا:” أهانوه يا ابنى جدا.. خالص.. فمات” بكى الولد. الدرويش ربت على كتفه قال:
“أوصانى وصية، أن يدفن فى قريتكم”” كيف…. أين الجثة؟؟”
صمت الدرويش لفترة طالت. قال:” ابحث عنها لعلك بعون الله تجدها…. دعنى الآن”.
“عارف” أشعل سيجارة. فتح المذياع. سمع الدقات الثمانية وموجزا لأهم الأنباء….
شعر برغبة أن يجلس القرفصاء. ظل هكذا حتى هوت ساقيه. ارتمى إلى الأرض.
شعر بآلام فى مفصلى الركبتين….. رأسه بمستوى جسده على الأرض. حدَّق النظر فى سقف الحجرة. وأتته أمه. قالت له ضمن ما قالت:” لا تنس تلاوة كلام ربنا خصوصا سورة قريش، تزيح الخوف من صدرك…. والقلق”.
وقالها فور هبوطه من الاتوبيس وحط قدمه على أرض القاهرة و بعد أن قابل الدرويش. وقتها استشعر الطمأنينة بأن يذهب إلى شاطئ النيل، سألهم. قالوا له:” ماذا تريد بالضبط… إلى أين؟”. “أريد النيل ذات نفسه!” أخيراً فهموا قصده. أرشدوه وذهب بعد أن قال لهم: “شاطئ الترعة كان دوما ملاذى وسلوتى” فسخروا منه.
عندما ذهب دخل أول كازينو قابله. سألهم إن كانوا يقبلوه للعمل عندهم. ذهبوا به إلى المدير. الرجل نظر إليه مليا، أخيرا جداً نطق:” أنت ابن عبد العليم السايح” ذهولا انتبه الصبى:”نعم.. نعم. هل تعرفنى ؟؟!”.
اجلس ياابنى. طلب له العصير ووجبة الغذاء. رفض سماع كلمة واحدة حتى ينتهى من تناول طعامه. ثم سمع منه، رد مبتسما:” لا تسألنى كيف عرفتك؟ ولك عندى العمل الذى ترغب”. عارف بكى بين يدى الرجل المنتفخ الأوداج والبطن والأرداف، فقال له:” أبوك له معى حكاية. هى حكاية عمرى. عشت معه أحلى أيام عمرى. عاقرنا المنكر معا. عشنا الفجور فى ذاته. باختصار عشناها بالطول وبالعرض”… صمت…. ثم فجأة تابع:
“لكنه فجأة انقلب كيانه” ادّروش” اختفت أخباره”.
“هل كان حراً طليقا، لم يُسجن. هل هرب من السجن، أعنى هل عرفته قبل السجن أم بعده ؟؟؟!”.
الرجل لم يزد عن إشارة آمرة لأحدهم: “خذ الولد وعلمه الصنعة”.
أما وقد انقضت أكثر من الساعة مستلقيا على الأرض. أراد أن يشغل نفسه بممارسة هوايته القديمة مستخدما نظارة مكبرة نساها أحدهم فى الكازينو.
لعله لا يبغى التلصص. فقط لأن ما يفعله يجعله مشاركا للآخرين….. قبلوا أم رفضوا. نهض ، وضع النظارة فوق عينيه من خلال شق بالنافذة.
استشعر حركة مريبة هناك، فى الدور العلوى للمبنى المقابل……….
“ياإلهى، إنهم لصوص، حول رؤوسهم لثام أسود… يحملون أسلحة ناريه. أنهم يدفعون الخفير ويحكمون وثاقه.
أحدهم فتح الخزينة، يُخرج الأموال منها. يسرقون!!”.
بلا وعى فتح مصراعى النافذة. رمى بنصف جسده إلى الخارج. كاد يصرخ. لم يفعل. عاد وصمت. لا حظ سيارة أسفل المبنى.
“السائق يلتهم سيجارة بين أصابعه. أكيد هذه السيارة معهم. السائق لاحظنى. الملعون يتوعدنى بنظراته المتعمدة “.
لا هثا صك النافذة. جرى إلى باب الشقة. تأكد من إغلاق الباب. وضع صندوقا خشبيا خلفه. عاد وارتمى على الأرض. عرق بارد كسى وجهه وكل جسده. رعشة مجنونة أمسكت بأوصاله كمريض الحمى. ماعاد يرى؟
قبل أن تنتظم أنفاسه، صوت مواء قط داخل الشقة… لا ينقطع…..
“لا أستطيع، لن أقدر….. صدقنى لن أفتح لك الباب الآن. ربما يأتون ليقتلونى. هذا الباب لن يفتح. أنهم قادمون….. أكيد”.
فكر للحظة وهو يتأمل القط. قرر أن يترك الشقة فورا. رمى نظرة أخيرة إلى صورة أمه التى كانت بلا معالم تمتم:
“أغيثينى غوثا حميدا…………….
