عدد أكتوبر 1985
جولة حول الوطن
التائه ضحية الحدود
محمد فتحى عبد الفتاح
وسط طوفان من الكوميديا المبتذلة فكرا، والمبتذلة فنا، وبحجة جاهزة هى ما يريده “الزبون”، ودغدغة حواس “الزبون”، والترفيه عن “الزبون”، بصرف النظر عما اذا كان من المعقول أصلا النظر للمتفرج بصفته زبونا، وعما اذا كان يجرى اضحاكه على نفسه أو من نفسه أو ….
وسط طوفان كوميدى من هذا النوع يخرج الينا بين وقت وآخر عمل راق، على مستويات الفن والفكر ……. جميعا . يشير الى أن الفن الفن ما زال فى دائرة الممكنات، كما يعيد الثقة فى الجمهور المظلوم ظلما مضاعفا …. مرة ممن يفترض أنهم يعبرون عنه وأخرى ممن يفترض أنهم يشدونه الى آفاق أرقى، وثالثة …… ولعل الأهم من ذلك كله أن مثل هذا العمل يعيد الثقة فى النفس والمستقبل لكل من تؤرقه “نفسه “كما يؤرقه حلم المستقبل ….
وفيلم “الحدود “السورى يعد فى طليعة ما شاهدنا مؤخرا من جيد الأفلام، باجماع الجمهور والنقاد! وهو يقدم لنا فى تجسيد صورى مذهل من حيث بساطته ، وفى سرد درامى هو السهل الممتنع فعلا، ومن خلال كاريكاتير فكرى راق، يترك المرء على شفى الضحك والبكاء فى كل لحظة ….. يقدم لنا الفيلم الحدود المرهقة التى تساهم فى تقييد مواطننا وشل ارادته بدرجة تجعله ضحية لها بالفعل .
ورغم الحضور الظاهر للحدود المكانية فى هذا العمل الفنى تكشف المعالجة أن مشكلة عبد الودود (المواطن العربى) مع الحدود تمتد الى ما هو أبعد من الجغرافيا…… اذ أنه تائه بين سبل حياة وشعارات ومفاهيم…… وتضرب – المشكلة – بجذورها الى طبقات وجودية أبعد ، كامنة فى تربية هذا المواطن وتعليمه وعلاقاته واعلامه …….
عبد الودود يفقد هويته
للوهلة الأولى نحن أمام انسان يفقد جواز سفره (هويته) على مشهد منا فى منطقة تقع بين حدود بلدين(1)، وبذلك يعدم وسيلته الرسمية لدخول أى منهما……. فالدولة المقبل عليها لا يمكن أن تسمح بدخول أراضيها الا لمن يحمل جواز سفر، بينما تحتاج الدولة التى أدبر عنها للتو الى ما يثبت أنه صاحب الاسم المدون فى دفاترها، وذلك لمجرد أن تعطيه ما يفيد أنه مر عبر حدودها، وكان يحمل جواز سفر ….
مأزق تبدو فيه الدولتان بالمنطق الرسمى المحدود على حق. لكن علينا أن نولى وجهنا فورا شطر ما يساعدنا على تجاوزه الى منطق الفن الذى لا يعرف الحدود .
………. يحاول عبد الودود الخروج من مأزقه، وبعد أن يفشل الطريق الرسمى فى معاونته يحاول الرجل – ونحن معه – تباعا السبل غير الرسمية. ولما يفشل أبسطها (مغافلة الحراس والتسرب من بوابة الحدود؟!!) يحاول تقليد صدفة المهربة(2) التى تركته حين اكتملت فصول الورطة بفقدان هويتهما وسلكت فى بساطة الدرب غير الرسمى بعيدا عن بوابة الحدود …..
استراحة المسافر بعد أخفاق العبور
وبالرغم من نجاح صدفة تخفق محاولته. وحين تكشفه دورية الحدود يتعلل بأنه ابتعد بأنه ابتعد لقضاء حاجته حتى لا يساء فهمه ان فعلها على الحدود …… تلقنه الدورية درسا ، وتطلب ألا يوغل مرة أخرى حتى لا يضيع .
…… ويكرر عبد الودود المحاولة مرة بالتخفى وسط زحام رحلة طلابية فى أوتوبيس، وثانية بالتسرب بين المساجين الذين ينفذون احكام الأشغال الشاقة على الحدود ليعودوا أدراجهم بعد ذلك الى السجن، وثالثة بالتخفى فى لباس خروف والسير على أربع وسط قطيع من الأغنام، وفى مرة رابعة يحاول مغافلة المحيطين به والاختفاء فى حقيبة احدى السيارات أثناء توقفها لانهاء اجراءات الحدود ….
لكن حرس وكلاب الحدود وأبراج المراقبة مع الأسلاك الشائكة والاستحكامات المكهربة… كانت له فى كل مرة بالمرصاد وان اختلفت ردود فعلها فى تصاعد، قاده فى المرة الأخيرة الى التوقيف، الذى لابد وأنه لاقى خلاله ما جعله يقرر الكف عن المحاولة .
المهم أنه أفاق على نفسه ساعة لفظ من التوقيف ملقى على الأرض يلوث وجهه الحذاء المودرن ذا الكعب العالى لجندى الحدود، لكن ما أن أزال آثار وجهه عن حذاء الجندى حتى تلقفته ذراعا سائق أو دليل مدنى يتعيش من العبور اليومى للحدود …. ومع زوال الأمل فى حل قريب فرض الواقع نفسه وتفتق ذهن الرجل عن فكرة بناء “استراحة المسافر “بحيث يمر خط الحدود بين شرقستان وغربستان وسطها، حتى يجد لنفسه ملاذا فى جانب (بلد) كلما هم به رجال الجانب الاخر .
وهكذا تمضى حياته . مقيما فى الاستراحة يتعيش منها وقد عقد صداقة مع رجال دورية الحدود فى كل من البلدين حيث ساعدوه مع السائق الدليل فى احياء وتموين الاستراحة وخدمة الرواد، وعلى رأسهم حرس الحدود وزبائن الدليل بالطبع
لكن العمل فى الاستراحة لم يكن ليحل أزمة وجوده بين الحدودين. الأزمة التى كثفت من احساسه بالوحدة رغم ما يحيط به ويعايشه من دجاج وعنز – لزوم احتياجات الاستراحة – ناهيك عن القادمين والمغادرين .
ومرة وسط معاناته فاصل الوحدة اليومى بعد حلول الظلام، وعلى أثر طلقات الرصاص التى يتبادلها جنود الدورية مع المهربين، يدق باب الاستراحة ليجد نفسه وجها لوجه أمام المهربة صدفة جريحة أثر المعركة التى خاضتها وسط ذويها، وان أفلتت دونهم من التوقيف.
