المحدود واللامتناهى
قراءة فى موقفى الصعود فى … والهبوط إلى …
وليد منير
“كم هى حارة ابديتى”
(آلان بوسكيه)
العزلة عن تفتح الذات بالرغبة والفعل والكلام نتيجة لقهر الخارج، وانكماش الداخل فى مقابل الضغط الأليم الحاوى هى الميسم الذى يسم التجربة الوجودية الحادة فى كتابة “اعتدال عثمان”.
العزلة هنا انقسام على الذات فى حراكيتها. وقف لمدها المشبوب، وردع لتوقها العارم إلى التنامى والاشباع والزخم. تمرد على تمردها المكبوت، واهدار لامكانياتها الأولى فى الاشعاع والجذب والانجذاب.
اجهاض لشوقها المتوجس أن تبقى وتنتشر فى الجهات الأربع دون أن تحدها أسوار “منيعة” أو تفت فى عضدها آلة عنف.
العزلة هنا “واد لشهوات بعدد نجوم السماء” و “صمت يمتد كالشعرة بين الصدى والصوت” و “انفطار من أجل البعيد كنجمة الصبح”، والعابر فى صحراء الوحدة لم يزل “غريب الدار كثير الصحاب” ، ملتاع وغارق فى ليل سرمدى يتجسد فيه العجز والخوف غولا رخوا شائها “نصفه ذكر ونصفه أنثى”، ليس له أن يعرف الطريق ولو تلمس العلامة، وكل شئ يشى أن النجاة سراب ما دامت “الصحراء هى الصحراء بدءا من هنا إلى هناك” ومادامت “الرمال نار تهجم وتأتى على نبيذ القلب وخبزه المهرق المباح” .
اذن، لا يبقى لتلك الذات سوى القناع. سوى ترميز الرغبة سوى اللغة .
اللغة رحم.
واللغة حلم.
واللغة التياع.
والمحدود جدا بواقع ذاته الجائر. المحدود جدا بعجزه عن محو الحدود من خارجه. المحدود جدا بعالم القتلة “الذين لاكوه فكرة ففكرة ثم أتوا على اللحم والعظم منه”. المحدود جدا بالمكان البور حيث “الصحراء هى الصحراء على امتداد البصر”. المحدود جدا بالزمن الشائخ الخاوى حيث “الليل عتمة سرمدية” و “الموت آت من جهات الصحارى”. هذا المحدود جدا لايملك إلا أن يبتكر رحمة الكون فى فضاء روحه، وأن يمد مساحة اللامتناهى فى داخله بلا حدود، وأن يغيب وراء التلاشى كى يذرع آفاق المجهول الغائم الشفيف فى متعة لا غش فيها، حيث يتجاوز (الوقفة الأولى) إلى (الصعود) فيما يحمله “موج المحبة إلى كهوف العمق العميق، وأقصى الأعالى الدانية” أو يهبط من كابوس التيه خاشعا إلى اتساع الراحة فيما “يبتسم له الزمن العارف، ويجف من عينه الحجرية الدمع، فيفيض القلب بسكينة كاليأس أو كبلوغ المنى”.
هذا (التمرد المعكوس) فى كتابة “اعتدال عثمان” هو المخيف الذى يذهل . إنه تمرد سلبى يحتوى “هاجس الخلاص”. تماما كتمرد هذا النفر من الصوفية الكبار : “النفرى” ، “التوحيدى”، “ابن منصور الحلاج”. هو تمرد يتشح بقدسية لاذعة. والآن، يحضرنا ربط “مالرو” تلك “القدسية” بــ “قلق الانسان العميق لكونه انسانا”، قلق تنشره على احدى المستويات فيما يقول “جان برتليمى” تلك القدرية الداخلية التى تشكلها الاندفاعات الموروثة، والاتجاهات الغريزية، ودوافع اللاشعور التى لا يقام.
يقول “النفرى” فى موقف (الوقفة) :
وقال لى : الوقفة وراء البعد والقرب . . .
وقال لى: الواقف ينفى المعارف كما ينفى الخواطر.
وقال لى : لو انفصل عن الحد شئ انفصل الواقف.
. . . . .
وقال لى : الوقفة وراء ما يقال . . .
وقال لى : اخبارى العارفين، ووجهى للواقفين
ما معنى هذا؟!
ولماذا ورد لنا أن نورده؟!
لاشئ سوى أن صاحب الوقفة لايقول. لايخبر. لايثبت. لايعنى.
فقط، هو يكون.
صحيح أن المدلول والدال لاينفصلان كما لا ينفصل بتعبير الصوفية الاسم والمسمى، والمعلوم والعلم.
لكن أولوية (الحالة) فى تلك الكتابة هى التى تطغى. (الحالة) هنا هى تشكيلها، وليس هى الاخبار عنها. (الحالة) أيضا ليست (رسالة) الى (مرسل إليه) أولا وقبل كل شئ، ولكنها (رؤية) تنحل فى ذاتها، ويتعدد معناها بتعدد وضعيات استقبالها. انها (فعالية) تسعى إلى (استجابة)، لا (فكرة) تنزع إلى (تلقى) .
نحاول الآن فيما نقول أن نعرف كل قراءة باعتبارها وصفا للعلاقة بيننا وبين النص. وهذا هو تعريف “بارت”.
تأسيسا على ذلك فآن استجابتنا لفعالية (النص) قد انعكست فيما تلمسناه سابقا من دوافع تقف وراء التشكيل وفى قلبه. (العزلة) قيمة مهيمنة أو مفتاح بنية المضمون. (التمرد المعكوس) . . (هاجس الخلاص) . . (القديسة) فضاءات للكتابة.
