قصة
القطـار
عصام اللباد
جلس عبد الصبور، كعادته تماما منذ سنوات طويلة، متربعا فى نفس المكان بجسده الضخم وقد انحسر المتسخ عن قدمين غطت جلدهما السميك طبقة من طين جاف وقش مطحون وتراب ناعم.
كان مستندا برأسه الثقيل، وظهر رقبته الموحل، وكتفيه إلى عارضه السور الحديدى المعوج، الذى يفصل طين البلدة ودورها الرمادية عن طريق القطار حيث تنطلق – فوق قطع ضخمة من الخشب الصلد أحجار البازلت السوداء المفتتة – قضبان القطار الحديدية قوية، متوازية، تلمع تحت ضوء الشمس الصفراء حتى آخر المدى البعيد حيث تبدو الأشجار هناك صغيرة.
منذ سنوات طويلة جدا، لا أذكر عددها، وعبد الصبور يلقى بنفسه فى تلك البقعة، لايتكلم، ولايتحرك، ولايفعل شيئا.
فى نفس المكان كان ينعقد السوق، ينعقد وينفض، يأتى ناس ويذهب ناس، وفوق المكان تتحرك الشمس، تنتقل من الشرق، تتعامد، ثم تغرب، وتغلق أبواب الدور فتضاء المصابيح، ثم تتحرك الشمس، وتطفأ المصابيح، وتنفتح أبواب الدور، وعبد الصبور فى بقعته.
وأيضا لم يتخط السور المنخفض أبدا.
. . . . .
. . . . .
كنا نلعب، أنا، وعبد الصبور نفسه، وأحمد الصالح، وعباس الأخرس، وأبو شومة ألعابا من اختراعنا وتسميتنا عندما ولولت النساء فى دار السيد صقر رزه، وانطلق نحيبهن، وصراخهن من النوافذ الضيقة والأبواب المرتفعة التى فتحت كلها لينفذ الصراخ والعويل، وصعدت أم ستيت – التى تضرب العجين فى الدور وتخبز بأجر وتسرق الدقيق – إلى سطح دار السيد صقر رزه وهى تولول وتنثر القش والتراب فوق رأسها وكأنما مات زوجها السيد الخبيث الذى تزوج بأخرى عليها، وقد كانت تتمنى موته ستة أيام فى الأسبوع حتى يأتيها فى اليوم السابع ويطرحها فوق الحصيرة اتقاء الفضيحة.
صعدت بالتالى نسوة الدور المجاورة كلها إلى الأسطح المفروشة بأكواز الذرة وبالقش، وأخذن يولولن بهمة، ويبكين بصوت منظم وهن يفرطن حبات الذرة عن أكوازها.
حضر نفر من الرجال، مروا بنا، هشنا أحدهم بيده لنتوقف عن اللعب والعويل اللعب، سمعنا أحدهم يقول: “أكل القطار عبد العزيز رزة”.
ضحكت جدا بدون صوت الا صرير أتى من قاع الزور وأنا أحاول كتم ضحكى، فقد كان الرجال جادين للغاية، فتصورت أنهم مثلى تماما يصدقون أن القطارات تأكل، وتفطر فطيرا، وتدخن، وتشرب الشاى.
سرنا متمهلين، منتصبين فى جد كالرجال حتى تعديناهم، فانطلقنا نعدو فى لذة الخوف وفرحة الاكتشاف، لنرى ما تركه القطار من عبد العزيز رزة، وقد كان فخذا، ومشط قدم، ونصف رأس سفلى، وكوما آخر.
. . . . .
. . . . .
عندما قابلت أحمد الصالح بالقاهرة وهو يجرجر ولديه بحثا عن أحذية رخيصة للعيد، سألته عن بلدتنا، ومعارفنا، وعن عبد الصبور بصفة خاصة وبمواربة.
طمأننى عن الجميع، وعن أن عبد الصبور مازال ببقعته لا يتحرك.
