مثل وموّال
قانون الواقع من الجبر والإختيار
إلى الحسابات والتعلم
عتبت عالوقت قال لى الوقت :إيه مالك
عمال بتكبى من الأيام، إيه مالك
اللى جرالك يكون فى الأصل اهمالك
عتبت ع الوقت قال لى الوقت: وأنا مالى
أنا كل ما أعطيك تفضى الجيب، وأنا مالى(1)
أعمل لنفسك “قانون” وبطل اهمالك
1- كتبنا فى العدد السابق ما يشير الى علاقة “المثل العامى” بأرض الواقع، كما ننبه هنا – رغم الشائع – أن المثل العامى (كالموال) يقوم – من بعد معين – ” بشد أذن” البنى آدم منا حتى لا يمضى حياته نعابا، قدريا، معتمدا، يشد آذنه ليذكره أنه “عيب عليه كذا!!”.
وقد شاعت فى حياتنا مؤخرا الأمثلة القدرية، والاستسلامية،و التبريرية، أو التى تبدو كذلك، وقد انتشرت حتى أزاحت من الساحة الأمثلة العامية ان يهتم بشيوع أمثلة بذاتها فى أوقات بذاتها، لا أن يكتفى بالدراسة الكمية، بتفسير تواتر أمثلة دون أخرى باعتبار عددها الذى يدور حول معنى بذاته، فالأمثلة فى مخزون ذاكرة التاريخ بتنوعها وتناقضها، ونحن الذين نختار من بينها ما يناسب ما نحن فيه لآن، ولكن قيمتها فى ذاتها هو وجودها “الجاهز” بحسب أحوال اليوم وماهو نحن – فلما شاعت فينا القدرية والتبعية والتسليم، استدعينا، وتذكرنا، وكررنا أمثال القدرية والتبعية والتسليم، ولكن علينا – بعد ذلك وقبل ذلك – أن نعيد النظر فيما تصورناه سلبيا اذ يبرر القدرية والاعتمادية، فقد “نقرأ” فيه “قولا” آخر من بعد آخر.
2- وها هو ذا “الموال” الذى تصدر هذه الحلقة يقول ما يؤكد “الاختيار” فالمسئولية، فاللوم والتقريع لمن أهمل أو تخلى عن مسئوليته متهما الأيام والزمن، لكننا فى نفس الوقت سوف نرى ما يبدو عكس ذلك فى أمثلة أخرى، كأننا بهذا التناقض الظاهر نواجه كيف تناول الوعى الشعبى هذه المسألة الفلسفية (الجبر والاختيار) بمنتهى الدقة والتكامل، فالموال هنا قد اشهر فى وجوهنا المسطرة وهو يستعد ليلهب بسنها ظهور أيدينا معنلا أنه:
اللى جرى لك يكون فى الأصل اهمالك
لينتهى آمرا متوعدا أن:
أعمل لنفسك “قانون” وبطل اهمالك
فهو بذلك قد أكد على الاختيار والمسئولية، وبالتالى على تحمل نتائج الاهمال كاملة غير منقوصة. ثم ننظر بنفس الدهشة الى الجانب الآخر فنجد عديدا من لأمثال تبدو وكأنها تؤكد عكس ذلك، بمعنى أنها تكاد تفصل بين الفعل ونتائجه، بحيث يبدو الناتج خاضعا لمتغيرات “اخرى” مضافة الى الفعل، أو حتى بديلا عنه.
