التـوازن
هيثم الوردانى
بقفزة واحدة كان يعتلى السور الأسمنتى القصير وأمسك بالقائم المعدنى المغروز فيه، قالت الفتاة له إنها تصدقه وأنه ليس بحاجة أن يفعل كل ذلك، إلا أن الشاب أصر على إثبات كلامه بطريقة عملية رغم المخاطر، فمد يده إلى هوائى التلفزيون المثبت آخر القائم وحرك بعض أرجله المعدنية، فظهر فعلا شكل العروسة التى قال فى البداية إنها نوع هذا الهوائى، ولم تصدقه الفتاة الأوربية الجالسة الآن على سطح أحد منازل المدينة مسندة ظهرها إلى السور، فمضى الشاب الثانى النحيف الأسمر ليقف فى مواجهة الفراغ الذى يطل عليه السطح، أخذت أنوار البنايات المواجهة تتكاثر، فقال إنها تصطدم ببصره وتضغط عليه، ثم بصق وظل ناظرا إلى أسفل مستندا بيديه على السور ليرى موقع سقوط بصقته، تمددت الفتاة الرفيعة وأصبحت بحذاء السور الأسمنتى، أخذت تلعب فى شعرها المجعد، نظرت إلى الشاب المعلق فوق السور وسألته وهى تضحك عن رأيه فى العلاقة التى بينها وبين الشاب الأسمر أو أيا كان اسمها، عاد الشاب ليجلس بعد أن سار إلى الركن المواجه ليلقى نظرة، أشعل سيجارة أخرى واتكأ بيده على الأرض بجوار قدم الفتاة الممددة، تحرك الشاب الآخر المنتصب جوار القائم، وأخذ يسير فاردا ذراعيه قائلا دون أن يوجه كلامه لأحد إنه سئم من تكرار حدوث هذا المشهد، سألت الفتاة الشاب المعلق إذا كان يريد أن يسافر هو الآخر. فقال لها إنه لم يعد يدرى، ثم سألها بدوره إذا كانت تريد أن تسافر فقالت إنها مصابة بالملل والاكتئاب، فمضى الشاب الأسمر وتمشى قليلا ثم ناول الشاب الواقف على السور سيجارة وأشعل هو الأخر سيجارة، ووقف متكئا بظهره على السور، كان الظلام الخافت يملأ المكان لا يقطعه سوى النور الأحمر الصغير لجهاز الكاسيت وظلال الأضواء البعيدة، قالت الفتاة للشاب الأسمر بأنها لا ترى سببا لعدم إصطحابه لها بالأمس، وإنه إذا كان يشعر بخجل فى الظهور معها، أو بعدم رغبة فى الإتصال بها فيجب أن يبلغها ذلك صراحة، ثم إنفجرت فى البكاء، أسرع ناحيتها وأحتضنها بحنان وهو يتمتم فى أذنها ويداعب وجهها بظهر يديه، عدلت الفتاة مكانها وجلست مستندة على السور وهى تجهش، أزاحت كوبين زجاجيين بقدمها وهى تمدها فارتطما بالأرض وانكسر أحدهما، قال الشاب الملقى بأنه من الأفضل أن يهدأ وسيصبح كل شيء على ما يرام، ثم إكتشف سذاجة ما يقوله، فقرر أن يصمت، ألا يستجيب لأى شيء تافه يحاول إخراجه عن صمته، استمرت الفتاة فى البكاء، جلس الشاب الأسمر بجوارها على الأرض وأسند ظهره إلى السور، الشاب الآخر أراح مؤخرته على السور الأسمنتى مدليا ساقيه إلى الناحية الداخلية، بدأ الهواء يبرد مع توغل الليل، الهواء يأتى من ناحية حقل البرسيم المقابل حاملا معه لسعات خفيفة، ثم يمر إلى الناحية الأخرى حيث الفضاء الواسع، ثم البنايات المقابلة، تنتصب فوق أحداها أعمدة خرسانية تنتهى بأسياخ حديدية رفيعة، وأخرى يعلوها بيت حمام كبير من الخوص، وثالثة حديثة متعددة الطوابق، ينفتح أحد النوافذ ويلقى بكيس كبير يرتطم بالأرض محدثا دويا مكتوما.
قال الشاب الجالس على السور أنه ترك عمله منذ شهرين وإنه يجب أن يبحث عن عمل ما، ولكنه لا يدرى ما العمل المناسب، حرك ساقيه المدليتين ونظر فى فوق رأسيهما فرأى أعقاب سجائر كثيرة بيضاء فإنتابته رغبة قوية أن ينزل من مكانه لكى يلملم هذه الأعقاب ويذروها فى الهواء على شكل موجة تسقط إلى الخارج.