إيقاظ النيام قبل اشتعال الحريق
محمد فتحى عبد الفتاح
انه ليس فيلما بل زلزالاً !
زلزالاً مشتعل نبيل جميل، إذا استعرنا أسلوب الشاعر العبقرى الذى تحدث عنه الفيلم.
زلزال لأنه يهز مسلّمات ظلّت طويلاَ من الثوابت التى لا يجرؤ أحد، وبالذات فى الموقع الذى صدر عنه، على الاقتراب منها.
ومشتعل نبيل، لأنه يحاول فى شجاعة فكرية نادرة إيقاظ المدينة قبل وقوع الحريق، داعياَ أهلها إلى مواجهتها – الحريق – بأنفسهم فى أقصى حالات اليقظة بعيداَ عن الخطر. ولأنه يتحدث عن صدق الفنان الذى يشتعل، فيصبح الناس على ضوء اشتعاله أفضل وأشرف.
أما صفة الجمال فترجع إلى اعتماده مفهوماَ راقياَ وقديماَ لكل بلاغة، هو مدى ملاءمة الأدوات الفنية للموضوع الذى يتناوله الفنان .
لكن الأهم من ذلك كله أن الأمر مع هذا الفيلم ليس مجرد استمتاع بعمل فنى شجاع، فالزلزال ليس بعيداَ عن ( أرضنا)، ويرتبط بواقعنا بأكثر من سبب .
ذلكم هو فيلم المخرج السوفيتى الشهير( جيليب بانفيلوف) ـ الموضوع – الذى شهدته القاهرة مؤخراَ، والذى فاز بالجائزة الأولى عام 1987، رغم أن الفيلم المرشح ضده كان فيلم (بلاتون) الأمريكى – الذى رشح من قبل ذلك لسبع من جوائز الأوسكار وفاز ببعضها فعلاَ – ناهيك عن فوز (فيلم الموضوع) بجوائز أخرى مثل جائزة الاتحاد الدولى للصحافة السينمائية، وجائزة اتحاد سينما الفن والتجربة، وجائزة الكنيسة البروتستانتية، والجائزة الدولية لنشر الفن والأدب عن طريق السينما .
يبدأ فيلم ( الموضوع) على طريقة فتحى غانم بالتأكيد على (أن كل شخصيات الفيلم من بنات الخيال) وكل تشابه لها مع أى شخصية واقعية محض مصادفة) . ومن هذه الكلمات ننتقل مباشرة إلى صوت يناجى موطنه وطبيعة هذا الموطن، وما يثيران فى نفسه من أشجان وعواطف عميقة، وما يهبانه من طيبات، وما يملآنفسه به من رغبة فى اجتراح الطيبات لشعبه …….
ويطلعنا صاحب الصوت فى مونولوجه الداخلى على أنه سيشرع فوراَ فى كتابة كل ذلك ، فى مسرحيته عن الأمير( إيجر)، ما أن يصل إلى مقصده …..
حياته تنقضى بلا جدوى
رغم تقدير السلطة والجمهور
وينقلنا الشريط الصوتى بعد ذلك إلى عمل أوبرالى له موسيقى حزينة جيّاشة، وصوت آخر يطلب إغلاق المذياع وبينما يرفض صاحب المونولوج مستاء (انها موسيقى” شوبيرت”، وهى تفتح مسامى) يصر صاحب الصوت الثانى فى عصبية على أنها لا تثير إلا الأسى، وعلى أنه يفضل( باخماتوفا) (مغنية سوفييتية معاصرة)، ويهدد بمغادرة السيارة فيرد صاحب المونولوج بعصبية أعتى: ( الأفضل أن أغادرها أنا) .
وللمرة الأولى تطالعنا صورة السيارة وسط السهوب الجليدية بركّابها الثلاثة (كيم يبسينين) ( تمثيل ميخائيل أوليانوف) وصديقته الشابة( سفيتا) وزميله ( إيجرباشين) .
وما أن يلتئم الشمل وتتواصل الرحلة من جديد حتى يعاود( ييسنين) مونولوجه الداخلى (كم أنا منهك وكم أصابنى الملل من كل شئ…. كاتب مسرحى شهير، جعله حب الجمهور والسلطة من الصفوة، لكنه يعانى المرض أو التوتر النفسى، ويفتقد السعادة ، وحياته تنقضى بلا جدوى) .
يتوقف( ييسينين) بالسيارة حين تقطع عليه وعلى مونولوج الوطن والطبيعة الذى عاوده إشارة تمنع المرور، لكن زميله يطلب منه أن يواصل السير، وألا يأبه بالإشارة، فكل بوليس الناحية أصدقاء له يوقفهم ملازم المرور، وسرعان ما تعرف عليه (باشين) بالفعل ويسأله إن كان قد جاء لكتابة كتاب جديد فى مدينتهم، ويعبر له عن إعجابه بكتاباته، واقتنائه لمجموعة أعماله الكاملة، ويطلب منه التوقيع على أتوجرافه، وكتابة إهداء إلى فتاة تدعى(ساشا).. لكنه يسال (يبسينين) فى نفس الوقت رخصة القيادة لتحرير المخالفة فيحاول( باشين) إثناءه عن ذلك ويعرفه على الكاتب المسرحى الكبير … وحين يرد الملازم بأن الكل متساوون أمام القانون يبادره: (إعتبره الأكبر تساويا) فيسأله الملازم: وهل هذا ممكن؟ ويردد بعض ما تعلمه من كتابات (باشين) نفسه، ويذكره بمشهد منها يدور حول كون (الصداقة صداقة والخدمة الرسمية خدمة رسمية) …..
وأمام إصرار الملازم يتطور الموقف، ويعتدى عليه( باشين) ويستطيع (ييسينين) أن يتدارك الموقف؛ بأن يحدث الملازم عن علاقة شخصية تربطه بوزير الداخلية، فيسمح له الملازم فى الممنوع، متمنياَ له نجاحات إبداعية …..
تصل السيارة إلى بيت إحدى معارف( باشين) فينزله (ييسينين) مع الشابة الموسكوفية دون أن يصحبهما، بحجة القيام بجولة فى المدينة ….
