حالات وأحوال
حالة [1] [هوس واكتئاب، ولكن !!!]
السيدة / أ . ح. م. 29 سنة, يمنية الجنسية, متزوجة ولديها بنتان, ربة منزل تقرأ وتكتب، الخامسة من عشرة إخوة وأخوات، مسلمة.
جاءت تشكو من : خمول وكسل، ولا أريد أن أسير حتى غرفتى لا أشتهى أن أكنسها، نومى قليل ساعة أو ساعتان فى اليوم (ثم أضافت)، إذا كنت نشيطة آكل، وإذا كنت كسلانة لا آكل، أهمل نفسى وبناتى ولا أغير لهم ملابسهم، وأقول لو جاء الموت أحسن لى من ذلك، ساعات أبقى نشيطة وأتحرك كثير، وأهتم بنفسى وأشتهى أبدل ملابسى، ساعات كنت أشك إنه سحر وشعوذة، والمشعوذون قالوا لى ده فعلا سحر، لكن أنا ذهبت إلى ألمانيا وصنعا، وجئت إلى القاهرة وأحيانا أتحسن لكن ترجع لى تانى الحالة.
وقد بدأت الحالة: (كلام المرافق: أخيها) من أحد عشر عاما فى صورة كسل وخمول وعدم رغبة فى عمل أى شيء، وتجلس بمفردها فترات طويلة وتجلس بدون حمام وعدم اهتمام بنظافتها ونوم قليل.
ثم بعد علاج بالعقاقير النفسية تحسنت لمدة سنة، ثم عاودتها الأعراض مرة أخرى ولكن فى صورة نشاط زائد وحركة كثيره ورغبة فى الخروج والأكل الكثير، واستمرت لمدة أسبوعين، و قد ذهبت إلى ألمانيا لاستشارة طبيب باطنى وعملت كل الفحوص الطبية واطمأنت على القلب والكبد ونصحها بالذهاب إلى طبيب نفسى – فى بلدها.
وتبين من التاريخ الشخصى: أنها تأخرت فى التبول فى الفراش إلى سن 10 سنوات وكانت الولادة طبيعية والرضاعة – أيضا – طبيعية، ولكنها مرضت فى سن سبع سنوات بارتفاع شديد فى درجة الحرارة، وشفيت منها، ولكنها أصابتها بالصمم الخفيف فى أذنيها، الذى استمر حتى الآن.
وبالنسبة إلى القياس النفسى ظهر اضطراب متوسط على كل الـمقاييس الإكلينيكية على اختبار شامل للشخصية، وكان هذا فى ذاته مما يربك فى الوصول إلى موقف تشخيصى محدد، ذلك أنه قد تبين أن كل المقاييس كانت عالية مع صدق الاختبار بمعنى أنه ظهر ما يدل على القلق، وتوهم المرض مع ميول تشككية وأعراض مصاحبة وانطوائية ورهابية ووسواسية ولكن بدرجات متوسطة الحدة، وكل هذا ينبه إلى أن قراءة هذه الاختبارات لا تكون مفيدة فائدة حقيقة، إلا إذا أخذت بكل دقة، جنبا، إلى جنب مع الصورة الإكلينيكية.
القراءة الأولى : حالة اكتئاب شديدة، تترواح – أحيانا- مع نوبات نشاط هوسى مختلف الحدة.
القراءة الثانية القراءة البطيئة، والبحث عن الدلالات والمعنى:
السيدة / أ . ح. م. 29 سنة، يمنية الجنسية، متزوجة ولديها بنتان، ربة منزل تقرأ و تكتب، الخامسة من عشرة إخوة وأخوات، مسلمة.
هذه سيدة توسطت عشرة من الإخوة والأخوات، ونحن لم ندرس بما فيه الكفاية نفسية الأخ الأوسط، (الأخت الوسطى) فالحديث كثير عن الابن البكرى وعن آخر العنقود، فماذا عن الأوسط بين عشرة ؟.
(2) جاءت تشكو من : خمول وكسل ولا أريد أن أسير حتى غرفتى، لا أشتهى أن أكنسها، نومى قليل ساعة أو ساعتان فى اليوم.
