مجلة الإنسان والتطور
عدد أكتوبر 1983
وقفة مراجعة
د. مجدى عرفة
هذه وقفة مراجعة… وقد أثارها ما يمكن أن نسمية “الموقف النقدى” الذى بعث به إلينا الصديق ماهر شفيق فريد تحت عنوان” قراءة فى العدد السابق”( أو أعداد سابقة). وقد كان رد الفعل الأولى تجاه ما كتبه هو محاولة الرد على نقاط نقده واحدة واحدة فى حوار تعودنا أم نمارسه مع قرائنا ونعتبره صيغة هامة واساسية مع ضيغة هذه المجلة. ألا أننى أحسست أن المشكلة أكثر جوهرية وعمومية من مجرد اوجه النقد المحدودة التى قدمها هذا الصديق، خاصة وأن بعضها أثاره ويثيره قراء آخرون فى رسائل واتصالات شخصية، وكلها تنبع فى مضمونها –كما أتصور – من قصور أو عدم وضوح فى فهم “ماهى هذه المجلة؟”: ماهو الاتجاه الذى تمثله؟.. ماهو هدفها؟.. وما هو الأسلوب الذى تتبعه؟.
مثل هذا القصور أو عدم الوضوح فى الفهم يحتمل اسبابا عديدة، أبرز ما يخطر فى ذهنى منها الآن ما يأتى:
1ـ أن عددا من قرائنان لم يتابعوا هذه المجلة منذ البداية حين حاولنا تحديد خطوطها الأساسية، ثم لم نجد داعيا لاعادة تكرارها المرة تلو المرة حتى لاتتحول إلى أسطوانة معادة ومملة، أو أن هؤلاء القراء لم يتابعوها بانتظام يكفى لالتقاط رسالتها أو ما تحاوله.
2ـ بالرغم من هذا فان المفروض – نظريا على ألأقل –أن يجسد كل عدد من المجلة خطوطها الأساسية بصورة تصل حتى إلى القارئ العابر أو الذى لا يتابعها بانتظام بحيث يلتقطها بشكل ضمنى حين لا يتوفر التعبير الصريح والمباشر، وعدم حدوث هذا لدى مثل هؤلاء القراء بل وربما ايضا لدى البعض ممن يتابعون المجلة بنوع من الانتظام (لا أدرى بالضبط نسبتهم وان كنت أحسبها نسبة لا يستهان بها) يطرح عدة احتمالات:
(أ) أن المجلة فى معظم ما تقدمه تتسم فعلا بنوع من” الغموض” واللافتقار الى الوضوح (أو ما يستقبل من بعض القراء بوصفه هكذا)، وهذا موقف عبر عنه بعض القراء، ويمكن أن ترجعه الآراء المختلفة أما الى شدة تعقيد الموضوعات المقدمة، أو فجاجة هذه المواضيع أو عتامة وقصور الأسلوب الذى تقدم به او غرابته أو حتى غموض القضية لدى أصحابها أصلا. وقد سبق مناقشة هذا الاحتمال فى حوارات سابقة بين رئيس التحرير وبعض القراء أقربها فى افتتاحية العدد الماضى.
(ب) أن المجلة قد حادث عن طريقها.. وفقدت اتجاهها (وذلك بفرض أن لها فعلا طريق واتجاه)، فأصبحت تتخبط فيما تقدمه… بصورة لا يصل بها إلى القارئ سوى الاختلاط والابهام أو عدم الوضوح والتحديد .
(جـ) أن القارئ كما يشكله مناخ حياتنا الثقافية التى صار يغلب عليها الطابع التلفزيونى الصحفى من ناحية.. أو التى تقوم على تصنيفات جاهزة من ناحية أخرى.. هذا القارئ قد تعود أما على القراءة السهلة التى”تسقيه” المعلومة فى “برشامة”، أو على نوع آخر من السهولة يتمثل فى تصنيف ما يقرأ تبعا لقوالب جاهزة معروفة تريح “الدماغ” من مشقة وعناء التفكير فيما يمكن أن يكون جديدا ومختلفا ومتحديا. مثل هذا القارئ قد يكره الصعوبة التى تواجهه بها كتابات تدعوه الى التفكير وتثير قلقه وراء القضايا بدلا من أن تقدم له وجبات سريعة جاهزة من المعلومات والتوجيهات والنصائح، كما يكره الصعوبة التى تواجهه بها هذه الكتابات حين تستعصى على التصنيف وفقا للقوالب الفكرية والأيديولوجية المعتادة.. حين يواجه الانسان مثل هذه الصعوبات فأنه يمكن ان يريح نفسه من عناء ومسئولية القلق والتفكير بأن يتهمها بالغموض والابهام… يستوى فى ذلك أن يرى هذا الغموض ناشئا عن الفجاجة .. أو التعقيد المتحذلق.. أو الأسلوب القاصر فى الصياغة والتعبير.