يقول المثل (مثلا):
أجرى يا بن آدم جرى الوحوش
وغي رزقك لم (2) تحوش
فيخيل إلينا انه – بذلك – يوحى غلينا انه لا طائل وراء الجرى والاجتهاد، مادام الرزق مقدورا ومقدرا، ولكن النظرة الثانية والمتعمقة توحى لى بانه لم ينهنا عن الجرى بل لعه يصر على أن نواصل الجرى، حتى لو كان الرزق مقدرا مسبقا، ومحدد ابتداء، وكأنه يأمرنا بان نجتهد الى أقصى المدى – شريطة ألا تنصور – غرورا – أن جرينا – مهما بلغ – هو السبب “المباشر” للعائد منه، ذلك أن عائد الجرى لا يتوقف “فقط” على شدته وسرعته، بل هو يتأثر حتما، وربما أكثر، بطبيعة الأرض التى تجرى بجواره، عليها، والطقس لاذى تجرى فيه، والرفيق الذى تجرى بجواره، والآخر الذى يجرى فى عكس اتجاهك، والآخر الذى يزاحمك فى اتجاهك.. ثم على المفاجأت التى تفوق حساباتك، وكان المثل اذ يؤكد على ضرورة الأخذ فى الأسباب بمنتهى الجدية والعرق، يؤكد أيضا على ضرورة التسليم بالنتائج، لا الاستسلام لها، فالتسليم هو مبادرة بالتأهب لقرار جديد من واقع جديد، والرزق – بالذات – له وضع خاص فى وعينا الشعبى، وطبيعتنا الزراعية المتصلة بالمناخ وتقلباته وظروف الفيضان ومفاجآت الآفات، ثم أن “الرزق” لا يعنى أساسا “كم الكسب” كما يطل فى وعى الغربين ومقلديهم المعاصرين لكنه يتطرق الى خصوصية الاكتفاء الآمن الدافع الى الرضا الفاعل، فاذا كان الأمر كذلك، وأصبح “الرزق” مرتبطا بالوعى “بالعائد” وفاعليته للوجود الفردى المتميز – فأن هذا المثل يرشدنا الى أن هذا “الرزق” (بهذا المعنى) يكاد ينفصل عن الجهد المبذول فيه، وعن كم الفائض المغترب عن احتياج صاحبه، وأن كان يتطلب كل الجهد ويستعمل كل المتاح – والمتأمل فى اصل كلمات “السبوبة”، و”المتسبب”، لابد أن يلحظ هذا الاستعمال الخاص لكلمة “السبب” ومشتقاتها، ليس بمعنى العامل المحدث للنتيجة، وأنما بمعنى “السبيل الميسر لجريان الأقدار فى مسارها” فالبضاعة لدى المتسبب (المتجول عادة) ليس لها قيمة فى ذاتها، وأنما هى سبب يجرى من خلاله توصيل الرزق الى صاحبه، وبغيرها لا يصل الرزق، وهى – فى ذاتها – لا تكفى لأن تكون مصدرا للرزق، بل أنه من بعد آخر، لابد أن نلحظ ما للزرق من قوة جاذبة فى ذاته، يتوازى هذا مع قولهم:
كل لقمة تنادى أكالها
فهذا المثل – من حيث لا ندرى – يكشف عما يمكن أن يكون علاقة غائية كامنة فى معادلة “السعى /الارتواء“، وكأن فى الهدف قوة موجهة متناغمة مع السعى إليه، وكأن التاكيد على الفعل المندفع (جرى الوحوش) لا يصح أن يغيب عنا تواكبه مع الجذب الغائى (المقدر) – ثم انظر معنا الى كلمتى “تادى أكالها”، فهى لا تذهب غليه، فلا تعفيه من السعى اليها، لكنها ” تناديه”– وهكذا يتأكد لدينا ما تقصده هذه الأمثال ومثلها م محاولة نفى “المباشرة” بين “السعى” و” عائده”، دون الاقلال من قيمة السعى وضرورته، ودون المبالغة فى فيضان الرزق سلبيا، فاذا انتقلنا خطوة أخرى الى أعلى لأمكن تصورنا ذلك القانون الأشمل الذى يضفر الجهد مع عائده فى اطار التكامل فى قانون يحتويهما معا، وبذلك تنتقى هذه العلاقة المختزلة التى بالغ فى قيمتها غرور الانسان المعاصر بتملكه آلات الحساب بتركيزه على الجانب المادى من الانتاج، وهكذا ينتقى التناقض بين تقريع الموال وبين هذا المثل العامى كما يبدو لأول وهلة.