يشكو المكتئب عادة من عدم القدرة على الفعل، من صعوبة القيام بعمل ما، من العجز عن الحركة، أما أن يصف هذا البطء بالخمول والكسل من ناحيته، فهذا يشد الانتباه إلى بعد آخر، خاصة وأن هذا الوصف لا نجده فى ثقافة (مجتمع/بيئة ) غربية مثلا، ووصف الإنسان نفسه بالخمول والكسل ليس مرادفا لوصفه عجزه نتيجة للبطء الذى هو أقرب إلى التأخر والصعوبة، فيحق لنا أن نتأمل الجزء الإرادى الخفى فى هذا التعبير عن الكسل، ثم انظر فى “لا أشتهى أن أكنسها “بدلا من” لا أستطيع – أو أقدر- أن أكنسها” لتؤكد الفرض نفسه – أى الجانب الإرادى فى المرض- وهذا الفرض عادة ما يرفضه العامة، و كذلك لا يهتم به أغلب الأطباء حين يصرون على رفض فكرة أن المرض النفسى هو “فعل” ، وليس فقط “رد فعل ”
(3) إذا كنت نشيطة آكل، وإذا كنت كسلانة لا آكل.
ويمتد الكسل حتى إلى الأكل فلم تتحدث مريضتنا عن ” فقد الشهية ” ( ماليش نفس)، كما اعتدنا فى حالات الاكتئاب، وإنما عن عدم الأكل نتيجة – أيضا – للكسل.
(4) أهمل نفسى وبناتى ولا أغير لهم ملابسهم.
ثم يقفز “الإهمال” وليس العجز عن العناية بالنفس والبنات ( لم تذكر الأولاد، من ناحية : لأن الأم فى هذه البيئة مسئولة عن بناتها أكثر، ومن ناحية أخرى لاحتمال إسقاط ذاتها على بناتها).
(5) وأقول لو جاء الموت أحسن لى من ذلك.
وحتى الرغبة فى الموت – هنا- ترتبط بالكسل أكثر من الفعل الموجه لإنهاء الحياة، والرغبة فى الموت فى حالات الاكتئاب فى المجتمعات العربية والمسلمة والمتدينة عامة هى أكثر تواترا من محاولات الانتحار، أو التفكير فيه، وذلك نتيجة للموقف الدينى من الانتحار، وهنا أيضا نفرق بين الرغبة فى الموت، والترحيب بالموت، فالواضح هنا أنه ترحيب أكثر منه رغبة، وهذا دليل آخر على موقف المريضة السلبى الكسلى، وكأنها تقول: “حتى الموت هو الذى عليه أن يأتى، وليس أنا التى أذهب إليه”.
(6) ساعات أبقى نشيطة واتحرك كثيرا، واهتم بنفسى واشتهى أبدل ملابسى، وساعات كنت أشك إنه سحر وشعوذة أنه والمشعوذون قالوا لى ده فعلا سحر، لكن أنا ذهبت الى ألمانيا وصنعا وجئت إلى القاهرة وأحيانا أتحسن لكن ترجع لى تانى الحالة.
ومن وسط هذا الكسل والهمود يقفز النقيض، والتعبير هنا بــ ” ساعات ” لا يشير إلى دورات المرض بين الهوس والاكتئاب بقدر ما يشير إلى اختلاط هذا بذاك، وهذا النوع يمكن أن يشبـه بالجدار المثقوب بثقوب مغلقة بصمامات تسمح بانطلاقات الطاقة عشوائيا، حين يزيد الضغط الداخلى ويعجز الجدار والصمامات عن الإحاطة به، وهذا ينبهنا إلى عدم الاستسلام إلى تصور سلبية ” الكسل ” أو الإهمال، باعتبارهما الصفة الأساسية والوحيدة، فالكسل فعل سلبى أكثر منه نتيجة سالبة، أى “لا فعل”، إذ إننا فى الكسل (هكذا) نبذل جهدا حتى ” لا نفعل ” وليس مجرد أننا نكف عن الفعل إذ لا نفعل، وهذه نقطة تغيب عن الوعى العام، والخاص، ونحن نحكم على المتقاعسين والراقدين فى الخط كما نسميهم أحيانا.
(7) وقد بدأت الحالة: من أحد عشر عاما فى صورة كسل وخمول وعدم رغبة فى عمل أى شيء، وتجلس بمفردها فترات طويلة وتجلس بدون حمام وعدم اهتمام بنظافتها ونوم قليل.
