يحيى الرخاوى طبيب نفسى
قراءة بعد القراءة فى ذات الخبرة
سيد حفظى
المقدمة:
أولا أود أن أشير إلى أننى لم أستطع منع نفسى من محاولة البحث عن خط يصل بين القصيدتين فى كل مرة حاولت فيها أن أقرأهما، وهذا بالرغم من أننى لا اعلم هل الكاتبة وضعتهما هكذا متصلتين متتاليتين أم أنهما عملان منفصلان. ثانيا: أريد أيضا أن أوضح أن قرارى بصياغة رؤيتى فى كلمات مكتوبة كان لاحساس ملح، فاجأنى، بعد قرائتى لقراءة الأخ الناقد وليد منير النقدية. وتكرر هذا الاحساس لدى كلما حاولت اعادة القراءة ولو على فترات متباعدة أو فى ظروف مختلفة. هذا الاحساس هو أنه بقدر ما يمكن أن يعتبر نقد أى عمل أدبى فى حد ذاته ابداعيا، الا أنه بنفس هذا القدر يمكن أن يكون سجنا قالبا اطارا يقيد ويحد من ثراء النص الأصلى.
الرؤية:
ارى اعتدال عثمان فى هاتين القصيدتين فى حركة مستمرة دون توقف، وهى ليست سكونا بالرغم من أنها حركة داخلية. فذاتها وكياناتها الداخلية المتعددة تموج – بدون استسلام – بمعان هى فعل فى حقيقتها وغايتها.
ففى القصيدة الأولى تعبر بوضوح عن علاقة متبادلة بينها وبين مكونات الكون الطبيعية. كما أننى لا أرى هناك تقابلا أواستقطابا ممثلا فى الموقف الداخلى فى مقابل الموقف الخارجى عن الذات، وان كان يمكن اثباته من خلال تحليل ألفاظ معينة، فاننى لا أراه اطارا تدور فى رحاه الحركة المتعددة الاتجاهات؛ فعلى العكس، أن الكتابة أشارت فى بعض الأحيان إلى أن موقفها هذا ليس نتيجة لقهر الخارج : “النوايا” – “الخطايا” “كم شهوة وأدت”. كما أنها بعد أن قالت:
“وقفت على شعرة الصمت . . .” قالت ” وكنت قد تخطيت الركب واليابس . . .”.
أى أن وقفتها هذه تالية لتخطيها للمرطبات الموجودة وهذا كله كان بعد أن:
“. . . وعرفت حكمة الرحم . . .”
ثم تجئ “الكلمة”، فكيف يكون تفسيرنا
لــ “هم قتلونى كلمة فكلمة” . . . ثم ” واسكن الكلمة . . .” ؟
ثم “واجعل منها جنات رحمة . . . وشوكة . . . “؟
لقد جعلت الكاتبة الكلمة تعيش وتفعل وتتحرك وتتخذ موقفا . . فهى مم تسع لتسكن الكلمة حتى السكون – عدم الحركة – اللاموقف – الراحة – الهروب، ولكنها هى الوسيلة الوحيدة للتواصل بين البشر، وللتعبير عما بداخلهم حتى لو كان فى صورة أدبية أو فنية أو حلم . فاستطاعت بهذه الطريقة أن تجد منفذا للحرية “وإذا بى أقفز عاليا فانقطع قيدى” من كافة القيود التى تكبل قدرتها على الابداع والتفكير بطريقة مختلفة عما هو موروث، فقالت أولا:
“ها أنذا صمت غادرة الكلام . . . ” ثم أعقبتها بعد فترة :
“وإذا بلسانى قد فارقه العى، ونطق بدر الكلام . . .”
فاستطاعت باقتدار أن تصور لنا هذا التداخل بين عالمها الداخلى وتعدداته وصراعاته وبين عالمها الخارجى بجباله وأمواجه ونجومه.