وطمأننى عن نفسى.
. . . . .
. . . . .
بعد ساعات قليلة أنهى سويف الكبير الاجراءات اللازمة، وخرج رجال البلدة كلهم وراء نعش صغير، يهدرون خلف صوت الشيخ منيسى المدرب: “لا اله” فيرد الجمع الغفير ” . . الا الله” ، ” وحده الدايم”، “هو الله” . وسارت النساء تولول فى ملابس سوداء خلف صفوف الرجال.
كنا نسير صامتين فى صفوف النساء.
. . تركنا بقايا عبد العزيز رزه فى حفرة، ردمت، وبللت بالماء، ودكت رقيقا بظهرى فأسين.
. . . . .
. . . . .
أذكر ولم انس أبدا، أن القطار الشره قد أكل بعد ذلك أجسادا عديدة : امرأة الخميسى، وسعيدة بائعة العسلية وقراطيس الحلوى، وولد عم محمود خفير حديقة موالح الشيخ فياض، وقد كان أبلها ضعيف العقل، ومصباح سويف أول خريج جامعى فى بلدتنا، وآخرون أذكرهم جميعا وأذكر بقاياها، وبمناسبة الأكل هذه، فأنا أذكر أيضا أن طاحونة الغلال أكلت ذراع عبد اللطيف الأحنف، وكف سمارة بنت حامد السقا، منذ أعوام، كما قرمطت السيور أصابع كثيرين منهم نوسة التى كنت مفتونا بشعرها الأبيض، وحواجبها البيضاء، ورموشها البيضاء، ولون جلدها الأحمر، وكنت أراها جميلة للغاية، ولم أفهم أبدا كيف تكون وهى خجولة، وفى حالها، وضعيفة، عدوة الشمس.
بعد أن أكل القطار مصباح سويف أول خريج جامعى من بلدتنا، أقام أهل سويف وساعدهم أخرون ذلك السور الفاصل المنخفض، من قضبان القطار القديمة التى كانت قد تلفت، فانتزعت، وألقيت منذ زمن عند منخفض البر الشرقى للمصرف البحرى الكبير.
كان السور منخفضا ومعوجا، لم يمنع الحمير التى تفر من الحقول عائدة وحدها إلى الدور، ولا راكبى البغال، ولا السائرين من تخطيه، كما لم يمنع بالطبع الخراف والماعز من المرور تحت عارضته، ولا الدجاج الذى اعتاد التجول بين القضبان والتقاط الحشرات والمسامير وأشياء أخرى من بين صخور البازلت هناك.
وقد بدا لى أنه خلال العشرين عاما عمر السور، فان وظيفته لم تكن سوى منع عبد الصبور من تخطى حدوده، وأنه صار مسندا لرأسه الثقيل، وظهر رقبته المتجعد المتسخ.
كبرنا جميعا، تصاحبنا والقطار الشره، دخلنا بطنه عندما أردنا، انتقلنا به، وتسلينا من نوافذه، وخرجنا من بطنه فى أماكن أخرى.
اختلفت طرقنا، فعمل أحمد الصالح فى مكتب سجل مدنى الحلوات، وصار مستشارا للبلدة فى كل أمور الأوراق الرسمية، والطلبات والدمغات، وأيضا شئون السياسة، وشيد عباس الأخرس كشكا صغيرا للحلوى والسجائر داخل المحطة، وسافرت أنا الى القاهرة بعد حصولى على الشهادة وعملت بأحد مصانع حلوان، أما أبو شومة السيد، فقد صار مدرسا فخما سافر إلى صحراوات البترول وعاد بسيارة بيضاء ذات مصابيح أمامية عريضة، واشترى نصف أرض “أبو دومة” الذى تلف عياله، وتصرمحوا بالأسكندرية والقاهرة فى شئون غير العمل، فمزعوا الأرض فيما بينهم بعد موته، ثم باعوها وانقطعت اخبارهم.