يهتف لزوجته السابقة فى موسكو من كابينة تلفون أوتوماتيكى، سائلا عن أخبار رحلة استشفائية ترفيهية ستقوم بها، وحين تبادره: (ألا تسأل عن ابنك؟) يجيبها: (لم يعد يتذكرنى إلا عند طلب النقود( فتسأله إن كان يعرف أن الولد قد ترك معهد السينما، فينفجر لائماَ إياها على ترك الإبن يفعل ذلك، بعد جهود الوساطة التى بذلها حتى يقبل.. وتسأله مع أى فتاة يسافر هذه المرة …. وبعد أن يضع السماعة ثائراَ، ينظر فى صورة ابنه وينهره (سافل حقير) ……
يعاوده المونولوج الداخلى من جديد : (لماذا أعيش؟ ولماذا أكتب مسرحيات؟ والأعجب: لماذا تخرجها المسارح؟ مادام هناك( جوجول وتشيخوف وبولجاكوف وجوركى)….. مادمت أنا نفسى أعرف أنى انتهيت، وربما لم أبداَ قط …. انتهى الأمر . كفى. لن أكتب سطراَ بعد الآن ).
يقطع عليه الملازم الخلوة فى سيارته طالباَ التدفئة بعض الوقت داخلها، وبعد أن يبلغ(ييسينين) الملازم الذى يرتعش فى الدفء، حقيقة انه لم ير وزير الداخلية فى حياته، وإنه أخذه بالخوف، يتخلص منه بحجة الرغبة فى تناول الطعام …..
صانع المسرحيات فى مواجهة
دفء الصدق
وفى متحف البلدة الروسية العريقة يرى (ييسينين)(ساشا) (تمثيل إينا شوريكافا) للمرة الأولى وهى تحدث السائحين بالفرنسية عن مقتنيات المتحف فيأخذ مونولوجه منعطفا آخر: (فرنسيون عما يسألونها؟ لا تفهم أيها الكاتب المغوار. ألا تخجل من نفسك؟ كان ( بوشكين) يعرف خمس لغات، بينما لا تعرف أنت إلا الانجليزية، وبالقاموس…. تذكر القواعد ولا تعرف الغد!…… ضحية التعليم… بالتأكيد هى من موسكو أو لينينجراد، وليست من هنا… بل بالقطع لينينجرادية، فهى لا تعرف أدنى قدر من التصنع، والموسكوفيات لا يجدن ذلك …. كيف يستطعن بلوغ ذلك فى لينينجراد؟ على بمتابعتها لأعرف…..)
وحين يتابعها يفاجأ بها تتحدث مع الملازم الذى يبلغها بسفر شخص ما فتبكى بحرقة: (انتهى كل شئ هذه هى النهاية) . فيحاول تهدئها: ( إن الزمن يشفى كل شئ..) وتشكر( ساشا) الملازم، ويتحدثان عن عبقرى مسكين، ويقرأ لها شعرا، ويؤكد لها انه من أجلها يمكن أن يأتى بالقمر، ويفترقان على وعد باللقاء مساء، فى بيت(ماريا الكسندروفنا)… كل ذلك وكاتبنا يتابعهما خفية، من قاعة مجاورة، وقد اتخذ مونولوجه الداخلى وجهة أخرى تضافرت مع ما يتابعه: ( ترى ما علاقتها بهذا الملازم ؟ ماذا حدث حتى تبكى؟ إنها شاعرة إذن!؟).
وفى المساء حين يدق( ييسينين) باب البيت الذى ترك صديقته وزميله فيه يفأجا بساشا نفسها تفتح له، ويجتمع شمل الجميع على مائدة الطعام الروسية الشهيرة يشربون نخب الكاتب الكبير(ييسينين)، وتغدق صاحبة البيت – المدرسة المتقاعدة – عليه قصائد مدرسية ساذجة، وتتباهى بأن المدرسات مثلها يفهمن أهمية نتاج (ييسينين) وأهمية تيمة المسئولية والاهتمام بالحياة والاقبال عليها، التى تدور حولها كتابات المنور السوفييتى الكبير… وتذكر المدرسة( ساشا) بانها كانت مدلهة فى حبه، وكانت تحفظ مسرحياته عن ظهر قلب، أيام كانت تلميذة فى فصلها، وعلى طول الخط تبدى(سفيتا) الموسكوفيتة اهتمامها واطرائها المتصنع لـ”ييسينين”، بينما تجنح( ساشا) إلى الصمت الذى يضفى على عدم حبها للتصنع هالة من الوقار الآسر المستفز .