كل الاحتمالات السابقة – وغيرها – يمكن أن تثار فى مقام تفسير عدم وضوح – أو عدم وصول – ماتمثله هذه المجلة وماتحاول تقديمه إلى القراء. الا أن المحير أنه فى مقابل الآراء الناقدة التى يمثلها موقف الصديق ماهر شفيق بل فى بعض الأحيان من داخل هذه الآراء الناقدة نفسها أتى أصوات أخرى توحى بأن رسالة المجلة أو ما تحاوله يصل بالفعل إلى أصحابه فيصلنا خطاب مصطفى عبد الشافى من الاسكندرية يقول فيه: بكل الفرح والبهجة قرأت العدد15 من مجلة الانسان والتطور وكنت لأول مرة أشاهدها لأننى أبحث دائما عن الجديد فى عالمنا الثقافى ولأول مرة أرى فى مصر مجلة علمية ثقافية تجمع بين العلم والفن… إلى أن يقول: فالمجلة تمضى فى وضوح ومنهج لم تألفه فى مجلة أخرى.. وسوف نلحظ تقدمها واستمرارها ما دمنا فى حاجة إليها لأننا اليوم فى حاجة إلى كل زهرة تنبع وتتفتح لتثرى حياتنا الثقافية والعلمية.
كما يصلنا من الصديق محمود عباس المدرس بمدرسة صلاح الدين الأيوبى الابتدائية بشبرا الخيمة خطاب يقول فيه: السيد/ رئيس تحرير مجلة الانسان والتطور.. بطريق الصدفة البحتة وقع فى يدى عدد من مجلتكم الغراء مع أحد باعة الصحف فقمت بشرائه… وبعد قراءته حقيقة استمتعت لفكر راق وأسلوب عقلانى متحضر ففكرت فى أن أتوجه اليكم بالشكر أولا: على العطاء الفكرى الذى تحتوى عليه مجلتكم ثانيا: الموضوعية التامة فى كل ما تكتبون….
هذين مثالين قريبين من الآراء الايجابية بشأن المجلة وعنصر الايجابية هنا يتمثل فى نظرى فى أن هناك من ينصت إلى ما تقوله المجلة ويلتقطه. لا يهم كثيرا اذا ماكان هذا الالتقاط صريحا أو ضمنيا. ولايهم ما يمكن أن نسميه بالمستوى الفكرى intellectual sophistication الذى يتم عليه هذا الالتقاط. ولكن المهم أن هناك جسرا من الاتصال الحقيقى والحى فى صورة رسالة ثم عائد مرتجع.
إلا أن هذا الجانب الايجابى لا ينسينى الجانب المتمثل فى مشكلة الاتصال والفهم مع قطاع آخر من القراء…. فهى مشكلة مؤرقة بالفعل وتستدعى وقفة مراجعة متأنية والجانب الأول من هذه المراجعة حاولت فيه أن أعدد بعض الأسباب المحتملة لهذه المشكلة كما سبق، ولا أبغى من تعداد هذه الاحتمالات مناقشتها بشكل دفاعى، وأنما أفضل أن اتركها كما هى كتساؤلات مفتوحة يحتمل كل منها الحقيقة بدرجة أو بأخرى… ولن يتضح هذا الا من خلال حوار مستمر مع النفس ومع القراء فى نفس الوقت.
أما الجانب الثانى من هذه المراجعة فيتمثل فى احساسى بأهمية نوع من الاستعادة للاجابة على الاسئلة المتعلقةٍ بما هى هذه المجلة؟ِ: ماهو اتجاهها الفكرى؟.. ماهو هدفها..؟ وما هو الأسلوب الذى تتبعه؟.
وغرضى من هذه المراجعة لا يقتصر على محاولة أعادة توضيح الاجابات لمن لم تصله من القراء… وانما اعتبره فى نفس الوقت نوعا من مراجعة النفس وتذكيرا لها.. واختبارا لمدى هذه الاجابات لديها.