يدق قلبه ويتطور الأمر فتعمل دوريتا حدود شرقستان و غربستان على لم شمل صدفه عوض الله على عبد الودود التائه ويزوجانهما بمعجل قدره معزاة ومؤجل قدره تيس . وهكذا يتغلب الرجل على مشكلة الوحدة والحب لتبدأ مشكلة الطفل الذى يريده امتدادا له، وخوفه من احتمال أن تكون صدفة عاقرا، طالما تأخر هذا الطفل، ولكن ما أن تظهر بشائر حلوله – الطفل – حتى يصبح وجوده هو المشكلة، فعبد الودود لا يريده حتى لا يعيش مثله بلا هوية طرزانا وسط الغابات .
حملة اعلامية لانقاذ عبد الودود ومدام طرزان
ويوما تمر بالاستراحة صحفية شابة تلمس جانبا من حكاية التائه وصدفة خلال مشادة قامت بينهما حول الحمل والطفل وهويته وكيفية تربيته …. تتحرك حاستها الصحفية فتكمل صورها وتدبج كلماتها، لتخرج موضوعا يتخاطفه الناس، ويتصايح به الباعة “تصريحات مدام طرزان اليوم”.
وسرعان ما تتحول القضية الى حملة اعلامية، يشارك فيها التليفزيون عبر شبكات الأفمار الصناعية “من المحيط الى الخليج”، تضامنا مع عودة عبد الودود الى بلده وأهله …
والمهرجان آخذ فى الارفضاض، بعد الخطب الحماسية العنترية، يسمح لكل السيارات التى تسبق سيارة عبد الودود أو تتبعها بالمرور، بينما يوقف الجندى سيارة عبد الودود سائلا أياه عن جواز سفره، ليطالعنا ضابط حدود شرقستان، الذى كان يجلس فى الصف الأول بين المؤتمرين وهو يشرح – بصبر رسمى يحسد عليه – الموقف لعبد الودود واذا منه أن يستوعبه ….”…. كل من حضروا ومن نظموا المؤتمر على رأسى….. حتى أنا حضرت المهرجان … ألم ترنى؟ لكن المهرجان بالنسبة لى ليس جواز سفر… معك جواز تمر … مامعك ترجع مطرح ما جئت..”.
****
حدود أبعد من الجغرافيا
هكذا يلخص الضابط منطق الدولة ، وهو منطق متماسك فى حد ذاته، يمكن أن يساهم فى تضليل متفرج وجد نفسه متعاطفا، رغم كل شئ، مع عبد الودود لينزلق وراء من يحصرون الفيلم فى شعارات مثل “النظام الذى يؤون بالأوراق والأختام اكثر مما يؤمن بالانسان “أو “وطن واحد بلا جواز سفر “…. “من أن منطق “الحدود الفنى، الذى خلق تعاطف الناس الكاسح معه أوسع ضفافا بما لا يقاس …
ولما كانت قيمة الفيلم تتصاعد مع كونه يهز حدودا أبعد بكثير من الحدود المكانية: يعرى طلائها ويفضح تماسكها ويسقط أحجارها لتثير على الصفحة الساكنة دوائر من الوعى والحس لا تفتأ تتسع رويدا وبلا نهاية ….
لما كان الأمر كذلك لابأس أن يكون تقصينا بعض ما تثيره هذه الأحجار من دوائر الوعى والحس هو الطريق الى الالمام بجوانب الفيلم على نحو مجسم، بالذات ان قادنا ذلك الى ادراك المنطق الفنى للفيلم والوقوف على سر التعاطف الواسع الذى شهده من الجمهور فى نفس الوقت .
****
رحلة حول الوطن
منذ المشهد الأول وبعد صوت فيروز الذى يغنينا من مذياع السيارة الحان الوطن، يجد المتفرج نفسه امام شرطى الحدود يسأل عبدالودود من وجهته….. فيجد المتفرج نفسه مدعوا مع عبد الودود الى جولة فى سيارة حول الوطن الذى تحمل بلدانه أسماء شرقستان وغربستان ووسطستان وجنوبستان …. دع عنك تركستان ودرزستان وكردستان ، التى لم يتطرق اليها الفيلم طبعا ….
على هذا النحو ومنذ البداية يلح على وعى المشاهد أن تعدد الأسماء لا يطمس القاسم المشترك ولا ينفى واقع المشاركة… نحن اذن لسنا بصدد عدة بلدان، وانما أمام أجزاء من كل، بصرف النظر عما اذا كان وراء ذلك واقع جغرافى أو جغراسى محدد، أو مجرد مسايرة رسمية لأمانى دفينة تجسدت فى شعارات، يرددها البعض صادقتين، بينما يحنى آخرون لها الجباه حتى تمر ،….
ولعل القارئ يهمس لنفسه بأن ذلك لا يبعدنا كثيرا عن المنطق الرسمى أو الشعارات المرفوعة – من قبيل “وطن واحد بلا جواز سفر “- التى لا نفتأ نتشدق بها فى كثير من المناسبات . لكن لا بأس من تقصى بعض المشاهد التى تساعدنا رويدا على الالمام بالماوراء ..
لنأخذ مثلا :
* مشهد صدفة المهربة وهى تتخلى عن التائه لتعبر الحدود بدون جواز سفر. وحين يسألها مندهشا: “كيف”؟ ترد عليه بأنها بدون الحمل – الأشياء المهربة – تعبر دائما على أقدامها بعيدا عن النقاط الرسمية .
* مشهد أبو شهاب الذى يوقف عبد الودود ويتوعده عند محاولته “اقتفاء أثر صدفة “.. وهو نفسه الرقيب الذى داعب صدفة “الحامل “على الطريق فى بداية الفيلم حول سر بقائها دون زواج، وتمادى فى دعابته بطلب الزواج منها مغمضا عينيه عن وظيفته الرسمية وطبيعة حمل صدفة العزباء ….
أو لنتمل:
* حديث جندى الحدود المسئول عن البوابة لعبد الودود حين أعيته الحيلة وكأنه يهمس او يغمز له “هات لى أشعار من مدير المكتب….. وبلا جواز……تكرم “
(أى أتركك تمر بدون جواز سفر ).
أو
* مشهد التائه وهو يكشف لجنود الدورية سر بناء نصف استراحته على أرض شرقستان ونصفها على أرض غربستان: ضمان الملجأ من مضايقات كل بلد فى البلد الأخر فيرد عليه الرقيب مستنكرا: “وها الخط هو اللى حيوقفنا…. اذا أردنا بنجيبك من أخر الدنيا “وحين يسأل عبد الودود فى انفعال يكشف كل معاناته ومأزقه وهوانه: “والحدود؟! “يجيب أفراد الدورية عن بكرة أبيهم، فى صوت واحد “طظ“(3)
أو لنتمعن :
– حوار ضابط حدود غربستان مع عبد الودود وهو يسأل عن سر سعيه لزيارة غربستان والشخص الذى يقصده، بينما يجيبه رجلنا أنه لا شخص ولا سر فى الأمر . ثم يعاجله بردود مختصرة حادة جارحة فاضحة …
– قلت لى اسمك عبد الودود ؟
– ان لم يكن هناك ما يمنع .
– أهناك من يأتى الى بلد لا يعرفها ولا يعرف فيها أحد؟
– سياحة.
