روبـابكيـا
عزة أحمد أنور
تحكمين قبضتك على العكاز جيدا حتى لا يفلت منك وأنت تصعدين السلم، حجبت عينيك داخل النظارة الداكنة، مسحت قطرات العرق بمنديلك الستان، تنعمين بالجلوس مع فنجان القهوة وهو بين راحتيك … حديقة الأزبكية ماض ولى ولن يعود .. فتصبح الأوبراهى البديل.
الكراسى القطيفة تسند ظهرك تماما، فتجلسين بإسترخاء، عيناك مغلقتان على حركات راقصة البالية الرشيقة التى تملؤك .بالنشوة، وهى تكاد تطير من فوق سطح الأرض الأملس.
تحـلقين مع البالرينا فى سماء الذكريات، تنفرط سنوات العمر، ترفلين فى ثوب أبيض، حباته الدقيقة اللامعة تمشى بالأيدى الكثيرة التى انكبت عليه ليال طويلة.
وهو .. ببدلته التى رصـعت بالنياشين توحى بعظمة لا تخطئها عين.. بطاقات الحفل المكتوبة بماء الذهب، إسمك المسبوق دائما بلقب هانم.. حتى وهو على فراش المرض.
صممت أن يشترى لك تلك العلبة القطيفة لكى تسمعى صوتها الذى يشبه صوت أجراس صغيرة تهزها الملائكة … تعودت أن تجلسى أمامها كل ليلة ثم تراقبى صورته العريضة التى بطول الحائط، بزيه العسكرى وهو يركب جواده ويطوف به على الفدادين التى لا تحدها عين. مرة واحدة سقط من فوق جواده وتهدلت أطراف شاربه عندما وجدتيه فى حضن زينب الخادمة.. كانت الحروف تخرج مفتتة من شفتيه مع خبطاته المرتعشة على باب الغرفة: إسم العائلة يا دولت.
حبست نفسك فى سريرك النحاسى وسط الستائر المزركشة صممت ألا يلمس طرف ملاءتك الا بعد ما يطردها بنفسه. أما هى فلن تنسى نظرة عينيها وهى ترشقها فى عينيك وهى تحلب اللبن من ضرع البقرة التى كانت هى الأخرى تنظر إليك بنظرة ناعسة، ومستمتعة بربتاتها فوق الضرع.
عروس العلبة ظلت تدور لما بعد الليالى الألف حتى انحنى ظهرها ولم يعد قادرا على الدوران.
مط البائع شفتيه وهو يقول لك:
-مفيش زيها يا هانم دلوقت.
- ولا حتى قطع غيار.
- ولا حتى قطع غيار.
قطعة اللحم الواحدة تكلفك أكثر من خمسة جنيهات يوميا، وبائع الروبابكيا يقول لك أن الصورة ذات الإطار الذهبى العريض لا تساوى أكثر من ثلاثة جنيهات، وعلبة المجوهرات، تضعينها تحت وسادتك ليل نهار، تفتحين النور فى أى وقت وسط الليل تنظرين إليها، الفصوص لم تعد تلمع كما كانت لكن الخواجة وحده سيفهم قيمة مجواهرتك الثمينه.
تجرين قدميك إلى حى الصاغة.. بدت ملامح صاحب المحل غير مألوفة لك.
أنت على صبى الخواجة مش كده؟
أيوه يا هانم ، لكن ده باع المحل من زمان.
أمسك قطعة المجوهرات فى يده .. قربها من عينه ولمس طرف شاربه بلسانه.. هاتفا:
- حاجه تجنن حتى عين الخبير متعرفهاش بسهوله..
- تقليد بره يا هانم.
قهوه الفيشاوى لايوجد فيها موضع لقدم لتلتقطى أنفاسك من صخب الشباب، وبائع السجائر، وماسح الأحذية.. لا مكان لعربتك الكاديلاك فى هذه الأماكن هززت رأسك .. هى الآن ترقد كنسر فقد القدرة على الطيران يغطيها الصدأ من كل جانب.
نشرة الأخبار تعصر لك أخبار العالم وتلقيها فى حجرك.. لم يعد لك مكان .. جذور العائلة كلها هناك هنا تعودت أن تلمس الشفاه ظهر يدك .. صحيح كان ذلك منذ زمن بعيد لكن مازال صداه يتردد داخلك.
رذاذ الماء يندفع إلى زرعة الصبار المركونة على جدار الشرفة قطعتيها من أمام تربة المرحوم … الصبار ينمو دون جذور … لأنه يصنعها فى المكان الذى يحيا فيه.
كرسيك المفضل منذ سنين مازال يطل على النيل، على ذلك الرحال الذى لم يضل طريقه منذ آلاف السنين. لكنه لم يعد عنيفا كما كان، كان يفرق مساحات شاسعة من الأراضى فجلب الدمار، لكنه كان يجلب الخصب أيضا.
الكارتة ساعة العصاري، والقبعة ذات غطاء الدانتيلا تحمى عينيك من نظرات المتطفلين، وجهك يبدو كقطعة ملبس ملفوفة يعناية فى غطاء من السوليفان. قبعتك تلقى بعيدا عندما يهتز الكرسى فجأة!.
تندفعين يمينا ويسارا مثل فار أوقعه حظه … فى مصيدة، صرخات الجيران تصل إلى مسامعك العكاز لا يسعفك كما أن سلم العمارة لن يحتمل كل الجيران فوقه، طرقات حادة على الباب، صاحب العمارة يدعو لك ولأهل البيت بالعمر المديد، ويرسل للجميع خطابات إخلاء بأمر من الحي.
تمسكين الورقة بيد مرتعشة، تنظرين لصور العائلة الكريمة المتراصة على الخائط… تمسحينهم بعين ذابلة، تتسائلين هل يسعفك أحد بتليفون لمعالى الباشا؟
طابور العجزة أمثالك يتلوى كثعبان أمام طلبات شقة الإيواء، والخيمة تنتظر له طبقا لقرار السيد الوزير الإنساني، كاميرات التليفزيون تصورك ملقاة على الرصيف لكن المذيعة لا تسمعك وأنت تتمنين: “إجعله راحة من كل شر”.