لم ولن يكتب شيئاَ ذا قيمة
ويسأل (ييسينين) المدرسة إن كانت قريبة لساشا، فترد بأن التلميذة كبرت، وصار لها حياتها ولم تعد قريبة كما كانت من قبل ، ويواصل(ييسينين) مونولوجه الداخلى:(كبرت وأصبحت لها حياتها، وفجأة ظهرت أنا كما فى الروايات… وربما قبل العرس مباشرة) ويحاول أن يتقرب منها:(ساشا ما معنى العبقرى المسكين؟) فترد عليه باقتضاب: ا ن قصته طويلة( انها لا تجاملنى أدنى مجاملة. أظن أنها متعصبة ولا تهتم إلا بانتظار ملازمها…. لكنى لن أسلم بالهزيمة، فلم أنس بعد كيفية صيد الفئران.) يكرر محاولته(.. ساشا هل يكتب ملازمك الشعر؟) وينتقل الحديث إلى ملازم المرور الذى تعرفت به(ساشا) فى موقف شبيه بموقف تعرف(ييسينين) به، حين كانت تتعلم قيادة السيارة، التى ربحتها فى اليانصيب. توضح ساشا ذلك ثم تصمت ليعاود الآخرون الحديث عن العمل التاريخى الذى ينوى(ييسينين) أن يمليه على (سفييتا) النى ستقيم معه فى حجرة صغيرة فى نفس البيت، والرواية عن الأمير(إيجر) الذى ينتمى إلى حقبة روسيا كييف.. الكل يتفاصح ببعض السفاسف المسرحية،(وساشا) تتناءى عن الحديث، وحين يحثونها عليه ترد وصفهم للأمير(إيجر) بالبطولة، على الرغم من هزيمته، بأنه( ربما كان مغامراَ أهلك جيشه) حين تردها مدرستها القديمة بان الأكاديميين يرون أنه بطل تصمت، ويرد( ييسينين) بأن الأكاديميين يخطئون أيضا.. ويبدى اهتماما بمصدر رأى ساشا التى تعود إلى تنائها بعد إيضاح قراءتها له فى مصدر مكتوب باللغة السلافية القديمة.. وتواصل العجوز امتداح (ييسينين) بطريقة مبتذلة تثيرة: (عن أية شعلة تتحدثين وأنا لست حتى ببطارية يد.. لقد أضحكت تلميذتك منى.. إنها تعتقد أنى كاتب مسرحى فاشل، لم ولن يكتب شيئا ذا قيمة) تبتسم (ساشا) دون رد، وحين يضغطون عليها للكلام تقول: نطق بالحقيقة ولم يترك لى شيئا أضيفه) فيلومونها على تجنيها وقسوتها، وتتحسر المدرسة على الانصاف الذى علمتها إياه. فيرد(ييسينين) بأن(ساشا) منصفة، ويمتدح كونها أول من قال له الحقيقة فى وجهه: (عند قول هذا لنفسك شئ أما عندما يقوله لك الآخرون فشئ آخر تماما). ان سماع هذا مر لكنه مفيد وأعدك( ياساشا) وعداَ قاطعاَ بألا أكتب إلا قليلاََََََََََ جداَ، من أجل أن أتعيش، فتقاطعه المدرسة بقصائد المديح:(لن يغفر لك ذلك النظارة والنقاد) فيصيح: (أنا أبصق على النقاد).
ينصرف(ييسينين) مع زجاجة الفودكا إلى الحجرة المجاورة وتلحق به (سفييتا) وهى تلومه على جلافتهم، ويهرب باشين إلى المطبخ من الثرثرة يخيل إلى أنه يشبه(تشخيوف) فى شبابه).
– أى شباب؟ فى مثل عمره كان(تشخيوف) يرقد فى القبر عشر سنوات…
– وماذا فى ذلك؟ العمر يختلف لكن الجوهر يتشابه بمعنى ما ……
– نعم، إن كان المعنى أن هذا مات معنوياَ بينما مات(تشخيوف) جسدياَ…..
وهنا يطل(ييسينين) من حيث كان يتنصب على حديثهما: إنك على حق مرة أخرى يا(ساشا).. انى أشرب هذا الكأس فى نخب انتقال جسدى إلى النوعية التى تتفق مع كتاباتى( ثم ينخرط فى نوبة من الهياج يحطم فيها الآلة الكاتبة وينثر مسودّاته وأوراقه)….
يشتعل فيصبح الناس على اشتعاله أفضل وأشرف
فى الصباح توقظ (سفييتا) (ييسينين) وتسلمه رسالة كتبتها(ساشا):” إذا أردت معرفة شئ عن العبقرى المسكين فتعالى اليوم إلى المقابر الساعة العاشرة). وتصر(سفييتا) على أن(ساشا) تعشقه، وتسأله أن تعود إلى موسكو وتتركه لها، فيقرها على العودة..ووسط الجليد والأشجار عند المقابر يعاوده مونولوجه:” ما هذا الهدوء؟ وما هذا الجمال؟ ما أسهل التنفس هنا… هنا يجب العيش والعمل.. بينما كنت أخربش، كان شباب من أمثال(راسبوتين وفامييلوف)” من الكتاب السوفييت السيبيريين المتميزين” يتألقون.. لم يكونوا من أهل موسكو وحسناََ صنعوا…. إن(ساشا) ستنقذنى من الموت.. إنها ذكية ومرهفة الحس، واسعة الإدراك، ولا ترضى إلا بما له قيمة حقيقية.. ما أحوجنى إليها الآن. سأبقى هنا وأبدأ كل شئ من جديد بشرف ودون تنازل “….
يقاطعه البعض طالبين مساعدتهم فى حمل نعش، ثم يشربون معه تعاوناَ على الشتاء؛ ثم يستأذنونه ليهيلوا التراب على الجثة .
تأتى(ساشا) وتمضى تحدثه بنفس الهدوء والصوت العريض، وهى تقوده بين مشاهد القبور، عن العبقرى المسكين: شاعر فلاح منسى توفى عام1934، كانوا يدعونه عند ليبوف هازئين بكونه يعتبر نفسه مغرداَ عظيما لحياة جديدة.. ولم يعش إلا حياة قصيرة.( وأنا أجمع شعره وأؤلف عنه كتابا. شاعر غريب ولكن فيه شرارة نبوغ أنظر إلى ما كتبه على شاهد قبر مدرسة: (كانت تعلم أطفال الفلاحين وتخرجهم من الظلمات إلى النور… انعمى بالنوم الأبدى… يغنى لك حفيف الأشجار لحن الخلود..)
يقاطعها(ييسينين): “كان يكتب بسهولة” فترد عليه( بل كان يعانى من عدم تملك ناصية اللغة) كنت دقيقة فى تسميتك له العبقرى المسكين، لست أنا بل هو الذى سمى نفسه:( وصرخ الديك الذى لا ينام… العبقرى المسكين دق دماغى فبدأت أنظم الأبيات (القصيدة التى كان الملازم يرددها فى المتحف..).
وتواصل (ساشا) قراءة قصائد الشاعر المنقوشة على شواهد القبور وغيرها من الذكراة وتقرر أن أكثر ما يثير الاهتمام هى يومياته التى تحوى شعراَ مثل( كنت أقف مرة على برج الاطفاء. وبدت لى حالتى مضحكة. وفكرت بأنى أعلى الجميع وأنى لست نائما، بينما هم جميعا نيام فى بيوتهم الواطئة. وخطرت ببالى فكرة. أن أوقظ المدينة ولو بدون حريق. ماذا لو قرعت الجرس؟ وقلت للناس انظروا منشدكم هاأنا وحدى أقف على البرج. ليس لى قريب أو قرين على الأرض. (يقاطعها “ييسينين”: (ان هذا يصح علىّ أيضا.” لا .لا .لايصح عليك للأسف” (يالها من خبيثة) ويبادرها
– أنا شاكر لك جدا على عندليبوف وحديثك عنه .
