مقتطف وموقف
المقتطف: ” فلما شرح اعراض “المناخوليا” قال: ونحن لا نبالى من حيث نتعلم الطب أن ذلك يقع عن الجن أو لايقع بعد أن نقول: أنه ان كان يقع من الجن فيقع بأن يحيل المزاج إلى السوداء فيكون سببه القريب السوداء ثم ليكن سبب تلك السوداء جنا أو غير جن ..” .
من أقوال الشيخ الرئيس ابن سينا. مقتطف من كتاب العقائدية فى سلسلة اقرأ (46) دار المعارف 1986 .
الموقف:
- تبدأ النظر والمراجعة: فنكتشف ابتداء أن البحث عن السبب، والاختلاف حوله، والتوقف عن المبادرة حتى نتيقن من حقيقته، أن كل ذلك هو من مظاهر ترجيحنا لما يسمى الحتمية السببية التى تقول بأن النتائج هى النهاية المحتمة لأسباب لها حدثت فى الماضى، وفى مجال الأمراض النفسية خاصة يطيب للناس أن يسألوا عن “طبيعة السبب” بدرجة تسبق وتغلب تساؤلهم عن- وانتباهم الى “وسيلة الخلاص” وأعتقد أن هذا انما يرجع – عندنا الآن – الى سببين: الأول: هو ما شاع من فهم مسطح لفكر فرويد (التحليل النفسى) عن حكاية العقد النفسية، وضروة حلها حتى يتحقق الشفاء، والمعنى الشائع عند العامة عن حكاية العقد النفسية هذه هى أنها “اصابة” حديث فى الماض، ليس للشخص يد فيها، وأنه أصيب من جرائها بالألم والعجز، فلم يتخلص من آثارها فى حينها، فتوقف عندها، ثم أخذ يتصرف بعد ذلك بناءا عليها، رغم اختفائها ظاهريا يتصرف تصرفا لا “يحلها ” ولا يتخلص منها ولا من آثارها، وبعض اثار ذلك كله هو “المرض النفسى ” وبناء عليه، فحتى يتدقق العلاج “فلابد ” أن تحل هذه العقدة، أما السبب الثاني: الذى يفسر وقوفنا عند محاولة معرفة السبب، لا الاتجاه “حسما” الى الخلاص، هو ميلنا العام الى “التبرير، و”القاء اللوم” على الآخرين والزمن والأيام ((1)، فالعثور على سبب – فى الماضــى عادة: يريح الجميع، ويجعل المريض بمرض “براحته” وقد يجعل الأهل كمصمصون شفاههم بتواخ، وأخيرا فانه يشغل الطبيب عن مسئوليته ايجابيه نحو الحفز والنقد جنبا الى جنب مع المريض.
وقد شاع – فــى اطار ذلك – أن نستشهد بالقول الشائع أنه “اذا عرف السبب راح العجب “، لأن السبب عادة يبدو ثانويا، أو ساذجا أو غير كاف أو مضحكا … الخ، وقد نبهنا هذا المقتطف الى ضرورة تجنب الخوض فى مسائل لا تؤثر كثيرا فى مسئوليتنا نحو المسارعة بالطرق للخلاص من آلام المرض ومعوقاته، فالوقوف عند الاختلاف حول سبب الملانخوليا (الاكتئاب) ان كان ذلك من جن أم من غيره، هو توقف العاجز بما لايفيد، لأن الحقيقة الأقرب والأهم أن المزاج أصبح هو السوداء، وبالتالى فان الحياة قد اصطبغت بلون النيلة حين اطبق الحزن، ومات الحفز، وبهت الأمل، ولسنا – من حيث نتعلم الطب- فى موقف من يلوم الجن الأزرق أو الأحمر، أو نسترضيه أو نفاوضه، ولكننا فى موقف يعلن أن نغير المزاج الى السوداء (السبب القريب) هو المسئول عن سائر أعراض مرض المانخوليا، ثم ليكن سبب تلك السوداء جنا أو غير جن، أو ليكن سببها ( حسب اللغة الطبية الأحدث ) شعورا بالذنب تجاه رغبة لا شعورية فى قتل الوالد، أو هبوط فى مادة كيميائية بذاتها(الكاتيولامين!!), أو ليكن سببها أن الشاب “أحب ولم ينل الوصول (حب ولا طالشى) أو أنه وقف فى طابور الجمعية حتى ركبته العفاريت