الناس والطريق
(9) الطريق إلى الناس
يحيى الرخاوى
السفينة: أدرياتكا- البحر: الأبيض، الزمن 10/8/1986
يشاء السميع العليم أن أسجل بقية هذه المعايشة، وأنا “أعبر” من جديد، حواجز الذات، والبحر، والناس، والرواسى: الرواسى من الجبال والهموم والجشع، فهذا الفصل أكتبه فى نفس السفينة أدرياتيكا، على نفس المقعد، ولكن بتوجه آخر، وتكشف آخر، أما التوجه فهو إلى “تثبيت” بعض ما كان واختباره، ثم الإضافة أو تعديله.
و قبل ذلك وبعد ذلك، فإنى قفزت الى هذه الرحلة الجديدة دون سابق إعداد، فى محاولة جاهدة أن أنتهز فرصة مأزق دفعت اليه نفسى، حتى أضطر الى أن أقدم على قرار “ما”، ذلك القرار الذى ظل مؤجلا مؤجلا، واعدا مؤملا، ثم هو لا يأتى أبدا، فقلت: “أقفز”، ثم لابد من قرار يمكننى من النجاة، فكانت هذه الرحلة الجديدة، بهذا الهدف الجديد، أما “التكشف“، فهو أنى حسبت أنى بتكرار نفس الرحلة سوف أتأكد أن الأمور قد تغيرت، وقد وجدت ذلك منذ البداية، فأنا لست أنا الذى ذهب فى المرة الأولى، يلقى بنفسه حيث لا يدرى، فيدرى ما أراد مما لا يعرف أنه أراده، لكننى هذه المرة أجد نفسى أكثر هدوءا، وأقل فى عنف التلقى، وهذا سئ بعضه، أو سئ كله لست أدرى، الرحلة مفاجئة، والصحبة محدودة زوجتى فقط) فالأولاد سوف نلتقى بهم بلضعة أيام فى أثينا ثم يرجعون لنستمر نحن الى حيث أريد أن أتخذ القرار، ليس قرارا واحدا، بل قرار فقرار فقرار، وقبل ذلك لابد أن أحدد ولو “المجال” موضوع القرار- فمما لا شك فيه وأنى منهك تماما، وأنى أتقدم فى العمر، وأنى لم أنجز شيئا مما تصورت – وأكده لى آخرون – أنى قادر على انجازه ومما لا شك فيه أنى طرقت كل الأبواب، وتكلمت بكل اللغات (عدا لغة التشكيل بالخط واللون، والموسيقى ) فتمكنت من لغة العلم وحذقت اللعب بأدواته، وحللت شفرة اللغة الأدبية فى معظم تجلياتها، فقلت ما أتيح لى قوله بكل لسان، ومما لا شك فيه: أنى حققت فى مهنتى ما أتميز به، وأحيانا أفخر به- ولو بينى وبين نفسي- ثم إنى حققت من خلالها قدرا من الأمان المادى، لى ولبعض طلبتى ولأولادى، مما يمكن أن يعفينا من اضطرار الاغتراب، ولافتات الجامعات، وميكنة المعرفة، حققت ما يسمح لي- الآن مثلا- أن أتوقف لأنظر، “ فأقرر”- ويستحيل على من مثلى أن يقرر بمعنى أن يحسم أمره بالنسبة للخطوة أو الخطوات التالية، فأنا أسلم نفسى كل صباح لخطوات متتالية من الواجبات والطلبات و(المطالبات) ((1)، فيستلمنى هذا ليسلمنى الى ذاك ساعة بعد ساعة، وعيادة بعد جامعة، وصحيفة بعد مستشفى، وإبنا بعد كتيب، ومجلة بعد ندوة، وجمعية بعد جماعة، ثم أجد نفسى فى نهاية اليوم “ شيئا متبقيا“، وقد أفرغ طاقته فيما يفيد (أى والله) فأنا مازلت أعتقد أنه – بالرغم من ذلك- فإن إيقاع يومى العادى مفيد بشكل ما، لكنى أتأكد أن هذا الشئ “ المتبقى” لم يعد به ما يقف بذاته لذاته، كما أنه لابد عليه أن يغيب عن الوعي- فيما يسمى النوم، وفى الفترة الأخيرة كان نومى هو حياتى، فأنا أشعر أن داخلى يتقلب بحرية أكثر وسهولة أرحب وانفعالات أعنف: داخل نومى، أكثر مما تسمح به يقظتى، لكن ما أن يسحبنى الصباح من مرقدى حتى أمضى مستسلما لاهثا لا أستطيع أن ألملم ما تحرك فى، أو ما تحرك بى، فأجد نفسى وقد استسلمت للنهار التالى بنفس الخطوات المتتالية من الواجبات، والطلبات (المطالبات ) فيتسلمنى هذا فيسلمنى إلى ذاك … حتى أصل إلى ضرورة غياب الوعى ولو ظاهريا- فيما يسمى النوم- لا أسلم نفسى … وهكذا، وهكذا- والإشكال عندى ليس فى أنى لا أفعل شيئا طوال يومى، وليس لأن أحدا يفرض على ما أفعله، بل لعل العكس هو الأصح: لعلى أنجز فى اليوم الواحد ما يعجز عن إنجازه عشرة فى مثل مواقعى، كما أنى وصلت فى وظيفتى وعلاقاتى الرسمية إلى ما يجعلنى لا أفعل- فعلا- إلا ما أختار، وهذه درجة من الحرية مرعبة ومرهقة، لأن هذا القدر من الحرية، مع هذا الكم من الإنجاز يقربنى أكثر وأكثر من مواجهة مسئوليتى عن وجودى ومحاسبة نفسى عن حقيقة إنجازى، وحين أعلن بعض أفكارى هذه على بعض من حولى .. مترددا خائفا، أواجه بما أتوقع من أنى لابد “طماع” لا يرضينى “كل هذا “ فكان لزما على أن أجمع نفسى قهرا وفورا، فأنتقل بها الى حيث قررت أن “ أقرر”
أقرر ماذا ؟
و قد كنت عائدا لتوى من “سانت كاترين”، وهى بلاد برة “ الجوانية” بالنسبة لى، عرفتها بعد رحلتى السابقة (1984) واعتزمت أن أخصص لها ولما حولها وما تحويه من باطن المعانى والايحاءات، أن أخصص لكل ذلك الفصل الأخير من هذا العمل، فمصر كما ذكر لى أحد القراء- أولى، ومصر التى لا نعرفها أولى فأولى، وقد فكرت أن تكون عزلتى لاتخاذ القرار، هناك، فى حضن الجبل بجوار الدير، لكنى شعرت أنى أعجز من ذلك، لأنى مادمت فى متناول الأيادى والطلبات والمطالبات ..، ومادمت فى حدود إمكانية العودة فورا ..، وفى نفس اليوم، فأنا لست معتزلا بالقدر الذى يمكننى أن أخلو إلى نفسى حتى أستطيع أن “ أقرر”
وقد قربنى من ضرورة “ القرار” الجديد الآن، وليس بعد، ما عشته من خبرة الرحيل مع صديقي- كما شرحت فى الفصل قبل السابق- مما لامنى عليه بعض قرائى، وهم هم الذين سبق أن لامونى على سعادتى البادية فى الرحلة، فعادوا يلومونى هذه المرة على رسالة الغم التى فاحت منها رائحة الموت التى فرضتها عليهم فى الفصل قبل السابق فراحوا يتهمونى أننى إستخسرت (على حد تعبيرهم) أن يواصلوا صحبتى بقية الرحلة، آملين باسمين، مكتشفين، مبتهجين (معى)، فما اعتذرت لهم لأنى ما أخترت ما جائنى، فقد فرض الموت نفسه على وعليهم باعتباره أعظم أشكال الرحيل، وأخطر غاية يسعى إليها الناس (رضوا أم لم يرضوا، وعوا أم لم يعوا) حيث ينتهى بهم الطريق كل طريق- ذلك الموت الذى جعلنى أتأكد من حقيقة عجزى، وضآلة “فائدة” وجودى “هكذا”،تلك التى اضخمها أحيانا لدرجة أبرر بها استمرارى” هكذا” فما أن صدمنى الموت بعد الموت (جاهين بعد صديقى) حتى قررت أن أبادر فأقرر، قبل أن يقرر لى أحد دون أذنى.
فأنا ذاهب هذه المرة كى أقرر قرارات وقرارات، أشعر أنها نضجت فى داخلى، فلم يبق على ظهورها إلا أن تتفتح لتظهر فى جو ملائم، بعيدا عن ظلام القهر اليومى، وضدجذب المطالبات المتلاحقة.
فما دام الأمر كذلك، ومادام القرار هو حتم الآن، فلا بد أن أتيح لنفسى الفرصة حتى أختلى بها لأسمح بما “تم” أن “يكون”- فأخذتها هنا، لنرى:
و حين وصلت إلى الميناء وكنت قد ألفت الإجراء ات من المرة السابقة فقلت الدهشة وفتر التأمل، طلبت أن أثبت على جواز سفرى آلة تصوير”فيديو” (لا أفهم فيها شيئا، على وعد من ابنتى بتعليمى هناك)، اصطحبتها معى هذه المرة مستجيبا بذلك لرغبة غير رغبتى، لكننى اقتنعت مهزوزا أن ما يهزنى من جمال قد أستطيع أن أرصده، فأحتفظ به، فأعاود الرجوع إليه، أو ليتمتع به غيرى ممن لم تتح لهم فرصة مشاهدته عيانا بيانا وقد حسبت- نظريا- أن هذا من بعض فضائل التكنولوجيا الأحدث، رغم انتفاء الود بينى وبينها فى معظم الأحيان، فقال لى رجل “الجمارك” أن على أن أدفع تأمينا “ الشئ الفلاني”، ولم أكن مستعدا، ولم يكن هناك من يودعنى أصلا حتى أطلب منه ذلك “الشئ الفلاني”، فقررت أن أرجعها، وكان الوقت يسمح أن أذهب الى المدينة وأعود بدونها، العجيب فى الأمر مما لم أتوقع هو تلك الراحة العميقة التى شعرت بها وأنا أتخلص منها، وقد كنت قد اقتنيتها مرغما أملا فى تسجيل بعض الحالات النادرة للتدريس عليها، أو لتسجيل بعض جلسات العلاج الجمعى بالصوت والصورة، مما لا يحدث أيضا بالدرجة المقنعة، فما زالت الخبرة البكر الحاضرة هى المادة الثرية الصالحة، وهى التحدى المتجدد المستمر، أما حالات المتاحف وتلقين الخبرة فهو أمر بعد وأنا أكتب مثل هذا الكلام، لكن بمجرد أن أصدر قرار الحظر، رتبدت لى الصعوبات، فتخلصت منها، فشعرت بتلك الراحة، التى جعلتنى أكتشف أنى كنت رافضا إياها رغم كل الحجج والتبريرات، ثم إنى رحت أراجع عزوفى شبه الدائم عن هذه الهواية الطيبة “ التصوير”، فرغم أنها تحمل الذكريات، وتحدد الجمال، وتثبت اللحظة، وتحتفظ بالأثر، إلا أنى لا أشعر بقيمة كل ذلك، بل لعلي- من عمق معين- أجد أن الصور بكل أشكالها (تصوير ورقى، أو شرائحى، أو سينما، أو فيديو) قد تأخذ الانسان- أحيانا- من الطبيعة أخذا، وقد تكون بمثابة التوقيع فى دفتر”تشريفات الطبيعة “ مما قد يفيد فى إثبات “ الحضور والانصراف” ليس إلا، حتى أنى حين تماديت فى تمثل هذا الجانب السلبى، شعرت- مخطئا فى الأغلب- أن عملية التصوير هذه قد تحل محل التقاط الصور بالعين الإنسانية المجردة، فإنضاجها بالوعى الجمالى اليقظ، ثم هضمها لتنمو بها من خلال إعادة معايشتها فى إتساق جميل، وكأن هذه الآلات قد جعلت بعضنا (أو أغلبنا) بدلا من أن يلتقط الصور بكل حواسه وما بعد حواسه، فيضيف إلى ذاته وجودا إلى الوجود، جعلته يلتقط “ذلك” بعيون منفصلة عنه، ثم يحمضها (لاحظ الفرق بين كلمتى التحميض والإنضاج)- فاكتشفت أنى أفضل أن أكون أنا- بقلمى، أو بدونه- آلة التصوير ومعمل الإنضاج وستوديو النمو (لا التكبير)، فلا تحل محلى هذه التكنولوجيا الحديثة، وأنتبه فجأة الى التحفظ الإسلامى على عملية التصوير هذه للأشخاص خاصة، وكيف أنها أخـذت على الإسلام باعتبار أنه تخلف، وضد الفن … الخ، ورغم أن ظاهر التحفظ ينهى عن تصوير الشخوص دون الطبيعة، ويفسرون ذلك بتجنب محاولة خلق ما ليس فى اختصاص البشر خلقه، أو خشية عبادة الرمز دون الله، فإنى استلهمت من راحتى بالتخلص من هذه الآلة الأحدث، ومن تفضيلى أن تكون حواسى وخلاياى، هى آلة التصوير الأدق، أقول إنى إستلهمت من هذا وذاك بعض معنى هذا النهى الاسلامى، معنى يتصل بمحاولة الإسلام دائما أبدا تعميق الفطرة البشرية وإزالة كل العقبات التى تحول دون نمائها ونقائها، فلعل الإسلام لا يريد أن تحل الصورة المصنعة محل الصورة الحيوية النابضة، من يدرى ؟
***
و قد جعلنى هذا الخاطر أواجه تساؤلا ذا دلالة: لماذا يهيج على إسلامى كلما ابتعدت عن المسلمين الخطباء والمفسرين والحاكمين والدامغين، ويذكر القارئ فى هذا العمل كيف أني”عثرت علي” معنى للتأكيد على رؤية الهلال بالعين المجردة لتحديد رمضان (فالعيدين ) – كان ذلك فى باريس، حيث صرت بعد خجلى من إختلافنا، نحن المسلمين، مع علم الفلك، صرت حتى وجدت أن الاسلام يصر- من حيث لا ندرى – على ضرورة الإبقاء على هذا التواصل الحى المباشر بالطبيعة الدورية – المتمثلة فى دورات القمر هنا-، بغض النظر عن حسابات الفلك، وتيقنت أن الله- سبحانه- لا يهتم إن صمنا يوما زيادة أو يوما أنقص عن شهر فلكى بذاته، بقدر ما يؤكد الاسلام ضرورة إحترام حواسنا، وأن نتبع – جميعا رؤية “ أحدنا “، حتى من عامة الناس، حتى ولو كانت محض خيال عابر، ثم هأنذا أكتشف- حالة كونى مسافرا ممنوعا من اصطحاب آلة التصوير- عمقا آخر لنواهى الاسلام يساعد على تنمية الفطرة حتى لو اضطررنا، ولو بعض الوقت، لحظر إستعمال كل ما يحل محلها (محل الفطرة) لو كان ذلك سيعيننا على النماء والتطور، لذلك خطر ببالى أن يكون التصوير تصويران، أحدهما يبرز، ويعمق، ويحرك، ويذكر: بما يفجر الابداع ويلهم التجاوز، وهذا حلال وعبادة، والآخر يسجل، ويسطح، ويغرب، ويحل محل، فيعفى الإنسان من معايشة صوره الذاتية الداخلية، فهو حرام (و الله أعلم) والحلال والحرام هنا ليس بمعنى الجواز والمنع، ولكن بمعنى الإقبال والادبار (!!!.) فإنما يعلن الحلال ويحدد لتسهيل إيقاظ الفطرة للإقبال عليه، وإنما ينبه الحرام ويحدد، لا للعقاب والترهيب أساسا، وإنما لإرشاد الفطرة النقية للنفور منه أو من الصورة السلبية التى قد يحملها. وأى تشويه للفطرة على المنابر وبالفذلكة يقلب الآية، وأى تنقية للفطرة، لابد أن يهديها إلى حلالها وحرامها هدى النجوم إلى مسارها.
