عدد أكتوبر 1985
قصة قصيرة
مرتجلة القتل والانتحار
السيد زرد
تتقطع أنفاسى وأنا أصعد السلم الحلزونى الحديدية، والتى لم أستطيع – يوما – أن أحصيها رغم رغبتى فى ذلك ، فقد كان مجرد بدئى فى ارتقائها كفيلا يجعل ضربات قلبى تصم أذنى ولا يثبت ذهنى عند أية فكرة.
مدينة معلقة بين السماء والآرض…. مائة حجرة صغيرة منتثرة فوق السطح، سكانها جميعا سمر الوجوه…. ليس قربهم من عين الشمس المحدقة هو المسئول عن تلك السمرة، بل أصلهم الجنوبى الذى تشى به لهجتهم الودود.
هو…. واحد من سكان مدينة السماء…. أسمر نحيل وسط جمع من السمر النحلاء… يأكل مما يطعمون، ويكتسى بالهول وجهه اذ يرقب من الأعلى حياة الناس ، ويضحك حتى تدمع عيناه وهو يقص نبأ أقربائه الذين وفدوا من الجنوب فتوزعوا فوق أسطح بنايات المدينة وسكنوا ” البدرومات”.
ها… أخيرا وصلت ، وها هو يلقانى بجذوة مرحه وترحابه المتأججة دوما… فشلت طوال سنوات معرفتى به فى ضبطه – يوما – متلبسأ بالحزن
” مرحبا”… قالها بلسانه، وعينيه ، وتجعدات وجهه البسام، وحركات يديه وقدميه….. زفرها، صرخها، غناها، كأنما لم يكن لديه من عمل فى الأيام السابقة سوى ترقب مقدمى.
بادرنى : ” ألم تألف بعد الصعود لأعلى؟”.
– ” وهل ألفته أنت ؟!”
– “هنا ولدت، وربما أموت، ورغم هذا لاشئ هنا يعينك على أن تألفه…… غرباء منزوون فوق السطح الملتهب صيفا المقرور شتاء… يعبر الناس الطريق ولا يروننا… يحدقون بالمعروضات، يلحظون ساكنى الشقق المتنطعون بالشرفات، لكن لا شئ يمر بخواطرهم عن مدينة السماء… هنا ولدت وربما أموت ، لكنى لا أملك سوى أن أحن الى بقعة من الأرض شكلت ملامحى ومنحت صوتى نبرته ثم زالت من الوجود…… أتشربه بالقرقة أم بالنعناع؟..
يا ” أم جاد” أدركينا بالشاى يا عجوز.. لاقيته مصادفة صديقك اللدود بالمقهى الأشهر، يتأمل كعادته النسوة ويتحسر على مواهبه المغبونة، ولقد سألنى عنك ونقل الى خبر من أعرف ومن لا أعرف من عباد الله، ثم لم ينس اقتراض بضعة قروش قبل أن يختفى “.
– ” وأنا قابلتها بالأمس “
– “من ؟”.
– “كانت فى طريقها لحضور ندوة، تتأبط كتبا أغلفتها سميكة ولامعة، وترتدى ثوبا رائعا “
– “من؟…..هى ؟!”
– “حدثتنى بحرارة ونشوة، كأنها ستظل جميلة أبدا ، أو لكان الثورة ستقوم غدا “
– “عما كان الحديث ؟”
– “عن الفن والحب والثورة… وعنك “
– “عنى ؟!”