– بوسعى الحديث عنه بلا نهاية أنا التى أشكرك على الاصغاء.
يعدها بأن يترك قصة الأمير إيجر ليكتب عن عبقريها المسكين:(مسرحية عن جمال الإنسان وعظمة الروح وجبروت النبوغ. عن هؤلاء الذين يقرعون الأجراس عندما يكون الجميع نياماَ فى بيوتهم. أنا أيضا أريد أن أقرع الجرس وأن أوقظ الناس ولو بدون حريق)
و”ييسينين” يبحث عن خف حذاءه الذى تاه فى الجليد تلمح (ساشا) حفار القبور فتهرع إليه وتختفى معه فى الأتوبيس الذى يستقله العائدون من الدفن، ويواصل”ييسينين” مناجاة نفسه(غير لائق بالمرة. لا سلام ولا وداع… أى استخفاف، وكأنى صبى صغير لعل الحديث مع حفار القبور أكثر إمتاعا.. إنه يعرف كل قبر وعنده ما يتحدث به.. مثقفة مسرحياتى لا تعجبها؟! توددت لها كصبى صغير يا لى من متغفل، أستحق كل ما يحدث لى. كفى لآخذ حاجياتى فوراَ، وأعود إلى موسكو من المؤسف أننى أسأت إلى “سفييتا” هذا الصباح.
تنقلنا الكاميرا بعد ذلك إلى”ييسينين” جالساَ إلى المكتب فى بيت المدرسة يخط عنواناَ على ورقة: (الموضوع) ثم يكتب تحته كلمات(لقاءات فى الأقاليم) لكنه لا يستطيع الهرب من مونولوجه: (لماذا هربت منى، ولم تأت إلى العجوز التى كانت تنتظرها؟ لماذا لا يرد هاتفها؟ لعلها تحبنى بعد أن أيقظت مشاعرها القديمة… لعلها تتعذب الآن وأنا جالس هنا أتظاهر بالعمل. يجب ان أذهب إليها وأهدئ خاطرها.
يخرج إلى”باشين” ليسأله عن عنوان” ساشا” فيجده منهمكاَ فى الكتابة على الآلة الكاتبة مباشرة” قال الملازم باختصار: رخصتك. ورد الكاتب باحترام: تفضل…)
يقول”ييسينين” لنفسه وهو ينصرف بعد أن ذكرت له المدرسة العجوز العنوان:”النذل يكتب بلا مسودة”.
أتعتقد أنك ذاهب إلى الصدق؟
يالك من ابله
يقترب من بيت”ساشا” وهو يسأل نفسه لماذا أجئ إليها ليلاََََََََّ؟ ربما نامت منذ زمن فماذا أقول لها؟ وماذا إن لم تكن وحدها وكان معها الملازم؟ ماذا يهمنى… لماذا أرتعش؟ هل وقعت فى هواها؟ ليكن ما يكون” يطرق الباب ولا مجيب. يدفعه فينفتح ولا يجد أحداَ بالداخل:( لديها سيارة لكنها ليست مرتبة فى عيشها… آه من هذا المثقف العصرى.. كم عدد هؤلاء المفيدين اجتماعيا فى بلادنا؟ )
ينظر إلى صورة عند ليبوف معلقة فوق الآلة الكاتبة ويتناول من جوارها الأوراق المكتوبة…. (حياة كل انسان قصة بذاتها. لماذا لا أكتب عن الإنسان العادى. كم هناك من عباقرة مساكين نلقاهم فى حياتنا…. كم منهم يذوب ويشتعل… تتحول معاناته إلى نار، يصبح الناس أشرف وأفضل فى ضوئها….)
(إن هذا لا يصح على. ان”ساشا” على حق. أى نار مشتعلة أنا؟ حياتى بدأت برواية متميزة فماذا جعلت من نفسى بعد ذلك ها قد عادت ولكنها ليست وحدها. مع الشرطى؟ من يكون بالنسبة لها. أخ صديق عشيق؟)
هكذا وبينما يتحدث الاثنان فى الصالة يتواصل مونولوج”ييسينين” وهو منزو يتصنت على حديثهما
– كان معك فى المقابر اليوم رجل بالى الوجه فمن هو؟
(صورة دقيقة انه أنا)
– كيم ييسينين .
– آه صانع المسرحيات…. لم أعرفه… إنه فى الصور أكثر شباباَ .
– إنه إنسان وحيد تعيس يحلم ….
– بل هو جثة هامدة .
(مرة أخرى أصاب كبد الحقيقة. هذا الحفار يفهم فى الجثث).
يعاودان الحديث عن سفر الحفار..” لماذا تحزن كل هذا الحزن… ألأنه سيسافر؟ وماذا فى ذلك؟ سيسافر ثم يعود…. مسرحياتى لا تعجبها، وهذا الحفار يعجبها….)
– هل ودّعك” نيكفروف”؟
– تصورى. إنه جاء بنفسه إلى أمس. وقضى معى ساعة كاملة. إنه لم يخف، وتمنى لى الخير بل وذرف الدمع ايضا .
– هل تذكر يوم جاء إلينا فى مخيم الطلائع. بطل صدره ملئ بالأوسمة وعزف، لنا على الأوركورديون، عند راكية النار، ثم هطل المطر…. كانت ايام جميلة .
– كنت رئيساَ لمجلس الفصيل وكنت أنت الممرضة…( كاترينا) ابنة الكلب لقيتنى ونحن نحمل”بتروفنا” إلى القبر، فطارت إلى الجانب الآخر للشارع، حتى كادت”بتروفنا” تسقط من على السيارة…..
– إن (كاترينا) وحيدة تعيسة.
– كل الناس عندك وحيدون تعساء!!
– لا ليسوا كلهم…. كان بإمكانك أن تؤلف مائة كتاب لكنك توقفت عند الكتاب الأول. كان يجب أن تناضل…..
– كفى. أناضل ضد من ؟ ألا تملّى من تكرار الشئ نفسه ألف مرة!؟
رسائل”رادشيف” أنا الذى وجدتها، وليس لكاترينا علاقة بها.