وجدير بالذكر أن ما سأحاول أن أقدمه من أفكار هنا يأتى من خلال انتمائى الذى اخترته لما يمكن أن تمثله هذه المجلة وما تحاول أن تقوم به، كما يأتى من خلال فهمى وممارستى للدور الذى أقوم به فى تحريرها منذ صدورها. من هنا فهو يمثل إلى حد كبير رؤيتى الخاصة التى قد لا تمثل ولا تلزم بكل تفاصيلها كل من يشارك فى هذا العمل وأن اشتركت مع رؤية كل منهم بدرجات متفاوتة، بتعبير آخر فأنه ليس لدينا صراحة ميثاق مكتوب أوما شابه، وأنما هى رؤية نسعى وراءها..وتتبلور وتزداد تحديدا وتميزا بالممارسة بالنسبة لكل فرد منا… ثم فى محصلة جماعية بالنسبة لنا كمجموعة.
(أ) الاتجاه الفكرى للمجلة:
جاء فى العدد الأول من المجلة: (1)
” وهى (أى المجلة) ذات فكر محدد الاتجاه أذ يؤمن بحتمية التطور البيولوجى، ومن ثم العقلى والايمانى (وبالعكس)، وبالتالى فهى تؤكد أن مسيرة الانسان المستعرضة يستحيل أن تنفصل عن سائر البشر فى كل مكان، وأن مسيرة الانسان الطولية يستحيل أن تنتهى بانتهاء الفرد، إذ هى لا تنفصل عن الخلود من خلال الاستمرار فى أجيال متعاقبة أفضل وأفضل، وكذلك من خلال التواصل مع الكون الأعظم سعيا إلى وجهه الله من واقع قيم علمية ودينية موضوعية وعميقة وجوهرية”. وإذا كان لى أن أزيد الأمور تفصيلا أو توضيحا – من خلال رؤيتى الخاصة – فيمكن القول بأن التطورEvolution مفهوم مركب يشتمل على عدة معانى جوهرية بارزة هى: “الحركة الدينامية الجدلية (الديالكتيكية) والغائية”:
– “الحركة الدينامية” تعنى أن ما تمثله الحياة التى نعيشها ونحاول فهمها لا يتضمن فى أى لحظة – سابقة أو حالية أو فى المستقبل الذى يمكن تصوره – أى وضع ساكن، وأنما هى حركة دائبة ودائمة لا تتوقف وأن بدا عليها أى مظهر للسكون فى حالة من الحالات أو وقت من الأوقات.. وذلك بدءا من المادة الصماء (التى تمثل كما يقول العلم مجرد حالة توازن لقوى حركة وطاقة).. ومرورا بأنساق الحياة البيولوجية وعلى قمتها الانسان كفرد ثم كنسق للوجود الاجتماعى وانتهاء بالنسق الشامل اللامتناهى للوجود الكونى.
– وهى حركة جدلية أو ديالكتيكية تتم من خلال الصراع والتفاعل بين قوى متضادة ومتناقضة ينشأ عنها حل ولافىSynthesis منه تتولد تناقضات أو صراعات جديدة ينشأ عنها ولاف آخر اعلى وأكثر تقدما.. وهكذا تتصاعد الدوائر ويتوالى نموها بلا حدود.
– وهى بذلك حركة نمو متصاعد وغائى نحو وجود أفضل وأرقى وأكثر اكتمالا.
والتطور بهذا المفهوم يتم من خلال كافة مستويات أو نظمSystems الحياة المتدرجة (أو الهيراركية) والتى تشمل المستوى البيولوجى وعلى قمته المستوى الانسانى الفردى ثم المستوى أو النسق الانسانى الاجتماعى ثم يأتى فى النهاية المستوى الكونى الشامل – أن صح مثل هذا التعبير (2).
وكل هذه المستويات ترتبط بشبكة معقدة من العلاقات وتبادل التأثير والتأثر بصورة تكاد تجعل من الحديث عنها كعناصر قائمة بذاتها مجرد محاولة عشوائية للتبسيط قد لا تتناسب مع الطبيعة الكلية لمجريات أحداثها.
وعلاقتنا فى هذه المجلة بمفهوم التطور الذى حاولت تصويره بشكل مجرد ليست فى حقيقتها علاقة بفكرة مجردة قائمة على الامتناع الناشئ عن ثقافة نظرية أو علم نظرى. وأنما هى علاقة ترتبط ارتباطا حيويا بالتخصص الذى نعيشه – ولا أقول نمارسه – ألا وهو الطب النفسى.