أنت أمى….
وأنا ولدك الوحيد……
أرسلت بى إلى المدينة لأصلى بسعير فى جحيم…..
حتى وإن كنت تبغين النعيم…… لى!!!!
هانذا الآن مفطور القلب…. مطارد…. مطارد يا أمى “.
خرج، وأحكم إغلاق الباب من خلفه.
* * *
ظل يعدو حتى وصل إلى الشوراع المزدحمة. شعر باطمئنان غريب وهو يرتطم يأجسادهم. تعمد أن يثير مشاجرة مع أحد المارة بجواره. كاد يصل الأمر بهما إلى مشاجرة دونما سبب واضح. إذا خالهم يسيرون خلفه… يعدو. ثانية يعود إلى خطواته النصف مشلولة.
لاحظ كومة من الأجساد البشرية حول شئ ما. أزاح ما بين شخصين حدق النظر، أحدهم يلاعب قردا:
“نوم العازب ياميمون”…..” عجين الفلاحة”.
تمتم لنفسه أيضا:” خطا… خطاً….. أكبر خطأ، كانت أمى تعجن وهى رافعة الرأس”. تركهم. تابع. رجل مريض اقترب منه وجها لوجه متعمدا.
قال له بصوت ضعيف: “هل تجيد القراءة ؟”….” نعم!!”. خذ هذه الورقة… أقرأ: “إنها شكوى إلى المحافظ يا حاج، إنهم يريدون إخراجك من بيتك… طردك منه !!”. “إلى المحافظ يا ولد “!
رد عارف دهشا: “لكن المر لا يحتاج إلى من يشرحه” “الأيام علمتنى يا ابنى أن الانسان أحيانا لا يرى ما هو واضح وجلى أمام عينيه”.
عارف لم يجد ما يقوله إلا أنه لا يرغب الذهاب معه.
فجأة سمع المريض يقول: “أبوك كان أفضل منك، ماكان يرى عائزا إلا وأغاثه… ماكان”.” هل تعرفه؟!!! “.
“كل هؤلاء يعرفونه، من لم يعرفه منهم فى هذه المدينة يتناسونه عمدا… غرورا وتكبر وجهلا”.
ذهولا لاحقه عارف: “أين أبى إذن؟ أين الحقيقة ؟”.
الرجل المريض رد عليه بنظرة شذرة. أدار ظهره. اختفى بين الآخرين. “عارف “لم يجد إلا متابعة المسير. سمع حديثا بين شابين يتحادثان بشأن عودة لاعب كرة مهم!. تابعهما، سار خلفهما. دخل الملعب الكبير. جلس بجوراهما. نزل اللاعب المنتظر. من أول ركلة انزلقت الكرة ونفر الحذاء ليدخل المرمى بدلا من الكرة! فضحك…… ضحك كما لم يضحك من قبل!
حالا ترك الملعب. سأله سائق التاكسى: “إلى أين؟”..” إلى أى مكان عند شاطئ النيل”
السائق رمقه بنظرة حائرة متسائلة، عارف ظل حتى السادسة مساء يتأمل صفحة النهر وهو يأكل زر البطاطا وكوز الذرة المشوى، عاد إلى المنزل. دخلة خلسة!
داخل الشقة لم يضئ الأنوار ولم يتنفس بصوت مسموع. غفوة واتته خلسة، سمع أصواتا فحيحية، مزقتها أصوات زئير وخوار آت من بعيد وحفيف لأشجار باسقة متشابكة فى أعلاها حتى حجبت الشمس وصنعت ظلمة. إنه يسير أسفلها عاريا، شئ ما هناك يتابعه….
فيهرب منه. الشبح طويل، يقترب….. إنه قادم بخطوات ثابتة.
عارف بدأ يعدو.
ظل يعدو حتى عجزت ساقيه عن حمله. أحس بالشبح يمسك بقفاه. بعد لم يستسلم…. يقاوم حاول الفكاك…. ارتطم بشئ ما.
انتبه عارف على ألم شديد الحائط المجاور برأسه. نهض وأشعل سيجارة. فى التاسعة والعشر دقائق قرر أن يأخذ بالحمام الشعبى القريب من منزله. نزل. مر على الكبابجى واشترى فاكهة وعيشاً ساخنا وطرشيا بلدياً. على باب الحمام وجد لوحة”ادخلوها بسلام آمنين”. قرأها بالرغم من اختفاء كل النقاط فوق الحروف وتحتها.
دخل. الإضاءة خافتة، رائحة البخار والصابون ممزوجة بروائح الزمن العتيق، تبثقها الحوائط وقد علاها الأخضر والأسود صانعا طلاء من الوهم فوق الجدران.