(اللغة) بما أنها رحم لتوليد الرموز والصور فى فضاء كثيف – شعرية القناع التى تكم من ورائها فطنة الكاتب فى تمويه الحالة الانسانية السالبة وشحذها بطاقة عاليةمن الانفعال.
“اعتدال عثمان” ترى فى الكتابة بديلا عن حركة “الخارج” المحدود بالحدود الأليمة، فتلجأ إلى حركة “الداخل” اللامتناهى. وهذه الحركة على لاتناهيها نوع من السكون المتسع.
“واسكن الكلمة واجعل منها جنات رحمة وحكمة.
وشوكة فى جنب حماقات النفوس الضعاف، وفى حلق كل من قرأ ولم يعتبر.
وكانت الشوكة فى جنبى وفى حلقى لهيب من سعير السقر، وإذا بى اقفز عاليا فانقطع قيدى، وتفجر منى صخر دمعى.
ووجدت أننى أصعد فى مدرج الوجد . . . .”
يقول “جان برتليمى” : “فى حين يتجه الشاعر نحو الكلام، يميل المتصوف إلى السكون”.
ولكن “اعتدال” تجمع بين طرفى المزدوجة. انها تعبر عن هذا السكون الصوفى بكلام الشاعر. وامعانا منها فى التخفى الذى وراء شعرية اللغة، تسقط حركة الداخل على الخارج، وتضفى على جوهر الحقيقة ضدها، وتموه السالب بالموجب، فتتخذ من الحال المشتق عن فعل الحركة عنوانا للكتابة، وتطرح الحالة الوجودية الذاتية فى ثنائيتها الضدية على هذا النحو:
الصعود فى مدرج الوجد
الهبوط إلى صحراء التتار
الصعود: الهبوط
هكذا تشى وقفتاها برغبة كامنة ملتاعة فى (الرواغ)
فى الانفلات العصى.
فى السراب الدافئ الخفى إلى المشتهى المفقود.
تفضى وقفة (الحساب) إلى (الوجد)، ويفضى (الوجد) إلى (الصعود).
وتفضى وقفة (الصمت) إلى (الصحو) الغائر السحيق من كابوس طويل، ويفضى (الصحو) إلى الهبوط).
الرحم رحمة وحكمة.
“ومنذ خرجت من رحمة الرحم وعرفت حكمة الرحم عدمت المأوى والسند”
والكلمة جنات رحمة وحكمة.
“واسكن الكلمة واجعل منها جنات رحمة وحكمة”
فأين النجاة. أين؟ سوى اشتهاء السر المكنون فى بذرة. سوى التخفى فى غلالة مفعمة بالدفء والحنو كالرحم الأول.
اللغة هنا أم .
والوجد الصافى باللغة وجد بام، وحنين إلى رحم.
” . . . واليمامة تسير وراء الفرخ وترسم علامات تبين هونا فهونا، وأنا أسير وراء اليمامة والفرخ وأدب قدمى فتنغرزان فى الرمال، وتشقان طريقا على صفحة الصحارى والريح من خلفى تذر الأثر”.
الرحم أبد حار.
والتفتح على الأبد من خلال اللغة تفتح على حرارة الرحم، والأمان الضائع منذ أن “تمت للفرخ قدرة الدفع ففتق بساقة السطح وخرج من جنةالرحم”.
وفى سلسلة من الانحباسات والانفجارات المتتالية التى تتردد فى أناة حينا، وفى سرعة حينا مما يشى فى عدة سياقات للقول بانعكاسات الحالة الداخلية (رغبة الانفجار المكبوت، تأرجح تيار الشعور، احتكاك الداخل والخارج فى قرع مستمر) يلعب صوت (الراء) المتحركة والساكنة والمشددة دورا فى تمديد التوتر الساكن، وتجسيده عن طريق التكرار.
أن رنينا ذا قوة اسماع عالية يصنع متوالية صوتية مهيمنة تعمل على تجسيم شكل المعنى بحيث يتحرك موازيا تماما لشكل الصوت.
فضاء مفعم بأجراس الروح .
وكأن الحلم حجر يتدحرج الى أعلى، وإلى أسفل دون انقطاع .
“وإذا بلسانى قد فارقه العى، ونطق بدر الكلمة، وحروف الدر اثداء تدر انهار عسل وخمر ما ذاقها انس ولا جان ولا طافت بخلد بشر”.
“والفرخ يسير، واليمامة تسير، وأنا أسير. والطريق يمتد، والريح تمحو الأثر”.
“أنا عابر فى الدنيا . مذ خرجت من رحمة الرحم، وعرفت حكمة الرحم عدمت المأوى والسند، وصرت غريب الدار كثير الصحاب”.
وقبس من روح جلال الدين الرومى تتغلغل فى ثنيات الكلام. تومض وتختفى . ثم تومض وتختفى.
ومنذ أن فارق الناى الغابة، فبكى جلال الدين، وفارق الفرخ رحم اليمامة فبكت “اعتدال عثمان” . . منذ أن كان ذلك والانسان يبحث عن أسطورة ذهبية رائقة، تطير ولا تحط، وتلمس ولا تخدش، والروح فى أعقابها، مجهدة تلهث بلا جدوى، حائرة تتلعثم دون مرفأ أخير أو رصيف ينشد الظل.
ومع “أرنست فيشر” نتساءل : –
هل يمكن للأسطورة أن تصبح هدفا لنوع بلغ مرحلة النضوج ؟!!