أن هذا التخصص يضعنا أو يضع من يعايشه بحق (وليس مجرد من يزاوله أو يستعمله) فى موقف فريد وصعب فى نفس الوقت.
أننا نتعامل فى هذا التخصص أساسا وظاهرا مع الانسان الفرد فى مسيرة تطوره النفسى بما فيها من صحة ومرض حيث المرض النفسى مظهر لمضاعفات هذه المسيرة الحتمية، ألا أننا نجد أنفسنا من خلال هذا الانسان ومعه مرغمين على التعامل مع مختلف مستويات الوجود فى آن واحد:
– فهذا الانسان كائن بيولوجى… تتدخل بيولوجيته بشكل أساسى فى مرضه ويتحتم التعامل معها (بالأدوية وخلافه) من أجل صحته.
– وهذا الانسان جزء من نسق اجتماعى.. تتداخل علاقات هذا النسق ومتغيراته بشكل أساسى فى مرضه.. ويتحتم التعامل معها من اجل صحته.
– وهذا الانسان جزء من نسق الوجود الكونى.. تتدخل علاقته بهذا النسق فى مرضه.. ويتحتم الوعى بها والتعامل معها من أجل صحته.
ما أريد أن أقوله هو أن مدخلنا الى”التطور” لا يأتى من خلال تأمل فكرى منفصل ومتفرج وأنما هو يأتى من معايشة حية لنبض يومى يسعى ونسعى معه فى معاناة تقاوم التدهور وتحاول الحركة نحو اكتمال أفضل وأعلى… ولعل هذا ينعكس بشكل أساسى على رؤيتنا للمساهمة المتواضعة التى نحاول أن نسهم بها فى التطور.. حيث لا نسعى من خلال الكلمة الى مجرد النقاش وتبادل الفكر النظرى.. وأنما نحن نسعى الى تجسيد هذا النبض الحى والمساهمة – قدر امكاننا – فى تحريك امكاناته الكامنة فى اتجاهها الصحيح نحو الأرقى والأكثر اكتمالا….
(ب) الهدف والوسيلة:
هذه المجلة كما يقول غلافها “علمية ثقافية”، وقد جاء فى التعريف بها فى عددها الأول (3): “هذه مجلة متخصصة تحاول أن تسهم من منطلق علمى فى البناء الحضارى لانسان العصر، بادئة وملتزمة بواقعنا الوطنى بحجمه المتواضع”.
“.. وهى تفتح أبوابها لكل من أكرم عقله بشجاعة التفكير، وتحمل مخاطره لبسهم باثأرة جانب من جوانب الحقيقة يعرفنا أكثر وأكثر بماهية الانسان بالتالى يهدينا لخطوتنا القادمة، وذلك فى نطاق اهتماماتها المحددة والتزامها غيرا لمحدود”.
من ناحية أخرى يرد فى كل عدد تحت عنوان ” مادة للنشر”:
1- ” يفضل النشر فى هذه المجلة للأفكار والأبحاث والمقالات المتعلقة بماهية الانسان – تركيبا وسلوكا – من منطلق تطورى، ولكنه لا يقتصر على ذلك.
2 – تقبل نشر الفروض والمعلومات الجزئية والملاحظات الامينة والأفكار الجيدة.. بقدر ما تحمل من جهد أبداعى منظم.
3 – تنشر الخبرات الذاتية الخاصة ما حوت أضافة إبداعية، أو وعدت باثأرة حوار.
4 – تنشر الآراء المعارضة والمختلفة فى أطار الرأى الآخر مع الاحتفاظ بحقها فى التعقيب.
5 – تقبل النشر لأى عقل بشرى مرتب مجتهد دون اشتراط مؤهل بذاته أو تاريخ علمى خاص….. وتفضل المعاناة الفكرية الخلاقة من الاستعراض الموسوعى”.
واذا كان لى ان أزيد الأمور توضيحا فيمكن القول بأن هذه المجلة- انظلاقا من اتجاهها الفكرى – أنما تحاول فى حدود قدراتها المتواضعة أن تساهم فى بناء أنسان أكثر تطورا واكتمالا. وحتى لا ينقلب ما نحاول توصيله الى شعارات حماسية على وزن” بناء انسان جديد” أو” صياغة عقل جديد”… الخ وكلها تعبيرات فضفاضة يسهل أفراغها من معناها وترديدها بشكل أجوف….. فأنى أبادر الى محاولة تحديد أدق وأقول أن الهدف – كما أتصوره – هو استثارة وتنمية درجة ونوعية أكثر نضجا من الوعى الانسانى الخلاق والفعال. مثل هذا الوعى هو فى الأساس وعى” بالنفس” – ماهى عليه وما يمكن أن تكونه… ثم هو وعى “بالعالم” من حولها.