على مقربة من المدخل كان أحدهم يقضم أظافره فى انتظار القادم. إنه صاحب الحمام”أهلا وسهلا”… قال عارف: حمام وغرفة بسرير وبشكير.
الرجل كان مشغولا فى شئ ما أمامه، ماإن رفع رأسه ولمح القادم حتى تصلبت راسه، لجمه الصمت، أخيرا قال: (تحت أمرك) لحظات وتابع:
“عندنا مدلكاتى لا توصفه لعدوك)….(موافق).
عارف أدار ظهره يخطوا خطوات بطيئة، بطء، حركة( عم صابر) الذى قدم لتنفيذ المطلوب(ماهذا الرجل صابر هذا، يخال لمن يره أنه لا يسمع ولايرى ولا يتكلم!!).
(عارف) دخل الغرفة الضيقة، المبطنة بالرخام النظيف الأبيض، إلا أنه مائل إلى الاصفرار..مؤثثة بما يلزم فقط….. سرير سفرى، بطانية صوفية، كوميدينو خشبى بسيط وصيوان من ضلفة واحدة… بدأ عليها أثر الزمان، أزاح الستار السميك عند المدخل ثم ارتمى إلى السرير.
شعر براحة لم يعهدها من قبل….. ظل يلهث وكأنه يعدو ببطء خلع عن نفسه ملابسه
بهدوء لف البشكير حول جسده…. بخطوات وئيدة تقدم نحو المغطس بالبهو الداخلى.
الإضاءة بهرت عينيه، الأرض مكسوة بالرخام والحوائط… السقف على شكل قباب متعددة. نوافذ علوية تطل عليه، همهمات مرتاحة من الجالسين إلى حافة المغطس، بخار كثيف ينبعث من المياه، حتى صعبت الرؤية.
… أحدهم يدندن بأغنية صعيدية…
… آخريرتل بصوت مسموع لبعض من الآيات القرآنية…..
… ثالث مشغول فى نفسه….
… راجع يحادث خامسا….
ضحكات مطمئنة يسمعها من هناك..
… إنه يشعر بآخرين، صعبت عليه رؤيتهم…
خطوة… خطوة يتابع حمامة، مأمورا من العجوز، حتى جاءه بعد مضى أكثر من نصف الساعة… أخيرا سمع الرجل ينطق… قال له:
( تعال…..(عبد العليم) فى انتظارك).
(من: عبد العليم؟!).
(المدلكاتى).
… تقدم أمامه حتى استقام عودة أمام أحدهم، كان شيخا هرما، مشقوق الجبهة والخدين والرقبة بشقوق غائرة، لعينيه بريق…. وحدها يشيران إلى بريق الصحة والألمعية.
(عارف) نظر إليه بعينين دهشتين، ولسان أخرس…
الشيخ تقدم مبتسما، ربت على كتفه…. قال بهدوء الواثق:
(……. أنا أبوك!!).
( عارف لم يجد ما يقوله، لسنين طويلة يبحث عنه، كم من الليالى عاشها فى اتنظار اللحظة، لحظة أن يعرف حقيقة ما قيل ويقال عن الأب الغائب…. هكذا وبهذه السهولة والبساطة يجده…..!!).
لم يصدق…..
الأب أحس بريبة ابنه، قص عليه الحكاية، تحدث معه عن طفولته التى لم تسقط من ذاكرة(عارف) بعد!
فبكى……
ظل يبكى كطفل جائع……
ارتجفت أطرافه وفروة رأسه……
الدوار جعله لا يرى……..
الأب مازال على حاله…. مبتسما، وديعا مطمئنا….
عارف جلس القرفصاء، لاهث الأنفاس….. مضطربا، قال:
(….. قل لى كل شئ…. كل شئ)
ابتسم( عبد العليم)، حك أنفه، رفع رأسه مبتسما…
تابع الابن:( قالوا عنك الكثير، قالوا عربيدا.. صالحا، قالوا مظلوما… ظالما وقالوا…..
حتى أنهم نسبوا إليك أوصافا لم تقلها أمى لى عنك، ولا أراها فيك.
رسموك بغير رسمك…. مازالوا يرسمونك شابا، جميلا وفتيا…ومع ذلك… لا أرى هذا أمامىالآن!!).
(هل قالوا لك أنك تشبهنى؟)
( قالوا!)
(إذن فقد قالوا لك كل شئ!)
(لماذا إذن لم يقولوا بأنك الشيخ العجوز، الملقى هنا تكبس أجساد المرهقين والمرضى، والقذارى منهم؟!).
(دعك من هذا السؤال، هذا سؤالك، ولك أنت أن تجيب!).
( وأمى… وأنا.. لماذا لم تحضر لتطليق أمى من أخيك المتمتع بما جاهدت أنت من أجله)..
( لا تسألنى..