إذن، فهذه الحالة طويلة ممتدة، بدأت والمريضة لم تبلغ بعد السادسة عشرة، وهذه البداية المبكرة لمثل هذه الاضطرابات الوجدانية ليست مألوفة كثيرا، وهى تـخـلـخـل الشخصية فلا يكمل نموها، لأنه فى هذه السن يكون نبض النمو فى قمة نشاطه، ويدل هذا الاكتئاب (الكسل والإهمال والعزوف) المتبادل مع هذا الهوس (التحريك النشط وفرط الطاقة) على أن النبض الحيوى (نبض النمو)، قد زاد وتعملق حتى أصبح موظفا لإجهاض النمو وليس لحفزه، ومن ثم تضطرب مسيرة النمو لا بسبب التفسخ كما يحدث فى الفصام دائما، بل بسبب فرط النبض .
(8) ثم عاودتها الأعراض مرة أخرى، ولكن فى صورة نشاط زائد وحركة كثيرة ورغبة فى الخروج والأكل الكثير.
وحين يختل ” مدى ” النبض البيولوجى تظهر دفعات الطاقة فى هذه الصورة القصوى التى تتأرجح بين النشاط والهمودـ (الظاهرين سلوكا)، فكما أشرنا فإن همود الاكتئاب هو فعل وليس مجرد سلب، ثم جاءت هذه النوبة الثانية فى الاتجاه النشاطى (الهوسى)، وذلك بعد زواجها، فقد تزوجت فى سن مبكرة ( 17 سنة )، ولم تكمل تعليمها.
(9) واستمرت لمدة أسبوعين.
ويلاحـظ أن هذا النشاط لم يستغرق سوى أسبوعين مما يؤكد أننا أمام حالة من النوع “الدورانى السريع”rapid cycling
(10) وذهبت إلى ألمانيا إلى طبيب باطنى وعملت كل الفحوصات الطبية واطمأنت على القلب والكبد ونصحها بالذهاب إلى طبيب نفسى.
والملاحظ فى ثقافتنا العربية أن الذهاب إلى الطبيب النفسى ، وحتى التحسن المبدئى من علاجه لا يخلـص المريض وأهله من تصور أنه أمام حالة جسدية صرف. وكثير من الأطباء فى الغرب الذين يذهب إليهم مرضانا ينصحون بوضوح أن تعالج الحالات النفسية فى بيئتها الأصلية، إذ ماذا أدراهم هم عن عاداتنا، وطريقة تعبيرنا عن وجداننا، ومسار فكرنا فى الصحة والمرض، ولكن بعد أن غلب التفكير الكيميائى على مفهوم علاج المرض النفسى تراجع هذا الموقف الأمين (تحويل المرضى النفسيين إلى العلاج فى بيئتهم).
(11) التاريخ الشخصى: وقد ذكر أنها كانت قد تأخرت فى التبول فى الفراش إلى سن 10 سنوات، ثم إنها مرضت فى سن سبع سنوات بارتفاع شديد فى درجة الحرارة وشفيت منها، ولكنها أصابتها بالصمم الخفيف فى أذنيها حتى الآن.
يبدو أن هذه المرأة الوسطى بين إخوانها وأخواتها كانت من البداية متعثرة النمو بشكل أو بآخر، وبالرغم من أن بلل الفراش ليس علامة خطيرة فى ذاتها، إلا أنه فى مثل هذه الحالات قد يكون ذا دلالة على نوع معين من اضطراب خـطـى النمو، وخاصة بالنسبة إلى القدرة على التحكم فى الإخراج، ثم تأتى تلك الحمى العابرة التى كان يمكن أن تمر بسلام، إلا أن ماتركته من صمم خفيف أضاف إلى مشكلة مريضتنا.