– ما هى انتماءاتك السياسية؟
– لامنتمى .
– ماعمرك ؟
– 40سنة ميلادى و41 هجرى
وحين يسأله الضابط عن عدد أولاده ويتلقى الاجابة بأنه لم يتزوج يبادره:
“يظهر ان النشاطات المشبوهة تأخذ كل وقتك”. وحين يعثر بين الأسماء الموجودة فى مفكرته على اسم رقيب نكره( أبومعن ) يسأله :
– لماذا بعث بك الرقيب ؟
– والله حتى ماكان موافق
– ورغم ذلك جئت. بمن طلب منك الاتصال؟
– لوبيدى أشوف كل الأشقاء.
– من هو الرقيب أبو معن هذا؟
– خالى .
– كيف تعرفت عليه ؟
……………………
لينهى الضابط الحوار : “آسف ما بقدر أمسك عليك أى ممسك. وهذه هى المرة الأولى التى يدخل فيها مكتبى أحد ويظهر انه برئ……….”
موقف الريبة والادانة
وموقف الريبة والإدانة الذى تقفه السلطة من عبد الودود لا يخفى على الرصد منذ البداية وحتى قبل فقدانه لجواز سفره. فالجندى يسأله فى أول مشهد من أى دولة هو ثم يسأله أين هذه الدولة ليشرح له عبدالودود خط سيره على الخريطة المرسومة فوق هيكل السيارة.
وخلال روايته البسيطة الساذجة عن رحلته منذ الانطلاق، وعدم تذكره حتى مراحلها بالأيام وأن كانت تلعق بذهنه وقائع مثل سرقة الاحتياطى ليلة عبور الحدود الأولى … يقاطع الجندى روايته كـأنه وقع على بغيته من أقصر الطرق : “يعنى مامعك احتياطى ؟ “ليرد عليه : “ا اشتريت غيره “وحين يصل بحديثه الى سرقة المساحات ـ على الحدود التالية ــ يرتفع صوت الجندى بنفس روح الضبطية ليكرر عبد الودود نفس الرد. ثم تطل روح الضبطية حتى قبل أن يذكر ما ضاع فى المرة الثالثة: “يعنى ما معك …؟ “هكذا جملة ناقصة، ليرد عليه بنفس الأداء التعميمى الميكانيكى “لا . اشتريت غيرها “( شئ من قبيل العب غيرها).
غير أن المسألة لا تقتصر على علاقة عبد الودود بالسلطة أو نظرتها اليه فهى تمتد أيضا الى طبيعة تكوين الحدود نفسها. تلك الحدود التى يمنى عبد الودود صدفة بأن مشكلته ستحل مع زوالها لتجاهر بأن:
“فى ذلك خراب بيوتنا “( تقصد المهربين).
ودعونا نتمعن مثلا: مشهد عبدالودود وقد أنهى كل الاجراءات مع الجندى على الحدود الأولى وهو يردف الأوراق الرسمية بأوراق…… قائلا له : “وهذه تذكار “فيردها الجندى رافضا فيندهش عبد الودود أيما دهشة، وكأن ما حدث يدخل فى بند عجائب الأمور …
أو مشهد عبدالودود وهو يقول لصدفة: “عادة يكون بين المهربين والجمارك أخذ وعطاء “لترد عليه : “أصل أبويا بطل يعطى “.
تنويعات على لحن الحدود
وليست المسألة فى الأخذ والعطاء فالمشكلة أبعد غورا. فها هما جنديان يتناجيان حول زميل جديد حل بدوريتهما، ويعبران عن تخوفهما من أن يكون عميلا لمخابرات بلدهما، دس للتجسس عليهما! ثم شكواهم جميعا من همومهم وغربتهم فالخدمة على الحدود ليست سوى عقوبة تنفذ على الجندى العاق حتى يتوب! ولا يلبث أن يطيب أحدهم الخواطر قائلا ان من يرى مصيبة غيره (عبد الودود) تهون عليه مصيته (الخدمة على الحدود) وهنا يأخذ التجلى أحدهم فينطلق صوته:
“الأرض بتتكلم عربى ….. “
بل وتضرب المسألة الى عمق أبعد فها هو رقيب الدورية يفاجئ عبد الودود وصدفة فى استراحته صبيحة المعركة مع المهربين وكان هو نفسه قد سأل أباها عنها قبل ساعات عند القبض عليه. ورغم ضبط بندقيتها فى الاستراحة يغض الرقيب النظر عن الأمر كله (شهامة) ويسأل عبد الودود سؤالا مباشر: “بعد أن مررنا عليك البارحة مساء ألم تر أحدا من المهربين؟
ثم يردف : “اذا شفت ما بدك وصاية “ليتركه سريعا وسعيا وراء تمشيط المنطقة بحثا عن المهربين. وحين يلفته مساعده الى أن الموجود مع عبد الودود فى الاستراحة هو المهربة صدفة يرد عليه : “بل مجرد أمرأة تشبهها “.
ويل العادى لو خطى من البارود
ولا بأس من أن نختم الدوائر التى يصنعها هذا الحجر بوعينا ومشاعرنا بمشهد حفل افتتاح استراحة التائه على الحدود، وهو من أفضل مشاهد الفيلم حيث يردد جنود الدولتين وكل منهما متمركز فى جانب الاستراحة الواقع فى بلده أهزوجة تتغنى بصورة عنترية بقوة وقدرة رجل الحدود: “…. وويل العادى لو خطى من البارود “وهنا يبدأ رقيب أحدى الدوريتين ما يشبه القافية الغنائية موجها كلامه لرقيب الدورية الأخرى: “أبو مظهر .. الدورية بدها فرسان….. ورجالك بعد العصرية نصفهم سكران “فيرد رجال الدورية الأخرى : “أبو شهاب لا تعمل للقصة ذيول. نحن بنسكر وبنسكر لكن بأصول . عندك على الدرب… يقف مسطول. ولما تمشى التهريبة يصحى ويقول ( فيرتفع صوت رجال الدوريتين معا): “تطول الدورية وتزرع من الأرض حدود، وويل العادى لو خطى من البارود”.
وتتوالى فصول القافية الغنائية على هذا المنوال بين الدوريتين الى أن يتدخل عبد الودود بأغنيته: “خلوها الليلة محبة تعمر وتدوم. أقراب وأهل وحبابيب من ست جدود “فيردوا جميعا: “أقراب وأهل وحبايب من ست جدود “ليكمل “أبو شهاب وأبومظهر …… محبتكم يوم الشدة تمحى الحدود”.
تائه فى مجالات غير الجغرافيا
على هذا النحو أثرى موضوع الحدود بالمعنى البسيط المباشر لكن مبدعيه لم يقفوا عند هذا المستوى اذ بينوا أن عبد الودود ليس تائها فى مجال الجغرافيا وحدها، بل ربما كان تائها فى الاساس بين قيم وشعارات ومفاهيم وسبل حياة …..
ولا بأس من أن تكون بدايتنا مع النظرة للمرأة.