3- ثم تناقض آخر يحتاج الى وقفة أخرى، فالموال اذ يدعو الى التخطيط تبعا لقانون يقينا من الأهمال، يكاد يعارض – ولو ظاهريا – تلك الدعوة التى يدعو اليها المثل الأخير بقوله :احيينى النهاردة وموتنى بكره فدعنا نتأمله أكثر، اذ نقرأه (نعيشه) أعمق: فنجده – ويا للمفاجأة – لا يطلب لذة عاجلة على حساب مكسب حقيقى آجل، ولكنه يؤكد على ضرورة “الحياة” الآن، حتى لو كان الموت هو حتم (أو تهديد) الغد، فهو يعرى هذا الجزء من وجودنا الذى يؤجل “الحياة” ليربط بدايتها بتحقيق مكسب معين (شهادة، مال، سفر … الخ) فى حين أن السعى الى الهدف وليس مجرد تحقيقه هو فى ذاته حياة، فالحياة هى “الحركة الى” وليست “الوصول عند”– فحين يرفض المثل تأجيل تعميق الحياة واستطعامها الآن، تحت عنوان أنها سوف تأتى غدا، وحين يغامر بأخذ الفرصة، فيعيش، الآن، حتى “هددوه” بأنها الفرصة “الأخيرة”، حين غدا لا يأتى ابدا، لأنه سوف يقول نفس المثل حين يصبح “بكره” هو “النهار ده” باعتبار أن كل “بكره” له ” بكره” وكأن الوعى الشعبى بذاك – قد ضحك على الموت، وكأنى بالمثل يرفض الاغتراب فى كذبة الوعد بالتأجيل، تأجيل الحياة .. لا تأجيل المكسب أو اللذة أو الارتواء، أما حياة الآن أو لا حياة ابدا. وحتى يتضح المعنى أكثر فلنتصور عكس المثل:” أمتنى اليوم وأحينى غدا” أنظر الخدعة والكذب، اذا هل بعد “هذا” الموت حياة، الحياة تولد الحياة و “غدا” هو الذى عليه أن يتأجل لأنه لا يأتى “فغدا هو: “النهاردة” فى زمن آخر.
وثمة بعد ىخر أحسست به من نبض المثل الأعمق وهو بعد التحدى، فقد قرأت المثل بعد أضافة “أن كنت جدع”:
أحينى النهاردة، وموتنى بكره (أن كنت جدع)
هذا وقد سمعت الاستعمال المتعجل لهذا المثل فى موقف لا أنساه، فمازلت أذكر جمال عبد الناصر وهو يعايرنى به (فى خطبة له فى بور سعيد قبل 67 بخيبتها القوية)، كان على ما أذكر يمن علينا بأنه يريد “أن يوظف الأولاد ويسكنهم ويزوجهم” (والأولاد هم الشعب فهو الوالد التمام)، وأن ذلك التأجيل والتخطيط، ثم استشهد بهذا لمثل يلومتا على استعماله، كما تصور. بمعنى استعجال تحقيق اللذة الفورية، ولن أدخل هنا فى شعورى تجاه وصايته، واستهانته، وكذبه، بل أكتفى بأن أصف رفضى للتأجيل، وخاصة تأجيل “ماهو حياة” .