وننبه هنا إلى أن الصمم الكامل أو حتى المولود الأصم الأبكم يجد طريقه إلى التكيف والنمو، بالرغم من هذه الإعاقة المطلقة، ولا تحدث عادة مضاعفات نفسية جسيمة لحالات الإعاقة الجسدية الجسيمة، بالمقارنة بما نشاهده فى حالة المعوق تعويقا ملموس ظاهريا مثل حالتنا هذه التى أصيبت عقب الحمى بحالة الصمم الخفيف، الحكاية نفسها بالنسبة إلى شلل الأطفال، فالعجز الشديد البادى لصاحبه وللآخرين تقل مضاعفاتة النفسية عن أنواع العجز غير المرئى إلا لصاحبه مثل ضمور العضلات الذى يسبب عرجا بسيطا يشعر به صاحبه أضعاف ما يشعر به الآخرون، وذلك لأن مثل هذه الإعاقة الخفيفة تجعل صاحبها يركز على ذاته أكثر فأكثر، ثم هو يحاول مقاومتها طول الوقت فيفشل عادة . وفشله هو أمام نفسه أكثر، ثم إن هذه الإعاقة غير المرئية تؤدى من خلال هذا الشعور بالذات إلى مضاعفات نفسية تظهر بشكل مباشر فى صورة معاناة نفسية، أو تكون نواة لمختلف أنواع الاضطراب حسب الاستعداد، كما هى الحال فى مريضتنا هذه.
(12) وبالإضافة إلى الاختبارات العادية التى ذكرت مثلا، فقد أجرى اختبارا إسقاطى بسيط وهو اختبار رسم لشخص شجرة ومنزل، ثم نسألها على كل شكل رسمته بضعة أسئلة (انظر الشكل) ونقرأ فى هذا الاختبار ما يضيف ما يلى من افتراضات يمكن أن تكمل الصورة الإكلينيكية:
فى الاختبار الإسقاطى البسيط : وقد وجدناه صالحا – على قلة المعلومات منه واختلاف الآراء حول مصداقيته، للقراءة الثانية دون الأولى على الوجه التالى:
1 – على الرغم من كفاءتها اللغوية التى ساعدتها على أداء اختبار الشخصية متعدد الأوجه وهو اختبار شامل طويل، فقد جاءت رسومها هنا أقرب إلى الطفلية( أو النكوصية الذهانية).
2- وحين طلب منها رسم منزل لم توافق أصلا على الرسم، وبعد ضغط شديد رسمت ما يشبه البيضة أو الكهف بشكل بدائى تماما (انظر الرسم) .
3- وهى لم توافق أصلا عن الرد على الأسئلة المتعلقة بالمنزل بوجه خاص. (فهو لم يكن منزلا أصلا).
4- فى إجاباتها على بعض الأسئلة الخاصة برسم الشخص، أصرت على أنه: شخص لا تعرفه أصلا، وقالت إنه أحيانا كويس، وأحيانا مش سعيد، لكنها رجحت فى سؤال آخر عدم السعادة.
5 – و بالنسبة إلى السؤال عن الشجرة جاءت إجاباتها ذات دلالة خاصة على الوجه التالى:
- الشجرة شجرة زيتون، ورقها بيسقط، موجودة فى البلاد ( اليمن) عمرها عشرون سنة، هى شجرة ميتة (وليست حية) تأكيدا.
-إن الجزء اللى ميت فيها هو ” الجزء القريب من الأرض” ، هى لا تعرف سبب موته، وإن الشجرة كل ما تكبر الجزء القريب من الأرض يموت أكثر، وإن الشجرة معها أشجار أخرى، لم تظهر، وإن صحتها (صحة الشجرة) مش كويسة لأنها ميتة.
ونود أن نعلق على هذه الاستجابات بافتراضات متواضعـة، إذ تؤكد ابتداء أنها تؤخذ كبدايات يمكن التحقق منها أو تعديلها أو تطويرها حسب المعلومات التى ستتاح من خلال العمل فيها بوسائل فحص أخرى، فنقول :
1) يبدو أن طفولة هذه السيدة شديدة الجفاف، ولنتذكر موقعها الأوسط بين الإخوة، وبلل الفراش، والصمم الخفيف عقب الحمى.
(2) ثم يبدو أنها منجذبة طول الوقت إلى التراجع إلى الرحم (المنزل بيضة لا أكثر، ولا يسكن أحد فيها).
(3) وأن هذه الطفولة المجمدة (الميتة) ظلت وستظل ميتة، الجزء القريب من الأرض هو الميت (مع أن المفروض العكس: أى الذى قد يموت ويسقط هو الأوراق والأطراف!!).
(4) وأن النمو التالى لها، المبنى عليها كان على حساب طفولتها (على حساب الطفولة طول الوقت).