فها هو الرقيب أبو مظهر يسأل عبد الودود حين تشابكت خيوط ولعه بصدفة التى تقيم فى كوخه، دون قدرة على مصارحتها: “هل تعرف شيئا عن المرأة؟ “ليجيه عبد الودود:(نصف المجتمع).
وها هى صدفة تشرح للرقيب الذى يغازلها سائلا ماذا تنتظر ولماذا لا تتزوج: “…. كل الرجال يريدون أن يكثروا من اليد العاملة فى بيوتهم حتى يرتاحوا……. “
وها هو الشاب العاطل بالوراثة الذى يرتاد “استراحة المسافر “
يحاول وصل الحديث مع صدفة ( النادلة) :
– المادموزيل صار لها زمان هنا؟
– وعلى فين بعد الشغل ؟
– أليس حراما أن ينقبر هذا الجمال بين الشغل والبيت ؟
لتجيبه صدفة “أين لازم ينقبر؟ “فيسألها ان كانت تقبل دعوته على العشاء .
الزواج بالمكتوب والأولاد طوابع
ولا يقتصر الأمر على النظرة للمرأة بل يمتد الى علاقاتها بالرجل. وأن كان مشهد صدفة وهى تقول لعبد الودود عند شحانهما بصدد المولود “…. لو كان ودى أن أتزوج رجلا آخر كنت أخذت أحسن رقيب فى الدورية، ومشيت شغلى …. “أن كان مشهدا مثل هذا لايخلو من دلالة فأن الأطراف فى هذا الصدد مشهد آخر .
فها هو الرقيب أبو مظهر يقترح على عبد الودود الوسيلة الناجعة للتقارب مع صدفة: “كتاب رسائل المحبين “ويبلغه أنه أشر له على مجموعة من الرسائل تذيب الحجر الصوان، وأن زوجاته الأربع وقعن له جميعا عن طريق هذه الصفحات.
وينفذ عبد الودود نصيحة الرقيب، وينقش لصدفة رسالة يضعها مع وردة حمراء على وسادتها ليسألها بعد ذلك :
– وصلتك الرسالة؟
– وصلت.
– أتعرفين من أرسلها؟
– أعرف.
– أأعجبتك المعانى؟
– ما كثير.
– مع أنها تذيب الحجر الصوان! ؟
– يجوز .
– المهم. متى تجيبين؟
– على الربيع .
– أليس من الممكن قبل ذلك ؟
– مشغولة .
– وماذا يشغلك ؟
– ودى أتعلم القراءة والكتابة.
ولا تتوانى صدفة عن الهزء بالموقف والوسيلة معرضة بمن يتزوج ( من يقف أمامها) بالمكتوب لأن أولاده يجيئون طوابع. ثم تحاول تيسير الأمر على عبد الودود فتسأله: “وماذا كتبت فى الرسالة؟ “وبدلا من الاقدام يلوذ هاربا، مبتعدا عن الموقف كله نادبا حظه العاثر من يومه…..
الشيطان ثالثهم
ولعل السياق ينقلنا الى الخلط المريب بين الحدود فى منظومة القيم التى تحكم سلوكنا. فها هى صدفة فى قمة أزمة عجز عبد الودود عن التواصل معها…. ها هى تبادر فى محاولة للخروج من المأزق برد أكثر جرأة على مبادأة عبد الودود واستشارته لها بصدد صديق له يحب وان كان لا يعرف ما اذا كان الطرف الآخر يبادله الحب أم لا.
– عبد الودود ودى آخذ رأيك فى موضوع. لى قريبة تحب واحد.
– وهل يحبها ؟
– ما أدرى لأنه لا يلمح لها بشئ
– تلمح له هى .
– عيب لازم الراجل هو ….
– وهو محرز؟
– ما كثير.
– ابن عيله ؟
– ما معروف حتى من أين جاء .
– وهل تراه؟
– يناموا فى دار واحدة.
– تبقى بلا شرف.
– ما صار ……
– كيف ما صار….. ما فى اثنين الا والشيطان ثالثهم.
ويعود ليسألها مضيفا على غضبته القيمية العارمة غضبة جديدة، وماذا يجعل قريبتها ترغب فى رجل مثل هذا: “لاحرز،ولاعيلة، ولا أخلاق “فترد عليه: “من القلة “ليصارحها بأن قريبتها حمارة، لتراجعة: “هل هذا رأيك؟ “فيجيبها “معلوم “
الإعلام والصراط
ولابد أن يقود سياق الحديث حول الحدود فى مجال الشعارات والقيم والمفاهيم الى أحجار أخرى تمس الصحافة والاعلام والثقافة فها هو رقيب الدورية يسأل عبدالودود مستغربا قولته: “أننا وطن واحد “…. يسأله من قال لك ذلك ليجيبه : “الاذاعة “.
ولعل أبرز المشاهد فى هذا الصدد ذلك المشهد الذى جمع بين الصحفية عبير ورئيسها بصدد ما كتبته عن عبد الودود :
– الموضوع من الناحية الصحفية ممتاز. لكنه ليس للنشر.
– الموضوع ليس به وقائع.
– أى وقائع أستاذى أكثر من عيش انسان مع زوجته الحامل فى الغابة فى القرن العشرين.
– يجوز ما يكون ضحية كما صورتيه. يجوز يكون مجرما … مشبوها .
– كانوا حبسوه . ماذا يمنعهم؟
– عبير بصراحة الموضوع له صبغة سياسية ومجلتنا ماشية على الصراط
– أستاذ أنا درست أن الصحافة صوت الناس…..
– معلهش معلهش خففى حماسك شوية.
…………………………
– بصراحة لا يمكن أوافق على النشر فأنا لا أريد مضايقات
– من أى نوع؟
– أبسط شئ مصادرة العدد فى بضعة بلدان.
– يا ريت . يتوزع أكثر …..
وقد أكمل مبدعو الفيلم الصورة فى لمسات سريعة وأن كانت فى الصميم . ففى استراحة عبد الودود يسأل أحد الرواد: “عندك جرايد؟”.
– نعم التايم التى ستصدر باكر ..
– ألا يوجد جرائد عربية ؟
– موجود . جرائد العام الماضى .
– ألا توجد جرائد اليوم ؟
– ما الفرق ؟ كله مثل بعضه .
ومن الملفت والثاقب معا أن يصل السرد الفيلمى الى موضوع الصحفية السابق الاشارة اليه مباشرة بعد حديث أبى شهاب مع عبد الودود بالخلوة التى اعتزل فيها غاضبا مكتئبا لعدم حمل صدفة، رغم قيامه بالواجب، وخوفه من أن تكون عاقرا. وحين يعرض عليه الرقيب احضار حكيم لفحصها يرد عليه عبد الودود وماذا يمكن ان يفعل حكيم لعاقر ؟
بعد ذلك مباشرة تأتى الصحفية( الطبيب) لمعالجة مشكلة التائه وصدفة . وبينما لسان حال السرد الدرامى وكـأنه يردد: “وماذا تفعل الصحافة لواقع عاقر؟ “اذا بالمشاهد التى تتناول الاعلام، بدءا من البرامج التليفزيونية، ومرورا بالجملة الدعائية، وانتهاء بالمهرجان، تأتى كلها مصنوعة ومزيفة، شكلا ومضمونا، وكأنها تجرى فى سيرك. وهكذا يبدو التصنع والتهافت، مع حمل صدفة، وكأنه تأكيد على أن الواقع ليس عاقرا وعلى أن الداء يكمن فى الحدود المصطنعة التى تحكم الاعلام( الصراط وما يتبعه من زيف) .