فقد اختزلت الحياة فى فكر هذه الفترة الى ظاهر الحاجات الأولية، حتى بدون أساس أو امتداد، ولعل الفرق بين قراءة هذا المثل ايجابيا، وبين قراءاته سلبيا،و هو الفرق بين ما قد تعنيه كلمة “حياة” عند بعض الناس، وما قد تعنى عكسه عند البعض الآخر، ويبدو لى أن ” المرحوم” كان من الذين يتصورون أن من يطلب “الحياة” الآن، هو من قبيل من يطلب رفاهية لا لزوم لها حاليا، حتى لو تضمن مطلبه مخاطرة مواجهة الموت غدا، ولم أستعبد أن تكون المسألة برمتها اسقاط فى أسقاط((3))، وقد بدا لى أنى أتصور أنهم برفضهم هذا المطلب (أحينى اليوم … الخ) أنما هم يختارون لنا العكس، أى يميتونا اليوم بالاعتمادية،و المكاسب المليئة بالحماس الأجوف، وبظاهر بناء الشكل دون الجوهر، لنموت غدا بالهزيمة وتقويض البناء بلا اساس، يفعلون ذلك فى نفس الوقت الذى يعايرنى فيه المرحوك طيب الذكر بأنى قصير النظر حين أطلب الحياة اليوم، نعم أماتونا أمس فمن يحينا اليوم.. خاصة أن البديل الذى جاء من يعده، كان – رغم ظاهر عكسه – هو الوجه الآخر لنفس العملة؟؟
3- ثم تناقض ثالث نواجهه ونحن نقرا الموال، وهو يوصى بعدم “نقضيه الجيب” (انا كل ما اعطيك تفضى الجيب، وانا مالى) فى حين نقرأ مثلا آخرا يقول العكس.
اصرف ما فى الجيب يأتيك ما فى الغيب
وبالتمادى فى الدفاع عن الوعى الشعبى نرجح أن الصرف قد لا يكون مرادفا للتبذير، بل قد يشير الى تنيشط حركة القرش يحفزه الى مغامرة الصرف، والتصرف، حتى أو كان العائد فى ضمير الغيب، فتحريك راس المال يحتاج دائما الى اتخاذ قرار محفوف بالمخاطر حتما، كما أنه لا يليق بنا أن نفهم كلمة “الغيب” كما يفهمها الغربيون، باعتبار أن الغيب هو المجهول، أو الخرافة، أو الميتافيزيقا. ذلك أن الغيب فى الوعى الشرقى عامة، والاسلامى خاصة،هو “حقيقة” أخرى مكملة وفاعلة، وفى الاسلام يتقدم الايمان بالغيب على الايمان بتفاصيل اخرى ظاهرة للعيان، فهذا الغيب الذى يرسل لى ناتج صرفى هو من قانون الحياة (الحركة)،الغيب ليس “سلبا” لما نعرف (كما هو عندهم) ولكنه “حقيقة” ما لا نعرف، وبهذا التفسير يكون المثل دعوة الى عدم “التخزين”، وحبس القرش فى الجيب أو تححت البلاطة، خوفا من المجهول، فهذه دعوة الى الحياة والحركة اطمئنانا الى أن الغيب هو فى جانبنا – جانب الحياة – وليس ضدنا ولا هو – دائما – متربص بنا.!!
وبهذه القراءة (المتحيزة حتما) لا نرى تناقضا حقيقيا بل تكاملا لقوانيين الحياة، واصرارا على دوام الحركة والمسئولية معا.
5- يقول الموال: أعمل لنفسك “قانون” – ونحن لا نتصور القانون الذى يوصى به الى الوعى الشعبى للوقاية من الاهمال والاتكال والتبرير – لانتصوره قيدا على الحركة، بقدر ما نتصوره وعيا متكاملا بالمتناقضات، وقد حاولت – لاهيا فى البداية – أن أستجيب لأموال وأضع لنفسى “قانونا” مناسبا من واقع نبض الوعى الشعبى لاذى يغرنى الآن، فجاءت صياغته على الوجه التالى:
أولا: تمهيد: بعد الاطلاع على هروبنا فى ادعاء المثالية، وعلى التأجيل الممتد وأوهام التاريخ،و على التخدير المنظم، المقصود منه والعفوى، ودون المساس بالقوانين الأطول عمرا ولا بالاستراتيجية الحركية المنطلقة يتنبه على شخصى الضعيف، مما وصلنى من وعينا الشعبى، بما هو آت:
ثانيا: نص القانون:
مادة (1) أن أنكسف على دمى، وأحسم أمرى وأحدد وضعى:
الآن وليس غدا.
مادة (2) أن أقبل الممكن المتاح بشجاعة القادر المستمر الواثق من استراتيجية ممتدة.