(5) ثم إنها لم تنجح فى أن تقيم علاقة بأشخاص حولها (الشخص بلا اسم) ولا توجد أشجار أخرى حول الشجرة.
التعقيب الختامى:
هذه حالة اكتئاب – أساسا- تتناوب مع الهوس المتقطع، وهذا الفهم الأعمق فى القراءة الثانية لا يعنى أن المسألة “حكاية” لا تحتاج إلى عقاقير أو جلسات فيزيائية لتنظيم المخ، أو أنها تحتاج إلى فهم وتفسير وحل عقلى، وحسب، لا أبدا، إلا أن هذه القراءة البطيئة لفهم “المعني” إنما تعيد للمريض إنسانيته، وتجعل الخطة العلاجية متكاملة، فبعد، ومع، ضبط النشاط الزائد، أو الكسل المعوق بالعقاقير والجلسات المناسبة، يمكن أن يساعد هذا الفهم فى مصاحبة المريضة، وإعادة إطلاق طاقات نموها فى الاتجاه السليم، وعمل علاقات حقيقية مع آخرين، وكل ذلك ليس تحليلا نفسيا، أو تفريغا وتطهيرا، ولكنه إعادة بناء واحترام إنسانية المريض، حتى ولو لم ننتفع بما وصلنا إليه من فهم نفعا مباشرا، فإن العلاقة تختلف مع المريض، من خلال هذه المحاولة الجادة والعميقة.
حالة (2) : فقرة من كلام فصامي
السيد / ى.م.ن. 31 سنة، لا يعمل منذ 5 سنوات، أعزب، من القاهرة.
جاء يشكو من : “.. أنا مهندس، وأنا تقريبا فى الدكتوراة، وحادرس طـب، والناس دول عارفين كده، التعرض للإهانة فظيع، الدنيا دى هندسة كاملة، عندى إحساس أنى من غير بطاقة، الدفاع عن نفسى معدوم، لأنى مهندس محترم”..
القراءة الأولى : ظاهر الأمر: كلام غير مترابط(Incoherence) غموض فى التفكير، مباديء الشعور بفقد الهوية وتغير الذات Depersonalization ربط سببى غيرمنطقى، تناقض.
القراءة الأخرى:
(1) كان كلام المريض ردا عن تعريفا على سؤال “بتشتكى من إيه” ؟ فجاء رده تعريفا بمهنته (وهو بدون عمل).. وقد يكون ذلك ردا عشوائيا، وقد يكون كونه مهندسا محترما (لاحظ نهاية الفقرة)، هو فى ذاته شكوى على مستوى أعمق، فكثير من حالات الفصام (وهذا تشخيصه)، تشكو من ثقل الهوية التقليدية المفروضة على وجودهم، لاحظ انتهاء الفقرة بــ “الدفاع عن نفسى معدوم، لأنى مهندس محترم” ولن نقف طويلا عند “لأني” فالربط السببى هنا ليس – بالضرورة – سببيا، ومع ذلك فهو محتمل.
(2) تعبير أنه “تقريبا فى الدكتوراة” يشير إلى نوع من تفكير الفصامى خاصة حين يغلب عليه الغموض، والتقريب، ثم يتداخل الزمن، كما تتداخل المضامين بين “حادرس” طب، وبين تقريبا فى الدكتوراه (أدرس)، فحين نسمع أن مهندسا يدرس أو سيدرس الدكتوراة يتجه انتباهنا إلى دكتوراة فى الهندسة، ولكن “الدكترة” هنا تشير إلى الطب وليس الهندسة، فيتعمق الخلط ويتأكد التداخل، والهرب من الواقع (الهندسة) إلى الخيال أو المستحيل (الطب) وهذا يشير إلى ظاهرة تتكرر فى كثير من المرضى حين يبدو الحل لهم أن يغيروا محل الإقامة، أو الزوج، أو المهنة، ولا ينجح أى من ذلك لأن الرغبة فى التغيير تكون غالبا تغيير الداخل أو الذات، وليس الخارج أو الظروف.
