التليفون
يوسف عزب
(يبدو أن جهاز التليفون يحمل فى طياته النقيضين)
يجب على أن أتاكد دائما أن بتليفونى حرارة.
هذا ما قررته من الآن فصاعدا وبشكل سيدوم لوقت غير معلوم، ذلك أنه من غير المعقول أن يظل ساكنا مددا طويلة ثم تكتشف، بعد ذلك أنه معطوب، تضيع عليك الاتصالات.
لذا فقد قررت أن أطمئن عليه دائما وبشكل مستمر طيلة الأربع وعشرين ساعة.
صحيح أن الفرض الذى افترضته لم يحدث – بقاؤه مدة طويلة معطوبا – ولكن من أدرانى أنه يعمل بشكل طبيعي، ولذا فما على إلا الإستمرار فى الإطمئنان عليه دائما وإن بدت تلك حالة غريبة ولكن لا مفر، على أن أوطد نفسى على ذلك.
اليوم الجو صحو دافيء غريب، بدايات فصل الشتاء نهايات شهر سبتمبر، هو فصل حكايات قديمة معى وقد أعتدت عليها، ولكن مالم أعتد عليه الآن ويقلقنى بصفة خاصة هو بدايات هذا الفصل ونهاياته، فهى تعطيك خليطا من أمور مبهمة غريبة لا يمكن وصفها، مزيجا من القلق والدفء والوعد بالحنان المختلط بلمسات تاريخية كونية لانهائية، لا أعلم لكنه غريب.
اليوم صبيحة تركى العمل، أخيرا اتخذت قرارى لايمكن الاستمرار معه، تركت متعلقاتى الخاصة بالعمل ومعها خطاب، جعلت النهاية درامية، نعم – كطبعى دائما – ونهيتها برأيى فيه وفى الإستمرار معه، وفى أعماله وطبيعتها، طبيعته، وطبعى وغير ذلك من الأمور… كان ذلك بالأمس.
اليوم استيقظت ندمت على طريقة تركى العمل، ثم تسرب الندم ليمتد إلى إنهاء العمل ذاته، ولكنى أوقفته لأنى اتخذت القرار عن قناعة، ومن الآن، ولوقت غير معلوم، أنا بدون عمل.
وعلى أن أوطد نفسى على هذا الأساس.
- زميلى لا يقرأ الصحف اليومية من سنوات مقررا أنها لاتأتى بجديد وأضاف : فإنها فى الحقيقة تمـهد الطريق بخطى واثقة وحثيثة للتخلف، وأشار فى إشارة خفية إلى أنها الآن للمتخلفين فقط.
اعتبرت ذلك منه تأكيدا لرغبته فى الانعزال عن العالم وامتدادا لرغبته الدائمة فى خلق عالم مصطنع خاص به يحاول اصطناعه بكافة الأشكال.
- صباح اليوم اكتشفت بعد قراءتى للصحيفة أن من ظل فى قراءتها طيلة هذا الوقت هو مدمن بلاشك واكتشفت إدماني، واحتمال تخلفي، وأقسمت بينى وبين نفسى أن أقلع عنها، ومع صعوبة ذلك – والتى تصل للاستحالة، أقسمت، أن أقلع، وعلى أن أوطد نفسى على هذا الأساس.
أسفلنا محل لتنجيد الأثاث وإعادة ترميمه، يوميا أستمع لصوت المطارق تفرقع على رأس المسامير، وتشعر أن ما يقرب من عشرة أشخاص يعملون يوميا واثنى عشر حولهم يؤيدونهم ويشجعونهم كفريق رياضي، وفى اليوم التالى يقوم اثنان آخران فى القيام بذات العمل والباقون يقومون بذات المهمة فى جو من دوام القوة والنشاط والنشوة.
هذا الصباح كان هناك شخص واحد فقط بالمحل يعمل، أما الباقى فقد اختفي، ويبدو أن ذلك سيستمر.
وجارى أسفلنا ميكانيكى سيارات، فى بدايات شبابه صمم أن يتمتع بملذات الحياة كافة، ولكنه كان شهما بحق.
وأنا صغير رأيت فعله حراما، ثم حلالا، وبعد فترة، استطالت ذقنه، ورأيته يروى حوش المنزل بهدوء، وشفتاه تلعب، ويبدو أن كل ذلك سيستمر، وعلى أن أوطد نفسى على ذلك.
أمس الاربعاء كان عرس بنت الجيران أصحاب مقهى وبهم شبهات مخدرات، لاريب والذى لا شك فيه أن الخمور والمخدرات أمس كانتا أكثر من كميه المياة الغازية الموجودة، حيث تساقطت زجاجات الخمر من أعلى السطح حيث يقطنون.
الأم تسكن بالسطح وتستند على شوكة أقاربها، فحول التجار وترهب العمارة وتلهبها بلسانها السليط لوصول المياه إليها، وتتوعد كل من يتجرأ على الرد على ما تفعله.
وأمس كان عرس ابنتها الكبرى وأصوات المكبرات تعلو إلى السماء، وأصوات المخدورين تهز المنزل.
لم أستطع النوم، وفجر اليوم ما يقرب من خمسين شابا يصيحون بالشارع مخدورين مخمورين بليلتهم السعيدة على أن أوطد نفسى على ذلك.
اليوم الجو صحو غير عادى مع بدايات الشتاء يتملكنى الملل، أستلقى على ظهري، أتعب من التجوال بالمنزل ألقى بنفسى على أحد الكراسى بجوار التليفون، يثيرنى شكله كثيرا.
أتذكر فجأة، فتثور فى نفسى الهواجس، أخطف سماعة التليفون وأطمئن أن به حرارة.