وإنى هنا أقر وأعترف أن إسلامى (فطرتى) قد هاج على بمجرد إستنشاق ريح السفر هذه المرة، فهو لم ينتظر حتى أختلى بنفسى، وأواجه تحدى الاستعلاء والأحكام، فتثور فطرتي- إسلامي- فى مواجهة الاختلاف والاقتحام، ذلك أنه قد حدثت صعوبة أثناء إستخراج تأشيرة دخول ايطاليا، فوجدت نفسى محتجا متظلما مستعينا باسم سفيرهم الذى لا أعرفه، وكنت قد التقطت اسمه “جيوفانى ميليولي” أو ما شابه من صديق بالخارجية، فما أن سمعني” عم محمد” من خلف السياج الحديدى وراء الشباك الصغير للقنصلية ذلك بعد أن صرفنى عدة مرات-إلى غير وجهه- ما أن سمع إسم السفير على لسانى حتى بدا وكأنه يتساءل: من أين لك هذا؟ فأدخلنى فى تعجب، وبعد سؤالى له “شاخطا” عن القنصل أو من ينوب عنه، حسبنى الرجل من عليه القوم، فأدخلنى حيث لا يدخل أى من المصريين الباحثين عن تأشيرة تعينهم فى جرعات المذلة وفرص العمل شهرا أو بعض شهر، أو عاما أو عمرا بأكمله، فدخلت فإذا بالبهو صامت رغم ما أعرف من ثرثرة الطليان، ثم دخلت إلى حجرتها، فشرحت مسألتى للسيدة الرقيقة (رقة الخواجات) المتوحشة الدافئة الدسمة (مثل الطليانيات)، فطيبت خاطرى فورا حتى أنى لم أضطر الى نطق اسم السفير ثانية خوفا من الخطأ، ووعدتنى خيرا، وخيرتنى بين أن أجلس فى البهو الصامت أنتظر التأشيرة اليوم، أو أن أعود غدا أستلمها دون مشاكل، وعدا صريحا منها، ففضلت الانتظار طبعا، إذ من أدرانى بالغد، وعصفور باليد، وسنيور كرايسكى يذهب على أهون سبب، فلا مانع من أن يتغير السفير- الذى لا أعرف عنه إلا اسمه- من هنا للغد، وجلست، وجلست، وبحثت عن شئ أفعله، فلم أجد معى لا صحيفة ولا كتيب ولا ورقة، فقط قلم جاف رخيص، وكل المطبوعات على المناضد بالطليانى، ويدخل متظلم أو اثنان، ولا أميل لمحادثة أحد، ويمر على طليانى أو طليانية من العاملين، فأبتسم، فلا يعيرونى إهتماما، وحين إنتهت كل التعبيرات العابرة، وجدتنى أجلس وحدى لمدة قد تمتد إلى ساعتين (بل امتدت إلى ثلاثة) فقد أمضى الوقت فى التأمل، فتأملت، ثم حاولت أن أفرغ ذهنى إستعدادا للرحيل، فأفرغت، وتصالحت على بعض من أسأء فهمه، ثم هجمت على فجأة جدولة مقارنة تفرق بين الوجود الإسلامى والوجود الغربى، فسألتها: “هل هذا وقته؟” فألحت، فاقتحمت، فأخرجت القلم الجاف الذى كان قد تهرب خلسة إلى جيبى، ولم أجد ورقا فأخذت أسجل أفكارى على طرف أو ظهر كل بطاقة أجدها فى محفظتى، بغض النظر عن صاحبها أو طبيعتها، وجعلت أحدد رؤوس النقاط التى ينبغى التمييز فيها بين ما هو غرب (بما فى ذلك روسيا!)، وما هو إسلام، وعددت فى ذلك ثلاثة وعشرين مسألة من أول “الهدف” حتى “القضاء والقدر” مارا “بالجنس” “والعلاقة بالآخر” “وطبيعة المعرفة”، وقلت فى نفسى “هكذا إذن؟“، وطال الوقت فأخذت أعيد قراءة ما كتبت فى هذه العزلة العابرة فوجدتنى قد غطيت كل ما يمكن أن يشغل فطرتى حول “الغيب” “والموت” “والعامة” “والحرية” “والكلية” “والامتداد” “والتوازن” وغيرها..، ويطول الوقت فأسأل نفسى هل هذا هو الاسلام الذى تلقنته منهم؟ أم هو ما أطلق عليه “اسلامي” أنا; فطرتى التى فطرنى الله عليها، والتى تتفجر منى حين تقطع عنى رسائل تدعيم الاغتراب، اذ تتوقف عجلة الروتين وإلحاح المطالبات؟ وأؤجل الرد عازما العودة الى الاجابة يوما، ولكنى أتقبل تساؤلا أخف: ما الذى يهيج على إسلامى فور سفرى ((2))؟ أو حتى قبل أن أسافر، بمجرد أن أهم بذلك؟. أترانى أحتمى به من أى تشويه لوعيى يمكن أن يغمرنى دون حساب، من فرط البهر، والإعجاب بهم؟ أترانى أتخلص من آثار عدوان المتدينين الشكليين، من المسلمين الثلجيين، فتنطلق فطرتى تعلن إسلامها أمام غرور الغرب وزهوه بانتصاره المزعوم على الطبيعة، واحتكاره الغبى للتاريخ؟ وكنت قد سألت إبنى الأكبر – وهو رفيق رحلة من نوع آخر – هل أكتب – فيما أكتب – عن الإسلام، فقال دون تردد، وهو مسلم ولكن بطريقة خلاقة، قال “طبعا” وهو نادرا ما يبادرنى بالرد، أو الموافقة، إلا هذه المرة، وكأنه يعلن حاجته وحاجة جيله أن يسمع من مصدر آخر، وبلغة العصر، يسمع وصف ما أودعه الله فينا من فطرة نقية، نشوهها مرة بالتكنولوجيا، ومرة باختزال ديننا الحنيف إلى “طرحة”، أو “لحية” أو حتى “ظاهر شريعة”، وكأن ديننا الجوهر قد لصقوا عليه لافتة “لا يتعاطى إلا بواسطة الوصاة” أو لافتة مثل أدوية الجلد تقول “يستعمل من الظاهر”، قال إبنى “طبعا” وكأنه يتصور أنى قادر بما سأكتب على الوقوف فى وجه هذه الموجة التجارية والهروبية التى أغرقت الصفحات بمداد ومعلومات أشد سوادا مما كتبت به، حتى الكتاب الأحرار الكبار أمثال زكى نجيب محمود وحتى يوسف ادريس لم تفتهم فرصة الكتابة فى هذا الاتجاه، وأنا لا أتهمهم بالنفاق أو ركوب الموجه، ولكنى أعذرهم لتقهقرهم أمام تقدم السن وإحاطة المخاوف….، سواء كان الخوف من الوصاة على الفكر، أو من اقتراب الموت، وهم إذ يغازلون الإسلام أكاد أسمع باطنهم يقول: بما أننا لم نفلح – قديما – فى أن نتحول عنه، فمن أدرانا؟ الحيطة أوجب!! ثم خذ عندك محاولات التسوية بالحلول الوسطى، فأجلت حتى الآن الكتابة المباشرة فيما أملته على فطرتى فى إسلامى، فلا أحد سيقبلنى، ولا أحد سيسمعنى، وقد أستدرج مثلهم الى حيث لا أحب حين أضطر للمسايرة والالتفاف، فلو أنى قلت إسلامى، ومضيت، فأول من سيشوه فطرتى المسلمة هم المسلمون الأوصياء، هذا لو ظهرت كلها أو بعضها على غير ما يحفظون ويكررون، وقد تصورت – بعد هذه الخبرة فى السفارة الإيطالية – وأنا أسافر هذه المرة أن أصحب جارودى، وفكـار، والقرضاوى، وقطب، والغزالى، وأن أفرغ فى هذه الأـجازة لأجيب إبنى – وجيله – على طلبه، لكنى عدلت، وقلت أطلق لفطرتى العنان، ثم أقارن – أو يقارن غيرى – بما شاؤوا، كيف شاؤوا.
***
وقبل مغادرتنا القاهرة، فى نفس يوم الرحيل، كان على أنا وزوجتى أن أعود جارة قديمة لنا، أصيبت بشلل نصفى قبل سفرنا بيومين، ونقلت إلى مستشفى حديث يملكه ويديره بعض أقاربى من المتدينين المستثمرين الأطباء المهرة، فذهبت فى زى الرحلة، وهو زى غير مناسب لمثل هذه الزيارة وسط هؤلاء القوم، وقابلت إبنة عمتى الطبيبة الأستاذة المديرة الفاضلة، فأوصيتها بجارتنا خيرا فى غيبتى، حيث أنى مسافر اليوم. فقالت إلى أين؟ فقلت ما يعنى: أتعرى فى الجبال فى حضن الطبيعة بالقرب من الله، قالت فهو “الحج” (ونحن فى الخامس من ذى الحجة) ففكرت أن أجيب بالإيجاب، والأغرب أن زوجتى كان قد خطر ببالها أن تجيبها دون تفكير- ودون كذب- أننا فى سبيلنا إلى الحج، وقد شعرت أننا صادقين وأننا حين أدينا الفريضة، كنا – تقريبا – فى نفس حالة التجرد للتلقى، ورحت أتساءل هل يا ترى يتفجر الإسلام الفطرة فى قلوب الحجيج هكذا كما يفجره السفر إلى بلاد الله لخلق الله، وهل يا ترى – بعد أداء الفريضة – تنفع الحجة تلو الحجة فى الاقتراب من الفطرة عمق الفطرة هكذا، وغير ذا؟ ولم أتمادى، فالله وحده يعلم ماذا يتفجر فى البشر هنا وهناك، والله وحده يعلم مغزى الحج التكنولوجى فى المشاركة العالمية لمشاهدة مباريات كأس العالم لكرة القدم عبر أقماره الصناعية، وله الأمر من قبل ومن بعد، وللإنسان على نفسه – إن رأى – بصيرة، ولو ألقى معاذيره.
وأفيق لأجدنى وقد تخلصت من تكنولوجيا التصوير الأحدث، تلك التى هيجت فطرتى فاقتربت من بعض ما غمض على من نواهى دينى، ورجعت إلى الميناء وقد تجسد أمامى هدف هذه الرحلة الجديدة، وهو أن “أقرر”، حتما جزما لا بد من القرار، وتمتد يدى إلى زر المذياع فى العربة الخاصة هذه المرة أختبر الموجات الأدق التى هى تربطنى بالعالم أثناء ترحالى، فأسمع من لندن خبر موافقة مجلس الشيوخ الأمريكى على تخصيص مبلغ وقدره 295 ألف مليون دولا كميزانية للتسليج هذا العام، وأن السيد السند ريجان شخصيا ليس مسرورا للتخفيض الذى لحق بالرقم الذى كان قد اقترحه!! كذا؟! كذا؟! فيرعبنى الرقم، ويرعبنى أنه للتسليح، وأراجع نفسى: إذن، فأى قرار أنا ذاهب لاتخاذه؟ وها هو السيد ريجان يقوم عن البشر جميعا بالواجب، فهذه القرارات التسليحية المليارية، لا راد لها، والجانب الآخر – مضطرا أو مختارا – لابد وأن يرد على هذا القرار بقرار “أنقح” منه، ونحن: أنت وأنا، نضحك على أنفسنا بالجرى حول الملعب وكأننا نشارك، مع أن أسماءنا لا تدرج حتى فى الاحتياطى، ثم نضحك على أنفسنا بأن نتخذ القرار تلو القرار، ونحن ننفخ فى بوصة مجوفة ليس لها صفير، وإلا فلماذا التسلح لأمثالنا بالشئ الفلانى، وماذا يحدث لو أن العالم الثالث كله، والرابع والخامس والسابع عشر، رفض أن يتسلح أصلا، أن يدفع مليما واحدا فى هذا العبث المجنون، هل سيخذلنا أصحاب السلاح؟ ولكن هل سلاحنا (بالمقارنة بهذا الرقم) سيمنعهم من إحتلالنا؟ ماذا لو لجأنا الى حرب العصابات فى حالة الاحتلال، ثم سرحنا الجيش وزرعنا الأرض وأخرجنا لهم لساننا، فهل هذا هو القرار الذى أنا ذاهب لاتخاذه؟ “نزع سلاح العالم الثالث والعالم السابع عشر مع زراعة الأرض وإخراج الألسن!!!” – وحتى لو ألزمت نفسى بعالمى الفردى المحدود فأى قرار شخصى يمكن أن أصل اليه دون أن يتأثر بتسليح الولايات الزفت الأمريكية فى العام الواحد بثلاثمائة مليار دولار، ولا عزاء للأمم المتحدة؟ ولكن من أدرانى أى قرار يمكن أن أصل اليه أثناء هذه الرحلة الجديدة، أو فى نهايتها؟ ولماذا أسبق الحوادث، ولماذا أستدرج للكتابة فى رحلة أخرى، لم تبدأ بعد، ولا أنوى الكتابة عنها أصلا لذلك فإنى عائد الى رحلتى الأولى، وإن كانت إرادة السميع العليم قد شاءت أن أكتب نهايتها وأنا حالة كونى فى هذه الرحلة الثانية فلأفعل، وليكن التزامى بألا أحيد عن الأولى، وكنت قد تركتكم ونحن ننهى إقامتنا فى باريس؟
باريس فى 12 سبتمبر 1984:
كالعادة، خرجنا متأخرين عما تعاهدنا عليه، فتركتهم يحمـلون الأتوبيس وجلست على قهوة جوبلان أحتسى قهوة الصباح، وأودع الشارع والمقاعد وزجاج الواجهة وريح الحرية.
وتوكلنا جنوبا جنوبا، وعند بوابة الخروج من ضواحى باريس، ونحن نهم بأن نمتطى صهوة الطريق السريع، أشار الأولاد إلى حيث أمضينا ليلة العيد داخل الأتوبيس بجوار دورة المياه، أشاروا إلى “الموقع” بعتاب وامتعاض، بما يعنى “لا أعادها الله ليلة” فى حين أنى قد خفق قلبى لها (وقلب زوجتى كما أخبرتنى فيما بعد)، وكأن هذا الموقع – بالنسبة لى ولزوجتى – قد أصبح – بمبيتنا فيه تلك الليلة – بعض دارنا، نحن إليها كما نحن الى بيت أمضينا فيه العمر كله، فأى فرق بيننا وبين الأولاد؟ وما الذى جعل الأولاد “هكذا”؟ وجعلنا نحن “هكذا”، أهو العمر؟ أهو طعم تاريخ الشقاء الحلو؟ أهو إستسهال الأولاد؟ أهو أنى بت فى العراء مختارا، وباتوا فيه مقهورين؟ فلعله كل ذلك، ولأول مرة بعد أن عبرنا البوابة ودفعنا “المعلوم” أشار لنا رجل الشرطة أن نتوقف، ثم نذهب ناحية، وقلت لنفسى: حصل، وأخيرا سوف يطلعون على أوراق السيارة، ويا ترى، فلست متأكدا إن كانت تلك الرخصة المسماة بالدولية تغنى أم لا، فقد قرأت المواصفات اللازمة للقيادة فى الخارج، وكلها مواصفات شديدة الصعوبة، لا تغنى فيها تلك الأورق التى يصرفها نادى السيارات بالقاهرة (وغيرها) بلا جدية ولا مسئولية، والشئ الوحيد الذى طلبوه منى – كما سبق أن أشرت – هو الكارت الأخضر الدال على التأمين لصالح الغير، هذا الكارت ليس عند نادى السيارات عندنا فكرة كافية عنه، وهو لا يتعاون مع شركات التأمين العالمية فى استخراجه، قلت والشرطى يشير إلى أن تعال الى جانب وانتظر، ربنا يستر، وصدعت للأمر، وأخذت دورى مع السيارات التى أشير إليها مثلى بالتوقف وكان أغلبها سيارات شحن ونقل، فسألت الجنود الطيبين: “ماذا؟” فقال لى الوزن (ولم يقل العدد مثلا) فقلت فى نفسى الله أكبر!!، صحيح أننا نحمل فوق سطح السيارة ما يجعلنا أشبه بسيارات النقل، لكن كل حمولتنا ليست سوى أدوات التخييم، وصحيح أن عددنا تسعة، لكن من هؤلاء التسعة طفلين، وغالبية الباقين من الأوزان غير المدعومة، لكن المسألة ليست مسألة منطق، فكله بالميزان، وما العمل لو ثبت أن الوزن أكثر، ماذا نترك؟ أو “من” نترك؟ – تخاطب الجندى الطيب مع الضابط الوسيم، ونظر الينا، ولعله قرأ أفكارنا أو ووزننا بعينه الحرة، أليست عين الحر ميزان، وأشار لنا بالإنصراف ومواصلة الطريق دون أن نصعد على “الطبلية” ويزنوننا كما البضاعة أو كما عجول التسمين، وتساءلت عن تلك الأرقام الموضوعة عندنا على العربات النصف نقل خاصة، حمولة “واحد طن”، “واحد ونصف” طن!!! ما فائدة كل ذلك إن لم يكن عندنا نظام مثل هذا النظام للتأكد من الحمولة، فهل نعتمد على عين رجل المرور عندنا التى هى أيضا ميزان، لكنه ميزان تتأرجح كفتاه حسب متغيرات كثيرة لا داعى لذكرها، المهم – ربك ستر – وأشفق علينا العسكرى الخواجة فصرفنا غير موزونين، وهات يا جرى جنونا جنوبا. نفس الطريق الذى جئنا منه من ليون، لكن النهار له عينان، المطر قد توقف، فكشفت فرنسا عن خضرتها اليانعة، والمتنوعة كما أعرفها، وتذكرت رحلة رأس السنة حين كنت فى فرنسا (68/69) والتى قضيتها فى جبال الجيرا، فقفز الى ذهنى إسم البلدة التى عسكرنا فيها، فى مدرسة ثانوية للبنات، دون تلميذاتها طبعا، حيث كنا نعثر بين الحين والحين على بعض الرموز النسائية، فنتمسك بها، ونتضاحك، ونتغامز، وحين تذكرت كل ذلك عدلت خط سيرى حتى أمر على هذه البلد “دول” Dole بعد ديجون Dijon – وأخذت أتعجب من ذاكرتى هذه وكيف استعادت فجأة نبض تلك الأيام، خاصة وأن تلك الأيام – على ما أذكر أيضا – لم يكن لها نبض يذكر، فلست أتذكر أنى سعدت بها سعادتى بذكراها الآن، بل لعلى حينذاك كنت مشغولا بأشياء صغيرة خطيرة حالت بينى وبين ما أسميه الآن نبضا!! فقد كانت القروش قليلة، والخبرة محدودة، والوحدة جافة، والغربة طاغية، والمفاجأة شديدة، لكنى – مع كل ذلك – وحين اقتربت من نفس المكان بدأت أتحسس فى وجودى ذكريات ما، هادئة، رصينة، وقوية، ورائعة، فمن أين جاءت الآن؟ وأنا لم أعشها أصلا هناك حينذاك، وأتعجب لهذا الذى يصر أن يعيش تماما وأصلا فى “الهنا والآن” وأتعجب أكثر لمن لا يعيش أصلا لا “هنا” ولا “الآن” ولا”هناك”، ولا “حينذاك”، واكتشفت أن هذا الكيان الحيوى المسمى بالإنسان، اذا ما تفتحت مسام إدراكاته بقدر كاف، فلم يكتف بأن يدخل العالم الى ذاته من ثقب إبرة التعصب، أو يخرج ذاته إلى العالم مترجمة إلى ما يعرفه عنها، يفرضه عليها، إذا لم يفعل هذا أو ذاك، وتفتحت مسام إدراكاته كما قلت، فهو عائد إليه يتجول فيه مرة ومرارا، حتى يهضمه، بعضه أو كثيرا منه، وقد جعلت أتأمل مناظر مرت بى منذ أكثر من خمسة عشر عاما، وكأنى أكشف عنها هى هى فى داخلى بكل التفاصيل التى ما حسبت يوما أنها وصلتنى أصلا، ويعاودنى الحقد الوطنى – ما كل هذه الخضرة!!! كل هذه الزراعة، فائض الفاكهة، فائض الألبان.. وقد سبق أن تواترات أفكارى إلى مثل ذلك فى يوغسلافيا وسجلته فى هذه الرحلة، لكنى عدت أذكر هذه المقارنة لأنها ذكرتنى بحديث لاحق جرى على لسان زميل لنا أثناء زيارتنا بوسطن فى أزمة صديقى الراحل (الفصل السادس)، كان زميلنا هذا (أستاذ امريكى فى التخدير!!) ذهب فى مهمة علمية إلى إنجلترا أواخر سنة 1967 (لاحظ السنة !!) ثم منها إلى أمريكا، ثم إنه تأمرك، إذ تجنس، وأقام، فراح يقول لنا وهو يتجول بنا الى إحدى ضواحى بوسطن حيث يقطن “هذا هو كوبرى قصر النيل” (مشيرا الى أحد الكبارى التى تشبه كوبرى قصر النيل فعلا) وهذا كوبرى أبو العلا (يشير الى كوبرى من الحديد)، وهذه هى جزيرة المنيل، وهذه هى الجزيرة (حاف)… ثم يردف: فما حاجتى إلى مصر بعد أن خدعنا وطردنا عبد الناصر، وهو زميل كان متوسط الحال لم يضار شخصيا لا بعبد الناصر ولا بغيره، وقد ذهب بمحض إراداته وبقى هناك بمحض إرادته، فأستوضحه، فيقول بمرارة غاضبة، صور لنا عبد الناصر الجاهل أن مصر هى أم الزراعة، وربة الصناعة، وسيدة الحروب، ورائدة العالم، وكنت محتاجا أن أصدقه، فصدقته، ثم رمانى جنديا فى الصحراء، بعد الهزيمة، بلا حرب، ولا عمل، ولا تخصص ((3))، فما أن هربت بجلدى حتى وجدت انجلترا، التى إسمها انجلترا، تزرع أكثر منا وأخضر (أكثر إخضرارا) ناهيك عن حكاية الصناعة والحرب والريادة، ففهمت وهو يتحدث بكل هذا العتاب المـر أنه لما رأى الخضرة مثلى ثار حقدة الوطنى، ولكنه وجهه لعبد الناصر بالذات، وكأن عبد الناصر هو المسئول عن ضيق الشريط الأخضر الذى نتجمع حوله فى الوادى مثل النمل حول آثار “سرسوب” عسل أسود، وأنا شخصيا لا أذكر أن عبد الناصر – أو غيره – قد أفهمنى كل ذلك، وإن كنت أعرف أن ما بدى من سطحيته وغروره وقصر نظره قد برر لصديقى أن يجعله مسئولا عن غربته التى يبدو أنه لا يتحملها رغم التجنس والتأمرك، فراح صاحبنا يرسم حول نفسه مصر خيالية، وكأنه بتشبيهه معالم ما حول بوسطن بمعالم القاهرة قد نقل مصر الى ولابة ماساشوستس الأمريكية مادام لم يستطع هو أن يعود الى مصر((4)). وأحاول أن أهدئ من غلوائه، فأضحك معه قائلا حاسب حتى لا تأكل الأحماض تأكل جدار بطنك (وكان هذا وذلك من ضمن علامات توتره المزمن) فلا يرد مباشرة وينطلق يحدد جرم عبد الناصر فى ما آل اليه، فهو (عبد الناصر) الذى أكرهه فى عيشته، وهو الذى خدعه بما هو ليس نحن، إذ نفخ فى صورته دون حقيقتنا حتى انتفخنا، ثم فرقعنا، ويبدو أن صديقنا هذا حين ارتطم بحقيقتنا “الموضوعية” بعد أول سفره له إلى إنجلترا، تيقن أنه لا زراعة، ولا حضارة، ولا نظام، ولا اتحاد، ولا عمل، صدمه – مثل ما صدمنى الآن – أن يجد انجلترا المشهور أنها صقيعية: يجدها بلدا زراعية، وأقول له أنها “أرزاق”، فما ذنب عبد الناصر، (أقولها استفسارا وتنبيها، لا دفاعا) فيصيح أنه (عبد الناصر) راح يمد الخطى فى غير اتجاه الواقع، وأنه قفز بنا فى المجهول، فهبطنا بلا مظلة إلى أرض غفل، وأنه أسقط علينا أحلامه فرحنا نرقص ونحن نهتف له، بدلا من أن نزرع فى تراب وجودنا المتواضع، ونعيش على قدرنا لنكبر واحدة واحدة، ونتعلم ممن سبقونا، ونحترم قدراتنا، فألتقط الخيط مرة ثانية وأقول “وحتى إذا صح ذلك فلماذا تركتنا وجئت إلى بلاد لا تعرف أيا من ذلك؟” فيعود يلقى إلى الكرة صائحا “البركة فيك أفعل، وسوف ترى ماذا سيفعلون بك، فما زال عبد الناصر يحكمكم من داخلكم، ومن خارجكم وأنتم لا تدرون، أخرج إلى “برة” وانظر من بعيد وسوف ترعيك الرؤية الحقيقية فتفيق، أو تستسلم، فأسكت غير مقتنع، ولا معترض تماما، تذكرت كل هذا وأنا أسترجع كيف كنت أسبح منذ تركت الطريق السريع بين أحضان موجات الخضرة المتلاحقة على اختلاف درجات خصارها، وكأنى أغوص فى طبقات بلا نهاية من الأشجار والأزهار والمحاصيل والمراعى، وأقول لربنا، أما آن الأوان؟ أما آن الأوان؟ والى متى سنهرب من واقعنا الى أحلامنا، ومن أحلامنا إلى أمريكا حيث تجتث الجذور ليتوقف التواصل بيننا وبين أولادنا، فصديقى هنا نفسه يكاد يكون غريبا فى مواجهة إبنه الذى نشأ هناك، فحين وصلنا الى منزله (كوخة/قصرة) فى عربته يقودها، لمحنا شابا فى السابعة عشرة من عمره يلف بدراجته الرياضية الجميلة، وقد مر بنا وقال “هاي” فتمتم زميلنا “هاى” لنعلم فيما بعد أنه إبنه من أمه المصرية لحما ودما، فما له لم يعتن بلقائنا، ولم يرحب بنا ولا بوالده، على أنه لم تكن ثمة حاجة الى معونته، فقد وشوش صديقى “جانـا” تكنولوجيا فى عربته أن “افتح ياسمسم” فانفتح باب الجراج وحده دون حاجة إلى معونة إبنه الشاب، ودخلنا، وأحسب أن مضيفنا قد قرأ أفكارنا تجاه إبنه وغياب زوجته رغم علمها بقدومنا، فأخذ ينادى أن “ ياعمر ياعمر” ولست متأكدا- رغم التزام صديقنا بطقوسه الدينية – لست متأكدا إن كان قد أسمى إبنه هذا على إسم عمر بن الخطاب أم عمر الشريف، ولم يرد عمر فورا، لكنه عاد يتمتم بكلمات فيها “دادي” وما أشبه، فجعل الوالد يستدرجه فى رفق أن سلم على أعمامك “من مصر”، فكان أن، “هاي” قلت فى سرى “هاى عليكم ورحمة الله وبركاته”، وتلف الدراجة بنفس السرعة، وأنا شديد الحساسية لقياس نجاح الوجود الأبوى (أو الحل الوالدى) بنوع النتاج البنوى، وكثيرا ما أقيس أفكارى وأفكار من أعرف – وخاصة اذا تمادت فى المثالية والادعاء – أقيسها بما أنتجت فى طبيعة وجود وسلوك أولادى وأولادهم، وقد قلت لنفسى أنه بهذا المقياس، فإن عمر “هكذا” يعلن فشل أبيه الأستاذ الطبيب الأمريكى/المصرى بشكل أو بآخر، فوالده الذى لم يستطع أن ينتزع مصر من داخله، فراح يرسم لنفسه مصر خيالية فى بواسطن، قد “أسقط” كل سخطه وإحباطه على إبنه فانتزع من جوهره كل ما هو مصرى بحق، فلم تبق ثمة “علاقة” بالوطن الأم إلا إسم، وطقوس دينية، وربما تبرع، أو إعلان، أو احتجاج (فى حب مصر!!!!) ((5)) وقد زاد من يقينى (أن هذا الفتى الأمريكى الصغير-عمر- ليس سوى التعبير الإسقاطى لما بداخل والده الذى عجز أن يكونه)، ثم إن الوالد حين نادى إبنه من جديد ليلتقط لنا صورة “تذكارية” جاء على مهل ممسكا بآلة تصوير جاهزة، قال لنا الابن فى عجالة أن: “قل جبن”say cheese، فلم أفهم، وترددت، فكررها، وجعل والده يستجيب له دوننا، فخجلت، وقلدت الوالد، فأنهى الشاب مهمته، وصورنا، وانصرف متململا، أو باسما بسمة لا طعم لها، ألعن من التململ، وراح يمتطى صهوة دراجته من جديد، وخطر ببالى أن تكنولوجيا التصوير الحديثة تجعل الكاميرا حين نسمع كلمة السر هذه وهى “تشيز” (جبن)، وربما كانت كلمة سر آلة أخرى هى “حلاوة طحينية”، وثالثة “زيتون” ورابعة “محشى”، وهكذا، من يدرى؟ كل شئ بالكمبيوتر جائز والعياذ بالله، وتجرأت وأعلنت أفكارى هذه ساخرا، فراح صاحبى يشرح لى السر الأعظم: وهو أن إبنه طلب منا ذلك – حتى إذا نطقنا “تشيز” كشرنا عن أنيابنا بطبيعة نطق الكلمة وكأننا نضحك فنبدو فى الصورة بلهاء منفرجى الأفواه، ظاهرى الأسنان (أكبر بياضا!!)، ولم أتمالك داخلى أن يصيح “يا خبر مثل الهباب” حتى الضحك أصبح زائفا، فماذا لو صورنى متجهما ألعن دين أهل أمريكى لئيم، هماز مشاء بنميم، أو وأنا متألم سارح خجل متردد، أليس هذا أصدق وأكرم، فاذا ضحكنا صورنا ضاحكين ضحكا طبيعيا، وحتى إذا كان مصرا على أن نظهر فى الصورة فرحين ببيتهم وحديقتهم فليطلب منا أن نبتسم ونحن وشطارتنا، وجعلت أعابث صديقى المضيف بأفكارى هذه، محاولا فى نفس الوقت أن أسرى عن صديقى المتألم، واستطردت أننا لو حاولنا أن نقتبس هذه البدعة للتصوير عندنا فلابد أن نغير فى الألفاظ فنقول: قل: “معيز” أو “تغيظ” أو “عزيز” (مع التحرج من ذكر اللفظ الآخر الذى لا يغيب عن بداهة القارئ) ويا “عزيز” يا “عزيز” كبة تاخد الانجليز والأمريكان وكل من انتزعنا منا دون أن ندرى حتى انتزع حقيقة حجمنا المتواضع ليغرينا بما لا يكون..، أو لنقبل أن نكون خدما درجة ثانية بلا إنتماء، كبة تأخذ هؤلاء جميعا، ولكن يبدو أن الكبة حتى لو أخذتهم بالقضاء والقدر أو من فوق المنصة، لا تأخذهم تماما، فعدوان صديقنا هذا على عبد الناصر وتحميله إياه مسئولية كل ما جرى، ولومه له على أن إنجلترا تزرع، ونحن “لا”، كل هذا لا يختلف عن اعتمادية وبلاهة أولئك الذين يقدسونه ويحسبون الزمن بحساب ظهوره وينتمون إلى إسمه، هذا وذلك جميعا من مخلفات العبودية الشائهة المشوهة، لا أكثر ولا أقل، ويبدو أنها مازالت تحتل وجداننا وتغلف وعينا مهما بعد بنا المسار أو تأمركنا أو تسفيتنا ((6)… الخ.
وتنبهنى إبنتى – المرشد الذى عليه الدور – أنى لم أطلب اليوم ما يكفى من وقودى من المياه الغازية المنعشة، فأشعر أنى لم أفعل ربما لأنى أشرب فعلا من هذه الخضرة المتعددة ما يروينى وزيادة، ولكن تنبيهها يدعونى أن اعتدل فى وقفتى الفكرية التأملية، لأنظر الى علامات الطريق، فأجدنا قد إقتربنا من إنحناءة تخرجنا من الطريق السريع الى “ديجون” Dijon، فتهب ريح “دول” وسلسلة جبال الجيرا، وأتذكر كيف كنت أخرج من مدرسة البنات مبكرا مبكرا (سنة 1966) متلفعا بعباءة المرحوم حماى، وكأنه يؤانسنى بدفئه وطيبته وصمته وأميته فى هذا الصقيع الرائع، تلك العباءة التى كانت من فرط فرحتى بها وتعدد إستعمالاتى لها: تكاد تحاورنى حين تلتف حول رأسى، أو تتدلى بجوار جسدى، أو أوسدها وسادة تعلى رقبتى (كما اعتدت) أو أضيفها غطاء إذا خف الغطاء، أو أجمعها فى حيز متواضع فتضم نفسها وتقبع منتظرة إياى، ولى فيها مآرب أخرى: رحمه الله، كنت أنطلق فى الصباح الباكر فى صقيع أول العام، ألف لف المحب المستغفر لجهله، المستكشف الخائف من إكتشافه، المقتحم الصابر على وحدته، ولم أكن أعرف أنى كنت كل هذا، أو بعض هذا، ولكن هأنذا، بعد كل هذه السنين أتعرف على نفسى – حينذاك – وأنا أخطو فوق طبقات الجليد، وأتحسس أنفى لعله مازال فى مكانه، وكأن ثلج تلك الأيام والأماكن قد جمد الخبرة فظلت محفوظة (غير فاسدة) حتى عادت تتحرك الآن حين أتيحت لها الفرصة، وأتمنى أن يشاركنى أحد رفاق رحلتنا هذه أى شئ ولا أطمع فى أكثر من التمنى، فلا أتمادى.
عبرنا “دول” Dole سريعا واتجهنا إلى إختراق سلسلة جبال الجيرا، وقد سبق لى أن اخترقتها مرة ثانية أواخر عام 1969 وأنا أوصل زوجتى وإبنى الى فينسيا، وكان يطيب لى أن أقارن بينها وبين سلسلة جبال الألب، وهى تقع فى الجانب المقابل من بحيرة ليمان، ومازلت أشعر أن سلسلة الجيرا هى أطيب وأرحب من الألب الشامخة المتحدية فى صلافة، فللجبال حضور كما الإنسان، وقد حدثتنى جبال سيناء – مثلا – حين زرتها بعد ذلك، كل على حدة، حديثا دالا على تميز كل قيمة بشخصيتها المتفردة، وأحسب أن من ينصت جيدا لحديث الجبال، حتى وإن إنعدمت الخضرة عليها ومن حولها، لابد أن يعاملها ككائنات حية “تقول” “وتسمع”، وقد كان عجبى شديدا وأنا أدخل المدينة المنورة من الشرق قادما من “القسيم” (قائدا سيارة أيضا) حين واجهتنى تلك القمم السوداء7)(7)) وكأنها عباءة حماى، تحمى قبر الرسول، وحين مضيت من المدينة إلى مكة، قبل تمهيد الطريق مثلما هو الآن (كان ذلك عام 76) أخذت أنظر إلى كل هذه الجبال وأتذكر رحلة الهجرة، وأعجب لتصورى السابق من أن الهجرة كانت إلى مكان أقرب، فى صحراء أسطح، فاذا بها مئات الكيلو مترات، وسط سلسلة متحدية من الجبال ناهيك عن الهجرة الأولى إلى جبال الطائف، جبال كلها “تقول”، كلها “تقول”، وصدقونى، ومن لا يصدق، فليرهف السمع إذا أتيحت له الفرصة، ولسوف يسمع حتما ما تقوله الجبال، كل الجبال، لكن جبال الجيرا تقول، وتعزف، وتغنى معا، وكنت أعبرها هذه المرة بشكل جديد، وأمان مادى جديد، مع صحبة جديدة، وقد تقدم بى العمر لكنى أكتشف أنى أنبهر بها بنفس الدهشة، – كأنى أراها لأول مرة، فرؤية الجمال فى ظروف غير ملائمة تصل إلينا كأنها مسودة سريعة، أو خطوط عامة (اسكتش) لما يمكن أن يحتوى ويقول، فاذا أتيحت رؤية ثانية، فثالثة فى ظروف مختلفة ملائمة، فان هذا “الإسكتش” يتحول إلى واقع نابض، ثم يتكشف عن طبقات بعد طبقات فى كل مستوى منها شئ جديد، وإذا كان هيرقليطس يقول إن الإنسان لا ينزل نفس البحر مرتين، فان ذلك يعنى – قياسا – فى هذا المقام أنه يستحيل على أن أرى نفس المنظر مرتين، إننى أتخلق مع كل ما أرى وهو يتخلق بدوره، بى، فيتجدد إنبعاث المستوى تلو المستوى تلو المستوى من الجمال المتعدد الطبقات والمتفرع المقولات، وهكذا أجدنى لا أستطيع أن أفهم كيف يعتاد المرء نفس المكان أو نفس الجمال، فلا يغيره باعتبار أنه هو هو، فى حين أنه لا بد أن يتجدد إذا كنا حقا نعايشه، وأحب أن أوضح أن تعلقى بالبحر يرتبط – أيضا – بأن موجاته المتلاحقة ليست أبدا هى هى، ولا مرة واحدة، ورغم رسوخ الجبال وثباتها، فإنى أستقبلها كموجات بنفس الطريقة، ولكن من باب وعى متموج آخر، وأحسب أن من أروع الخبرات هو أن تعود الى ما تحب، فتجده غير ما تحب، فتحبه من جديد بشكل آخر، ويا حبذا لو أمكن ذلك بين البشر حيث البحر والجبال فى داخل الداخل “تقول”، أو ينبغى أن “تقول”: دون أن تعيد، وأبطئ بالسيارة وكأنى أتمهل مضغ لقمة سائغة، فيصلنى ما يصلنى، وأحاول أن أبلغ بعضه إلى أولادى فلا يدركون – تماما – ما أعنى، فأعدل، ويبدو أنى رضيت أن أخرج إلى هذه الرحلة الجديدة بإيقاع آخر، لأن بعض الأمل فيها، أو الهدف منها هو أن “أرى ما سبق أن رأيت: ليس كما رأيت”، فقد كانت إنشغالاتى الحياتية فى الرحلة السابقة (موضوعنا الأساسى) تمثل حاجزا ما، لكنه حاجز مسامى التركيب، إستطاعت الرؤى أن تنفذ من خلاله لتستقر، حتى أجرها خلال عامين فى هذا العمل (الناس والطريق)، “هكذا”، وقد تعمدت أن تكونى رحلتى الحالية (1986) أقصر كيلو مترات، وأطول ساعات، حتى أستطيع أن أنتقل عبر طرق أعمق إلى جذور “الناس”
ونبدأ فى الصعود فى جبال الجيرا الملتوية قليلا قليلا، ثم كثيرا قليلا، ثم كثيرا كثيرا، ثم قليلا، وهكذا، والأولاد يطربون بعد أن إعتادوا اللعبة، حتى لم يعودوا ينطلقون فى الغناء بغية أن يغالبوا توترهم، فاستثرت مشاركتهم، فتلكئوا فأنتهز فرصة صعود سحيق، وأبدأ أنا هذه المرة الأغنية التى ترجمتها – لهم صغارا لتؤدى بالعربية بنفس اللحن:
هيه نازلة مالجبل عالحصان، هيه نازلة مالجبل عالحصان، هيه نازلة مالجبل، هيه نازلة ملجلبل، هيه نازلة ملجلبل، عالحصان، يبى يايايا، يبى يا.. الخ، هيه شايلة مسدسات فى الحزام، هيه شايلة مسدسات فى الحزام، هيه قابلت جدها وهيه نازلة، …..، هيه باست جدها وهيه نازله، ….، يا رتنى كنت جدها وهيه نازله ((8)
نقولها مرة بالعربية، وأخرى بالفرنسية، ونطرب لهذه الدعابة البريئة، وأتصور أنه لو جاء ذكر هذه الخبرة فى خطبة جمعة لنقدها بعض فى غلاة النهى عن المنكر واعتبروها منكرا، ربما اعتبروها خدشا لحياء أطفالى بما لا يليق، مع أن أغانى الفلاحين الطيبين الشرفاء فى بلدنا كانت تقول ألطف من ذلك وأصرح، ولم تخدش حياء أحد، ولم تفسد دين أحد، بل إن ما تحمل أغانى أهل بلدنا من رموز جنسية رائعة، أعتبره من أنجح الكلمات التى تزيل الحواجز من طبقات النفس فى طيبة جماعية، وكما تعلمت الجنس من حيوانات وطيور قريتنا، ثم من كتب صفراء رائعة (الفصل قبل السابق) فقد تعلمت “الود الجنسي”، “واللمز الجنسي” من أغانى قريتنا:
يا سرير النوم عجلاته حلاوة بيضا
عجلاته حلاوة بيضا
أخطرى يا عروسه وتعالى فى الأوده
وتعالى فى الأوده
اسكت يا عريس دنا فرحانة
دنا فرحانة
يا سرير النوم عجلاته بمبى
عجلاته بمبى
أخطرى يا عروسة
وتعالى جنبى، وتعالى جنبى
أسكت يا عريس
دنا خجلانه
دنا خجلانه
…. الخ
بل أنى رحت أستعمل بعض هذه الأغانى فى علاجى لبعض مرضاى الذين يخشون “الليلة” الأولي”، أو يتصورون فشلهم فيها، أو يفشلون فعلا، فكنت أقول لأحدهم ألا تفكر أو تتساءل، وألا تنتظر إذنها، فهى آذنة دون إذن، وأحكى له الأغنية التى استقيت منها كل هذا قبل أى علم مستورد، وبعده، حيث تقول أغنية بلدنا:
ليه يانا يانا، ليه يا غرامى
خايف أقولك، ولا ترضيش
وإن مارضيتش لانزل وأقايس
واحط عينى فى وسط راسي
أرضى لك انت ياسى “محمد” ((9)
مرضاش لغيرك
وكنت أؤكد على حكاية، “خايف أقولك، ولا ترضيش” ((10))، لأن هذا التردد، وقبول ظاهر التمنع بخشية، هو الذى يوقع البعض من الرجال البكر فى ذلك الخوف، فتصور العجز; وكان الصديق الهائب (المريض) الذى يسمعنى أستشهد بهذا “الأصل” يطرب ويفهم أكثر بكثير من شرح النظريات العملية; فإذا وصلنا الى هذا “الرضا” لشخصه بالذات، دون غيره، على سنة الله ورسوله، داخله زهو أذاب بقايا خوفه فانظر معى – فقهك الله – كيف تربينا الأغانى المزعوم قبحها وخدشها للحياء، وكيف تؤدى وظيفتها الوقائية، وكيف تحرك مشاعرنا فى طيبة حانية، أفضل من كتب التربية الجنسية التى يكرر محتواها مدرسون لا يعرفون الجنس أصلا حتى لو ملأوا الأرض ذرية!!