– الجميع يعرفون ذلك
– لكن وضع اسمها كمشاركة فى التأليف أمر لا يمكن أن أقبله.
– ألهذا تركت كل شئ واشتغلت حفاراَ للقبور؟
– اشتغلت حفاراَ لأنى رفت.
– ليس لهذا وحده. كنت تبحث عن فضحية.
– على فكره. ليس هذا العمل بأسوأ من غيره
– كان بوسعك أن تعمل فراشاَ او حارساَ….
– ليس الحراسة من طبعى.
– وهل الدفن من طبعك؟
– أخيراَ بدأت تتحدثين مثلهم.
– يحاول ثائراَ أن يزجها من طريقه وهى تصرخ.
– إلى أين أنت ذاهب؟ ما الذى يجمعك بأمريكا هذه؟ ستضيع هناك حتى اللغة لا تعرفها جيداَ…
– أنت تعرفين لغتين جيداَ. فما الفائدة؟
– فى اميركا لن تكف عن الشجار. أتوسل إليك يا اندريه. لا تذهب ستموت هناك سأماَ.
– لو كنت تحبيننى لذهبت معى .
– لا أستطيع ولا أريد هذا ما اخترته. ولو فعلت سأضيع هناك كما ستضيع أنت.
– لا بأس هناك يمكن أن أعيش.. أما هنا فكل شئ كذب .
– أتعتقد أنك ذاهب إلى الصدق؟ يالك من أبله!!
– أنت البلهاء.
– إنك هناك لن تعيش. ستموت سأماَ..
– أن أموت هناك سأماَ خير من أن أموت هنا كرهاَ.
– عد إلى رشدك يا أندريه. ما هذا الذى تقوله؟
– إنك خنتنى .
– يزيحها من فرجة الباب بعنف، لتسقط فيرتطم رأسها بالأرض، ويندفع مهتاجا إلى الشارع.
يطل ييسينين من المطبخ، ويقترب من ساشا ويتخطاها وهى فاقدة الوعى. وتنقلنا الكاميرا إليه فى سيارته ينهب الطريق الجليدى مع مونولوجه الداخل:( انتهى الأمر. لم يرنى أحد إلى موسكو. ما أجمل ان أحيا. أن أتنفس وآكل واشرب وأنام. أما اعترافاتى الصريحة بالأمس وخططى الجديدة للمستقبل فلم تكن إلا نتيجة للمرض، من تأثير حمض البوليك فى دمى…. كم أشعر بسفالتى! أحس أننى قتلت السنونوة. استات لأنها لا تحبنى، ولكننى سمعت كيف ارتطمت رأسها بالأرض، ومررت فوقها بتأن، حتى لا تلمسها ساقى…)
يوقف السيارة ويغادرها. يدعك وجهه بالجليد:” أدعو للحب ولا احب فى الحقيقة إلا نفسى. هذا ما كان يجب أن أكتب عنه وبصدق” يعود إلى السيارة ويستدير عائداَ باتجاه فلاديمير…
قطع على السيارة مقلوبة وهو فى كابينة الهاتف الأتوماتيكى يصيح:” ساشا” أنا كيم”ييسينين” هل تسمعيننى؟
– نعم أسمعك.. أين أنت. أين أنت؟
ما ان يسمع صوتها حتى يتهاوى جسده. ووسط الرعد والبرق تقترب دراجة بخارية بصندوق من المكان يرفعه رجل البوليس ويخطو به ليضعه فى الصندوق.
صدق الفنان ودوره
من الأسئلة المحورية التى يجب أن يلتفت إليها متلقى العمل الفنى الذى يحمل فى طياته رؤية فكرية متميزة أسئلة من قبيل ما هو الموضوع الذى يتناوله العمل؟ وما هو مقصد الفنان منه؟ و…. مثل هذه الأسئلة ضرورية حتى للإحساس بالجوانب الجمالية والفنية فى العمل… وتكتسب أسئلة محورية من النوع السابق بعداَ خاصاَ ان كان الفيلم ينتمى إلى مدرسة تحتفى بالواقع والموضوعية، لكنها تصبح ذات قيمة استثنائية، إذا حمل العمل الفنى لافتة ” الموضوع / تيمة ” كماهو الحال مع فيلم بامفيلوف الذى نتناوله هنا. وربما كان ذلك مبرراَ لأن نسأل مباشرة عن الموضوع الذى يتناوله الفيلم.
تقودنا المتابعة الميكانيكة لمشاهد الفيلم إلى اعتقاد بانه عن مؤلف” نضبت موراده الابداعية، يبحث عن موضوع للكتابة ” لكن تفاصيل الفيلم ذاته تدين مثل هذا التصور المدرسى فنا وفكراَ. ذلك أننا لسنا أمام كاتب واحد بل خمسة كتاب، أوخمس تنويعات مختلفة على فعل الكتابة يواجه أصحابها أزمات متفاوتة فى إبداعهم وعلاقاتهم مع المجتمع…(باشين) النذل الذى يكتب دون مسودة دجلا لا علاقة له بالواقع، وتتكاثر مؤلفاته رغم ذلك بوتيرة لا يستطيع القراء ملاحقتها.(وييسينين) الذى لا يحب إلا نفسه وتخنقه أزمة التنازل التى يعيشها بعيداَ عن الصدق.” وأندريه” الذى وضع له اسم(كاترينا) كمشاركة فى التأليف فاختار بعد كتابه الأول العمل حفاراَ للقبور، جرى وراء سراب الهجرة إلى أمريكا.( وعندليبوف) الشاعر العبقرى الذى لا يعرفه الناس. وأخيراَ”ساشا” التى أحبت العبقرى المسكين، وتجتهد فى إزالة تلال النسيان المحيطة بنتاجه الصادق.
ولا يقف الأمر فى هذا العمل عند أدباء يواجهون أزمات متفاوتة فى إبداعهم، ذلك أنه يلتزم مفهوماَ بعينه للأديب والفنان(الذى يشتعل فيصبح الناس فى ضوء اشتعاله أفضل وأشرف)، ذلك المفهوم الذى عبر عنه عندليبوف فى شعره:”أى نار مشتعلة أنا؟!” ويفكر فى كتابة مسرحية عن جمال الإنسان وعضمة الروح وجبروت النبوغ، بدلاَ من العمل المصنوع عن الأمير” إيجر”.