مادة (3) أن انظر فى مرونة متحفزة الى نتائج الخطوات المتوسطة أولا بأول، محافظا على الاتجاه الأمامى مع التعلم الدائم.
ثالثا: المذكرة التفسيرية
- بالنسبة للمادة الأولى (الحسم والوضوح): فقد سبق أن أوردنا ما يؤكد ضرورة “الحسم” مهما كان الواقع مؤلما او جاثما وقد استشهدنا بالمثل:
” اللى بدك تمضيه اقضيه، واللى بدك ترهنه بيعه، واللى بدك تخدمه طيعه”
وبالنظر فى هذا المثل – بالاضافة الى ما سبق ذكره فى العدد السابق – فأننا نأتنس – تفسيرا للمادة الأولى – بالتأكيد على الحسم والوضوح “الآن” وليس بعد، لكننا نحتاج الى وقفة مؤلمة أمام” اللى بدك تخدمه طيعه” فلماذا أخدمه ولماذا أطيعه؟ وأى حسم فى هذا؟
وفى البداية نرى أن الاعتراف بالضعف هو الطريق الى القوة، وأن الطفل الذى يافس أباه ابتداء، لاينمو أصلا، وأخيرا فان الأمر الواقع الذى يفرض أن يكون معنى الخدمة هى الطاعة المعلنة، هو اعلان لطبيعة علاقة صعبة وربما ظالمة، لكن هذا الاعلان فى ذاته هو بداية حركة جدلية تتجاوز: مثل هذه الصعوبة، وهذا الاعلام هو ضد العبودية السرية، وأوهام المساواة، فطاعة العبد للسيد اذا امتدت الى مداها فهى أنما تحيى الجدل الهيجلى بين العبد والسيد، وحين يتألم التابع من التعبية، لابد وأن “يخطط” للتخلص منها، وفى تصور تطبيقى: لو أننا اعترفنا بطبيعة المعونة الأمريكية (وقبل ذلك السوفيتية) – اعترافا صعبا شريفا، لما صرفنا مليما فى استهلاك أو رفاهية، بل فى انتاج وبناء، هنا تصبح الطاعة مبعث الألم البانى دون الاختباء تحت لافتات التعاون الدولى وتبادل المصالح، وهذا الألم هو الخليق بأن ينبه التابع الى ان يوجه قرش السيد الى تحريره لا الى تخديره، وهذا ما يقوله ناسنا سبقا لكل علوم الاقتصاد المستحدثة:
أداين وازرع ولا تداين وتبلع
2- بالنسبة للمادة الثانية: (الممكن المتاح: للقادر الواثق)
لعل أصعب ما يعلمنا اياه المثل الشعبى، هو هذا التواضع فى المطالب، الذى لا يبرره ولا يؤمنه الا الوثوق بلاقدرة المتنامية، وحسن توجه الحركة، مع اليقين بوصول الحق لأصحابه، وفى هذا يتعارض ” المثل الشعبى” (عامة) مع فعل الشعر: فى اتجاهه لقهر المستحيل، ولكنه تعارض مظهرى ومرحلى، فقبول الممكن ليس بديلا عن طلب المستحيل،و لكنه استعداد لخوض غمار المسئولية بقوة متنامية، والأمثلة المؤكدة لذلك التفسير تتواتر بلا حصر، خذ عندك – مثلا -:
أ –ألعب بالمجرى لما يجيلك البندقى(4)
ب – ألعب بالمقصوص لما يجيلك الديوانى
جـ – تجمز بالجميز حتى يأتيك التين
ولابد أن نلاحظ كلمة “ألعب” فى المثل الأول والثانى، فهى ليست كلمة “رضا” أو “توقف”، ولكنها حركة شطارة وتيقظ ، أما كلمة “تجمز” فهى منحوتة بلا معنى محدد لتترك لك أن تستقط عليها ما تشاء من معان، المهم هو ارتباطها بكلمة “جميز”، أى أن تناول كل شئ يكون بحسبه تماما، لا أكثر ولا أقل، غير أنى أرجح أن اقارئ لابد أن يشاركنى رفضا كثيرا أو قليلا لاستعمال أفعال “يجيلك” “يأتيك” فهى تعطى شعورا بأن “المسألة” فى يد “آخر”، أكثر منها نتاج قبول الممكن والصبر عليه – ولكن قد يخفف من هذا الشعور أن هذه الصيغة ترجح “حتمية” النتيجة، أكثر مما تؤكد على انتظار “فاعل” قادم بالحل السهل، بمعنى أنه ما دمت قد رضيت، وقدرت، ولعبت، وتحركت، فى اطار الواقع الحالى، فطبيعى أن ينتج منه ما تريد، يأتيك نتاجا لصبرك النشط ، وهذا ما يمكن أن اسميه: الانتصار الفاعل، أو الصبر الحركى، وهو نوع الصبر الذى هو على يقين من النتيجة النهائية ويتمثلها ويعلنها بهدوء وتحد مهما اختفت معالمها خلف سحب الشك وأوهام المثالية، وهو الصبر الذى يزيح الدخيل من طريقه، بالمقاومة السلبية، والاهمال.