وأشعر – من جديد – أننى أفضل رحلة السيارة لأنها تسمح بهذا الاقتراب المباشر من الفطرة فالطبيعة هكذا خليقة بأن تفجر فطرة كل من ألقى السمع والوعى وهو شهيد، فمتى يدرك الناس أن دين الفطرة هو الذى يتعهد فطرتنا بالتنمية، فالانطلاق، وأن الفطرة المنطلقة المتفجرة الهادئة الهادية هى أصل كل الأشياء، ويثيرنى، فى نفس الاتجاه أن أتذكر تلك الليلة التى كنا فيها فى “دول” وذهبنا نزور كهفا من الكهوف التى يصنعون فيها النبيذ، أو ما شابه، وأذكر أن النبيذ كان اسمه “النبيذ المجنون” Vin fou وكان المسئول عن الرحلة رجل ناهز الستين ضخم الجثة كجثة أنطونى كوين، واضح الملامح كأنه توفيق الدقن، أحمر الوجه كأنه مستر شرشل، وأخذ هذا الشيخ الشاب يردد الأغانى كالطفل المتأرجح يوم عيد طيب، ونحن نردد وراءه، وبعد عودتنا اعتبر المسئول الأكبر أن هذا الذى فعله مرشدنا الكهل هو النجاح المطلوب تماما لتوصيل روح فرنسا الحضارية، لمبعوثى العالم الثالث الذى هو نحن وكان من بين ما أنشد هذا المرشد الشاب (!!) أغنية تبدو شديدة الصراحة، وهى فى عمقها شديدة الذكاء والرقة، وكانت كلماتها تقول:
”جانوتون” أخذت فأسها
(لاريناتو لاريناتو – أو : لا غيناتو… الخ)
لتحصد القمح حصدا
فى الطريق قابلت أربعة صبيان حلوين وأشقياء (11))
(لاريناتو… الخ)
- كان الأول خجولا، فقبلها على ذقنها
(لاغيناتو… الخ)
– وكان الثانى أقل تعقلا فرفع طرف “جونيلتها” البيضاء
– أما الثالث فكان أقل فأقل تعقلا فأوقعها على الحشيش
– لكن ما فعله الرابع لا يمكن ذكره فى هذه الأغنية
– أما مغرى هذه القصة فهو أن الرجال هم خنازير
– أما مغزى هذا المغزى فهو أن النساء تحببن الخنازير
وأعجب لهذا القدر من التلقائية التى كنا نعيشها دون أن تثير فينا “أدنى الغرائز” بل أكرم “الضحكات” وأرقى المشاركة، وحين يكشف الناس بهدوء واحترام طبيعة هذه النزعات الفطرية التى خلقها الله فينا، يأتيها الهواء المعرفى النقى فيقترب بعضنا من بعضنا فى تكامل لابد أن الله يحبه، وقد سبق أن أعلنت حذرى فى هذا العمل وغيره مما قد ننحدر إليه تحت عنوان محاربة الأغانى الساقطة وعدم خدش الحياء، وكأننا لانعرف كيف نفرق بين “الحياء” وبين “الكبت” بين الحياء الظاهرى الذى ندعيه، والقتل الخفى الذى نحمله بين جنباتنا، دفاعا عن دفاعاتنا المجمدة المتجمدة.
وتبدأ السيارة فى الهبوط الحاد، وعادة يبدو لى الهبوط أصعب من الصعود، لأن السيارة تندفع وتسحبنا سحبا ما لم نكن فى أتم حالات اليقظة، وكنت أشعر أحيانا أن قلبى يسبقنى “إلى تحت” مع السيارة المندفعة، قبل أن يلحق بهما تحكمى، وننزل أكثر فأكثر، هابطين الى تحت (العسل النحل!!) لأنى تذكرت تلك الأغنية العارية أيضا، وأقارن فأقول أنه إن كانت الأغنية الفرنسية قد “حضرت” ونحن نصعد الجبل فى لطف ودندنة، فلتحضر أغنيتنا الريفية تغنى أيضا فى لمز وتورية،
ياللا بينا على تحت
العسل النحل
العسل النحل
لبسته البدلة البمبي
قلعته البدلة البمبي
واحدة واحدة على جنبى
وإنت نازل على تحت
ثم البدلة الحمراء، والبدلة الرصاصى، وفى كل بدلة: واحدة واحدة عليها: بعضها أو كلها وهو نازل على تحت…، العسل النحل (الخ)
نعم: هكذا خلق الله البشر
والعلانية تعليم رقيق خفى، والعلانية ليست فجورا ولا قبحا، والعلانية تحمل – إذا ما تناسقت بمسئولية – تحمل شجاعة الفطرة وسلاسة انسيابها، وكل ما خالف الفطرة باطل ومعوق ومؤقت، ثم يا ترى حين ينهار بالانفجار أو يقتل بالهمود، ماذا سيتبقى من نبض البشر النامى ونحن لانكف كل صباح مساء عن النصح بالتوقف عن ترديد أغان نسميها خارجة، رغم أنها تصالحنا على أجسادنا، وتعلمنا التواصل الطيب بنغم رائق، وصوت قوى أو حنون أو حتى أجش؟ ونقترب من الحدود السويسرية (إن كان ثمة حدودا حقيقية) ولكن قبل أن يتمادى الهبوط المتلاحق يتوقفنى منظر “موتيل” صغير نظيف، فأتوقف معتزما أن أتعرف عليه، وأعرض على صحبتى وقد اقترب الليل أن نبيت فيه فيعزفون، فلم يبق أمامنا سوى ليلة واحدة، وهم يفضلون أن يمضونها فى جنيف لإحياء الذكرى أو للتحية، ولكننى أصر على الاستعلام، ولو للمستقبل، فأعرف أن أجر الاقامة فى غرفة متوسطة، بحمام كامل مستقل، لشخصين هو 86 فرنكا فرنسيا (كان الدولار أيامها بثمان فرنكات إلا قليلا وكان يساوى 150 قرشا مصريا لا غير، وأحسب حسبتى فأجدنى أستطيع أن أمضى بقية حياتى هنا بلا عمل، (من الأعمال إياها) بقية حياتى فى هذا الجبل قريبا من نفسى، من الله، من كلمتى وخبرتى، وخذ عندك، فماذا يدفعنى بعد ذلك للعودة، فالشقاء، فالتحمل، فالمحاولة فالإحباط؟ وماذا يمنعنى أن أعتزل الآن ما دمت سأواصل العطاء بلغة أخرى، من موقع آخر، سدادا لدينى للناس؟ نعم من موقع “الكلمة” و”رصد الخبرة”، فهل يا ترى مثل هذا الخاطر هو من بين القرارات التى أسعى إلى محاولة الوصول اليها من خلال هذا الإنقطاع المتعمد؟، ولا أجرؤ أن أعلن أفكارى هذه لرفقتى، وخاصة زوجتى، فأبتلعها دون أن أنساها، وأحتفظ بصورة المكان فى ركن خاص من وعيى، وأقول له هامسا: رغم كل شئ فإنى عائد إليك حتما جزما، متى؟ هذا ما لا أدريه.
ونمضى هبوطا، والآذان تمتلئ، وبعضها يصفر، والأدمغة تشغل، وبعضها يطقطق، ويعضنا الجوع، فنحن لم نتوقف منذ الصباح، بل منذ أمس!!، فنتوقف قبل الحدود عند بقالة طيبة (لاحظ تكرار “وصفهم” بالطيبة، وهذه ليست مجاملة) ونتزود بمئونتنا بالعملة الفرنسية، لأننا نعلم ما أكدته لنا البقال (ة) أنا بمجرد أن نخطو إلى سويسرا سوف تشتعل الأسعار، وتؤكد لنا البقالة أنها – شخصيا – حين تنزل إلى جنيف، تصطحب معها حاجياتها الضرورية حتى لا تضطر إلى التعامل بالفرنك السويسرى الصعب، ثم نمضى ونمضى حتى ننساب مرة أخرى عبر حدود وهمية إلى جنيف، ونكاد لا نلمح رجال الحدود وهم يشيرون إلينا أن “مروا” فحسبناهم رجال المرور، وحين قلنا نتزود بالبنزين من محطة ظهرت، كنا نتصور أننا سنتزود بالفرنك الفرنسى، وإذا بنا نكشف أننا – هكذا – فى سويسرا، ودخلنا جنيف بعد العصر بكثير
مازلنا الأربعاء 12 سبتمبر 1984
لم أحب فى جنيف، الا جنيف القديمة، ولم يكن ثمة فرصة لزيارتها ثانية فى بضع ساعات، أما جنيف الساعة الزهرية، وجنيف حول طرف البحيرة، ومنطقة الفنادق والمحلات والبنوك، وهى المنطقة التى يتكدس فيها العرب باعتبار أنها هى سويسرا، فإنى قد كرهتها فعلا، ولم أحاول أن أبرر كرهى لها، هذا هو ما اعترانى وسط السائحين من بعض أثرياء العرب، ومع الصمت المحيط المتسحب على وعيى نتيجة لاحتفاء أصحاب البيت السويسرى يعلنون إحتجاجهم السلبى بأنه ليس “لا”، وليس “نعم”، ويشع جو من البرودة والكأبة، وفى كل مرة أحاول، أجدنى أفشل، وأشعر أن السويسريين، أعنى الجنيفيين يضعون مسآفة بينهم وبينى (بيننا)، فهل هذا من واقع تصرفات العرب الأمجاد، أم أنهم هكذا يحسون بالانتقاخ العنصرى والأنفة السيادية، وكأنهم يقولون: “سياحة، وأنا سيدك” – وقد تصورت أن أغلب السويسريين قد تركوا البلدة فلم يبق إلا من هو لزوم التجارة والسياحة، إذن، فهؤلاء ليسوا هم السويسريين الذين لابد أن أحبهم لنظافتهم ورقتهم ونظامهم، ولكن لا، فإن بعض ما أكرهنى فيهم كان هذا أيضا، وقد كنت قد نزلت – كما ذكرت – فى العام السابق (لكتابة هذا الكلام 1983) ضيفا فى أحد فنادقهم الفخمة (فندق الرئيس: بريزيدانت President) ولم أحببه لفخامته، وكنت ضيقا بوضعى كضيف، وضيقا بالمسافة بينى وبين السويسريين، وضيقا بمعاملتى – بصفتى عربيا قال – باعتبارى صنبور نقود، يفتحونى، فأوقع، ويدفع المضيف، فحرمونى من نفسى، ومن حرصى، و.. ومن كرامتى يا شيخ، فجعلت أتطلع للافتات بالحروف العربية مثل لافتة “البنك العربى المحدود (سويسرا) وتصورت أنه لو فتح فرعا عندنا فسنكتبه وسنقرؤه هكذا “ذى أرابك بانك ليمتد سويتزر لاند!!”، ولا حول ولا قوة الا بالله، وقلت وأنا أمر بين الفنادق والبنوك، هنا يصب البترول بلا عائد حضارى، حقيقى، وهنا – وأمثال هنا – ستدفن حقبة من تاريخ أمة أعطاها الله فلم تقتنص الفرصة، فضيعت الأمانة، وسنرجع حتما إلى علاقة تبعية صريحة، بعد أن أوهمنا- أو توهمنا دون جهد من جانبهم- أنهم يحتاجون لنقودها سائحين، خازنين للذهب والمجوهرات والأرصدة، وهم لم يكونوا يحتاجونا إلا بقدر ما يضعفونا، ويضحكون علينا بعد أن نتسفه بما أعطانا الله، ويبدو أننا لم نستقل أصلا، وحتى البلاد التى لم تحتل إبتداء، قد سعت إلى هذا الاحتلال الجديد بقدميها، وأكاد أقسم أن فخرنا بالاسقلال التام هو بلاهة ما بعدها بلاهة، فللاحتلال العسكرى الصريح مزاياه من تنفيرللتحدى وتذكير بالواقع، أما هذا الاحتلال السرى المخادع فنحن لا نرى آثاره الا بعد أن نستجدى ولا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم (للمرة كذا !!!)
وقد اقترحت على الأولاد – وكانوا معى – أن نبيت فى نفس المخيم الذى أمضيت فيه ليلتين سنة 1969، فيوافقونى مجاملة، لأنهم أمضوا فى طريق عودتهم فى العام الماضى ليلة فى مخيم على البحيرة مباشرة وكان أضمن وأجمل، وأحاول أن أتذكر اسم مخيمى فأعجز، ولا أتذكر إلا “الاتجاه” ناحيته، فتظهر إشارات مخيمية، أتصور أنها هى، ولكنها تؤدى بنا الى مخيم مهجور، والساعة متأخرة، وليس أمامنا خيار كثير، وكان الليل قد أطبق، ثم إنها ليلة واحدة لنا واثنتين للأولاد، فاستخرنا الله وقلنا نتحمل سواد الليل كيفما اتفق، المهم أن نضع جنبنا على أرض ما، ونلتحف بسقف ما، نعم كان مهجورا، لم نلمح فيه سوى نزيل أو اثنين، وكان يبدو بلا صاحب وكأنه ترك بقية الموسم صدقة جارية لمن يريد، وقلنا همم، وهاى، بلا فائدة، ثم ظهرت قافلة من القطط غير الضالة تتقافز حول شبح قائم فى الظلام (كما فى السينما !! ) فتبينا أنه المسئول عن المكان يزفه ويتقدمه موكب القطط التى لا بد أنها كانت ضالة فلمـها، فصارت حرسه الخاص وعشيرته، وكان وجه جهما، لكنه مرحب فى هدوء فاتر، وأخذ يكلمنا بلغة غريبة رجحنا أنها الألمانية من كثرة ما امتلأت لهجته بالشخط، وما تخللها من “خاء ات” وما يسببه نطقها من نفخ متكرر فى شدقيه، وأنت تستطيع أحيانا أن تميز بعض اللغات الأخرى بموسيقاها، أو بقراء ة ملامح الوجه والشفاه أثناء نطقها، ولكن ماذا نستفيد من تمييز أنها الألمانية (يا فرحتنا !!) ونحن لا نفهم حرفا – وتذكرت وأنا أكتشف من واقع الحال أن ثمة سويسريين ألمان (!!) كمان أن ثمة سويسريين فرنسيين سواء بسواء، (بل وإيطاليين ) أعنى يتكلمون بهذا اللسان أو ذلك، ولكن- بينى وبينك – المسألة ليست مسألة لسان، بل كيان، ورحت أتساءل من جديد: ما الذى يربط هذه الشعوب ببعضها داخل حدود دولية (آمنة) ومعترف بها؟!!، مع إختلاف اللسان هكذا، وما الذى يفرقنا نحن العرب عبر حدود لا آمنة ولا معترف بها (بما يعنى الاستقلال الحقيقى ) ونحن نتكلم نفس اللسان ومن قديم الأزمان، ومع ذلك لم يربطنا اللسان، وحين هممنا بتصور ارتباط أدق، التففنا حول زعيم “خطيب” واعد، نفخنا فيه حتى كان ما كان مما لست أذكره، فظن ما تظن، ولا تسأل عن الخبر، نعم: وحدتنا لغوية خطابية، ووحدتهم إقتصادية نفعية (وقد كانت إلى عهد قريب حضارية حقيقية، ثم أصبحت فوقية مهددة بالإغتراب) – فظل الرجل الالمانى يشخط (أى يتكلم)، لكن بغير زعل، فقد كان مبتسما طول الوق، أوهكذا أوحى لنا الجوع والظلام، وحين فشلت كل محاولات التفاهم، أخرج ورقة وكتب رقما، فرجحنا أن هذا الرقم هو إيجار الكوخ (البنجالوز) فى الليلة، فرضينا، ولم يكن أمامنا إلا أن نرضى، ومع إصرارنا وقبولنا لكل شئ، يبدو أنه أخذته الشفقة علينا – بالألمانى -، فراح ينصت لما لا يفهم، ويستجيب لإشاراتنا التى تطلب مرة بوتاجازا، ومرة غطاء زائدا ( فقد بردت الدنيا-نحن فى منتصف سبتمبر يا ناس)، وزاد الأمر برودة خلو المخيم من أى صخب دافئ كما اعتدنا أن تكون المخيمات، وأصر الأولاد – رغم ضيق الوقت-أن يطبخوا لنا طبخة الوداع، ولسبب آخر: هو ألا يفسد التموين الذى جلبناه معنا من فرنسا شخصيا، وما كان لنا أن نرفض “عزومتهم “ رغم عزوفنا عن قضاء آخر ليلة بوقتها المحدود فى هذا الطبيخ، ومثله.