الزرق، فكل ذلك قد انتهى به الى أن يكون تفاعله هو الاكتئاب المرضى, أى تحول المزاج الى “السوداء” ومن ثم مرض الملانخوليا، وهذا ليس تهوينا مطلقا لما هو “سبب” ولكنه يذكرة بأن نفس السبب (الجن)، أو الشعور بالذنب أو خيبة الأمل فى الحب أو طابور الجمعية أو حتى خفض الكاتيكولامين، قد يكون له حل آخر غير الاستسلام للسوداء، فقد يكون الحل هو حوار مبدع مع جنى ملهم، أو ثورة تغير الواقع، أو اندفاعه الى حب أنضج، أو اسهام سياسى مثاير أو حتى تعويض الكمياء الهابطة !!… الخ، لكن الأولى بعناية الطبيب هو أن يدرس طبيعة تفاعل شخص بذاته لأى من هذه العوامل بأن يتحول المزاج الى “السوداء” حتى يصاب بالمرض، وظيفة الطبيب أساسا هى فهم “اللغة” التى يتحدث بها المريض وهو يعلن أعراضه وكذا، فهم “اللغة” التى يتحدث بها المريض وهو يلعن أعراضه، وكذا، فهم نوع “التفاعل” وطبيعته، وهذه هى الخطوة الأولى نحوالبحث عن الخلاص من الحاح الاسباب وخاصة ان كانت ساحقة ماحقة من قوى نذلة ظالمة.
وثمة موقف اخر أثاره هذا المقتطف وهو ضرورة مراجعتنا لعلاقتنا باعتقادات العامة من حيث مسئولية الجن عن مرض نفسى بذاته، أو انحراف مزاجى بذاته، فقد تعود الأطباء انكار ذلك ابتواء، واعتباره جرامة معطلة للعلاج السليم، والشيخ الرئيس فى هذا المقتطف الموجز لم يقبل أن يكون السبب جنا، وفى نفس الوقت هو لم ينف احتمال ذلك، ولكنه كان واضحا أشد الوضوح فى أن ذلك هو القضية الملحة، وقد أستشعرت أن موقفه فى ذلك قد يوازى موقفه من عدم التعجل بتكذيب أخبار العارفين، “فان لأمثال هذه ( الأخبار المعجزة) أسبابا فى أسرار الطبيعة”، فتوقف ولا تتعجل (نفس المرجع ص107) لكن ما أسهل أن يتعجل الطبيب التكنولوجى المعاصر فيرفض كل ما لا يقاس ويوزن بمقاييس آلاته الأحدث، ووجود الجان خارج النفس قد يستوقف العالم حتى الرفض، لكن للأمر وجها آخرا محتملا وهو أن وجود الجان – أساسا – قد يكون داخل النفس، فما يسمى حديثا “عدة نفوس”، وليس من “عدة أجزاء”، أو “عدة قوى ” (2)، فاذا كان الأمر كذلك، أليس من الممكن أن يكون الجان – بكل تصنيفاته هو بعض ذوات نفوسنا القائمة حقيقة وفعلا، ثم نحن نسقطها الى العالم الخارجى، ثم نستقبل تأثرها، وتفسير الاكتئاب الملانخوليا من خلال هذا المنطلق المتعدد الذوات هو “مواجهة عنيفة بين الذات الوالدية (السلطوية) (الجن الوالدي) وبين الذات الطفلية (الجن الطفل)، مع غلبه وقمع وتأنب الذات الوالدية دون استسلام وتراجع الذات الطفلية “كل ذلك يحدث تركيبا داخل الانسان نتجة لتراكم القوى على كل جانب، بالاضافة الى استعدادات وخبرات خاصة، ونتاج هذه المواجهة هو أن يعبر الطفل “فينا” عن آلامه، وعجزه، ويأسه، وسوء حاله، وأن يعبر الوالد “فينا” عن طريق اعتراف الطفل المنك – بالذنب الذى ارتكبه، واعلانه عن السوء الذى يتصف به، والدونية التى يستحقها، وهذا وذلك يظهر على لسان المريض وكأنه “مريض واحد” يشكو من السوداء (وليست تركيبات متداخلة متصارعه تتكلم بنفس ضمير الذات الظاهرة) – فاذا صح ذلك، وهو صحيح عندنا، أفلا تكون هذه السوداء هى بفعل الجان الجان الذى هو تركيباتنا المتعددة الداخلية، “فلنتوقف، ولانتعجل!!”