اصبر على جارك السو، يايرحل يا تجيله مصبية نأخده
فالدخيل – محتلا أو حاكما ظالما – لايبقى جاثما على قلب شعب رافض، يقظ، ساخر، متحفز، ولعل هذا الأسلوب الواثق فى نتاج حصيلة الزمن الممتد، هو سر ثبات الشعب المصرى فى مواجهة محتليه والمستبدين به على حد سواء(5)، وكأنى بهذا لاشعب يجرب حكامه مثملا يجرب أحذيته، كأنى به يستعملهم وهم يتصورون العكس.
” ألبس خف واقلع خف لما يجيلك خف”
فصبر هذا الشعب هو حركته فى الممكن المتاح، وثقته بالحق الراسخ، وصداقته للزمن الممتد، الزمن الذى طوعه لارادته بترسيخه لفكرة الخلود، وعظمة الهرم الأكبر – عندى – هو انه ذلك الاعلان الماثل أمام وجدان البشرية أن وحدة الزمن عندنا لييست هى “ساعة الحظ”، ولا “انتخابات الرياسة”، ولكنها وحدة الحركة المتواصلة بين الأجيال، بل بين الأحياء، ولا أنكر أنه قد مر بى امثلة أخرى لا تطمئن، ولا تسمح لى باتمادى فى هذه الحماسة الدفاعية، فليس من الصبر النشط، ولا من التحفز “المتحرك فى الممكن” أن يقبع الواحد منا ساكنا فى كمون لا يستجيب الا لفعل فاعل خارجى، كما يوحى المعنى الظاهر للمثل القائل:
خيلك فى عشك لم ييجى حد ينشك
فاذا تماديت فى الدفاع، واعذرونى، لقراءة هذا المثل باعتبار انه تحذير من فساد السكون، وانذار بأن الهرب الساكن لا يدوم، اذ لابد سيأتى من يقتحمه، فتواجه مصيرك بضعف الخائب، ما لم تستعد لهذه اللحظة أو تغامر بالسبق الى المبادرة، ومن هذا المنطلق الدفاعى اقرا هذا المثل هكذا “أن كنت شاطرا” خليك فى عشك، ولسوف يأتى – حتما – من ينشك(6).
3- بالنسبة للمادة الثالثة: (مرونة التعلم ودوام التقدم)
ثم أدرج فى المذكرة التفسيرية للقانون ما يكمل المادة الثانية، أذ لا يجعل الانتظار (بالحركة فى الممكن) آمنا لمجرد أنه يقظ او متحفظ او خطوة ضمن استراتيجية طويلة معروفة، ولكن – ايضا – لأنه انتظار يحمل القدرة على التعلم من نتاج الخطوات الوسطى، والأهداف الجزئية، فحين أتجمز بالحميز، وألعب بالمجرى، لا أفعل ذلك لاهيا او متلقيا مطمئنا الى حسن النية وسلامة العاقبة، فالتين لا يأتى، والبندقى لا يظهر الا من خلال الفعل المستمر مهما بدا صغيرا، والتأكيد على ذلك بلا حصر، ذكرنا بعضه فى العدد السابق ونضيف (مثلا):
الأرض مش شهاوى
دى ضرب عاكلاوى
فالأرض هنا هى الزراعة، والضرب على الكلاوى هو وجع الظهر من طول الانحناء للرى والعزق … الخ.