وانطلقنا إلى جنيف البلد نودع، ولم نتمكن إلا من تحية الممشى أمام سلسلة الفنادق على طرف البحيرة (ليمان) وحيينا مرورا على الرصيف فندق البريزيدانت قائلين له أن (‘بنجالوزا’)، تخفق الأرواح فيه وتحيطه رائحة الشواء وتصدح منه الضحكة الرائقة، أحب إلينا من فندق جنيف يقدم خدمة رائعة بأنوف عالية تنحنى لقرش تحتقر صاحبه، وهناك فى هذا الممشى الجميل المتسع أخذت أسترجع كراهيتى للمكان، فسعدت باكتشافى أنه حتى إسترجاع الكراهية هو نبع طيب لنبض حياة ثرية، إذ يبدو أن المهم أن نحب وأن نكره ، وأن نعاود الحب وأن نعاود الكراهية فنتخذ موقفا فى كل حين، من كل شيء فاقتربت أكثر فاكثر مما أكره، حتى اكتشفت أنى أكرهه لأنى أملت فيه ما يستحق، فلم يعطنى ما وعد.
فقد ارتبطت عندى جنيف بالنظافة والجمال والنظام، وما أروعها علامات على الحضارة بما تحمل من احترام الغير، وتصورت أنه بإمكان زائرها أن ينتقى مما يلقى على حواسه نغمات تؤلف لحنا جميلا رائقا، لكننى وجدت ما يجعلنى أراجع إرتباطاتى السابقة فجنيف قد امتلأت بالكلاب وسفاهات العرب، أما العرب فقد سبق الكلام عليهم، وأما الكلاب فقد ملأونى تحديا، وملأوا شوارعها بفضلاتهم، ولا يوجد جهاز مهما بلغت ملاحقته يستطيع أن يتابع ما تفعله ‘الكلاب’ بالشوارع، اللهم إلا إذا عينت البلدية وراء كل كلب موظف نظافة، أو ربما ألزمت أصحاب الكلاب بأن يتوقفوا عقب قضاء الحاجة يتصرفون بمعرفتهم فيما آذوا به شعور الأخرين والشوارع، وقد جعلت أتأمل ظاهرة اقتناء الكلاب بهذا التواتر الغريب، وكأن العلاقة بين الجنيفى (والأوربى عامة ) والكلاب قد حلت محل العلاقة بين الإنسان والإنسان، بل إن المسألة لم تقتصر أبدا على الكلاب، حتى أنى شاهدت فى حديقة فى باريس بعينى رأسى سيدة شديدة النظافة (والعقل كما يبدو) وهى تجر خلفها أرنبا مدللا، (أى والله) وقد لفت جذعه برباط جلدى مثلما يفعلون بالمينى كلب (الكلاب المصغرة الدقيقة !!) – فيزداد ترجيحى أن الكلاب والقطط والنسانيس والأرانب قد حلت محل الانسان لما التهمته خدعة الحرية والندية فصارت العلاقات صفقات، وصارت اللقاء ات مصالح سطحية، وفرضت الوحدة على كل ما هو بشرى ‘حر!’، فرضت الوحدة الصقيعية اللهم الا من فرقعات التصادم التى تحدث بالمصادفة أو بالجذب اللحظى ثم كل ملهـى فى حاله، والإنسان مازال يحتاج لمن يربطه ويتبعه، كما يحتاج لمن يرتبط به فيعتنى به، والكلاب – ولامؤاخذة – يقومون بهذا وذاك بعد أن عجز الإنسان والإنسانة أن يأمنو ا لبعضهم البعض، ومع ذلك فقد شوهت الكلاب جنيف فكرهتها.
أما النظام، وهو أعظم ما يحدد خطى الانسان فى اتجاه غائي، فقد تضخم فى جنيف حتى كرهته وكرهتها، فقد امتد النظام إلى زهور الشوارع والأرصفة والحدائق الجانبية والعامة، فصارت تنسق بمنتهى الدقة كل صباح، أو كل ساعة، وقد خيل إلى من فرط العناية بها، والتنوع أنهم قد يبدلونها كل أسبوع إن أمكن، لكنهم تمادوا فى ذلك حتى حسبت أن الطبيعة قد رفعت يدها عن زهورها، ليحل محلها هذا التشكيل المحكم القاسي، وليس عندى أحن من الطبيعة وهى تهدينا زهرة ما، أو ظلا ظليلا، نهذبه بقدر ما يؤكد انسجامنا مع نغم الطبيعة الأصيل، أما أن نتدخل كل هذا التدخل حتى ينقلب الحال الى ما يشبه الوسواس ‘الزهوري’ فنجد الزهور وقد اصطبغت بصناعة إنسانية مفتعلة ترسم الشكل، بالملليمتر الواحد، فهذا ما أشعرنى بالمبالغة حتى كدت أشك فى أنها زهور طبيعية، فرحت – فى السفرة السابقة – أنقل مشاعرى هذه الى زوجتي، فتوافقنى حينا وتخالفنى حينا، حتى إذا هممت بالامساك بالزهور الشديدة التنسيق لأتأكد أنها ليست من البلاستيك نهرتنى خشية أن يحسب الناس أنى أهم بقطفها، وخوفا على الزهرة من شكوكى.
كرهت جنيف ومن قبل، وتأكدت كراهيتها هذه المرة، فرحت أقبل على ما كرهت إقبال اليقظ الفرح بصراحة مشاعره رغم أنها مشاعر النفور، وكان الجو ليلا ولسعة البرد المنعش تذكرنا أننا ما زلنا فى أوروبا، وتشدنى من كراهيتى مباراة فى ‘الباتيناج’ تقام بين شباب غض ماهر نشط، حيث ملعبها هو الرصيف الناعم الملمس، يحيط بالملعب بضعة متفرجين من المارة مثلنا، والمباراة – إن صح التعبير – هى بين شابين لا يتعديان العشرين، وقد لبس كل منهما حذاء الباتيناج ذى العجلات، ووقف بقية أفراد الثلة يتابعون، وقد رصوا علب الكوكاكولا الفارغة فى خط طويل وعلى مسافات متساوية أو مختلفة، ويبدأ المتبارى الأول من بعيد منزلقا على عجلاته، فيمر فى خط متعرج يشبه ‘زجزاج’ بين كل علبة وأختها من ناحية إلى أخري، بحيث لا يجمع علبتان معا، ولا يلمس أى علبة ما أمكن، فهو لو لمسها فى سرعته تلك ستقع حتما وقد تتدحرج بعيدا، يعملها مرة بكلتا قدميه، وأخرى بقدم واحدة، ثم بالقدم الأخري، ويعد المشاهدون من الثلة (الحكام) عدد العلب التى لمسها (انقلبت) فى كل مرة ثم يأتى غريمه ويبدى من المهارة – بدوره – ما يبدى وهكذا، وأقف مشدوها معجبا بكل هذه المرونة، والمهارة، والسرعة، والتحكم، وأتذكر مهارة شبابنا التى فاجأتنى يوما من حيث لم أتصور، كانت رحلة نظمها نادى الجزيرة إلى ‘دهب ‘ فى سيناء على خليج العقبة، وقد قام بعض الشباب الذى كنت أحسبه هشا خرعا مائة بالمائة قام أحدهم يؤدى رقصة ما، هى نوع من ألعاب القوى حتما، أحب أن أسميها رقصة الاختراق (هذه هى الترجمة الاقرب – كما تصورت – لما شاهدت حيث يسمونها Break dance ) وفرحت بهؤلاء كما فرحت بأولئك، ولكن يا ترى: هل هذه المهارات الأصيلة (فى جنيف) أو المستوردة (فى شباب نادى الجزيرة فى دهب) تصب فى وجود ماهر، حاذق، فعلا، متحد، أم أنها إستمناءات جسدية تدور حول نفسها ؟ وأنا لا أشك فى العلاقة بين هارمونية الجسد وهارمونية الوجود، لكنى أشك فى أن المواصلات عند هؤلاء الشباب بين المهارة الجسدية والوجود المتناغم قد سهلت بأى درجة تسمح بالطمأنينة، حيث أنى أتصور أنهم قد أغلق عليهم وعيهم حتى صارت المسألة كلها – على قدر علمى وملاحظتى – سيرك آدمى جميل ، وأعبر لابنتى عن تاريخى القديم مع هذا القبقاب ذى العجلات، وكيف استعرته من صديق – رحمه الله – بمصر الجديدة، وكيف اختليت بنفسى فوق سطح بيتنا المبلط غير المستوى ، وكم وقعت ووقعت حتى كدت أكسر عظامى عدة مرات، لكنى وحتى الآن ما زلت مستعدا أن أعاند من جديد، ويبدو أن إبنتى صدقتنى حتى أنه لما فاض معها مبلغ من المال قبل ركوب طائرة العودة مباشرة اشترت لى حذاء (تطور القبقاب الآن ) ذى عجلات، فرحت أجربه بعد عودتنا فى السر – فى هذا السن، فاكتشفت تيبسى وكهولتى وخطورة التمادي، لكننى – ولا تقل لأحد – ما زلت أحاول، ومع تحفظى على جدوى مهارة الشابين، فقد انحنيت – سرا – لهما إعجابا حتى ظننت أنهما صالحاني، على جنيف بشكل أو بآخر.
ونعود للمخيم، ونتوه، ونجده بعد لأي، فيفتح لنا الرجل السويسرى الألمانى نصف نائم، وبعد شخط ونفخ وطيبة وتسامح، يفتح لنا وينصرف لا يلوى على شيء، وأتذكر سنة 1969 أن ثمة وجه شبه بين هذا الألمانى المنتفخ الأوبخ وهو يفتح لنا بالصدفة فى عجالة، وبين فتح بالصدفة فى لقاء متعجل آخر، عشته مع زوجتى فى أمستردام، حيث أننا أول ما وصلنا بالسيارة إلى هناك، صادفنا بيتا متواضعا فى الضواحى يؤجر صاحبه حجراته لأمثالنا من أبناء السبيل على قدر حالهم، وكان مديره بحارا – أو صاحبه – رجحت لغير ما سبب أنه أمي، وقد وشم ذراعيه وصدره بما ينبغى ووجدنا إيجار الحجرة شديد الرخص لى ولزوجتى وزميل إيرانى وزوجته وزميل مصري، فما صدقنا، فتركنا أشياءنا عنده ومضينا مسرعين إلى جولة التعرف والإستطلاع، وإذا بنا نكتشف أننا قد ابتعدنا بما يهدد عثورنا على العنوان من جديد، لكن المثابرة فى المحاولات استمرت حتى رجعنا إلى البيت حوالى العاشرة مساء، وكنا قد علمنا الباب بسقاطة تتدلى منه ومقبض قديم مكسور، فجعلنا ندق الباب دقا عنيفا متواصلا ونحن نسمع صوت صاحب البيت وأصحابه وربما نزلائه يغنون ويضحكون سكارى هائصين، أشياؤنا بالداخل (فى الأغلب) ونحن نجلس على الثلاث درجات التى تتقدم الباب، والدنيا فى الداخل تضرب تقلب، ولا أحد يفتح ومال بعضنا على بعض واستسلمنا لاحتمال النوم على السلالم الثلاث، لكن الأصوات علت أكثر فأكثر، وحسبنا أن قتالا قد دار: حادا وخطيرا يكاد لا ينقصه إلا إستعمال السلاح الأبيض والأسود جميعا، فقلنا ليلة لن تمر، وإذا بنتيجة الشجار تنتج عن ‘هبوط إضطراري’ عدوا على السلالم ثم خروج أحد الأطراف مندفعا كالقذيفة قاصفا الباب وراء ه، لكن من !!، كانت قدمى قد قفزت إلى العتبة قبل رزعته بقليل، فحلت دون إغلاق الباب رغم ما لحق قدمى من أذي، وصعدنا نتنفس الصعداء وعرفت مرة أخرى لماذا سموها ‘الصعداء ‘، وحين دخلنا وجدنا البحار فى عز عزه، لم يهتم بنا أصلا، بل لعله لم يرنا، فقد كان فى حال، فلم نجد جدوى من المطالبة باعتذار أو الحديث عن عتاب، ونمنا، ليس فى الحجرات التى أراها لنا، وانما حيثما وجدنا ما ننام عليه – فى أى مكان، حتى طلع الصباح، فوجدنا الرجل وهو فى غاية الصداع والأسف، فراح يحاول أن يتنازل عن الأجر مقابل ما لحقنا – وحين جاءت إلى خاطرى ونحن، هذه التداعيات وجدت أن وجه الشبه هو إندفاعة ذلك الرجل الأمستردامى من البيت إلى الخارج لحظة وصولنا بعد توه استكشافي، وقلت لذاكرتى: ما هذا، وكيف استطاعت اندفاعة صاحب المخيم هنا راجعا محتجا، أن تستدعى اندفاعه نزول السلم هناك، فسبحان من جعل من كل حركة حكاية !!، وفى كل اندفاعة شبه، ومن كل ترابط مغزى .
وحين التففنا فى المخيم المهجور حول طاسة الشواء، والأولاد منهمكون فى اعداد ‘العشاء الأخير ‘سنحت الفرصة لاسترجاع بعض مواقف الرحلة، وسنحت أكثر لاعلان رأيهم فى شخصى ومنحى صفات اختزنوها مرغمين طوال الرحلة، ولست أدرى أى جو من السماح جعلهم يتحدثون عنها بلا تردد لعله: التعب، والجوع، وقرب الفراق، ورائحة الشواء، وخلو المخيم جميعا فقالت إحداهن أنى الطاغى الطيب، وأجابت أخرى: لكنى محتمل، وأضاف ثالث أن مشكلة صحبتى أنه لا يمكن التنبؤ بما أفعل ، فردت أخرى: أنى حين أخطئ مندفعا يصعب تصحيحى ولكنى حين أخطيء هادءا فثمة أمل فى حوار، وقلبت كل هذا بينى وبين نفسى رغم أنى قاومت ظاهريا، وتعجبت مرة ثانية: ما الذى فك ألسنتهم هكذا ؟ هل قربتنا الرحلة من بعضنا حقا ؟ وهل خفت الحواجز ؟ وهل كشفونى عن قرب فاقتربوا ؟ وهل حققت – بذلك – الرحلة غرضها ؟ ولكن هل أنا كذلك حقا كما قالوا ؟
تعشينا ‘العشاء الأخير’ واحتوانا الكوخ جميعا هذه المرة، وأمضينا الليلة الأخيرة فى حتمية واحدة دافئة بأنفاسنا وذكرياتنا جميعا .
الخميس 13 سبتمبر 1984:
أصبحنا ونحن راضون عن كل ما كان، وما لم يكن، وودعنا الأولاد وودعونا، وتواعدنا أن ينتظرونا فى الأسكندرية عند وصولنا بالباخرة، فسوف يستقلون الطائرة من جنيف، وليكن يوما فى الأسكندرية هو جزء لا يتجزأ من الرحلة، ومنحناهم – بعد حسبة صعبة – مما تبقى معنا ‘علاوة تأخير’ ففرحوا بها لأنها جائت فى آخر لحظة على غير توقع، فركبت وأمهم العربة وأخذنا نلوح بالأيدى وكأنا قطعنا معهم عمرا آخر، وسط عمرنا العادى الممتد أو عمر موازيا لعمرنا الذى نعرفه، وما أن اختلينا فى العربة بدونهم حتى أحسسنا بفراغ طيب، فرغنا منهم، وفرغنا إلينا، وعلمت أن الفراغ ليس دائما سلبا، بل هو عادة دعوة إلى إمتلاء، أو هو ينبغى أن يكون كذلك، فجعلنا نقطع الطريق فى هدوء، فالوقت متسع، والتأمل واجب والجو صحو، ففضلنا أن نسلك الطريق العادى – لا السريع – حول ضفاف البحيرة (ليمان) متجهين إلى لوزان فمنتريه، وتذكرنا كل ما كان فى العام الماضي، وتوقفنا مع المزاحمين فى ‘مونتريه’ دون أن نزاحم، فما كان غرضنا إلا أن نقولها فى صمت: للناس والطبيعة، ثم عاودنا المسير، وفى نيتنا أن نصل إلى فينسيا فى نفس اليوم، برغم هدوء الايقاع، فقد كنا نقطع المسافات دون أن ندرى إذ يبدو أن المسير أصبح يحمل مقومات راحته واستمراره فى ذاته، فجعلنا نستنشق ريح جبال جديدة، رغم أن عموم المنظر أصبح مألوفا، ودخلنا فى نفق ممتد أكثر من عشرين كيلو مترا (على حسب ما شعرنا) إلا أنه كان مفتوحا من جانب مثل طريق عين الصيرة من داخل، أو مثل بواكى مصر الجديدة كما بناها البارون ‘امبان’ قبل حكاية الحى السادس والحى السادس عشر، أو مثل بواكى سوق الحميدية فى دمشق، فاعتدنا النفق حتى أننا أسفنا حين انتهي، ومررنا من نقطة الحدود بنفس السهولة التى دخلنا بها، وحين وصلنا الى سلسلة جبال ‘سان برنارد’ مالت العربة تلتقط أنفاسها، وما لهثت، وفى خلال ربع ساعة أو أكثر حيث توقفنا ساد صمت ثري، يسترجع هذه الخبرة الملاحقة، وشعرنا، دون كلام أيضا، أننا نحتاج عمرا بأكمله لنستوعبها بحقها، ناهيك عن تحمل مسؤليتها، (و أحسب أن من بعض ذلك خروج هذا العمل ‘هكذا’) .