ثم أنظر فى قوله “ونحن لا نبالى ونحن نتعلم الطب” – فهذا الموقف الذى يؤكد على المنطلق الامبريقى فى تلقى أصول حرفة الطب ينبه الطبيب أنه مسئول أساسا وفورا عن مساعدة مريضه بكل فنه ومبادرته حتى لو لم يعرف السبب، فلو أنه كان يتعلم الفلسفة، أو اللاهوت، أو الروحانيات لكان خليق به أن يبالى بقضية الجان وما شابه، أما فى الطب، فالمسألة مسألة فن اللأم، و حذق المواكبة وترجيح الجانب التناسقى الفاعلى فى الوجود الفردي، على الجانب الانسحابى التفككى المرضى، كل ذلك يتم سواء عرفنا السبب تحديدا، أم ترجيحا، أم لم نعرفه أصلا، وعظمة الرئيس الشيخ أنه كان يعرف حدود كل علم وفن، ويستفيد من جوهر كل لدفع الآخر، ولكنه لا يخلط بينها، وشيخنا الرئيس الذى أصبح كتابه “القانون” المرجع الأول للدراسات الطبية بعد ترجمته الى اللاتينية، لم يكن طبيبا محترفا أساسا، بل أنه وضع الطب بتواضع شديد باعتباره فن ملاحظة، وحذق مداواة، وحسن ربط، وعلى ذلك فقد كان بالنسبة له طريقا سهلا، اذا ما قيس باهتماماته الفلسفية واللاهوتية والمعرفية الأعمق، كان يقول لتلاميذه عن أيام تلمذته وتحصيله “ثم رغبت فى علم الطب وصرت أقرأ الكتب المصنفة فيه، وعلم الطب ليس من العلوم الصعبة … الخ ” وقد ألم بأغلب معطياته وهو يعد فى السادسة عشر ثم أضاف اليه ما أضاف – والمهم عندنا فى هذا الموقف هو تحديد معالم الممارسة التطبيقية المسماة بالطب، والتأكيد على أنها ليست علما محددا مضبوطا رغم كل الانجازات التكنولوجية الهاذلة التى ساعدت فى الممارسة الأحدث، لكنه فى نهاية النهاية فنا يستعمل هذه المعطيات العلمية والتقنية، يستعملها ليعين الطبيب (انسان ذو خبرة) فى ماهية التركيب البشرى وكفاءة قدراته على مواكبة مريض (انسان فى محنة مخلة بتوازنه ) يعين هذا على مواكبة ذلك الى أن الدور الانسانى المباشر، ورضى أن تحل محله أدوات التشخيص، والات الدور الانسانى المباشر، ورضى أن يبحث له عن اسم آخر، وتاريخ اخر، وليسم نفسه مثلا: أخصائى تشغيل الآلات الطبية، أومهندس الأعضاء البشريه … الخ . ولعل انفصال الطييب المعاصر عن النهل من مصادر المعارف الأولى فى الفلسفة والأدب والدين، هوالذى اختزل دوره الى هذا الانسان الآلى الخاضع لآلة الطب وكيمياء الشركات التجارية، وان صح هذا التحذير لكل تخصص من تخصصات الطب، فهو أصدق ما يكون فى مجال التطبيب النفسى خاصة .
وهذا موقف آخر .
[1] – انظر “الموال” فى باب مثل وموال، هذا العدد/ ص: 102
[2] – انظر الوحدة والتعدد فى التركيب البشرى: الانسان والتطور عدد اكتوبر 1981 ص 19 وانظر أيضا التحليل التفاعلاتى: الانسان والتطور عدد 26 ص 13