جبرا…. قهرا لم استطيع حتى كتابة خطاب إليكما….
كنت انتظرك تكبر، وتأتينى حتى نتواعد ونتفق، وربما لنخلتف…)
ثم تابع…( لكن لن أتركك قبل أن تجيب لى عن سؤال واحد… هل أنت رجل كامل الفحولة؟)
( نعم… !)
( إذن… اذهب الآن وتزوج، إن كان لى من العمر بقية، أريد أن يكون لى أحفاداً كثيرين… يملأون حارات القرية لعبا، ومرحا وحبا ودعابة، يسمدون الغيطان ببرازهم وبولهم، يتزاوجون من كل عائلات القرية… كلها.
ولكن……….
لا تنس.. أنت وهم من بعدك… أن الجد( عبد العليم) حاول قدر طاقته أن يحقق لزوجته أو جدتهم، حاول أن يسترد لها حقها… فعل ونجح، نجح وإن وطأة أخوه بقدميه، حتى عجز عن التنفس….. من بعد!)
غلبهما الصمت… أخيرا تابع( عبد العليم):
(والآن جاء دورك، دعنى ارتدى قفازا جديداً، خصيصا كى أدلكك، أطهرك، وأزيل الشحوم من فوق بطنك وأردافك…. والأوساخ”.
لاحقه عارف:
(قبل هذا كله، دعنى أسألك، لك عندى أسئلة كثيرة، أحاول جمع فرطها، أتركنى أنظر إليك، أملى عينى منك، كنت أبحث عنك وعن أى شئ له علاقة بك… أما الآن فأنت ها هنا أمامى ملء البصر والبصيرة، ملء السمع والوجدان. أريد أن أقول… أريد أن أقول لك….
شيئا هاما كان يخطر على بالى دائما….
آه تذكرت…. هل حقا ما قالوه عنك؟ هل سنعود إلى قريتنا سويا؟
أمى سوف تفرح كثيرا).
( صدقنى يا(عارف) ياابنى، أجدى لك ولأمك ولى ولكل أهل القرية أن أظل هنا…. بعيد!)
( ولن أتركك تفعل ماتريد.
لن أبرح هذه الساحة حتى أتابط ذراعك…. لقد وجدتك، أخيرا أصبحت فى يدى وأمام عينى)…
أما أنا فلن أفعل ما تطلبه منى قبل أن أدلكك…. هات ظهرك)……. وفعل!
أمام إصرار إبنه أمهله دقائق حتى يرتدى ملابس أخرى نظيفة… إلا أنه ذهب ولم يعد!!!!!
وحتى نسمات الصباح الجديد وصياح العصافير العائدة… لم يعد!!!
حزينا، باكيا، مكروبا…. عاد عارف إلى شقته.
عاد إلى الشقة تملؤه أحاسيس غريبة لم يعهدها من قبل؛ حتى اكتشف أنه فتح باب الشقة من المرة ألأولى دون أدنى توجس وبلا تردد.
لاحظ أن القط مازال حبيس الشقة منذ خروجه….. تركها تعدو إلى الخارج….. ما أن شرب كوبا من الشاى الساخن، ارتمى إلى مقعده الوثير بجوار الشرفة متأملا شيئا ما داخل رأسه حتى سمع صوت خطوات تقترب……( ثانية عادوا)
أكيد، هم….
مازلوا يطاردونى…….
ربما كانوا يرصدون حركتى منذ الصباح…..
صوت أنفاسهم اللاهثة يدنو من أذنى….
رائحة عرقهم العفنة تملا خياشيمى……
همهمات حديث متقطع……
مواء قط بالخارج، يبدو أن أحدهم ارتطم بها فى الظلام…..
حرارة أجسادهم تسبقهم……
إنهم قادمون، يقتربون، أجسادهم ترتطم بالباب، طرقهم عال، يدفعون الباب بأجسادهم…
“….. لن أفتح….”
صوته يعلو…. لن أفتح لكم، لن أفعل لو كان على رقبتى………..
الصوت يعلو,يعلو, يعلو… صرخ بأعلى ما فى حنجرته من قوة…
( لن أفتح)……
انتفض، انتبه على صوت القطة, إنها غفوة قصيرة من شدة الاجهاد!
انتبه…….
طرق على الباب…. باب الشقة يهتز!!!!
(إذن لم يكن كابوسا, إنهم هم……. اللصوص, أنا الوحيد الذى سجل رقم السيارة، جاءوا ليتفاوضوا، أو ليقتلونى……… إلا أننى لن أدعهم………. سوف أقاتلهم وبكل ما أملك من قوة).
سحب سكيناء اقترب من الباب…. صاح بصوت جهورى زاعق قوى, أشبه بصرخات المقاتلين لحظة القنص……..
( من بالباب….. أنا جاهز!!!!).
****