إن الفنان هنا هو ضمير المجتمع الذى(يدق جرس الخطر حين يكون الصغار نياماًَفى بيوتهم الواطئة المعرضة للحريق)، قبل أن يقع الحريق . ولا يقف الخطر المقصود هنا بالطبع عند مخاطر الدجل الأدبى والفكرى( باشين وييسينين) بل ويمتد إلى مخاطر التكيفية القاتلة والانبهار الساذج( المدرسة والملازم وسفييتا) ومخاطر الاستعراضية المريضة” حفار القبور وسفييتا” ومخاطر الرؤية المحدودة والهرب من مواجهة الواقع… فالكل فيها عدا” ساشا” هاربون، وأن اختلفت طبيعة المهارب وآجالها…
ولعل ذلك يقودنا مباشرة إلى التأكيد على أن الشخصية المحورية” والأمل” فى الفيلم ليست(ييسينين) بل” ساشا” التى ربتها المدرسة المتكيفة الساذجة، لكنها شبت على الطوق وصارت لها نظرتها الخاصة ( وليست حياتها الشخصية فقط) التى لم تتسطح بتصورات ساذجة أقرب إلى الخيال عن الحياة والفن، وذلك فى ارتباط جدلى بالحفاظ على الصلة من الهرب، ذلك أن” ساشا” تعى مأزق الهرب سواء إلى أمريكا(وهل تعتقد أنك ذاهب إلى الصدق؟) أو إلى التسطح (أن”ييسينين” بائس ووحيد) وهى تفعل كل ذلك على نحو طبيعى ودون أدنى مظهر من مظاهر الاستعراضية المريضة…..
مطواعية الحديد لا متانة الصلب
وجدير بالذكر هنا أن تطور شخصية ساشا لا يفقدنا الأمل فى الملازم(الذى بات يتعجب من تصرفات الكتاب الكبار الذين عبد مؤلفاتهم وصار يردد شعر” عندليبوف” ووعد بأن يأتى بالقمر من أجل” ساشا”) بل وحتى فى” أندريه”، بعد صدمة الهجرة…
والرؤية النقدية التى تعتمد ” ساشا” شخصية محورية لفيلم الموضوع تنقذه من أن يكون عملاَ عبثياَ (كاتب يبحث عن الموضوع وحين يجده يموت فى حادثة) ويتماشى مع سخرية الفيلم من السياحة التأليفية(“باشين” الذى اعتاد أن يذهب إلى”فلاديمير” ليكتب دجلاَ لا علاقة له بالواقع ودون أدنى معاناة)، ولأن مسألة نبوغ كتاب مثل”راسبوتين وفامبيلوف” ليست على النحو الذى تصوره “ييسينين”(هدوء وجمال الأقاليم)، ولا تحسمهاحتى الرغبة فى “البدء من جديد دون تنازل”……..
هذا كما يتماشى الفيلم على هذا النحو مع فكر وأسلوب “جليب بلنفيلوف” الذى نعرفه من بنية أفلامه الهامة كلها، التى ترتفع دوماَ كبناء متكامل حول محور أساسى هو دور “اينا شوريكافا” زوجته وتوأمه الفنى) كما فى أفلام “ممر عبر النار” (وفاسا) و”البداية”… كما يتماشى مع قول” بامفيلوف” عم دور زوجته فى فيلم آخر ” ان شوريكافا” تلعب دور تراجيديا(شيكسبيريا) لكنه يتسم بمسحة روسية عميقة. إن القوة فيها لاتنتمى إلى متانة الصلب بل إلى مطواعية الحديد، وهذا وفق ما أرى المنبع الهام للقوة التى تجلب فى الروس عبر محن الموت الجماعى والمجاعات والحروب. لقد أظهرت المرأة الروسية الحساسة دوماً قوة هائلة..)
هكذا فان الموضوع وفق ماأرى فيلم عن صدق الفنان الذى يوقظ المدينة دون انتظار لوقوع الحريق.. صدق الفنان الذى يشتعل فيصبح الناس على ضوء اشتعاله أفضل وأشرف ……
وفيلم “الموضوع” على النحو السابق يحوى تعميمات انتقادية تخص المجتمع كله…. فكره وثقافته وتعليمه، أو ايدلوجيته وممارسته وعلاقاته، ولا يقتصر على ادانة سلوك بعض أفراده كما أنه يخاصم جو الأبهة والتمجيد والقفز فوق النواقص …….
وهذه نظرة وإن تجاوزت زمن الأحلام والأمانى الطيبة فانها أكثر حياة وحرارة واحتراما لانسانية الإنسان، وبعداَ عن تصويره تصويراَ مسطحاَ، كأداة بشرية تؤدى دورها بطريقة ميكانيكية ناجعة لا علاقة لها بما نخبره من تعقد الحياة وثرائها فى نفس الوقت .
والفيلم على هذا النحو لا يلزم بأصول الواقعية الاشتراكية واحتفائها بالبطل الإيجابى، والتفاؤل التاريخى، والدعوة… وذلك كله يبين أن الانعطافة الحالية فى الفكر السوفييتى نحو(العلنية الديمقراطية) ليست انقلاباَ فوقياَ. (جورباتشوفيا) وإنما هى مناخ عام ينضج على مهل منذ بعيد (حجب الفيلم عن العرض سنوات) …….
ملاءمة الأدوات الفنية للموضوع
يبقى الحديث عن التجسيد لواقع فكرى كثيف مثل الواقع الذى فصلناه .
لقد اختار السيناريو أن يجرى هذا التجسيد من خلال صراع داخل نفس الكاتب المسرحى “كيم ييسينين” ومن خلال مواجهات متتالية تجرى أمام عينيه، ويشارك فيها….