– “أأنت حقا دهش لأنا تحدثنا عنك ؟ دع عنك هذا يا صاحبى الطيب، فقد فات أوان التراجع)
– “ما الذى تقول؟ أتود أن تدخلنى فى شباك خيالك الجامح وأحلامك التى بلا انقضاء؟”
– “أتنكر أنك أنت الآخر أخذت تحلم الأونة الأخيرة؟…. انى أحلم بحكم العادة، فلقد استبدلت الحلم بالواقع منذ أزمان…. انما أنت – أيها الواقعى العظيم – كيف سولت لك نفسك أن تحلم بغير الثورة ؟”
– “ما الذى تبغيه على وجه الدقة؟ أجريمة أن نحلم؟ ألست أنت الذى كنت تتهمنا بالتيبس والجفاف، وها أنت تتهمنا لأنا لم نعد كذلك…. أى روح شريرة تتملكك فى هذه الساعة، وتجعلك تعمل على ايلامى ؟”
– “ربما لأنى متعب وحزين…. أو ربما لأنى مثلك ومثل كل من عرفوها، اهتزت الآوتار الصدئة بقلبى اذ عبرت أفق وجودى “
– ” ما الذى أتى بك اليوم لدى ؟”
– “أوحشتنى يا رجل، وأوحشنى شاى أم جاد “
– “فقط ؟”
– “كلا، بل هى أيضا أوعزت الى. لم تطلب منى صراحة أن أقابلك، ولكنى حدست تلك الرغبة لديها، وأنا مثلك ومثل كل من عرفوها، يسرنى أن أحقق لها أية رغبة، حتى ولو كان الثمن أن أزاول القتل بسكين صدئة “.
– “كلا… لست بشعا الى هذا الحد ، فأنا أعرفك تماما…. قد تتلبسك روح الشر أحيانا،لكن ليس الى الحد الذى يدفعك الى القتل بسكين صدئة…. على أية حال أنت قد أتيت، فابصق السم من فيك وتخلص من تلك الحالة التى أنت عليها…. ما الذى دهانا ؟ منذ أيام زارنى صديقنا الشاعر المكتئب دوما، كان ينز ألما وحقدا وانهزاما…. وذاك الآخر الوقور الذى ــ فجأة ــ صار مولعا بصيد الصغيرات وتوريكهن…. والأسمر المنظر هو أيضا أصبح يمارس مراهقته فى الخفاء واحباطه فى العلن… هذا العام السابع والسبعون أخزانا، أسقط عنا كل وريقات التوت ، أظهر انا أحببنا الذات أكثر مما أحببنا الشعب ، فصرنا نطفح عفنا…. يا صاحبى أنى لا أخجل منك ولا أخجل من أن أفتح قلبى أمامك، فتمهل قبل القتل لأن القاتل منا كالمقتول “.
السكين الصدئة، ها هى تروح وتجيئ فوق قلبى ولسانى…. أحسنها فوق بدنى ، تنغرز فى أحشائى…. فعلها الوغد الصفيق : الواقع الردئ، ونفث فينا سمومه…. أهب من مجلسى… أرتكز بيدى فوق السور، فيترائى لى الشارع ببشره وعرباته وحركته اللاهثة بعيدا ومجردا من المعنى…. أستل السكين الصدئة من أحشائى واسنها فوق السور… لا أستطيع منع نفسى من الامعان فيما أنا مقدم عليه…
استدرت قائلا :
– “تماما.. القاتل منا كالمقتول… من لم يمت بالسياسة مات بالعشق، فتحسن قلبك… كم كنت طائشا حين أبحث لنفسك أن تحب.. كم كنت ممعنا فى طيشك حين أبحث لنفسك أن تحبها… بنفسك جدلت لنفسك من الحلم مشنقة، فانعم بمتعة التأرجح، انها أبدا ما كانت تصلح لك…. تخلى عنك ذكاؤك يا صاحبى حينما تركت الحلم ينسال من القمقم….. التمعت عيناها اللتان لا يمكن أن تكونا سوى لعاهرة أو مجنونة أو معشوقة، فانضغط زناد القلب وانطلق الحلم….
أبدا لا أسخر منك، لا يسخر من مجنون سوى مجنون….. الحكمة كأس مملوئة بالحنظل، فاشرب حتى تكون حكيما، أو لا تفعل فتموت بداء الجهل القتال….. لا شفاعة فى الحب، ولاجدوى من أن تصبح ربا فى مدن “الكفرة”… أأدركت الأن انى أشاطرك العشق وأن القاتل منا كالمقتول…فدعنى أجهز عليك كى تطلع روحى” شئ كالارتجاف اعتراه…..
اختلاج وجهه وضعنى فى حالة ترقب، اذ بدا كما لو كان سينفجر بالضحك أو ربما بالنشيج… رغبت فى دفعه بعيدا عن حافة الشعور المتفجر التى وصل اليها، بيد أنى لم أدرك ماذا يمكننى صنعه….. فجأة عاد مثلما كان، لكننى كنت قد عرفت أنى أغمدت السكين – حتى المقبض – بقلبى.