… والتربية والتعليم والفكر والفن
ولا يستطيع الراصد أغفال فضح الفيلم لحدود أخرى ترتبط بتكوين عبد الودود…. تربية وتعليما وفكرا وفنا .
ففى مجال التربية لابد وأن يتوقف المرء أمام شحان صدفة وعبد الودود :
– ممكن تخلفى جحش أو معزاية . أنما طفل ! كيف تربيه؟
– مثل ولاد الناس كلهم ما بيتربوا….
وبالاضافة الى تسفيه رئيس التحرير لعبير وهى تقول له “أنا اتعلمت – انتقلنا الى مجال التعليم –
ان الصحافة صوت الناس : “خففى حماسك شوية بكره تنسى “بالاضافة الى ذلك يصل الأمر الى الضرب أسفل الحزام فعند القبض على المهربين يسأل الرقيب أبو مظهر زعيم المهربين أبا صدفة :
– يبدو أنكم لم تعودوا تشركوا صدفة فى العمليات الكبيرة ؟!
– صدفة تركت التهريب من زمان.
– راحت تتعلم فى الجامعة ؟
– بتدرس تهريب واقتصاد .
بل ويجد المرء نفسه فى الصدد أمام مشاهدة بليغة الدلالة، فبمشهد أوتوبيس الرحلة الجامعية يضرب الفيلم كلا من نظام التعليم ودعاوى الفن بحجر واحد، فالطلاب يردون على الموسيقى ما يبدو أغنية وان كان الأمر لا يخرج عن ذكر العازف (التائه) لكلمة فرنسية(بنجور) فيردد الجميع معناها بالعربية( صباح الخير) ….. هكذا كالأطفال أو الببغاوات، رغم أن كل واحد منهم يمكن أن يعمر أكثر من بيت!
ولم يكن نصيب الفكر والمفكرين بأقل فحين خرج التليفزيون يجرى تحقيقا ميدانيا عن مشكلة عبد الودود يلتقى أستاذ يحمل موسوعة ويجيب على السؤال بسؤال: “ملذا يعنى جواز السفر؟ أوراق وأختام . ما هى الأختام. دوائر دوائر دوائر دوائر …. أنا انسان فأنا موجود كيف يلغى ما هو غير موجود (يقصد الجواز الضائع) ما هو موجود (عبد الودود) (طبعا سلسلة منطقية مفتخرة)
تضامنستان فى الأمم المتحدة والجامعة
هذا ولا يغفل الفيلم الجو العام على نفس طريقته. ونقصد اللمسات السريعة الموحية.
فها هو سائح من كينيا، كان عربيا يوما، يعلن وهو يدخل استراحة عبد الودود انه لن يفكر مرة أخرى فى زيارة الوطن لتعقيد الإجراءات. ويسأل عمن تتبع الاستراحة فيجيبه عبد الودود بأنه قدم طلبا للأمم المتحدة لجعلها جمهورية مستقلة، وحين يقترح الدليل (اياه) تسميتها “جمهورية عبد الودود “يرد عليه بل”تضامنستان “ليسأله السائح:
“وهل سيسمحون لك؟ “فيرد عليه”معلوم “ويناجى السائح نفسه:
“وبعد ذلك تنضم للجامعة. يوم هاجرنا كانوا تسع فقط “فترد زوجته الله يبارك ويزيد.وتكبر العائلة .
ومن الطريف ألا تفلت حالة الدونية التغريبية هنا من الفضح، فحين يترحم السائح على جومو كينياتا وأيامه، وهو يشكو كثرة الأختام على الباسبور، التى تعجب ألوانها الحلوة زوجته، يسأله الدليل : “يعنى فى أيامه كنتم تدخلون وتخرجون بلا جوازات سفر؟ “فترد زوجته “لقد لغى السفر كله ! “
ولا نبتعد عن الجو العام كثيرا مع سؤال رجال الدورية لعبد الودود فى مرحلة البناء عن موعد افتتاحه “شيراتونه “وعن عدد النجوم التى سيحملها “ميريديانه “أو مع مشهد الشابة التى تطلب من رفيقها استراحة مثل التى يجلسون فيها( استراحة عبد الودود) لأنها تأخذ العقل، وتصر على طلبها رغم اجابة رفيقها “ما فى أحد غيرك يأخذ العقل “، بل وتواصل اصرارها رغم استنكاره:
“وهل هناك عاقل يحب السكنى بعيدا عن الناس؟ “فترد فى وله: “صرعة جديدة”.
ورغم استحالة وصول دوائر الحدود فى اتساعها المتنامى الى نهاية فانه لابد لنا من نهاية حتى نتمكن من مناقشة القضايا الأخرى التى يثيرها هذا العمل المتميز.
التماسك الجدلى أو العلاقة الحميمة بالواقع
أن مغامرة التعامل مع جدار بهذا الحجم … يغطى حدود الجغرافيا وسبل الحياة والشعارات والمفاهيم والقيم …ناهيك عن مخاطر سقوطه على من يتعاملون معه، لابد وأن يهدد أى عمل فنى بالتناثر. لكن “الحدود “جاء برغم ذلك، بل ربما بسبب ادراك مبدعيه للعلاقة الجدلية بين ذلك كله جاء غاية فى الأحكام الدرامى والفكرى والفنى، بل تجاوز مبدعوه مسألة الاحكام ليقدموا عملهم فى تجسيد صورى مذهل من حيث بساطته ( رغم التعقيد والتعدد) وسلس الدرامى بين أيديهم بحيث كان السهل المتتع فعلا.
لقد قدموا أعماق عملهم المتعدد الأبعاد دون استسهال أو تسطيح أو ابتزاز، ودون تخريج لأية تفصيلات الا من داخل الحدث نفسه ..لقد كانوا أذكياء حين أخلصوا للواقع لكنهم كانوا أكثر ذكاء حين حالوا دون تحول الاخلاص الى عبودية،وأبقوه هياما ناقدا وخلاقا بصدد هذا الواقع . هذا كما جاءت المعالجة الكاريكاتيرية التى تفضح الانفصام “الحدودى “على مستوى راق جذاب ذهنيا ووجدانيا، وراحت تمزج الموقف الكوميدى دوما بتراجيديا البحث عن مخرج، الأمر الذى ساهم فى تندية ضحكاتنا بالدموع فى كل لحظة .
ولا بأس أن يكون مدخلنا لتفصيل هذا الجانب من العمل الفنى حديثا عن الشخصية المحورية فى الفيلم.