السبيل أو الوسيلة التى نحاول انتهاجها من أجل تحقيق هذا الهدف تتمثل فى استخدام “الكلمة” من خلال هذه المجلة من أجل توصيل رسالة ذات مضمون “علمى – ثقافى”.
و العلم هنا يستند أساسا على فرع التخصص وهو الطب النفسى وعلم النفس بما يقدمه من رؤية – أو رؤى – للنفس فى علاقتها بالعالم من حولها. الا أن تناولنا لهذا العلم لا يتقيد بحدود حرفية ضيقة وأنما يمتد ليشمل فروعا أخرى من العلم والثقافة لا غنى عنها فى دراسة وفهم الطبيعة المركبة للظاهرة الانسانية وذلك بدءا من الفلسفة( خاصة فلسفة المعرفة) ومروا بالبيولوجيا والاجتماع والسياسة والدين والأدب… الخ. من هذه الزواية فان المجلة تبدو متخصصة ولكن هذا لا يعنى أنها تبغى خدمة المتخصص فحسب وانما هى تسعى بالضرورة الى كسر حدود التخصص ونقله لكى يصبح ثقافة عامة فى متناول المثقف العادي.. ليس فقط كمتلقى لمعلومات.. وأنما كمحاور مشارك يثرى الموضوع بخبرته المبدعة، فلا كهنوت فى العلم، والاضاءة أو الإضافة التى يقدمها الانسان المثقف غير المتخصص يمكن أن تثرى علمنا بلا حدود.
والإضافة المطلوبة هنا هى الاضافة المبدعة النابعة من صدق الخبرة الذاتية والتى قد تاأخذ شكلا مناسبا من أشكال التعبير الذى يمكن أن يكون فنيا. وهنا تأتى حقيقة هامة.. فكما تتلاشى فى علمنا الكثير من الحدود الفاصلة بين علوم مختلفة تتضافر جميعها فى عملية الكشف عن الظاهرة الانسانية.. كذلك تتلاشى الكثير من الحدود بين العلم والفن حيث يساهم الفن بشكل أصيل ومخترق فى الكشف عن أغوار النفس الانسانية وبصورة تتعدى أحيانا القدرات المحدودة للعلم.
إلا أننا فى تعاملنا مع الفن أنما نسعى الى الخبرة الانسانية الصادقة المنقولة بواسطة قدر معقول من الجهد الابداعى المنظم ولا نتقيد بقيود أى شكل تعبيرى محترف. بمعنى آخر فأننا لا نسعى خلف أعمال أدبية مطابقة لمواصفات الفن المحترف بقدر ما نسعى خلف مضمون من الخبرة الحية الصادقة والمبدعة تنقلها الكلمة بقدر معقول من كفاءة التواصل وقد يتصادف أن يمكن تسميتها شعرا أو نثرا أو قصة.. الخ الا أن هذا ليس هو الهدف ولا معيار القيمة لدينا، وإنما الهدف هو الخبرات المباشرة لكل عقل بشرى قادر على المعايشة فالتعبير فالصياغة.
* * *
وبعد …..
أرجو أن يكون فى هذه العجالة القصيرة قدر معقول من التوضيح يساعد على فهم ماهى هذه المجلة. وهذا التوضيح – فى تصورى – قد يجيب أو يساعد فى الاجابة على العديد من أوجه النقد الموجهة للمجلة، ولنأخذ كمثال بعض نقاط وردت فى خطاب الصديق د. ماهر شفيق:
1 - تكاد تنحصر معظم أوجه النقد التى يقدمها الصديق لمواد المجلة فى منظور محدود يرتبط فيما يبدو بتخصصه المهنى ألا وهو منظور النقد الأدبى المحترف.. الذى يركز على مدى مطابقة الصنعة الأدبية لشروط ومواصفات حرفية محدودة، وحتى فى هذا المضمار فأنه فيما يبدو يتبنى اتجاهات محدودة فى النقد الأدبى لا أدرى لماذا يعتبرها ملزمة لكل من يقدم عملا فنيا، فالبيت الأخير من القصيدة لابد وأن يكون لحظة تنوير أو بؤرة للعمل، والأصل فى نقد الأعمال الفنية هو تحليل النص من حيث هو بناء لفظى… الخ المهم من وجهة نظرى أن منظورة أو قالبه المحدود هذا وقف حائلا دون رؤية ما تحاول توصيله كما ينبغى.