وقد وظف البناء الدرامى المواجهة الأساسية التى حدثت بين ملازم المرور والكاتب “باشين” مع ما سبقها من شحان(بين ييسينين وباشين حول موسيقى شوبرت) وماتلاها من شحان (عبر الهاتف بين “ييسينين” ومطلقته حول ترك ابنهما لمعهد السينما)، وظفها جميعا لتعريف المتفرج على عالم ييسينين الذى يواجه أزمة على كل المستويات.. الكتابة ،الزمالة، الأبوة ، الزواج ، بل وحتى مع العشيقة( لماذا أتيت بها معى؟ )وعلى احتدام هذه الأزمة وسيطرتها على كيان ييسينين وفكره، لدرجة تدفعه للسعى إلى الاختلاء بنفسه بعيداَ عن أجواء الزيف والتصنّع… وذلك كله على الرغم من نجاح”ييسينين” الظاهرى وإعجاب السلطة والجمهور به، بما أهله لأن يصبح من النخبة التى تتمتع بالحظوة والرفاهية، وكان اختيار المشهد الجليدى إطارا لهذا الجزء اختياراً يعمق بالصورة الأزمة والعزلة، بالذات وقد جعلنا المخرج نختلى طويلاََ بالجليد المترامى الأطراف، مع صوت مونولوجات” ييسينين” الطويلة التى توزعت بين العمل الذى يفكر فى كتابته وبين وضعه فى الحياة. كما أن اقتصار المشهد على وجه” ييسينين” الكالح فعلا فى مرآة صالون السيارة، بالتبادل مع الجليد، خلال هذا الجزء أكد وظيفته وهى مواجهة ييسينين لنفسه وإتاحة الفرصة لنا لنرى داخله …..
أما حوار هذا الجزء فجاء بليغ الدلالة بالتفاصيل التى راح يكشفها حول صدق الفنان، فى علاقته بالمتلقى والحياة. وتجلى ذلك فى لمسات سريعة مثلما حدث عند ترك “ييسينين” السيارة .
– إذهبا وحدكما واتركانى لأموت هنا .
– ومن يتحف الناس بروائع المسرحيات ؟
– الوزير .
وخلال الحديث مع زوجته عن ترك الإبن للمعهد بعد أن حط ” ييسنين” من قدر نفسه، وجر العميد مرات” مجاملاَ” إلى المطعم، والشرب معه حتى هاجمته آلام الكلى ….
لكن المشهد الأساسى الذى لمس صدق الفنان لمساَ مباشراَ كان مشهد المواجهة بين ” باشين” والملازم بما حفل به من خصام بين سلوك” باشين” وكتاباته، وتصديق الملازم لهذه الكتابات (تعرية المتلقى الأخضر العود المغمض العينين). وباشين هنا شخصية ثانوية تلقى أضواء إضافية من خلال التباين والمفارقة على أزمة”ييسينين” (إنى أحسد”باشين”!…. إنه يعيش وكأنه خارج من الحمام للتو!! ).أفضأأأأأأأبثاصاغصخطث
ومع المواجهة الثانية فى متحف المدينة يبدأ الصراع الدرامى فى الفيلم بين صانع المسرحيات العائش فى عالم احترف التصنع والتمثيل وبين ما تمثله” ساشا” من صدق يتجلى فى عفويتها المذهلة …. من المشية إلى النظرة إلى طريقة ارتداء الملبس وطريقة الكلام، ناهيك عن التوحد العاطفى الحميم مع ما تقول .
وقد ساهم لقاء الملازم مع ساشا خلال هذا الجزء فى تعميق اهتمام ييسينين والمتفرج بحكايتها (ترى ماذا حدث وزلزلها على هذا النحو؟ وما هى علاقتها بالملازم؟) كما أنه وضع رتوشاَ كثيرة فى شخصية الملازم تفتح أمامه كتلقى آفاق التطور والنضج مثل الاهتمام بتعلم الانجليزية والاهتمام بعالم” ساشا” ( ومنه عندليبوف) واستعداده لأن يأتى لها بالقمر .
وقد استمر الصراع بين التصنع فى حياة” ييسينين” والصدق الذى تمثله “ساشا” خلال المواجهة الثالثة على مائدة الطعام. وقد وظفت شخصية المدرسة العجوز”وسفييتا” الموسكوفية للكشف عن جوانب هذا الصراع وتعريته، لتخطو به ساشا رغم تنائيها ووجودها السلبى إلى الذروة مستغلة فى الأساس (وبتألق) نظرة عينيها غير العاديتين، وملامح وجهها التى تحمل ألف معنى ومعنى، يتوه الرائى بينها، إضافة إلى الصوت العريض العميق فى جملها الحوارية المعدودة.
وقد ساهم المصور باستخدام اللقطات القريبة لوجهى” ساشا” “وييسينين” وسط اللقطات المتوسطة والعامة للآخرين فى تأكيد طبيعة الصراع.
هذا كما أجاد السيناريو فى رسم شخصية” شوريكافا” بما يبرر ما أندته من فهم عميق وبعد عن الاستعراضية…. إذ تخلّصت من الاعتمادية فى عمر مبكر(موت الأم وعدم وجود الأب) كما ساعدها المولد فى واحدة من الدرر الأثرية السوفييتة(فلاديمير) على الارتباط بالأرض والتراث، وساعدها البعد عن العاصمة بكل ما يزغلل العيون ويعشيها ويغلب التصنع والتمثيل، على إثراء ثقافتها بما أتاحه لها تعلم الفرنسية والسلافية القديمة بالاضافة إلى لغتها. وقد ساهم فى تعميق ادراكها بالقطع علاقاتها مع مواطنيها…. مع المدرسة المتكفية تماما وربما المتحمسة جداَ، وإن انطوت تصرفاتها على مفارقات فاضحة( سؤالها عما إذا كانت ” سفيتا” بنت “ييسينين”…. ثم تراجعها مع إدراك الموقف:( لقد حذرت من البداية. إنها تلميذتك). واستنكارها أن يقيما معا فى حجرة واحدة، على سعة البيت، ثم تشجيعها لذلك حيث سيكون الجو أهدأ….)، وعلاقتها مع حبيبها راصد المساوئ أيضاَ .
وكل ذلك يؤهلها لإدراك الواقع بكل تعقيداته، وعدم التجنى فى الحكم عليه( الولاء للمدرسة، وعدم معاداة ” ييسينين” ) .