منابع النتاج المهزوز
يجد المرء نفسه منذ ان يتعرف على الاسم الذى حملته هذه الشخصية: “عبد الودود “أمام الملمح الأساسى فيها …. الود والمسالمة التى تصل الى حد التصالح مع الرشوة والكذب والتهريب بل وألاعيب الجنين الذى يتقمصه فريد الأطرش فيغنى بصوت جهير فى بطن أمه
“بساط الريح ملوش جناحين “…….
وفى نفس الوقت بلغت اغارة الشعارات على هذه الشخصية حد طمس الفطرة: “المرأة نصف المجتمع “بحيث لا يصبح غريبا منها بعد ذلك أن تتصور: “وطن واحد بلا جواز سفر”..
لكن عبد الودود يظل مع ذلك على ادراك حاد بالواقع، اذ يجاهر دورية الحدود التى تسأله وماذا يفعل لو هاجمه جنود البلدين فى وقت واحد: (عمركم ما اتفقتم) ناهيك مثلا عما سبق تفصيله من ردود على ضابط حدود غربستان، وتساؤلات من قبيل كيفية تربية الطفل طرزانا فى الغابات..
وتبدأ مأساة رجل بهذا التكوين حين يعتقد أن المنطق الصورى كفيل بأن يقيله من عثرات الطريق..
وأن كان الفيلم قد أهتم بابراز منابع سمات هذه الشخصية من تربية الى تعليم واعلام … فقد أجاد على الجانب الآخر تصوير النتاج المهزوز لهذه الشخصية:من قلق الى تردد وشلل فى الارادة.
فعبد الودود عندما أحب كان مترددا(لا مجرد خجول) فى اعلان حبه ولم يعرف طريقا للوصول الى محبوبته، رغم أن ذلك كان الشغل الشاغل لحياته، وحين استل له الرقيب أبو مظهر موافقتها راح يسألهما فرصة ليفكر …. وعندما تزوج كان قلقا من احتمال ألاتنجب زوجته (أو ألا ينجب هو نفسه سيان) وعندما حملت ارتعب من أن يكون له طفل ….
ولا أعتقد أن شخصية عبد الودود على هذا النحو مقطوعة الصلة ان جزءيا أو كليا بالسمات العامة لكثير من الناس . وهذا ما يكسب مشكلة التائه أبعادا عامة تظل الجميع .
اما شخصية صدفة فلا تخلو هى الأخرى من سمات عامة تتراوح بين ذلك التسليم المبدئى الذى أزاحت به من يدافعون عنها فى مواجهة “عدوان “عبد الودود “أنا وابن عمى نتهاوش .مالك أنت يا خال. أنا حلاله وهو حر فى “لكننا من جانب خفى نجد أنفسنا أمام شخصية عركتها الحياة، وعركها “العمل “، فأكسبها تماسكا، وقدرة على الفعل ، ومرونة على الابحار وسط حقول الألغام، دون أن تفقد حتى أنوثتها. ذلك الى جوار المنطق البسيط السهل المباشر الذى لا يعد آخر انجازاته أدانة الزوج دائما عن طريق التعريض بأمه(حماتها) فحين يقول لها – مثلا – ان المفروض أن تنجب تيسا لا طفلا ترد عليه أن أمه هى الفالحة فهى لا تكتفى بأن تنحى عبد الودود حين يتعثر فى فك مسامير دولاب السيارة لتفكها ببساطة، بل تسأله – معرضة بضعفه – ان كان متزوجا، وحين يجيبها بالنفى تسأله: “أين راحت قوتك ؟ “….
الكاريكاتير الدرامى
وبالرغم من أن الفيلم عمر بتنوعات من الكوميديا المرئية (الصورية) سريعة الايقاع، التى تذكر بأفلام شابلن، التى تجاوزت أداء عبد الودود (دريد لحام) الى جزئيات اخرى تراوحت بين أسلوب حركة صدفة الحامل ( بالمهربات) وبين أشكال بائع الجرائد ومندوب عمومستان… بالرغم من ذلك فقد اعتمد الفيلم أساسا على الكاركتير الدرامى منبعا للكوميديا، اذ برع مبدعوه فى تقديم شخصيات وعلاقات وأفكار اهتزت نسب أجزائها وتفاوتت، لتصل الى حد التشوه، الذى يثير الضحك والسخرية ، بقدر ما يدفع الى التفكير والتأمل الجاد .
وهكذا نجد أنفسنا كثيرا مع عبد الودود أمام كاريكاتير الشخصية الذى يضخم تارة عناصر سلوكه وأخرى مشاعره وثالثة …….. فها هما مثلا خصيصتى التردد والسذاجة مضخمتين وعبد الودود يلجأ الى صدفة ضيفته لاستشارتها – فى منتصف الليل دون انتظار للصباح – فى مشكلة صديقه الذى يحب واحدة ولا يعرف ما اذا كانت تبادله الحب أم لا ولما تشير اليه بأن طلب صديقه يد محبوبته من أهلها هو الحل يبادرها :
“أهلها فى الحبس “(أهل صدفة) ويطول سهادهما كل فى البلد الذى يحاول أن ينام فيه فتسأله:
“ألم تنم يا عبد الودود؟ “ليبادرها: “أنا نمت انما صديقى ما عم ينام “.
ويتصاعد هذا الكاركتير فى مشاهد كثيرة الى مستوى الموقف ليصيب التشوه أشكال السلوك الاجتماعى مثلما حدث مع نطق الترانزستور الموجود فى بطن صدفة عند احتكاكه بما حوله من المهربات، مع اهتزاز السيارة أثناء المنطقة، لصدفة مع عبد الودود صبيحة المعركة ……
بل ويصل الأمر الى كاركتير الفكر، مع تشويه الأفكار وعلاقاتها المتبادلة بهدف فضح بلاهتها، كما هى الحال مع فكرة الفيلم نفسه أو فكرة بناء المخيم وتحويله الى جمهورية(تضمامنستان)
والواقع أن مستويات الكاركتير الدرامى فى الفيلم لا نهاية لها فهو يتخذ أبعادا تراجيدية أحيانا ويمضى الى مستوى الهزل الواضح احيانا أخرى، وان حكمه دوما الفكر الواضح اذ نجد انفسنا باستمرار أمام التوسل بالمبالغة لظهار العمق واخراجه الى السطح .
ولا تقطع الكوميديا فى الفيلم صلتها بأساليب السخرية الأخرى من التصادم بين سلسلتين منطقيتين مختلفتين، مثل منطق عبد الودود وهو يقسم “والله أنا عبد الودود “أمام منطق ضابط شرقستان
“أصدقك. لكن الشغل له أصول .لازم اثبات “. وان كانت المفارقة المنطقية أو حوار الطرشان أمر نبع بصورة طبيعية من موضوع الفيلم فقد برع السيناريو فى توظيف الأساليب الكوميدية الأخرى من التورية اللفظية البسيطة(معلوم) وحتى القافية و……. وجعلها ترقى الى مستوى المفارقة الرامزة المرتبطة أوثق الارتباط بالدراما مثلما حدث فى توظيف أهازيج افتتاح الاستراحة فى ايضاح تهلهل ثوب الحدود واهترائه، رغم النجاح فى تقييد وشل عبد الودود …
المحتوى التفاؤلى للكوميديا
وعلى ذكر المفارقة الرامزة ينبغى التنوية بأن هذا العمل الفنى جاء عامرا بالرمز على مختلف المستويات والأشكال، لكن علينا أتمام حديث (التراجيكوميدى) قبل الانتقال الى الرمز .