أما عبد الصبور، الباقى منا، من ثلة اختراع الألعاب ولم يتصالح مع القطار، فقد توقف عن اللعب عندما توقفنا، ولكنه لم يكمل معنا دروس كتاب الشيخ منيسى، وكان دائم السرحان فى فصول المدرسة، وانقطع، وعمل فى أعمال كثيرة فلم يفلح. واختفى عن بالى سنوات، ثم عاد، وقد تغيرت هيئته فامتلأ واتسخ، وتجنبنا وتجنب الناس . . ثم حط منذ سنوات عديدة إلى بقعته عند سور القطار ويتعداه . .، ولا يتحرك، ولايفعل شيئا.
دخلت بطن القطار، وجلست إلى أحدى النوافذ أرقب كعادتى عبد الصبور فى بقعته؛ كان كما هو فى بقعته الميتة.
كنت قد مررت به ليرانى، فرآنى.
هبط من القطار اناس كثيرون بأقفاص، ومخال، واكشاك الدواجن.
ازدحمت الساحة حول عبد الصبور، ككل يوم، بالناس وبضاعتهم.
استقرت حوله أقفاص كثيرة من الجريد، رقدت بداخلها دجاجات وديكة متعفرة، مربوطة الأقدام، وانتشرت بالمكان المزدحم رائحة ريش وعرق.
طوى صادق الفرارجى جناحى كل فرد من أفراد الحمام، وشبك ريشها الطويل ببعضه حتى لا تقوم، وألقاها فوق سطح قفص عريض، فمالت إلى صدورها وقد انتفخت حوصلاتها المملوءة عمدا بالماء الذى يثقل الوزن.
أخذت الحمامات تلهث من القيظ والتراب وتخمة الماء، وأخرجت ألسنتها الرفيعة ترتعش.
سحب رجلات بقرة سمينة إلى وسط الساحة، أثارت بحوافرها ترابها وعفارا دقيقا ذا رائحة، وأخذت تطوح رأسها الصلبة، وترعش جلد بطنها السميك لتهش الحشرات التى تراكمت فوق جرح طازج.
ربط الرجل الأطول حبلا وشده إلى الساقين الأماميين، ونشر دريسا جافا على الأرض، أخذت تلوكه بين ضروسها، وسال لعاب لزج فوق فكها السفلى.
تبرزت البقرة سائلا ثقيلا وقشا ذا رائحة بجوار عبد الصبور .
نشرت بائعة عجوز قفصا من الخيار فوق حصيرة.
ثبت محمود القصاص عمودا رأسيا به خطاف، تدلى منه نصف عجل مذبوح، استقرت فوق لحمه ودمه ذبابات كبيرة الحجم.
امتلأ المكان بالأقفاص والدواجن والحيوانات، والناس.
هبط آخرون من القطار.
ودخل القطار ناس كثيرون.
كنت أرقبه من النافذة عندما قام .
قام عبد الصبور، فى هذا اليوم بالتحديد من بقعته
قمت من مكانى.
كان جسده رأسيا . . وكانت رأسه أعلى من عارضة السور.
صمتت كل الأشياء، تناثرت.
تحرك عبد الصبور.
سار ثقيلا وضعيفا، مال إلى فراش الخيار.
كان منحنيا عندما نظر إلى القطار الحديدى، وربما إلى نافذتى.
تناول احدى الخيارات. سبته المرأة وهى تناوله أخرى.
ضحك عبد الصبور بشدة حتى ارتجف، وارتجفت.
اهتز القطار، ترجرج، تكتك.
سار عبد الصبور بطيئا، ضعيفا، رفع قدميه وتخطى السور.
ناديته كثيرا على ما أعتقد. .
خطا وهو يضحك بشدة، نظر فى وسط عينى، واتجه إلى فم القطار ناوله نصف الخيار.
أكله القطار كله، وضحك جدا جدا .