(3) ثم تأتى النقلة إلى أن “الناس عارفين كده”، فلا هو حدد أى ناس، ولا هو حدد أى “كده”، وخاصة أنه لم يكن هناك ناس أثناء المقابلة إلا الفاحص والمريض، وهذا الكلام ليس – بالضرورة – دليلا على عرض “قراءة الأفكار ”Thought Reading، تحديدا، والذى يشكو فيه المريض من قراءة أفكاره، بل الأرجح أن وجوده كله أصبح “عاريا” فى متناول “الغير”، بما يشمل الأفكار، والخيال، وغيرها.
(4) ثم هو ينتقل فجأة إلى مستوى آخر من عرض نفسه، وكأنه يبرر ما هو فيه، أو هو يبحث عن أسبابه، وكأنه يتكلم عن العوامل التى أدت إلى هذا التداخل بين الحاضر والمستقبل، بين ذاته والآخرين، بين الخيال والواقع، يقول دون توقف، على الرغم من بعد المضمون (ظاهريا) “التعرض للإهانة فظيع”، ومسألة الإهانة بالذات لم تحظ بالدراسة الكافية فى تأثيرها على الفرد، خاصة وهو طفل، خاصة وهو ضعيف، وقد بلغت الاستهانة بها وبآثارها وفى مجتمعنا خاصة مبلغا خطيرا، لدرجة أنى لاحظت أن الأصل فى استقبالها هو الإنكار، وقد وصل هذا الأمر بخطورته إلى مجال السياسة، فلا أظن أن شعوبا تعرضت للإهانة، فألغتها، مثلما تتعرض لمثل ذلك الشعوب العربية، ولا أظن أن شعوبا نجحت فى إنكار ذلك، وكأن شيئا لم يكن مثلما نفعل الآن، وحتى أصبح مثل ذلك سمة قومية.(!!)
(5) ومع الشعور بالإهانة بهذه الفظاعة اكتشف المريض نفسه وهو تحت نظام مؤسسى خانق، لا مفر منه إلا إليه، نظام كامل “هندسة كاملة” ولا ندرى هل كان شطح خياله إلى دراسة الطب هربا من هذه “الهندسة الكاملة” .ويا ترى هل يدرى أن الطب الحديث أصبح هو – أيضا – “هندسة كاملة”.
(6) والبطاقة تسمى هوية، وتحت خطأ وطأة هذا الاختناق من “الهندسة الكاملة”، وفى مواجهة “الإهانة التى لا تطاق”، والشعور بالإهانة الذى لا يحتمل، تهتز الهوية الفردية “حاسس إنى من غير بطاقة”، وقد يصل الأمر فى حالات أخرى إلى الشعور بتغير الذات Depersonalization (أنا أصبحت واحدا آخر أو “أنا لست أنا”)، لكن مريضنا يعبر عن مراحل باكرة من هذا التحول، فهو يحكى عن مجرد إحساس باهتزاز وجوده، وليس بأنه قد أصبح ذا هوية أخرى، هو مجرد شعور يعلن به قرب التلاشى “حاسس” إنى “من غير بطاقة”.
(7) ويصاحب هذا الشعور باحتمال فقد الهوية، شعورا بالعجز، وبالذات العجز عن الدفاع عن النفس، وإذا اجتمع الشعور بالإهانة مع الشعور بالعجز بهذه الدرجة القصوى ، فإن فى ذلك ما يبرر أى تفكك أو تفسخ أو انسحاب.
(8) أما ختام المقطع بأن ذلك هو “لأنه مهندس محترم”، فإنه يذكرنا بما ذهبنا إليه فى البداية من ناحية أن هذه القيمة التى اكتسبها من تأهله كمهندس والتى توحى بدرجة مناسبة من الاحترام الزائف، لم تعد تنفعه (هل تذكر “حضرة المحترم” لنجيب محفوظ؟) ولا نقف طويلا عند “لأن” هذه حيث إن الفصامى يستعمل – أحيانا – أدوات الربط والعطف والوصل بطرق خاصة غير ملزمة بحقيقة وأصل وظيفتها.
تعقيب ختامى:
هذه حالة فصام، نقرأ فيها ما يمكن، مع احتمال أن نجد أكثر من ذلك، أو غير ذلك فى سياقها العام، لكننا نريد أن نوضح طريقة للقراءة الثانية (ثم الثالثة والرابعة) لتنبيه الجميع، وليس فقط الأطباء، إلى التأنى، ومعاودة المحاولة أمام أية رسالة تصلهم من المرضى مهما بدت مفككة.