ولا شك فى ان جو “اللامعقول “الذى يسيطر على الفيلم هو فى حد ذاته مصدر فكاهى خصب.
لكن فكاهيه من النوع المحزن الذى يجعلنا أبعد ما تكون عن السرور.
وبالرغم من احتفاظ “كوميديا الحياة “على هذا النحو بكل ما فيها من حزن الا أنها لا تفقد صبغتها التفاؤلية. فهذه الكوميديا تضخم الوجه “اللامعقول “الى حد الاستحالة، كاشفة عقم وأفلاس حياة من هذا النوع ، موضحة بذلك ضرورة افساح الطريق أمام التغير المبدع، وهنا يكمن المحتوى التفاؤلى لهذه الكوميديا .
تبقى ملاحظة أخيرة حول الكيفية التى وقف بها تأثير كثير من مشاهد الفيلم عن أن يكون كوميديا محضا، ليصل الى حد الكشف، وربما الكشف المتشائم فى نهاية الأمر .
لقد اعتمد مبدعو الفيلم للتوصل الى ذلك على تصعيد الأنتباه السيكولوجى لدى المتفرج .. فما يكاد المرء يضبط نفسه مقهقها على عبد الودود حتى يجد أنه فى تماديه سيقهقه حتما على “نفسه “فتقف ضحكته “فى الزور “.. وهنا سر الدمعة التى تحبس الضحكات طول الفيلم .
رمز لا يعوق من لا يلتفت اليه
نعود الى حديث الرمز فنجد أن الفيلم استخدم كما هى الحال مع الأفلام الممتازة عامة كثيرا من التفاصيل والتراكيب التى تظهر على الشاشة بحيث تكون أداة ايحائية تحمل دلالات أبعد من الدلالات المباشرة لها وتثير من العواطف والأفكار أكثر بكثير مما يسع الادراك البسيط للمضمون الظاهر .
لننظر مثلا الى :
* السيارة الصفراء المرسوم على هيكلها خريطة “عمومستان “فنجد اكثر من مبرر يدعونا لأن نراها الوطن الصحراوى الطبيعة الذى تشل الحدود حركته ….
* عبد الودود يدور حول نفسه فى مناسبات عدة وكأنه يمارس رقصة الدوخة الكبرى أمام مواقف وأحاجى يصعب العثور على مخرج منها ……
* أحداث فقدان عبد الودود اللامنتمى لهويته وزواجه من صدفة لنجد أكثر من مبرر لربطها بدوائر أوسع فى حياتنا .
هذا ولم يقف الفيلم عند حدود الرمز فقد لجأ مثلا، خلال التجسيد الساخر لمهرجان التضامن مع عبد الودود، الى الاستعارة المباشرة .
فما يكاد المندوب الفخيم ينهى كلماته الفخيمة مادا الألف والهمزة فى تعبير “لن نبخل بالدماااء) حتى يقطع الفيلم على معزاة تكرر نفس الصوت “ماااء “وذلك بالاضافة الى الانتقال من الخطب العنترية الى الطفل الذى يعبث بالمزمار والبالون، والى بائعى المرطبات والعرقسوس الذى يجوبون ساحة المهرجان، يدقون أعناق زجاجاتهم اعلانا عن سلعهم…. وهذه الاستعارات الساخرة التى تتماشى مع أسلوب تنفيذ هذا الجزء من الفيلم لا تخلو من رمز أبعد يجعل الكلام – حتى فى أخطر القضايا – مجرد ظاهرة صوتية، يربطها بعوالم اللهو والاعلان والتجارة أكثر من رابط .
ويلقى ذلك كله، بالاضافة الى اختيار الأسماء نفسها التائه، صدفة،أبو شهاب، أبومظهر،تضامنستان …. يلقى ضوءا على ابعاد المحاولة التى بذلت لتوسيع اطار العمل الفنى استعانة بالايحاء الرمزى. ورغم هذه المائدة الحافلة بالرموز فقد كان الانتقال من المعنى الخاص لما يدور فى الفيلم الى المعنى الرمزى العام ينبع تلقائيا مما يجرى أمامنا دون اقحام او ابتزاز،كما أنه لا يعوق تلقى المشاهد الذى لا يلتفت الى الايحاء.
مزالق تخطاها الفيلم
وان كان الفيلم قد تخطى منزلق الرمز بهذه الدرحة من التوفيق فقد حالف توفيق أكبر صانعى الفيلم بصدد مجموعة من المزالق الأخرى.
فقد نجحوا فى كسر حدة الطابع المسرحى الناتج عن التحديد القسرى للمكان،وحين لجأوا الى الغناء والاستعراض ظلوا على ارتباطهم بالموضوع( مشهد افتتاح استراحة التائه وغناء الجامعيين فى الأتوبيس على سبيل المثال ) .
واذا كان مبدعو الفيلم قد اعتمدوا على الحوار دون حساسية، فانهم لم يهملوا مفردات اللغة السينمائية الأخرى بل وبرعوا فى توظيف القطع . اذ نجد أنفسنا مثلا مع عبد الودود يقول لصدفة “وطن واحد ما بده جواز “ثم ننتقل مباشرة الى بوابة الحدود بعد مرور سيارة والحاجز يسدل لسد الطريق بكلمة “قف “وكأنها كتبت خصيصا لعبد الودود. ذلك بالاضافة الى القطع الساخر الدال فى مجموعة الاستعارات التى أشرنا اليها للتو، وجو الاغراب الذى صاحب مشاهد المهرجان وما سبقها مما فضح الخطابية وتركها عارية….
غير أن هناك منزلق وقف مبدعو الفيلم أمامه دون جهد ايجابى، ان لم يكونوا قد استسلموا له بصورة غريبة. ونقصد هنا اللغة الدارجة التى لا شك فى أن القارئ قد لاحظ جانبا منها خلال الصفحات السابقة، والتى تصل فى بعض التفصيلات الى استحالة تواصل المشاهد( فى ربوع عمومستان) معها بصورة كاملة .
واذا كان الانجاز الفنى البارز الذى تمثل فى “الحدود “يدفع الى عدم تسقط الأخطاء الصغيرة التى لا يخلو منها عمل فنى فان العيب السابق مما لا يمكن اغفاله ،بالذات فى اتصاله بموضوع الفيلم.
كلمة عن نبع الصدق وآليات الابداع
وفى النهاية لابد من ان يقف المرء ليتساءل عن سر هذا السهل الممتنع، وتوفر كل هذا الزخم والصدق والرقى بين جنبات العمل الفنى.
وهنا يأتى ولا شك ،وعلى مستوى من المستويات ارتباط دريد لحام (مخرج الفيلم) بقضية الحدود.