” . . . ولحمى وعظمى تثار فى هبوب الرياح”
” . . . وجاءت الريح من ورائى فحملتها كما الهباء ونثرتها على التلال”
وكان الحلم هو المخرج لها. لكنها لم تكن نائمة أبدا، أى لم تكن هربا وخلاصا.
فلقد قالت:
“وفى عتمة الليل السرمدى
غاب منى الوعى فنمت،
وكنت يقظة،
وبين الصحو والمنام جائتنى يمامه . . .”
وفى هذا ليس هذا كله من قبيل التأرجح فى تيار الشعور، فاللغة المستخدمة باتقان فى القصيدة الثانية شديدة الشبه بلغة الأحلام، كما أن الحركات التصويرية شديدة الشبه بصور الأحلام.
لكنه ليس حلما لنائم، وليست به تقطيعات أو جمل غير مفهمومة أو ناقصة أو معان مبتورة. فاعتدال تؤكد، وهى ممتلكة لناصية الموقف، أن الصراع ليس بين الداخل والخارج، لكنه بين الداخل والداخل، وهو متعدد المستويات، وهو فعل وحركة أكثر منه شعر . . .
فبعد أن تخطت سجن الكلام اكتشفت سجنا آخر وهو سجن الجسد:
“انتصب بينى وبينك غول نصفه أنثى ونصفه ذكر”
“حط عقاب هرم”
وهنا تظهر لها
“يمامة بنية وقفت على أم رأسى”
واليمام – عند ابن منظور – هو هذا النوع من الحمام الذى يألف البيوت – أى أنه مرة أخرى يتجسد أمامنا الرحم “وحكمة الرحم” كما استطاعت بأن تعايشها وتذكرها، وليس هذا هربا من المواجهة الجديدة، لأن “الطريق يمتد والريح تمحو الأثر” ولأنها وصلت إلى صحوة ما
“وإذ ذاك صحوت على الصحراء . . .”
أكثر وعيا من البداية “كفى تقبض بالجمرة” حيث لم تضع نهايات ليسدل بها الستار
“ففاض القلب بسكينة كالياس أو كبلوغ المنى”
“ولم يكن هناك فرخ أو يمامة غير أن الطريق هناك”
تعقيب :
سوف أورد هنا بعض الخواطر التى عنت لى أثناء قراءتى للقصيدتين وماتلاهما:
1- بحساب عدد الكلمات – او المواقف – التى تشير إلى الانطلاق أو التفتح وجدتها:
الصعود – نجوم السماء – ذرات رمال الصحارى – قطرات مياه البحار – عابر فى الدنيا – مذ خرجت من رحمة الرحم – تثار فى هبوب الرياح – طلعة نجمة الصباح – أقفز عاليا فانقطع قيدى – تفجر منى – حملنى موج المحبة – أثداء تدر أنهار – صنعت خبز المحبة وناولته اياك – تتحرك فى كل اتجاه – وطارت – اذ تمت للفرخ قدرة الدفع – فتق بساقه السطح – خرج من رحمة الرحم – يخرج منها جيف لاحصر لها – حملتها كما الهباء ونثرتها على التلال.
وبحساب الكلمات أو المواقف التى تشير إلى العزلة او الانغلاق وجدتها:
تقبض – أسكن الكملة – العمق العميق – السكون البهيم – شعره الصمت – لم أستطع بيعا ولا شراء – أيمم وجهى شطر الصحارى – فى صحراء القلب – لا أحد – يرتد إلى الصدى – الصحراء هى الصحراء على امتداد البصر – سواد الصحارى عن يمينى . . “
أى أن المواقف التى تشير إلى التفتح تغلب فى النص، كما أن التكرار الأقل تواترا للألفاظ التى تشير إلى العزلة يوضح أنها تميل إلى أن تكون الصورة الباهتة والى ضعفها.
2- أتساءل هل هذه العزلة – هنا – واد للشهوات، أم أن هذه الشهوات فشلت فى حل المشكلة بالرغم من أنها سوف تستمر استمرار الصحراء فى طلب اشباعها؟