النورى
هالة نمر
فى الطريق الى السوق القديم، فى بلدة تغازل ساحل الشرق.. أخذتنا دروب الى سحيق الزمن والرؤية، الى أرض تنتشل أطراف ثوبها العتيق فى عالم يضل الرجوع… وفى ترحالنا.. ساعين الى وصال البشر، باحثين فيما بيننا وبينهم.. عن قلوبنا وقلوبهم.. آمنين فى طرقات تفيض حكاياتها من جعابنا، وتصحبنا عبر الحوائط الصفراء الكالحة الى حيث تثمر الحلوق…
.. قفز من شقوق أرض الزقاق العتيق طفل بدا كباقى أطفال الحارة.. المشدوهين لوجودنا الذى لم يفهموه كثيرا.. الرامقين عدسات آلات التصوير وهى تلتقط غربتنا وحيرتنا.. بدا طفل الشقوق من عمر يقرب أعمارهم.. وتكاثر الأطفال.. تأهت ملامحهم.. وماتزال الحوارى الدودية تنز أطفالها بلهفة، وماتزال.. الأفواه قضم القمر..
ـ.. بدا طفل الشقوق كباقى أطفال الحارة، طرح زمن الآه والحسرة يكومهم الترحال فى سلال خشنة.. يتزاحمون.. يتهرسون.. تهترئ أياديهم الصغيرة.. تتفقا عيونهم… تتسع أفواههم.. تلوكهم العلة…، ويكبرون فى السلال..، عكازات محنية…
بدأ النورى الصغير جائعا جوع رفقته الى عزوتهم الضائعة فى السجلات الحكومية.. فيسألون عن بطاقات هويتهم ويذهبون.. شاردين يحملون العابهم القديمة ويرددون الحكايات القديمة ويرتمون فى العيون الطيبة..
كان النورى يبدو مثل الباقين.. لكن هناك شيئا ما مختلفا وقاسيا أوقفنى منذ اللحظات الأولي، شيئا يفتقده باقى الأطفال، أو.. يفتقده الصغير…
كان اسمه خالد.. ابن أحد النور ممن يحيون الأفراح الفقيرة، ويرتزقون فى بلاد الناس.. أخذتنى عيونه الى آفاق أبعد من طفولته المهمومة.. لم أعد أرى غيره فى الساحة، نسيت كل الأطفال المتعلقة عيونهم بنا، ورحلت مع خالد.. إليه.. سلبتنى عيون تبصق فى الحلوق المسبية، تسخر من العيون الباهتة وتنطق بالردة.. أسرتنى عيونه المتفجرة نقمة وحرمانا وكفرا.. تنبش وسط القاذورات والمخلفات الحديثة عن حصان خشبى وطوق مدلل.. تبحث عن ألوان الطيف وتتندى برخات المطر المودعة، ولا تكف عن انتظار العيد الذى لن يأتي.. ولا تكف عن هرس الديدان الحمراء فى حلوق من يسألونها اللعب كالأطفال.. يفتش خالد عن طفولته وعن حاله..فيلعن.. ويجرى بعيدا ساخرا من صرخات أطفال السوق القديم ومن ضحكاتهم الساذجة.. يركض بعيدا.. وحيدا.. الى آخر الزاوية، يمد يديه.. لا يبكي.. ولا يبتسم.. تتوارى دموعه واشراقه وجهه وراء جوعه وكرهه.. و.. غضبه..، تنحفر فى وجهه ملامح ضالة، تستنزف أعوامه الخمس…
.. أدنو منه.. أداعبه.. أملا صدرى من حزنه، فيفيض من صدرى حزنه.. أفتش عن بعض من طفولته.. أغتصب من فمه المصرور بسمة.. أشعل له قنديلا أخضر، أطوف به فى الحارة.. ويظل خالد ينوح صامتا، ويبغى الرحيل.. وأظل أرجو انفجاره……
.. يفيقنى دبيب الأطفال بعيونهم النهمة، التى مازالت متعلقة بنا.. تخنقنى الأتربة المعجونة بروائح عطارة الدكان القريب، تلسعنى شمس أول الصيف.. فأتذكر الحارة والسوق القديم، الأطفال المبعثرين، آلة التصوير فوق كتفى الخدر، استعجال الرفاق لي، ملل الصغير وغربته، انقباض خطوط وجهه الغضة وتقلص الكلمة على شفتيه..أتذكر أنى خاوية اليدين، وأن خالد يهواه الزمن السليب.. وأنه.. يفيض حنينا الى داره وفرشته وصبر أمه المكومة فى الزاوية….
أفاقنى الفلس، وحال خالد الذى لم يتغير وأن زاده السؤال حيرة.. وطيبة.. حينها فقط، أيقنت أن الالحاح فى نبض أحزانه شهوة سخيفة…
لملمت أشيائى الصغيرة، وبحثت كثيرا.. عن كلمات أخيرة.. قبلت عيونه الملقاة على أرض الحارة، وأدرت ظهري.. سألته بعد التحية والسلام، إن كان يريد شيئا.. أخيرا….
وكأنى قطفت له القمر ووضعته بين يديه، نبت على وجهه الصغير برعم أخضر، نوار ربيعي، واتسعت عيونه … صمت .. فأشرق سماره البحري، ولأول مرة، يقفز خالد كالأطفال ويجرى بعيدا .. يحمل زاده ويشرد فى تجاويف الأزقة الصفراء وراح خالد يشترى كوبا كبيرا من البوظة الطازجة .. التفت متلهفا، دون سلام.. وأوصاني… بكعكة واحدة.. كبيرة..،.. ارتميت على حجر كبير، واشتهيت البحر.. ضحكت كثيرا..،… وارتميت على حجر كبير….
على كتفى الة التصوير.. وفى جعبتى عشق نوري.. تحملنى قدماى الى لقاء آخر.. وعند أول السوق القديم..تعثرت فى أطفال الحارة، ولم يكن خالد بينهم… كان قد ذهب ليشترى كوب البوظة الطازجة…. وضحكت… ضحكت كثيرا……..