ما إن وصلنا الى ‘أيوستا’، بعد ألعاب جبلية بهلوانية، حتى بدأ الطريق السريع، السهل، الخطر، الممل، فانطلقنا مصممين على الوصول فى نفس الليلة، وعند ميلانو، ازدحم الطريق وكأنه شارع صلاح سالم فى عز لخبطة المرور عصر يوم فى رمضان، لكننا مضينا فى النهاية، وانطلقنا فى غير كلال ظاهر، وما أن بقى على الطريق ستين كيلو مترا حتى شاهدنا لافتة تشير الى قرب مدخل ‘فينسيا’ شخصيا، فأقول لزوجتى: ‘تصورى أن هذا البلد الساحر البحرى الصغير يمتد قطره إلى ستين كيلو مترا’ فقالت’ياه’ !! وكأنها توافقني، فاقترحت عليها أن نستكشف هذا البعد الممتد فى اليابسة لهذا البلد المائى جدا !!، وكنا نتكلم وكأننا لم نر فينسيا أصلا، وكأننا لم نعبر الجسر الفاصل بينها وبين’ميستر’ (مثل جسر زفتا وميت غمر) عشرات المرات، وكأننا لا نعرف أنها البلد الذى يمكن أن نخترقه من أوله إلى آخره راجلين عدة مرات فى اليوم الواحد، فكيف بالله يخطر ببالنا أن قطرها يمتد إلى 60 كيلو مترا، المهم أننا خرجنا من الطريق السريع نستكشف’أطراف البلد’ !! !! وننوى أن نمضى الليلة فى فندق جديد فى هذا الظرف الجديد، فإذا بنا نفاجأ أنها فسينزا Viscenza وليست فينسيا Venezia واعذرنا بعد هذا التعب الذى ما كنا ندرى أنه وصل لهذا الحد، وضحكنا وأنتبه فجأة أنها (فيسينزا) البلدة التى فى ضواحيها صدح اللحن فجأة، فسمعه نيتشه، وعرف أنه زرادشت، فاستسلم لما ملأه، ثم راح بعد سنتين يحدثنى على لسان زرادشت بما كان له فى حياتى من آثار لم أعد أتبينها تحديدا، وإن كنت أعلم أنها مما يحافظ على أملى المستحيل طول الوقت، وأتذكر أمى وهى تخاطب مقام السيدة أن ‘جئتك يا طاهرة’ لأن كثيرا من هذه الزيارات الدالة كانت بناء عن’نداء’ من صاحبة المقام أكثر منها بقرار إرادى من أمي، نداء يأتى فى الحلم أو فى غيره، لكنه يتأكد أثناء الزيارة حتما، وأتساء ل وأنا ألف حول مداخل الطريق السريع عائدا، هل نادانى زرادشت ونيتشه فانحرفت السيارة للزيارة دون إذنى نتيجة لهذا الخطأ الجيد، فأحييهما شاكرا وأنظر إلى زوجتى ملتمسا لنا العذر، إذ يبدو أنه: كم تعبنا، وكم أخفينا تعبنا، لكن هذا لم يمنع من تحسرنا ونحن ندخل الطريق السريع من جديد، فندفع رسوما جديدة، إلى فينسيا البحر، لكن: هل نتعلم مجانا يا سيد ؟ ونواصل السير فى عناد جديد حتى نصل إلي’بادوفا’ حيث كنا قد تهنا إليها فى رحلة الذهاب، فنتذكر فوائد التوه فى الرحلات، فأقترح على زوجتى أن نقضى الليلة فى بادوفا التى أعجبتنا أثناء توه الذهاب، فنستكشف ونستأنس، ثم إنه لم يبق على فنيسيا وميستر إلا بضعة عشر كيلو مترا، ونمضى نبحث عن فندق فلا نجد إلا فندقا عتيقا رائعا، فنحسب حسبتنا، فنجد أننا نستطيع، فنترك أشياءنا ونعود الى البلدة نبحث عن مقهى أو مطعم، والساعة لم تتعد العاشرة مساء، لكنها: مثل أغلب بلاد أوربا ‘هس هس !! ‘ وأعود لتساؤل قديم: لماذا تنام أوربا هكذا من العشاء ؟ ربما لأنهم ناس ورائهم شغل، ونلتقط محل بقالة ومقهى فى نفس الوقت، لذلك هو لم يقفل بعد، فنتقوت، ونتناقش، ونتشاجر، ونذهب للفندق فننام فى حجرة كأنها من القرن السابع عشر، حتى الحمام والحوض مصنوع من الخشب، أو مغلف بخشب طبيعى ذى نكهة نافذة .
وقد اقترحت على الأولاد – وكانوا معى – أن نبيت فى نفس المخيم الذى أمضيت فيه ليلتين سنة 1969، فيوافقونى مجاملة، لأنهم أمضوا فى طريق عودتهم فى العام الماضى ليلة فى مخيم على البحيرة مباشرة وكان أضمن وأجمل، وأحاول أن أتذكر اسم مخيمى فأعجز، ولا أتذكر إلا ‘الاتجاه’ ناحيته، فتظهر إشارات مخيمية، أتصور أنها هي، ولكنها تؤدى بنا الى مخيم مهجور، والساعة متأخرة، وليس أمامنا خيار كثير، وكان الليل قد أطبق، ثم إنها ليلة واحدة لنا واثنتين للأولاد، فاستخرنا الله وقلنا نتحمل سواد الليل كيفما اتفق، المهم أن نضع جنبنا على أرض ما، ونلتحف بسقف ما، نعم كان مهجورا، لم نلمح فيه سوى نزيل أو اثنين، وكان يبدو بلا صاحب وكأنه ترك بقية الموسم صدقة جارية لمن يريد، وقلنا همم، وهاي، بلا فائدة، ثم ظهرت قافلة من القطط غير الضالة تتقافز حول شبح قائم فى الظلام (كما فى السينما !! ) فتبينا أنه المسئول عن المكان يزفه ويتقدمه موكب القطط التى لا بد أنها كانت ضالة فلمـها، فصارت حرسه الخاص وعشيرته، وكان وجه جهما، لكنه مرحب فى هدوء فاتر، وأخذ يكلمنا بلغة غريبة رجحنا أنها الألمانية من كثرة ما امتلأت لهجته بالشخط، وما تخللها من ‘خاء ات’ وما يسببه نطقها من نفخ متكرر فى شدقيه، وأنت تستطيع أحيانا أن تميز بعض اللغات الأخرى بموسيقاها، أو بقراء ة ملامح الوجه والشفاه أثناء نطقها، ولكن ماذا نستفيد من تمييز أنها الألمانية (يا فرحتنا !!) ونحن لا نفهم حرفا – وتذكرت وأنا أكتشف من واقع الحال أن ثمة سويسريين ألمان (!!) كمان أن ثمة سويسريين فرنسيين سواء بسواء، (بل وإيطاليين ) أعنى يتكلمون بهذا اللسان أو ذلك، ولكن- بينى وبينك – المسألة ليست مسألة لسان، بل كيان، ورحت أتساءل من جديد: ما الذى يربط هذه الشعوب ببعضها داخل حدود دولية (آمنة) ومعترف بها؟!!، مع إختلاف اللسان هكذا، وما الذى يفرقنا نحن العرب عبر حدود لا آمنة ولا معترف بها (بما يعنى الاستقلال الحقيقى ) ونحن نتكلم نفس اللسان ومن قديم الأزمان، ومع ذلك لم يربطنا اللسان، وحين هممنا بتصور ارتباط أدق، التففنا حول زعيم ‘خطيب’ واعد، نفخنا فيه حتى كان ما كان مما لست أذكره، فظن ما تظن، ولا تسأل عن الخبر، نعم: وحدتنا لغوية خطابية، ووحدتهم إقتصادية نفعية (وقد كانت إلى عهد قريب حضارية حقيقية، ثم أصبحت فوقية مهددة بالإغتراب) – فظل الرجل الالمانى يشخط (أى يتكلم)، لكن بغير زعل، فقد كان مبتسما طول الوق، أوهكذا أوحى لنا الجوع والظلام، وحين فشلت كل محاولات التفاهم، أخرج ورقة وكتب رقما، فرجحنا أن هذا الرقم هو إيجار الكوخ (البنجالوز) فى الليلة، فرضينا، ولم يكن أمامنا إلا أن نرضي، ومع إصرارنا وقبولنا لكل شيء، يبدو أنه أخذته الشفقة علينا – بالألمانى -، فراح ينصت لما لا يفهم، ويستجيب لإشاراتنا التى تطلب مرة بوتاجازا، ومرة غطاء زائدا ( فقد بردت الدنيا-نحن فى منتصف سبتمبر يا ناس)، وزاد الأمر برودة خلو المخيم من أى صخب دافيء كما اعتدنا أن تكون المخيمات، وأصر الأولاد – رغم ضيق الوقت-أن يطبخوا لنا طبخة الوداع، ولسبب آخر: هو ألا يفسد التموين الذى جلبناه معنا من فرنسا شخصيا، وما كان لنا أن نرفض ‘عزومتهم ‘ رغم عزوفنا عن قضاء آخر ليلة بوقتها المحدود فى هذا الطبيخ، ومثله.
وانطلقنا إلى جنيف البلد نودع، ولم نتمكن إلا من تحية الممشى أمام سلسلة الفنادق على طرف البحيرة (ليمان ) وحيينا مرورا على الرصيف فندق البريزيدانت قائلين له أن (‘بنجالوزا’)، تخفق الأرواح فيه وتحيطه رائحة الشواء وتصدح منه الضحكة الرائقة، أحب إلينا من فندق جنيف يقدم خدمة رائعة بأنوف عالية تنحنى لقرش تحتقر صاحبه، وهناك فى هذا الممشى الجميل المتسع أخذت أسترجع كراهيتى للمكان، فسعدت باكتشافى أنه حتى إسترجاع الكراهية هو نبع طيب لنبض حياة ثرية، إذ يبدو أن المهم أن نحب وأن نكره ، وأن نعاود الحب وأن نعاود الكراهية فنتخذ موقفا فى كل حين، من كل شيء فاقتربت أكثر فاكثر مما أكره، حتى اكتشفت أنى أكرهه لأنى أملت فيه ما يستحق، فلم يعطنى ما وعد.
فقد ارتبطت عندى جنيف بالنظافة والجمال والنظام، وما أروعها علامات على الحضارة بما تحمل من احترام الغير، وتصورت أنه بإمكان زائرها أن ينتقى مما يلقى على حواسه نغمات تؤلف لحنا جميلا رائقا، لكننى وجدت ما يجعلنى أراجع إرتباطاتى السابقة فجنيف قد امتلأت بالكلاب وسفاهات العرب، أما العرب فقد سبق الكلام عليهم، وأما الكلاب فقد ملأونى تحديا، وملأوا شوارعها بفضلاتهم، ولا يوجد جهاز مهما بلغت ملاحقته يستطيع أن يتابع ما تفعله ‘الكلاب’ بالشوارع، اللهم إلا إذا عينت البلدية وراء كل كلب موظف نظافة، أو ربما ألزمت أصحاب الكلاب بأن يتوقفوا عقب قضاء الحاجة يتصرفون بمعرفتهم فيما آذوا به شعور الأخرين والشوارع، وقد جعلت أتأمل ظاهرة اقتناء الكلاب بهذا التواتر الغريب، وكأن العلاقة بين الجنيفى (والأوربى عامة ) والكلاب قد حلت محل العلاقة بين الإنسان والإنسان، بل إن المسألة لم تقتصر أبدا على الكلاب، حتى أنى شاهدت فى حديقة فى باريس بعينى رأسى سيدة شديدة النظافة (والعقل كما يبدو) وهى تجر خلفها أرنبا مدللا، (أى والله) وقد لفت جذعه برباط جلدى مثلما يفعلون بالمينى كلب (الكلاب المصغرة الدقيقة !!) – فيزداد ترجيحى أن الكلاب والقطط والنسانيس والأرانب قد حلت محل الانسان لما التهمته خدعة الحرية والندية فصارت العلاقات صفقات، وصارت اللقاء ات مصالح سطحية، وفرضت الوحدة على كل ما هو بشرى ‘حر!’، فرضت الوحدة الصقيعية اللهم الا من فرقعات التصادم التى تحدث بالمصادفة أو بالجذب اللحظى ثم كل ملهـى فى حاله، والإنسان مازال يحتاج لمن يربطه ويتبعه، كما يحتاج لمن يرتبط به فيعتنى به، والكلاب – ولامؤاخذة – يقومون بهذا وذاك بعد أن عجز الإنسان والإنسانة أن يأمنو ا لبعضهم البعض، ومع ذلك فقد شوهت الكلاب جنيف فكرهتها.
أما النظام، وهو أعظم ما يحدد خطى الانسان فى اتجاه غائي، فقد تضخم فى جنيف حتى كرهته وكرهتها، فقد امتد النظام إلى زهور الشوارع والأرصفة والحدائق الجانبية والعامة، فصارت تنسق بمنتهى الدقة كل صباح، أو كل ساعة، وقد خيل إلى من فرط العناية بها، والتنوع أنهم قد يبدلونها كل أسبوع إن أمكن، لكنهم تمادوا فى ذلك حتى حسبت أن الطبيعة قد رفعت يدها عن زهورها، ليحل محلها هذا التشكيل المحكم القاسي، وليس عندى أحن من الطبيعة وهى تهدينا زهرة ما، أو ظلا ظليلا، نهذبه بقدر ما يؤكد انسجامنا مع نغم الطبيعة الأصيل، أما أن نتدخل كل هذا التدخل حتى ينقلب الحال الى ما يشبه الوسواس ‘الزهوري’ فنجد الزهور وقد اصطبغت بصناعة إنسانية مفتعلة ترسم الشكل، بالملليمتر الواحد، فهذا ما أشعرنى بالمبالغة حتى كدت أشك فى أنها زهور طبيعية، فرحت – فى السفرة السابقة – أنقل مشاعرى هذه الى زوجتي، فتوافقنى حينا وتخالفنى حينا، حتى إذا هممت بالامساك بالزهور الشديدة التنسيق لأتأكد أنها ليست من البلاستيك نهرتنى خشية أن يحسب الناس أنى أهم بقطفها، وخوفا على الزهرة من شكوكى.
كرهت جنيف ومن قبل، وتأكدت كراهيتها هذه المرة، فرحت أقبل على ما كرهت إقبال اليقظ الفرح بصراحة مشاعره رغم أنها مشاعر النفور، وكان الجو ليلا ولسعة البرد المنعش تذكرنا أننا ما زلنا فى أوروبا، وتشدنى من كراهيتى مباراة فى ‘الباتيناج’ تقام بين شباب غض ماهر نشط، حيث ملعبها هو الرصيف الناعم الملمس، يحيط بالملعب بضعة متفرجين من المارة مثلنا، والمباراة – إن صح التعبير – هى بين شابين لا يتعديان العشرين، وقد لبس كل منهما حذاء الباتيناج ذى العجلات، ووقف بقية أفراد الثلة يتابعون، وقد رصوا علب الكوكاكولا الفارغة فى خط طويل وعلى مسافات متساوية أو مختلفة، ويبدأ المتبارى الأول من بعيد منزلقا على عجلاته، فيمر فى خط متعرج يشبه ‘زجزاج’ بين كل علبة وأختها من ناحية إلى أخري، بحيث لا يجمع علبتان معا، ولا يلمس أى علبة ما أمكن، فهو لو لمسها فى سرعته تلك ستقع حتما وقد تتدحرج بعيدا، يعملها مرة بكلتا قدميه، وأخرى بقدم واحدة، ثم بالقدم الأخري، ويعد المشاهدون من الثلة (الحكام) عدد العلب التى لمسها (انقلبت) فى كل مرة ثم يأتى غريمه ويبدى من المهارة – بدوره – ما يبدى وهكذا، وأقف مشدوها معجبا بكل هذه المرونة، والمهارة، والسرعة، والتحكم، وأتذكر مهارة شبابنا التى فاجأتنى يوما من حيث لم أتصور، كانت رحلة نظمها نادى الجزيرة إلى ‘دهب ‘ فى سيناء على خليج العقبة، وقد قام بعض الشباب الذى كنت أحسبه هشا خرعا مائة بالمائة قام أحدهم يؤدى رقصة ما، هى نوع من ألعاب القوى حتما، أحب أن أسميها رقصة الاختراق (هذه هى الترجمة الاقرب – كما تصورت – لما شاهدت حيث يسمونها Break dance ) وفرحت بهؤلاء كما فرحت بأولئك، ولكن يا ترى: هل هذه المهارات الأصيلة (فى جنيف) أو المستوردة (فى شباب نادى الجزيرة فى دهب) تصب فى وجود ماهر، حاذق، فعلا، متحد، أم أنها إستمناءات جسدية تدور حول نفسها ؟ وأنا لا أشك فى العلاقة بين هارمونية الجسد وهارمونية الوجود، لكنى أشك فى أن المواصلات عند هؤلاء الشباب بين المهارة الجسدية والوجود المتناغم قد سهلت بأى درجة تسمح بالطمأنينة، حيث أنى أتصور أنهم قد أغلق عليهم وعيهم حتى صارت المسألة كلها – على قدر علمى وملاحظتى – سيرك آدمى جميل ، وأعبر لابنتى عن تاريخى القديم مع هذا القبقاب ذى العجلات، وكيف استعرته من صديق – رحمه الله – بمصر الجديدة، وكيف اختليت بنفسى فوق سطح بيتنا المبلط غير المستوى ، وكم وقعت ووقعت حتى كدت أكسر عظامى عدة مرات، لكنى وحتى الآن ما زلت مستعدا أن أعاند من جديد، ويبدو أن إبنتى صدقتنى حتى أنه لما فاض معها مبلغ من المال قبل ركوب طائرة العودة مباشرة اشترت لى حذاء (تطور القبقاب الآن ) ذى عجلات، فرحت أجربه بعد عودتنا فى السر – فى هذا السن، فاكتشفت تيبسى وكهولتى وخطورة التمادي، لكننى – ولا تقل لأحد – ما زلت أحاول، ومع تحفظى على جدوى مهارة الشابين، فقد انحنيت – سرا – لهما إعجابا حتى ظننت أنهما صالحاني، على جنيف بشكل أو بآخر.
ونعود للمخيم، ونتوه، ونجده بعد لأي، فيفتح لنا الرجل السويسرى الألمانى نصف نائم، وبعد شخط ونفخ وطيبة وتسامح، يفتح لنا وينصرف لا يلوى على شيء، وأتذكر سنة 1969 أن ثمة وجه شبه بين هذا الألمانى المنتفخ الأوبخ وهو يفتح لنا بالصدفة فى عجالة، وبين فتح بالصدفة فى لقاء متعجل آخر، عشته مع زوجتى فى أمستردام، حيث أننا أول ما وصلنا بالسيارة إلى هناك، صادفنا بيتا متواضعا فى الضواحى يؤجر صاحبه حجراته لأمثالنا من أبناء السبيل على قدر حالهم، وكان مديره بحارا – أو صاحبه – رجحت لغير ما سبب أنه أمي، وقد وشم ذراعيه وصدره بما ينبغى ووجدنا إيجار الحجرة شديد الرخص لى ولزوجتى وزميل إيرانى وزوجته وزميل مصري، فما صدقنا، فتركنا أشياءنا عنده ومضينا مسرعين إلى جولة التعرف والإستطلاع، وإذا بنا نكتشف أننا قد ابتعدنا بما يهدد عثورنا على العنوان من جديد، لكن المثابرة فى المحاولات استمرت حتى رجعنا إلى البيت حوالى العاشرة مساء، وكنا قد علمنا الباب بسقاطة تتدلى منه ومقبض قديم مكسور، فجعلنا ندق الباب دقا عنيفا متواصلا ونحن نسمع صوت صاحب البيت وأصحابه وربما نزلائه يغنون ويضحكون سكارى هائصين، أشياؤنا بالداخل (فى الأغلب) ونحن نجلس على الثلاث درجات التى تتقدم الباب، والدنيا فى الداخل تضرب تقلب، ولا أحد يفتح ومال بعضنا على بعض واستسلمنا لاحتمال النوم على السلالم الثلاث، لكن الأصوات علت أكثر فأكثر، وحسبنا أن قتالا قد دار: حادا وخطيرا يكاد لا ينقصه إلا إستعمال السلاح الأبيض والأسود جميعا، فقلنا ليلة لن تمر، وإذا بنتيجة الشجار تنتج عن ‘هبوط إضطراري’ عدوا على السلالم ثم خروج أحد الأطراف مندفعا كالقذيفة قاصفا الباب وراء ه، لكن من !!، كانت قدمى قد قفزت إلى العتبة قبل رزعته بقليل، فحلت دون إغلاق الباب رغم ما لحق قدمى من أذي، وصعدنا نتنفس الصعداء وعرفت مرة أخرى لماذا سموها ‘الصعداء ‘، وحين دخلنا وجدنا البحار فى عز عزه، لم يهتم بنا أصلا، بل لعله لم يرنا، فقد كان فى حال، فلم نجد جدوى من المطالبة باعتذار أو الحديث عن عتاب، ونمنا، ليس فى الحجرات التى أراها لنا، وانما حيثما وجدنا ما ننام عليه – فى أى مكان، حتى طلع الصباح، فوجدنا الرجل وهو فى غاية الصداع والأسف، فراح يحاول أن يتنازل عن الأجر مقابل ما لحقنا – وحين جاءت إلى خاطرى ونحن، هذه التداعيات وجدت أن وجه الشبه هو إندفاعة ذلك الرجل الأمستردامى من البيت إلى الخارج لحظة وصولنا بعد توه استكشافي، وقلت لذاكرتى: ما هذا، وكيف استطاعت اندفاعة صاحب المخيم هنا راجعا محتجا، أن تستدعى اندفاعه نزول السلم هناك، فسبحان من جعل من كل حركة حكاية !!، وفى كل اندفاعة شبه، ومن كل ترابط مغزى .
