الهبوط إلى صحراء التتار
إعتدال عثمان
وقفت على شعرة الصمت بين الصدى والصوت، وكنت قد تخطيت الرطب واليابس، والمر والحارق، والدنيا من حولى سوق بضاعة زاهية. ولما لم أستطع بيعا ولا شراء طويت العمر الكاسد فى حبة القلب، وقلت أيمم وجهى شطر الصحاري.
وفى عمق الصحارى عصرت نبيذ القلب وصنعت خبز المحبة وناولته اياك، وحين مددت لى يدا، انتصب بينى وبينك غول نصفه أنثى ونصفه ذكر. ثدى الأنثى لا يدر، وسيف الذكر صدئ لا يقطع، وبطنه ملئ بنفايات البشر. وأنا أعصر الضرع فلا يلين. وأهز السيف فينالنى غبار الصدأ وعين الغول تطق بالشرر، والشرر لا يحرق، ولا تكف العين عن قدح اللهب. ويده الرخوة تتحرك فى كل اتجاه، وجوفه ينبعث عفنا لا يطاق والصحراء هى الصحراء على امتداد البصر. والغول يطلب رأسى، ورأسى معلقة بخيط كشعاع ضوء خبا.
وعلى خيمة القلب حط عقاب هرم أنفت الريح أن تحمله منذ نسى عشق الأعالى، وأخذ يرقب سهام الزمن ترشق الطير، وحين تهوى ينقض على جيفتها بمخلب فهم ليس له رى أو شبع.
وأنا فى صحراء القلب لا أحد، أنادى نجمة الصبح فيرتد الى الصدى، عميقا كما حبى ضائعا مبددا. وأنت أيها القاضى تطعم عمرك الصديان نبيذ القلب وخبزه، فلا الصوت يصلك ولا الصدى بمنثن.
وأنا على الشعرة الحرجة الفاصلة، سواد الصحارى عن يمينى، وسواد الصحارى عن يسارى، ومن أمامى رؤوس تحجرت عظامها، فوقها رؤوس تقف على أكتاف رؤوس خاوية. وعلى القمة يقبع الزمن، رأسه ملكى، وجسمه وحشى وهرم الرؤوس من تحته يئن ويتشقق، والموت آت من جهات الصحارى، والملك الوحشى يرقب ويبسم أسيانا لمجهول يعرفه.
وفى عتمة الليل السرمدى غاب منى الوعى فنمت، وكنت يقظة، وبين الصحو والمنام جائتنى يمامة بنية وقفت على أم رأسى، وأشارت بمنقارها الذهبى الى رمل الصحارى، وطارت. ولما مست ساقها الرهيفة أديم الأرض انزاحت الرمال قيد أنملة. وفى المكان الذى مسته وضعت بيضة.
ولما مست البيضة المكان انزاحت الرمال قيد أنملة. ونقر فرخ البيضة فتصدعت قشرة الصحارى وانزاحت الرمال قيد أنملة. واذ تمت للفرخ قدرة الدفع فتق بساقه السطح وخرج من رحمة الرحم، وأخذ ينقش الرمال باشارات هينة، واليمامة تسير وراء الفرخ وترسم علامات تبين هونا فهونا، وأنا أسير وراء اليمامة والفرخ وأدب قدمى فتنغرزان فى الرمال وتشقان طريقا على صفحة الصحارى والريح من خلفى تذر الأثر .
والطريق طويل وفى كل خطوة تتلاشى من الغول عين، ثم قدم ثم تنفثئ بطنه كفقاعة هائلة يخرج منها جيف لا حصر لها، ينهال عليها العقاب قضما وتقطيعا، وكلما نهش منها جيفة سقطت من جسمه ريشة، ثم صار قطعة لحم متغضنة نتنة، ما لبثت الشمس أن قددتها فخف وزنها، وجاءت الريح من ورائى فحملتها كما الهباء ونثرتها على التلال والغول يتضاءل وينكمش ضرعه العاقر، وسيفه الصدئ يتفتت دون أن تمسه يد والفرخ يسير واليمامة تسير وأنا أسير. والطريق يمتد والريح تمحو الأثر.
وإذ ذاك صحوت على الصحراء، والزمن العارف يبسم لى وعينه الحجرية جف منها الدمع ففاض القلب بسكينة كاليأس أو كبلوغ المنى.
ولم يكن هناك فرخ أو يمامة غير أن الطريق هناك والصحراء هى الصحراء بدءا من هذى الصحراء والرمال تتار تهجم الآن وتأتى على نبيذ القلب وخبزه المهرق المباح.