والمسألة لا تحتاج فقط للجهد المتعب، ولكن ايضا للحذق الماهر، ماذا والا ….
مايموت عالسد الا قليل الفلاحة
فأن تحقق الهدف الوسيط – بالجهد والتعب والحذق والمهارة – استمرت المسيرة فى نفس الاتجاه، واسرعت الخطى، وان أخطات الهدف فلا مفر من المراجعة بكل الألم والحرص على التعلم:
أ- أن طاب لك، طاب لك، وأن ما طاب لك حول طبلك
ب- أن كان فى العمود عيب يبقى ما لأساس
جـ – أن كنتم نسيتوا اللى جرى، هاتوا الدفاتر تتقرأ
ومع كل هذا التعلم المرن، والتقدم المصر،فلابد من تحديد علامات على الطريق حتى لا يسرقنا الزمن، فالانتظار المتحرك فى الممكن لا ينبغى أن يسحبنا مخدرين الى ما لا نهاية، فثمة علامات تفرق بين ايجابية التحرك فى الممكن، وخدعة التأجيل العاجز.
أن كانت ندت كانت ندت مالعصر
فالسماء الخالية تماما من السحاب الواعد، فى جو قائظ، لايرتجى منها – فى بلادنا خاصة – أن ترسل الغيث بلا علامات، وبالتالى فأن طال الانتظار ولم تظهر العلامة (ولكل موقف علامة) فلا مفر من التغير والتحرك وأعادة الحساب.
وبعـد
فلكل قانونه، وتبريراته، و هذا هو ما استوحينه من تراثى: ألتزم به، وأفهم من خلاله من يشاركنى فى اتباعه، وأحسب أنى استجيب “لأمر” الموال من خلال استهلام وعينا لاشعبى دون افتعال – وليس دون تحيز -.
وقد تبينت، وأنا أمتب، أن المثل العامى – عندنا على الأقل – هو “قلب الواقع النابض” وهو الثقالة التى تربط أقدامنا بالأرض، وهو – فى نفس الوقت – الطاقة الدافعة التى تحركنا على هذه الأرض (أرض الواقع) – ثم هو النذير الذى نفيره حين ننسى أو نطير أو نحلم.
فمتى ….. ؟ متى يكون “ذلك” “كذلك” ؟.
[1] – يقال أن أنا مالى هنا تفيد “أنا أملا” (جيبك) وهى غير أنا مالى الأولى التى تعنى “ليس من شأنى” تحمل مسئوليتك، وأن كان هذا التمييز ليس ضروريا من وجهة نظرنا.
[2] – لاحظ استعمال حرف “لم” وليس “لن” للمستقبل.
[3] – حين تعرى قصر النظر بمصيبة 1976، ثن بتعرية خراب البنية الأساسية (الصرف – تخطيط المدن … الخ) أيقنت احتمال صحة تفسيرى بالاسقاط.
[4] – المجرى والمقصوص نوعان من الدنانير أدنى من البندقى والديوانى.
[5] – هناك مثل أقل تصويرا لهذه الثقة، وأقل اشارة الى ايجابية الصبر وان كان يحمل نفس الاتجاه
اصبرى ياستيت لما يخلى لك البيت
[6] – هذا اذا لم يكن هذا المثل يؤكد على فائدة الكمون الاختيارى، وترجيحى أنه لا يفعل ذلك، لأن الكمون الاختيارى لا يحتاج لمن يقطع حضانته (بأن يهشه) – لذلك فالموقف التحذيرى هو الأقرب للتفسير الذى ارتضيته.