وحين التففنا فى المخيم المهجور حول طاسة الشواء، والأولاد منهمكون فى اعداد ‘العشاء الأخير ‘سنحت الفرصة لاسترجاع بعض مواقف الرحلة، وسنحت أكثر لاعلان رأيهم فى شخصى ومنحى صفات اختزنوها مرغمين طوال الرحلة، ولست أدرى أى جو من السماح جعلهم يتحدثون عنها بلا تردد لعله: التعب، والجوع، وقرب الفراق، ورائحة الشواء، وخلو المخيم جميعا فقالت إحداهن أنى الطاغى الطيب، وأجابت أخرى: لكنى محتمل، وأضاف ثالث أن مشكلة صحبتى أنه لا يمكن التنبؤ بما أفعل ، فردت أخرى: أنى حين أخطئ مندفعا يصعب تصحيحى ولكنى حين أخطيء هادءا فثمة أمل فى حوار، وقلبت كل هذا بينى وبين نفسى رغم أنى قاومت ظاهريا، وتعجبت مرة ثانية: ما الذى فك ألسنتهم هكذا ؟ هل قربتنا الرحلة من بعضنا حقا ؟ وهل خفت الحواجز ؟ وهل كشفونى عن قرب فاقتربوا ؟ وهل حققت – بذلك – الرحلة غرضها ؟ ولكن هل أنا كذلك حقا كما قالوا ؟
تعشينا ‘العشاء الأخير’ واحتوانا الكوخ جميعا هذه المرة، وأمضينا الليلة الأخيرة فى حتمية واحدة دافئة بأنفاسنا وذكرياتنا جميعا .
الخميس 13 سبتمبر 1984
أصبحنا ونحن راضون عن كل ما كان، وما لم يكن، وودعنا الأولاد وودعونا، وتواعدنا أن ينتظرونا فى الأسكندرية عند وصولنا بالباخرة، فسوف يستقلون الطائرة من جنيف، وليكن يوما فى الأسكندرية هو جزء لا يتجزأ من الرحلة، ومنحناهم – بعد حسبة صعبة – مما تبقى معنا ‘علاوة تأخير’ ففرحوا بها لأنها جائت فى آخر لحظة على غير توقع، فركبت وأمهم العربة وأخذنا نلوح بالأيدى وكأنا قطعنا معهم عمرا آخر، وسط عمرنا العادى الممتد أو عمر موازيا لعمرنا الذى نعرفه، وما أن اختلينا فى العربة بدونهم حتى أحسسنا بفراغ طيب، فرغنا منهم، وفرغنا إلينا، وعلمت أن الفراغ ليس دائما سلبا، بل هو عادة دعوة إلى إمتلاء، أو هو ينبغى أن يكون كذلك، فجعلنا نقطع الطريق فى هدوء، فالوقت متسع، والتأمل واجب والجو صحو، ففضلنا أن نسلك الطريق العادى – لا السريع – حول ضفاف البحيرة (ليمان) متجهين إلى لوزان فمنتريه، وتذكرنا كل ما كان فى العام الماضي، وتوقفنا مع المزاحمين فى ‘مونتريه’ دون أن نزاحم، فما كان غرضنا إلا أن نقولها فى صمت: للناس والطبيعة، ثم عاودنا المسير، وفى نيتنا أن نصل إلى فينسيا فى نفس اليوم، برغم هدوء الايقاع، فقد كنا نقطع المسافات دون أن ندرى إذ يبدو أن المسير أصبح يحمل مقومات راحته واستمراره فى ذاته، فجعلنا نستنشق ريح جبال جديدة، رغم أن عموم المنظر أصبح مألوفا، ودخلنا فى نفق ممتد أكثر من عشرين كيلو مترا (على حسب ما شعرنا) إلا أنه كان مفتوحا من جانب مثل طريق عين الصيرة من داخل، أو مثل بواكى مصر الجديدة كما بناها البارون ‘امبان’ قبل حكاية الحى السادس والحى السادس عشر، أو مثل بواكى سوق الحميدية فى دمشق، فاعتدنا النفق حتى أننا أسفنا حين انتهي، ومررنا من نقطة الحدود بنفس السهولة التى دخلنا بها، وحين وصلنا الى سلسلة جبال ‘سان برنارد’ مالت العربة تلتقط أنفاسها، وما لهثت، وفى خلال ربع ساعة أو أكثر حيث توقفنا ساد صمت ثري، يسترجع هذه الخبرة الملاحقة، وشعرنا، دون كلام أيضا، أننا نحتاج عمرا بأكمله لنستوعبها بحقها، ناهيك عن تحمل مسؤليتها، (و أحسب أن من بعض ذلك خروج هذا العمل ‘هكذا’) .
ما إن وصلنا الى ‘أيوستا’، بعد ألعاب جبلية بهلوانية، حتى بدأ الطريق السريع، السهل، الخطر، الممل، فانطلقنا مصممين على الوصول فى نفس الليلة، وعند ميلانو، ازدحم الطريق وكأنه شارع صلاح سالم فى عز لخبطة المرور عصر يوم فى رمضان، لكننا مضينا فى النهاية، وانطلقنا فى غير كلال ظاهر، وما أن بقى على الطريق ستين كيلو مترا حتى شاهدنا لافتة تشير الى قرب مدخل ‘فينسيا’ شخصيا، فأقول لزوجتى: ‘تصورى أن هذا البلد الساحر البحرى الصغير يمتد قطره إلى ستين كيلو مترا’ فقالت’ياه’ !! وكأنها توافقني، فاقترحت عليها أن نستكشف هذا البعد الممتد فى اليابسة لهذا البلد المائى جدا !!، وكنا نتكلم وكأننا لم نر فينسيا أصلا، وكأننا لم نعبر الجسر الفاصل بينها وبين’ميستر’ (مثل جسر زفتا وميت غمر) عشرات المرات، وكأننا لا نعرف أنها البلد الذى يمكن أن نخترقه من أوله إلى آخره راجلين عدة مرات فى اليوم الواحد، فكيف بالله يخطر ببالنا أن قطرها يمتد إلى 60 كيلو مترا، المهم أننا خرجنا من الطريق السريع نستكشف’أطراف البلد’ !! !! وننوى أن نمضى الليلة فى فندق جديد فى هذا الظرف الجديد، فإذا بنا نفاجأ أنها فسينزا Viscenza وليست فينسيا Venezia واعذرنا بعد هذا التعب الذى ما كنا ندرى أنه وصل لهذا الحد، وضحكنا وأنتبه فجأة أنها (فيسينزا) البلدة التى فى ضواحيها صدح اللحن فجأة، فسمعه نيتشه، وعرف أنه زرادشت، فاستسلم لما ملأه، ثم راح بعد سنتين يحدثنى على لسان زرادشت بما كان له فى حياتى من آثار لم أعد أتبينها تحديدا، وإن كنت أعلم أنها مما يحافظ على أملى المستحيل طول الوقت، وأتذكر أمى وهى تخاطب مقام السيدة أن ‘جئتك يا طاهرة’ لأن كثيرا من هذه الزيارات الدالة كانت بناء عن’نداء’ من صاحبة المقام أكثر منها بقرار إرادى من أمي، نداء يأتى فى الحلم أو فى غيره، لكنه يتأكد أثناء الزيارة حتما، وأتساء ل وأنا ألف حول مداخل الطريق السريع عائدا، هل نادانى زرادشت ونيتشه فانحرفت السيارة للزيارة دون إذنى نتيجة لهذا الخطأ الجيد، فأحييهما شاكرا وأنظر إلى زوجتى ملتمسا لنا العذر، إذ يبدو أنه: كم تعبنا، وكم أخفينا تعبنا، لكن هذا لم يمنع من تحسرنا ونحن ندخل الطريق السريع من جديد، فندفع رسوما جديدة، إلى فينسيا البحر، لكن: هل نتعلم مجانا يا سيد ؟ ونواصل السير فى عناد جديد حتى نصل إلي’بادوفا’ حيث كنا قد تهنا إليها فى رحلة الذهاب، فنتذكر فوائد التوه فى الرحلات، فأقترح على زوجتى أن نقضى الليلة فى بادوفا التى أعجبتنا أثناء توه الذهاب، فنستكشف ونستأنس، ثم إنه لم يبق على فنيسيا وميستر إلا بضعة عشر كيلو مترا، ونمضى نبحث عن فندق فلا نجد إلا فندقا عتيقا رائعا، فنحسب حسبتنا، فنجد أننا نستطيع، فنترك أشياءنا ونعود الى البلدة نبحث عن مقهى أو مطعم، والساعة لم تتعد العاشرة مساء، لكنها: مثل أغلب بلاد أوربا ‘هس هس !! ‘ وأعود لتساؤل قديم: لماذا تنام أوربا هكذا من العشاء ؟ ربما لأنهم ناس ورائهم شغل، ونلتقط محل بقالة ومقهى فى نفس الوقت، لذلك هو لم يقفل بعد، فنتقوت، ونتناقش، ونتشاجر، ونذهب للفندق فننام فى حجرة كأنها من القرن السابع عشر، حتى الحمام والحوض مصنوع من الخشب، أو مغلف بخشب طبيعى ذى نكهة نافذة .
الجمعة 14 سبتمبر:
إستيقظنا فى هدوء رغم شجار ليلة أمس، ومضينا نتجول فى بادوفا، فوجدنا بلدة مترامية ثرية، فيها كل شيء لكل شيء، ترى: من يستهلك هذا كله يا ناس ؟ (تانى !!)، ونواصل المسير بعد تناولنا قهوة الصباح فى قهوة بادوفى رقيق، ثم نجد عندنا من الوقت ما يسمح بالذهاب الى مخيم ‘المرأة المهرة’ هل تتذكر: الفصل الثالث ؟ ونشترى بما تبقى لدينا من نقود حاجيات تخيم لازمة لكل الاحتمالات. حتى المرحاض المنتقل وكيميائياته، نشتريها وكأننا سنذهب الى وطننا من هنا، وهات يا رحلات من هنا (لم نستعمل هذه الأشياء مرة واحدة فى بلدنا حتى الآن 1979)، ونتغذى فى المطعم الذى قدم لنا الأرز الخاص بالكمون والنكهة المميزة، ثم نتوجه إلى الميناء فى فينسيا.
و تهل علينا روائح مصرية- ليست هى مصر، ولكنها روائح بعض ما حل بمصر، فقد كانت الأنظمة حينذاك ما زالت تسمح بهذه التجارة المضحكة التى تستورد فيها العربات القديمة بالجملة، وأكتشفت- عكس رحلة الذهاب- أن معظم زملاء رحلة العودة هم من هؤلاء المصريين العاطلين والمغامرين الذين يشحنون العربات والبشر بالجملة، كل عربة قديمة تحملها’ناقلة بشرية’ لها جواز سفر واسم ورقم، وهى ناقلة لا تدرى عما يجرى حولها، ومن خلالها، شيئا، كل ما عليها هو أن تسلم جواز السفر، وصاحبه، عدة أيام، مقابل أن تقبض كذا قرشا، ويوقع على توكيل ما، فيذهب المحلل البشرى غافلا منعزلا، ويعود مجروح الكرامة فاتر الدهشة.
رأيته كما عرفته فى بلدنا، نفس ‘اللبدة’ ونفس الجلباب، ونفس المسبحة، ونفس التمتمات، كان منزويا قى أحد الأركان يتابع فى حذر وخوف واستسلام ما يجرى حوله، وحين اقتربت منه وفاتحته بطريق غير مباشر قال لى: أنه ‘و الله يا ابنى ما أعرف، تعال تعال، روح روح، وربنا يرزقه ويهدى سره’- يعنى إبنه- فقد كان هؤلاء المغامرون يستعملون آباء هم وأمهاتهم كعبـارات قديمة لعربات قديمة، ولعلهم كانو يسترخصون الأجر باستعمال الأقربين السذج.
ويقترب منى قبل أن تقلع السفينة رجل كهل أعرج، ذو وجه أكاد أعرف من هو، أو بتعبير أدق، أكاد أعرف ماذا سيقول هذا الوجه قبل أن يقوله، وجه متهدم قد لصقت فى تجويفه العلويين عينان ترقصان حذرا وقد أمتلأتا بما يشبه النصاحة، فيحيينى بالعربية المصرية، وأنه فى الخدمة، ويدلنى على بعض إجراء ات شحن الماكينا (العربة بالطلياني)، ولا يصدق أنى اصطحبتها معى من مصر، فأسأله إن كان مسافرا معنا، فينظر حوله، ويرطن بالطليانى لبعض من لا أعرف، ثم يواصل أنه يقيم هنا منذ أكثر من عشرين سنة، وأنه لا عمل له إلا مواصلة التقاضى مع الشركة التى أصيبت فيها ساقه وهو يعمل بها بحارا- وينظر إلى ساقه التى يعرج بها، وأنه بالرغم من نيله بعض حقوقه، فإنه لا يزال يستأنف لينال بقية حقوقه، وأنه لو عمل لضاع عليه تأمينه، وهكذا، وهكذا، وحين يطول بنا الحديث بالرغم مني، يميل على قائلا: معك دولارات ؟، فأتردد، ثم أجيب أن نعم، فيقول: هل تريد الإحتفاظ بها؟ فأقول طبعا، فيشرح لى كيف يشتريها منى بجنيهات مصرية، فأفهمه أن هذا غير وارد لأسباب كثيرة لا أريد أن أعددها، ويداخلنى إشفاق مؤلم عليه، وعلى بلدي، وعلى نفسي- ويقبل علينا ونحن نتحدث شاب طويل راقص فى سماحة، فيعرفنى العجوز عليه باعتباره أنه إبنه ويذكر له إسمى خطأ (د.السخاوي) فأغتاظ، وكأنى أحسب أنى نار على علم، لا يصح الخطأ فى إسمى حتى من مغترب عاطل فى فينيسيا يا للغرور، وتنتهى المقابلة باعتذاره عن المقايضة بالجنيه المصري، ويعتبرنى أبلها أو عبيطا، دون أن يعلنها، فأكتفى بالانسحاب وأنا أكاد أغوص فى غثيان من ثقل ريح حضور إبنه-إن كان حقا إبنا له- وأصعد بعربتنا الى المركب بأرقامها المصرية، وألمح نظرات العجب والاستخفاف، ويصارحنى بعضهم أن كيف أخرج بها ثم أدخل بها، وكأن المفروض أنه إما أن أخرج بعربتي، وإما أن أعود بها، لا يجتمعان، هذا هو المنطق التجارى الشطارى السائد، ولا أستفسر، ولا أشرح، وأكتفى بالرد على التساؤلات أنها’ظروف’، وأتحمل الصياح من حولى وأحدهم ينادى الآخر أن ‘السبع عربيات بتوعي’ كذا وكيت، ويمضى يقود واحدة تلو الأخرى يرتبها فى السفينة فيذكرنى بترتيب أكياس القطن فى بلدنا على العربة الكارو لتسليمها للشونة، ثم ينتقل لحمل الاجساد/الأسماء السبعة التى سيدخل العربات باسمهم، ويكاد يرتبهم فى مقاعد الركاب ترتيب أجولة القوالح الهشة، وأبتلع كل ذلك غير رافض، لأنها تجارة قانونية، وغير قابل، لأنها إهانة إنسانية، وأكاد أغرق فى سحابة من الغثيان تتكثف حول وعيي، ورغم أنها نفس المركب، الا أننا (شخصى وزوجتي) نشعر أنها ليست كذلك، ليست هى مركب الذهاب، والأدهى من ذلك أننا نشعر بالغربة حين وجدنا أنفسنا بين أغلبية مصرية، فنخجل أن نعلنها حتى لأنفسنا، فالأصوات عالية، والألفاظ قبيحة وجارحة، حتى وصل الأمر أن أحد هؤلاء الشبان لبس لباس الاستحمام (المايوه) وهم أن ينزل حمام السباحة أعلى السفينة، هم أن ينزله بتأديب وفى دوره، واذا بأصدقائه يتصايحون عليه يحاولون منعه، حتى قال أحدهم ‘حتكسفنا يا ابن القحبة’ ولعل الشتام قرر أنه لا أحد يفهم العربية إلا هو وصديقه مع أن أكثر من ثلاثة أرباع الركاب كانو من المصريين، وكان يجلس حول الحمام أستاذ فاضل وزوجته أكاد أعرف وجهيهما، فقامت السيدة لتوها وقد امتقع وجهها، وبدا لى هذا التناقض مرعبا، أيهما يخجلنا ؟ الشباب الذى يتصرف تلقائيا فيستحم فى حمام السباحة مثله مثل كل الناس، أم الذى فضحنا أمام أنفسنا وأمام الأغراب وهو ينصح زميله ألا ‘يكسفنا’ !!! وتلقيت الصفعة فى صمت عاجز، وتصورت أن كثيرا من النهى عن المنكر (إن كان منكرا) – هو منكر أكبر والعياذ بالله، ويدور الكاسيت الضخم بصوت أم كلثوم عاليا مزعجا فينفرنى حتى من صوت أم كلثوم، وأشاهد الشاب الطويل النحيف – الإبن المزعوم للبحار الأعرج- وهو يتجول فى صالة الإستراحة، أو يطلب القهوة من الكابتشينو بأسلوب ليس كابوتشينيا، وأعجب حين أراه يسحب كلبا صغيرا مربوطا بسلسلة رقيقة طول الوقت، فلا هو يبدو من هؤلاء، ولا الكلب يبدو فى مكانه الصحيح، وأفتقد العلاقة العميقة الأخرى الذى فسرت بها هذه البدعة الأوربية الحديثة فهذا الشاب يجر الكلب فى قسوة دون أن يدري، ولا يناديه باسمه، ولا أرى الكلب يقفز على ساقيه أو يتمسح به، وأقول لعلها تجارة جديدة مثل تجارة العربات والبشر، وأشك فى طبيعة المهمة، والبنوة، والكلب، والسلسلة، ويصدق حدسى فقد قبض البوليس المصرى على هذا الشاب، هو وكلبه فور نزولنا من السفينة، لست أدرى لماذا. وأنظر فى عينى زوجتى فأجد عندها مثل ما عندي، فأصيح بها وكأنها المسئولة عن ما خطر ببالنا معا، أصبح ‘لا: ليست هذه مصر’ فترد أنها لم تقل شيئا، وتروح تلتمس الأعذار لكل ما أزعجنا، ولكنى أشعر أنها تبتلع الأعذار ابتلاعا وتحاول أن تقنع نفسها بها قبل أن تقنعنى.