وعن طريق التباين وظف السيناريو شخصية ” سفييتا” الاستعراضية الفجة (إضافة إلى شخصية المدرسة) بتعميق صورة وتأثير “ساشا” وإيضاح عقم مهرب ييسينين .
وقد جسد الفيلم صورة “سفييتا” تجسيداَ بارعاَََ من الحوارات السطحية المبتذلة إلى الملابس الغالية، بل لم يغفل اطلاع المتفرج على جمال جسدها الآسر( وهى فى قميصها الداخلى) ليكمل ذلك بالوجه القمئ فى اللقطة الوحيدة القريبة لها فى الفيلم. وقد أكد المصور التناقض بينها وبين” ساشا” بتعليقات التصوير القرب (الكلوز أب) لوجه ساشا على أثر كلام” سفيتا ” المبتذل المتكرر، ومن خلال تعليق حوارى ” لساشا” (لا أعتقد أن شكسبير اخترع كل شئ) واشتباك مسالم من جانب “ساشا” حول معرفة الأمير” إيجر” واللغة السلافية القديمة وأكد ذلك التواضع البالغ من جانبها – ساشا – فى مواجهة السلوك السوقى من جانب “سفييتا” وهى تتهم الجلوس بعدم التحضر. ويحسب لمبدعى الفيلم هذا التصور الراقى الذى يربط التحضر بالفطرة والثقافة لا بالمداهنة والانسياق فى الكذب والتصنع ….
بقيت مواجهتان سنعبر عليهما سريعاَ. الأولى بين ” ييسينين” وعندليبوف فى المقابر، حول صدق الفنان واشتعاله ليضئ للناس وينذرهم. وهى المواجهة التى أبرزت موضوع الفيلم .
ويلفت النظر أن هذه المواجهة تمت فى إطار آسر من جمال الطبيعة ونقائها . وقد جاء اختيار المقابر( وليس مذكرات” عندليبوف” مثلا) لتعريف ييسينين على الشاعر تأكيداَ على مفعول الفنان الذى يمكن أن يجعل من الميت حيا ومن الحى ميتا. ويلفت النظر ثانياَ أن الاطار الطبيعى الجميل لهذا الجزء جاء مباشرة بعد اللقطة القريبة لوجه “سفيتا ” الموسكوفية الدميم المشوه …….
والمواجهة الأخيرة هى تلك التى شهدها ييسينين فى بيت” ساشا”، بما فى ذلك العلاقة بينها وبين أندريه التى أكدت أبعاداَ جديدة فى شخصية “ساشا” (مطواعية الحديد لا متانة الصلب) كما كشفت الاستعراضية فى جانب آخر من تجلياتها، مع “أندريه” هذه المرة، وساء المشهد الذى يقدم فيه على خلع حذاء ساشا الشتوى الطويل الرقبة: (هبيتى السرة للمرة الأخيرة)!! أو فى اختياره العمل حفاراَ للقبور …..
ولا يمكن ونحن نتحدث عن البلاغة الفنية ألا نتطرق إلى مجموعة من السمات التى ميزت العمل ككل. لعل أولها تجاوز السرد مسألة إحكام البناء الدرامى إلى الحفاظ على جرعة كبيرة من التشويق على امتداد الفيلم (ماهى حكاية” ساشا” مع الملازم؟ وحكاية العبقرى المسكين؟ وحكاية حفار القبور؟) ولا نفهم هذه الحكاية ولا يكتمل موضوع الفيلم إلا مع اللقطة الأخيرة التى تلخص هى نفسها الفيلم (الكاتب العاجز عن الصدق وسيارته مقلوبة يقف فى كابينة تليفون تحيط به سهوب الجليد من كل جانب وصوت” ساشا” الدافئ يأتى من بيتها: أين انت يا” ييسينين”؟ لماذا تصمت؟)
والسمة الثانية التى تلفت النظر فى الفيلم هى الايقاع البطئ الذى لفه بوجه عام، وتجلى فى مواجهتى” المائدة” وبيت” ساشا” وقد كان ضرورياَ لرسم التفاصيل ووضع اللمسات التى تمهد للمشاهد العاصفة التى ختمت كل منهما (ييسينين المجروح، وأندريه الهارب) وبالإضافة إلى كون الايقاع البطئ يتيح استيعاب عملية التحول التى تجرى عبر مشاهد الجزأين فقد كان ضروريا لتمثل مونولوج ييسينين الداخلى إضافة إلى وقائع المشاهد الموزاية له…..
ورغم أن الإيقاع البطئ هو المناسب لموضوع الفيلم الفكرى فقد حاول مبدعو الفيلم كسر ما قد يصحبه من إملال درامى (مونولوج ييسينين الموازى) وإملال بصرى (تكرار وضع قطعة العملة فى التليفون الأوتوماتيكى خلال مكالمة”ييسينين” الطويلة مع زوجته).
هذا وقد اقتصد مبدعو الفيلم فى استخدام الموسيقى إلى أقصى حد فلم تتعد التيمات التى استخدمت عدد أصابع اليد الواحدة. وجاءت مناسبة تماماَ للموضوع، بالذات حين كان طابعها يتبدل مع الامتداد، لتسلم مجموعة من المشاهد إلى مجموعة أخرى(لحن الفرح المصاحب لنهاية لقاء الملازم مع ساشا فى المتحف الذى تحول إلى لحن مؤس مع وصول ” ييسينين” إلى بيت المدرسة).
ورغم ان الفيلم عامر بالتفاصيل الانتقادية التى تبدو خارج تيمته، وإن كان لا بد وأن يجرها جدل الواقع إلى الشاشة…. ورغم أن هذه الانتقادات كانت جارحة فى العديد من المشاهد… رغم ذلك لا يمكن أن يفوت منصف أن حب السوفييت وليس معاداتهم هو دافع مبدعى الفيلم إلى صنعه….. ومن هنا جعلهم (ساشا) الشخصية المحورية فى الفيلم كما أسلفنا، والمشهد الأخير الذى عاد فيه “ييسينين” إلى ” فلاديمير” لا لشئ إلا للتأكد من أنه لم يشارك فى قتل السنونوة .