لقد كان والده بائعا جوالا – بلا مكان ثابت – وكان عليه للحصول على الفحم الذى تتعيش الأسرة منه أن يعبر الحدود السورية اللبنانية يوميا…..
وبالرغم من أن الحدود تضرب الى هذا الحد البعيد فى حياة دريد الا أنه استلهم فكرة الفيلم مباشرة من حادث وقع له أفقده كل أوراقه الرسمية على الحدود السورية اللبنانية. ولولا تعرف رجال المخفر عليه حين وصل اليهم لما خرج بسهولة من المأزق . وقد خلف الحادث سؤالا ظل معلقا فى وعى دريد: “ماذا لو كان من ضاعت أوراقه انسانا غير معروف لرجال المخفر؟! “
وان كان الفنان قد استلهم مادة الواقع الا أنه هام به – كما أسلفنا – هياما ناقدا خلاقا، متجاوزا ذاتيته وحدود الموقف الطبيعية، وأعاد تقديم الواقع لنا عبر شبكة حيوية جسدت وكثفت كثيرا من اللامعقول الذى تحفل به حياتنا على كل المستويات
الانسان والوطن
وعلى ذكر أسباب النجاح يجب ألا نغفل اخلاص طاقم الفيلم الفنى للموضوع (علاقة الانسان بالوطن). فقد سبق وأن تناوله دريد لحام ومحمد الماغوط فى ثلاث مسرحيات .وأن كان اسم الأولى: “غربة “يشف عن موضوعها .فقد وصلا فى “ضيعة تشرين “الى أن علاقة الانسان بالوطن ليست مجرد علاقة مع الأرض لآنها فى الأساس علاقة بين الناس. هذا كما بينا فى “كأسك يا وطنى “كيف يفقد المواطن – مع فقدانه الحلم – شعوره بالانتماء الى الوطن ، بل وكيف يفقد حتى انسانيته ليبيع أولاده على قارعة الطريق.
وينبغى ألا نترك الحديث هنا دون تحية خاصة للشاعر محمد الماغوط فلا شك أن المسحة التشيخوفية (الشاعرية الكوميدية الحزينة) تنتمى اليه فى الأساس . لقد جاء سيناريو محمد الماغوط كشعره الذى “يهز القارئ فى الصميم اذ يدفعه الى الحركة الفجائية فى اتجاه ليل منئ بالنجوم ونهار مزدهر بالغابات والبحار وكائنات انسانية يمزقها العذاب وينقذها الأمل”(4)
العلاقة بالواقع الاستراتيجى العربى
ومما يرفع الفيلم درجات أنه حين اختار الحديث عن الحدود والفرقة، اختار دون تسطيح القضية الآساسية بالنسبة للواقع العربى الراهن فى عالم أعجز الكيانات الصغيرة عن العيش مما حدا ببلدان فى حجم بريطانيا وفرنسا أن تسعى الى أشكال من التكامل وأزالة الحدود، برغم عدم امتلاكها معشار ما تملكه الأمة العربية من مقومات التكامل، او بلوغ حاجتها المصيرية الى هذا التكامل معشار احتياج الأمة العربية له .
وقد يضع هذه القضية موضعها الصحيح الحاسم بالنسبة للمصير العربى إدراك أن الوحدة عملية دينامية…. بمعنى أن غياب المد الوحدوى لا يعنى بقاء الوحدات الصغيرة على حلها . لأن المد لا يخلى مكانه الا لجزر يفكك هذه الوحدات ، فينحل البلد الواحد الى شطابا، ويتردى الدور الذى يمارس باسم الدين الى درك الطائفية… هذا كما تتحول مختلف التباينات وحتى التناقضات المشروعة والمثمرة الى عوامل تفتيت، رغم أنها فى اطار المد التوحيدى والظروف الطبيعية تعد بين علامات الثراء الحضارى التى تحتاج اليه الأمم كى تمضى مسيرتها قدما ….
ولا أعتقد أن أضعف الناس بصرا وأكثرهم توهانا يمكن أن يغفل مظاهر التدهور والتفكك التى تصيب عمومستان والمخاطر التى ينطوى عليها ذلك ….
ديروا بالكم على جوازاتكم
وقد آن أوان انهاء الدراسة، أجد نفسى فى حيرة فيما يخص كيفية فعل ذلك فعلى ما أعتقد جانب التوفيق مبدعى الفيلم فى اختيار نهايته – ربما لنفس الأسباب التى جعلت الكثيرين يهللون له – ونقصد محاولة عبد الودود اقتحام الحدود عنوة والبندقية مسددة الى ظهره وصوت الجندى يرتفع قف…..ق…..ف.. فالفيلم أثرى من ذلك بكثير ، وهنا أحد أسباب الحيرة فى اختيار النهاية.
هل أترك القارئ لعبد الودود وهو يدعو : “خلوها الليلة محبة تعمر وتدوم .. أقراب وأهل وحبايب من ست جدود … أبو شهاب وأبو مظهر محبتكم يوم الشدة تمحى الحدود ؟
أم أن الأفضل أن نتذكر معا ما حاول عبد الودود أن يوصينا به:
“بالسلامة يا شباب…. ديروا بالكم على جوازاتكم “(هوياتكم) …….
أم أترك القارئ للمواطن الذى يرد على أسئلة المراسل التليفزيونى : “كل واحد منا معرض لأن يكون عبد الودود . ومن هنا فقضيته هى قضية الكل “
أم أغير وجهتى تماما وأتجه الى ضابط شرقستان البالغ الأدب والصبر والتظارف، الذى تباسط مع عبد الودود وأجلسه معه على طاولة واحدة وأوهمه بأنه سيقدم له كل شئ ، دون أن يتجاوز ما قدمه له بالفعل ثلاث كلمات “تحب تشرب شئ؟ “هل أتجه الى هذا الضابط وأسال القارئ على طريقته : “تحب تشرب شئ؟ “
أم أكتفى من الرحلة بسلامة الاياب مكررا مع مقدمة البرنامج التليفزيونى: “من المحيط الى الخليج “كلماتها الرقيقة :
“عمتم مساء “….
[1] – يفصل بين نقطتى حدود شرقستان وغربستان بضعة كيلو مترات، وحين يتوقف عبد الدود ليغير سيارته بينهما يسقط جواز السفر من سترته دون أن يلحظ ذلك..
[2] – كانت قد اقتحمت عليه طريقة واكتشف فيما بعد أن ما أعتقده حملا وراء ارتفاع بطنها بضائع مهربة.
[3] – فى مشهد لاحق وعند سعى دورية الحدود إلى القبض على المهربين كانت صدفة مع عبد الودود فى الاستراحة فجعلها تنتقل إلى جانب الاستراحة الموجود فى البلد الآخر ليقيها شرهم. والطريف أنه خلال الفترة الأولى التى حلت فيها صدفة ضيفة على عبد الودود كان كل منهما ينام فى بلد!
[4] – “أصوات وأصداء” للشاعر محمد أبو سنه.