وتطول الرحلة فى البحر حيث ركبنا من فينيسيا وأتنفس الصعداء حين نصل الى بيريه، فأبادر بالنزول أستنشق هواء مغايرا فى سماح مغاير، وأقول لهذه البلدة المرحـبه أن وداعا، ولم أكن قد تجولت فى بداية الرحلة فى بيريه، فتصحبنى زوجتى لأعرف بعض معالمها، وأحمد الله أن اليوم (16سبتمبر 1984) هو الأحد، فالمحلات مغلقة، فلا شراء، ولكن أبدا، فمحلات الحلوى مفتوحة فلا بأس من فستق لأن فلانه تحبه، وهذه البومبونيرة من محل حلويات من باب الذكرى وتتعرف زوجتى على بائعة الحلوى فقد سبق أن حادثتها بالعربية أثناء الذهاب، وهات يا كلام وذكريات، وتتحسر البائعة على أيام الأسكندرية، وأنها تربت هناك حتى سن العشرين، فأقول لها أن ذلك قد مضي، وأن أجد الأسكندرية هنا أكثر مما أجدها هناك، وترد محتجة ‘أن أبدا’ هناك يقولون ‘تفضل’، هناك من يحلف عليك أن تشاركهم كل شيء حتى الألم هناك من يحيطك بالرعاية دون أن تطلب، أما هنا، وتمط شفتيها، وتشير بإصبعها إنه ‘القرش’. ولا أعقب، وأتراجع عن أحكامى الظاهرية، ولكنى لا أرجع عنها ونمضى فى الشارع على مهل حتى نجد أريكة نجلس عليها، ويتصادف أنها مقابل كنيسة جميلة وجمهرة من الناس من ذوى الوجوه الحمراء المشرقة متجمعة أمام الباب، لعلها صلاة، ولكننا قرب المغرب فلعله حفل عرس خواجاتى ونتأكد أنه كذلك، فتتمسك زوجتى بمقعدها فرحة فرحة خاصة، فللأفراح عندها جذب خاص، سواء رأت سيارة مزينة، أم سمعت دقة الفرح فى فندق ما، أو سمعت زغرودة فى بلدنا، وهى فى ذلك عكسى تماما حيث أتصور دائما أن حفل العرس هو للعلانية لا للإعلان وأظن أن الفرح هو فى المشاركة لا فى التباهي، وقد بدأنا حياتنا (زوجتى وأنا ) بهذا الاختلاف، وأبلغتها رأيى فوافقت (أو حسبت أنها وافقت) وتصورت أن عرسنا سوف يتم بهدوء وببساطة كما قررنا (قررت) وأنه ليس لأحد غيرى وغيرها أن يتدخل، وذهبت اليها عصر اليوم المحدد مع والدتى فقط، واصطحبتها الى بيتنا بعد استقبال طيب هاديء، لكن الايام تمر، وأكتشف بعد سنوات أن الليلة السابقة لاصطحابى عروسى هذه كانت فرحا كما الأفراح، ولكن بدون عريس (الذى هو أنا ) وابتلعت الغصة، وأخذت- بعد فوات الآوان- أتصور تساؤلات الناس، وإصرار الأهل، وحرج زوجتي، وأتساءل دون أن أعلم: كيف وافقت هي؟ وكيف شرحت لهم ؟ وكيف بررت؟ وكيف اختفت ؟ ولكن لا بد أن الليلة مرت والسلام، وأن الناس فى اليوم التالى قد صدقوا أن ثمة عريسا، بدليل أنها زوجتى منذ ذلك الحين وحتى الآن، فرحت أفسر إنجذابها الى كل فرح كائنا ما كان، وحديثها عن أحلامها برؤية ابنتها أو إبنها فى ثوب الفرح، أفسر هذا وذاك بما فعلته بها حين حرمتها من فرح عرسها، حين تصورت أن معنى الكلام الذى نقتنع به هو فى حجم الفعل الواجب فعله، وبالضبط -و خرج العروسان الخواجيان من الكنيسة، وكانا زهرتين فى غاية الجمال، وحولهما الوجوه ممتلئة بالفرح، والمقارنة والمشاركة، والحقد، والحسرة، والدعوات، والتسليم، والمصمصة، وبالرفاء والبنين وربنا يستر، وربنا يتمم بخير .. نفس التعبيرات فى كل فرح، بكل لغة تقرأها على الوجوه كأنها كتاب مفتوح.
و نعود إلى المركب حامدين الله أنه لم يبق على وصولنا الا غطستين (ليلتين) ونهارا، فالليل فى مثل ذلك الجو فائدته الأولى هو أن نقتضى الساعات، والنهار سوف تنقضى مثلما انقضت نهارات سابقة، وقبل أن نصعد إلى المركب مباشرة أجد معى بعض دراخمات، فأميل إلى محل صغير يبيع مطواه بشوكة وسكين، فأشتريها لزوم الرحلات أيضا، فتسألنى البائعة من أى بلد، فأقول مصري، فتقول ما معنى (…..) تنطق عدة ألفاظ عامية مصرية بلكنة يونانية، كلها أعضاء جنسية وعملية جنسية، تنطقها وهى لا تدرى ماذا تقول، ويبدو أن أحد المصريين قد أوهمها أن هذه الألفاظ تعنى شيئا آخر، فلا أترجمها لها، وأنصحها ألا تكررها لأن معناها لا يليق، وأبتلعها على مضض ولا أعرف كيف أعتذر عنهم .
الثلاثاء 18 سبتمبر 1984:
و نصل إلى الاسكندرية صباحا فنتم بذلك شهرا ويوما، ويستقبلنا الأولاد هم هم أولادنا يستقبلونا مثلما استقبلونا فى بيريه، فنفرح فرحة تغسلنا من ذلك الجو الجائم، وكنت قد وعدتهم باكمال الرحلة فى الاسكندرية ليوم واحد، يوم وصولنا، وبعد إجراء ات لا لزوم لأغلبها (11) وبعد التشهيل الكريم والثقة الطيبة فى شخصى من رجال الجمارك المرهقين، أخرج بعربتى إلى الشارع المصرى فأجدنى وكأنى قد نسيت القيادة، فقد كنت فى الخارج حين أعطى إشارة اليمين أو اليسار، أتصرف باعتبار أن من خلفى من سيارات قد تلقت الرسالة، لكنى تذكرت أنه ينبغى على هنا أن أعطى الأشارة، ثم أخرج ذراعي، ولا بأس من إخراج رأسي، ثم بعد ذلك لابد أن أتقى خطأ الغير بنفسي، وبسرعة إستعدت حذقى القديم وشطارتى الواجبة لمواصلة السير دون حوادث، وبعد إستراحة قصيرة فى المنزل نزلنا نزور قلعة قايتباي- كما السواح- ولم أكن قد زرتها من قبل، وإذا بها شديدة الروعة بالغة التنفير فى آن واحد وآمل أن تكون الرائحة إياها قد تضاء لت أو اختفت بعد خناقة الصرف الصحي، ولكنهم كانو يقولون فى بلدنا ‘ لا زرعك ولا ولدك تغضب عليه’ فأضيف، ‘ ولا بلدك’ أولا ودائما أذ من سيمسح عنها دموعها، وينقى أجواءها غيرنا ؟؟
الجمعة 14 / 8 / 1986:
اليوم هو عيد الأضحى المبارك، والمكان هو فندق ‘ريجينا ماري’ فى جليفادا (اليونان) والمنطقة مليئة بالعرب إن كان ثمة توسط، فالأكثر ثراء تركتهم منذ عامين فى ‘كان’ ولابد أنهم ما زالوا هناك، أو عادوا إلى هناك، وفندقنا مثل غيره ملئ بهؤلاء دون أولئك، والأولاد فى فندق قريب، فتواعدنا منذ أمس أن نصلى العيد فى الخلاء، وأن نجعل مكاننا ظاهرا، وتكبيرنا عاليا ليلحقنا من يلحقنا من المسلمين، وحين مررت على الأولاد فى الخامسة صباحا أهنئهم بالعيد، وأكبر وأهلل وأنا أوقظهم كما اعتدت فى مصر، صادفنى رجل عربى ذو لحية سفلية يبدو فى منتصف العمر والساعة الخامسة صباحا، وهو فى بهو الفندق، فقلت خيرا لابد أنه استيقظ مثلنا يصلى العيد، فألقيت عليه السلام فلم يرد بوضوح، لكنه تمتم حتما بالعربية، وهو نصف نائم أو نصف لا أدري، فخجلت ومضيت فى طريقي، وحضر الأولاد، وافترشنا الأرض فى الحديقة المقابلة، وأخذنا نهلل ونكبر حتى طلعت الشمس وبعدها بقليل، أقمنا الصلاة وصلينا، وخطبنا وكبرنا، ولم يلحقنا أحد من كل هؤلاء المسلمين المحيطين، وقلت لا أظلم أحدا، وحساب كل منهم على الله، وذهبت للإفطار فاذا بأغلب من حولى يتكلم العربية، ولا يشعر أى منهم بعيد أو بغيره، واذا بى لا أجرؤ أن أقول لأحدهم ‘ كل عام وأنت بخير’، أو أن أسلم عليه باليد مهنئا خشية أن يردنى خجلا، وجعلت أتعجب من كل هذا، وقررت الإسراع بالسفر من هنا رغم روعة المكان، فما حضرت هنا لأغترب وسط أهلي، ثم إن المسألة ليست مسألة تدين، أو إقامة شعائر عبادة بذاتها، فما صلاة العيد- مثلا- الا سنة، لكن للدين وجها إجتماعيا غير علاقة الانسان بربه وأدائه فروضه، غير الحلال والحرام، وغير الحدود والاحكام، الدين إنتماء، والعيد يعلن هذا الانتماء ويؤكده، وأنا لا أعرف فئة كثرت أم قلت فى أى مكان فى العالم لا تحتفل بعيدها مثلما عشت هذا الدش البارد الذى تلقيته على يد بعض أخوة العرب المسلمين الأمجاد هنا، ومازال الأرمن مثلا، وهم أقلية فى كل مكان يحتفلون جميعا بأعيادهم حتى لو كان بعض أفراد الطائفة ملحدين، فالعيد عيد يا ناس، فإلى ماذا ننتمى بعد ذلك، وماذا ندعى قبل وبعد ذلك، وكنت قد عزمت الأولاد على رحلة بحرية نزور فيها الجزر الثلاث فى خليج ساونيك: ‘هيدرا ‘، و’ بوروس ‘ و’ أجينا ‘، فصعدنا الحافلة فوجدناها مليئة- أيضا- بالعرب، ولا كل عام وأنتم بخير ولا يحزنون، حتى الشيوخ والشيخات، أصابهم سهم الله فأصبحوا واجمين، وحين قلت للأولاد ونحن وقوف فى الحافلة هيا نفرض عليهم العيد بالتكبير والتهليل وسط الأتوبيس، لم يكن الأمر بهجة طارئة كما حدث منذ عامين فى الشانزليزيه فى باريس، بل كان غيظا وانفجارا وتحديا، وفعلناها بضع دقائق، فشاركنا شاب أو أثنين والباقى هس هس، حتى الشيوخ نظروا لنا شذرا!!!
و لكن قف !، عندك، هذا هو: فقد وصلت حالا الى قرارى الأول فى هذه الرحلة الحالية،ألم أقل أنى عدت إلى هذه السفرة بالذات بحثا عن قرار؟
وهانذا أقرر: خذ عندك القرار هو: ‘ أن هذا يكفى ‘، فما لى أستدرج للكتابة عن هذه الرحلة الجديدة، ولن يحدث، وهذا القرار قابل فورا للتنفيذ، فلن أكتب عن تلك البلاد الساحرة ولا عن ‘جليفادا ‘ التى جمعت بين جينف وبوسطن وباريس، ولا عن جزيرة هيدرا الأشبه بفينسيا، ولا عن شوارعها الضيقة ودرجها المتصاعد وخلوها من السيارات، ولن أشير إلى إدراكى كيف يستطيع المسافر أن يسافر وهو فى بقعة محدودة، لو أحسن تحديد الهدف واختيار ما يناسبه، وكيف أنه يمكن أن يلف العالم دون أن يسافر، بل أكثر من هذا، فأنى أعتذر عن عدم ختم هذا العمل (الناس والطريق) بما رأيت يوما أنه مسئولية حتمية ورسالة واجبة التبليغ وهو وعدى غير الجازم بأن أكتب عن رحلاتى الى جنوب سيناء وخاصة الرحلة الأولى (6/26-85/7/3)، و أنا أشد النادمين على ذلك، فكم تمنيت أن أكتب عن شعورى بما هو ‘نفق أحمد حمدي’ وما هو تحرير سيناء رغم أنف الذين لم يقبلوا الأرض، ولم يلحسوا التراب، والذين لم يشربوا من ماء ‘دهب ‘ والذين لم يلمسوا على صخور سانت كاترين تبركا وحمدا، ورغم أنف القوة المتعددة الجنسيات كأنهما شرذمة من معسكرات ضعاف العقول، أو كأنهم منفيون من بلادهم يقضون مدة عقوبة على جريمة لم يرتكبوها، وكم تمنيت أن أكتب عن الأشياء الصغيرة التى أعادت لى ثقتي- وما راحت أبدا- ببلدى الحقيقى: عن عامل البنزين الذى أيقظناه فى رأس سدر، فلم يسخط وناس وادى فيران الذين ساعدونا حين غرزت السيارة، ووادى فيران نفسه بخضرة نخيله، وتنوع جماله وتحدى طبيعته، وصدق ناسه، وروعة احتضان الجبل له واحتضانه الجبل، بحيث تصورت أنه من بين أحد المواقع القليلة التى يمكن أن أكمل فيها ومنها رسالتي، المزعومة أكتبها للناس والتاريخ لو أننى قررت أن أتفرغ لها، وكم كنت أود أن أكتب عن الطلمبة المجاورة للدير، فى سانت كاترين التى شرب منها- فى الأغلب- سيدنا موسى !!، وعن جماجم الرهبان ودلالتها ورسالتها وعن صلاتنا الظهر فى أحد ردهات الدير، وعن لغة الجبال الرصينة من كل جانب حول الفندق الرائع الطيب، وعن ذلك المرشد البدوى الذى اتفقنا معه أن نصعد الجبل لنرى الشمس بين الجبلين، فحضر- حسب الموعد- فى الثالثة صباحا، وكان قد جد جديد جعلنا نعتذر، ويأبى هذا المصرى الشهم أن يأخذ مليما ولو على سبيل الهدية، ويؤكد أنه ‘حصل خير’ وأنكم لابد عائدون مرة وأخري، وأنه سيكون فى الخدمة، ويمضى راضيا مبتسما بكل عزة وكرم وطيبة وافتخار- واطمئن أنى حين سخطت على مصرى الباخرة لم أكن أسخط على مصر، ولا على هؤلاء المصريين الذين أعرفهم، والذين لم (و لن) يشوهوا، نعم .. كان بودى أن أقول لكم ماذا همس لى كل جبل من جبالنا على حدة، فحملنى رسالة خاصة أملا فى أن أنقلها إلى أشقائه: جبال الجيرا وجبال الألب، وربما إلى جبال الهملايا يوما، من يدرى ؟ وكم كنت أود أن أحكى عن شمال سيناء، وعن اغارة غابات الخرسانة على جبال النخيل، وإغارة ناس الوادى على ناس الطبيعة، وكم كنت أريد أن أحكى عن رفح، وكندا وياميت المرحومة وأوبروي، ، وسوق العريش، ورجل البوليس الطيب يهدينا بود فائق كأننا بنوه … كم كنت أود أن أحكى كل ذلك وأترك قلمى يتداعى فيحركنى أكثر وأتعرى أكثر، ولكن — جاء القرار بكل هدوء وتسحب حتى أنهى هذا العمل ‘هكذا ‘، ‘هنا ‘، ‘الآن ‘ .
وهكذا توقف هذا العمل فجأة فى: فندق لندن- جليفادا- الساعة التاسعة مساء، الحادى عشر من ذى الحجة ثانى أيام عيد الأضحى المبارك الموافق 15 / 8 / 1986 .
[1] – أحسست أن المطالبات أدق تعبيرا من الطلبات، ومع ذلك تركنهما معا لعل كلا منهما تؤدى معنى مختلفا.
[2] – انظر أيضا – أن شئت – موضوع حوار هذا العدد
[3] – يشير الى تكليفه بالجيش بعد 1967، وهو مدرس التخدير بالجامعة ثم ارساله الى الجبهة دون اعداد للقيام بدور الممارس العام.
[4] – “اذا لم يذهب محمد الى الجبل فليحضر الجبل الى محمد” ، أو العكس.
[5] – اشارة الى الجملة اياها لجمع التبرعات لسداد ديون مصر من المهاجرين المصريين بتقديم المشهيات الفنية.
[6] – نسبة الى الاتحاد السوفيتى
[7]- أظن أنى أشرت لذلك فى فصل سابق: ولكنى أكرر!!
[8]- Elle dessend de la montagne a cheval (bis)
Youppi ya ya ya yiouppi ya ya ya .. youppi (bis)
Elle portait des pstolets a sa ceinture (bis)
Ellerenontre son grand pere en descendant (bis)
Elle renontre son grand pere en descendant (bis)
Elle embrasse son grandpere en descendant (bis)
J’ aimerai bien etre son grand pere en descendAnt (bis)
[9] – باعتبار أن محمد هو العريس، ويتغير الإسم إلى مصطفى أو فتحى أودسوقى حسب اسم العريس
[10] – سمعت أثناء رحلتى الأخيرة إلى بوسطن من صديقنا المنفصل عن زوجته تطالبه بنصف ثروته، أن القضاء هناك يحاكم الزوج بتهمة الإغتصاب، لو أتى زوجته بغير رضاها، حتى لو كان قد مر على زواجهما عشر سنوات أو أكثر، ولم أعرف بماذا يقيسون الرضا والقبول
[11]- Jeanettean pren
sa faucillc
Larinette Larinette
Pour ailer ailer couper le ble’ (bis)
En chemin elle rencontre
Larinette Larinette
Quatre jeunes te beaux garcons (bis)
Le premier un pcu timide
Larinette Larinette
Lui caressa le menton (bis)
Le second un peu moins sage
Larinette Larinette
Lui enle’ve son blanc jupon (bis)
Le troisie’me encore moins sage
Larinette Larinette
La coucha sur le gazon (bis)
Ce qu’a fait le quatrie’me
Larinette Larinette
N’est pas dit dans la chanson (bis)
La morale de cette histoire
Larinette Larinette
C’est que les hommes sont des cochons (bis)
La morale de cette morale
Larinette Larinette
c’est que les femmes aimcnt les cochons (bis)