أن المجلة لا تقتصر فيما تقدمه على ما يمكن وصفه بالأعمال الأدبية، وقد تجاهل فى نقده هذا الجانب تماما، ثم هى فى تقديمها للأعمال ذات الشكل الأدبى لا تسعى – كما سبق أن أوضحت – خلف أعمال محترفة مطابقة للمواصفات الصارمة بقدر ما تسعى خلف الخبرة الصادقة ذات النبض الحى. أن فوضى الانفعالات واختلاط المدركات أو عدم وضوح الأفكار( كما تقيسها المعايير التقليدية) من هذا المنظور.. قد تكون أكثر صدقا واثراء من صرامة التنظيم التى قد تختزل الخبرة وتبترها من أجل شكل جميل الصنعة ومطابق للمواصفات وفقا لقالب ما.
بتعبير آخر فأن الصديق يرانا ويحاول قياسنا فقط من خلال قالب محدود متخصص بينما نحن نعلن ابتداء أننا نحاول أن نضع لأنفسنا مكانا خارج مناطق القوالب و الأصنام واحتكارات التخصص والتصنيفات الجاهزة.
2 - ولعل انتقاد الصديق ماهر شفيق المتعلق بالمرحلية يعطى مثالا آخر لمشكلة تواصله مع ما تمثله هذه المجلة. أن هذا الانتقاد يمكن أن يصبح أقل تحاملا اذا هو أخذ فى الاعتبار الاتجاه الفكرى الذى يحترم مفهوم الحركة والتغير المستمر، ويدرك طول الوقت( دون أن يكون هذا بالضرورة حوازا أو وسواسا قهريا) أن كل الحقائق والأحداث والقرارات أنما هى مراحل فى سياق حركة دائبة وأنها قابلة للتغير المستمر طالما هى محتفظة بحيوية التفاعل مع المتغيرات من حولها. وهذا المفهوم للمرحلية مختلف تماما عن مثال المرحلية كجزء من قالب دوجماتى نظرى محدد سلفا كما فى حالة مرحليات الماركسية بما آلت إليه.
3 - أما عن الخاتمة الرثائية التى أنهى بها الصديق حديثه عن المجلة.. فلا أدرى ماذا أقول؟.
لم أسارع الى تكذيب حدسه الذى رأى من خلاله أننا نسير حثيثا نحو مصيرنا المحتوم فى سراديب الموتى.. ومتاحف العاديات.. الخ.
كما لن أسارع برفض العزاء المبكر الذى يقدمه لنا. ورغم نبرة السخرية فى حديثه فأننى أميل الى أخذ الأمور مأخذا جادا فأصارحه القول بأنه ينتابنى فى بعض الأوقات أحساس مقبض بأن ما نحاوله قد لا يعدو أن يكون صورة أخرى من صور مصارعة طواحين الهواء بسيوف خشبية أو أنه أشبه بالخدش على سطح جبل صلد تمهيدا لحفر نفق نعبره، وتتضاعف وطأة هذا الاحساس حين يعود صدى الكلمة منبئا بحجم المسافة التى تفصلنا عمن نريد أن نصل إليهم.
ولكنى لا أخفى عليه أيضا أننى أعود فأفيق من هذا الاحساس حين تصلنى كلمات مثل أنكم حقيقة لا سبيل الى تجاهلها أو ويبقى – قبل ذلك كله – طموح المجلة النبيل، طموحها الى الاقلاق والتحريك والتغيير.
وحين أوازن بين الاحساسين لا أملك الا أن أرجح طريق الاستمرار.
[1] – ” الانسان و التطور”، السنة الأولى، العدد الأول، ص 3
[2] – لا يستعمل تعبير” كونى” هنا لمفهوم العينى الفلكى (الكواكب.. المجرات… الخ) وأنما يستعمل كمفهوم شامل للنظام الأعلى من الوجودSuprasystem الذى تتجاوز أبعاده الزمان والمكان والظواهر المحسوسة التى نعايشها على هذا الكوكب
[3] – الانسان والتطور”، السنة الأولى، العدد الأول ، ص3