أكتوبر1983-قراءة فى العدد الماضى
مجلة الإنسان والتطور
عدد أكتوبر 1983
قراءة فى العدد الماضى (1)
د. ماهر شفيق فريد
ربما كان عنوان هذه الكلمة مسرفا فى الطموح بعض الشئ: فليست هذه قراءة شاملة لكل مواد العدد الماضى، ولا حتى لأغلبها، وأنما هى مجموعة ملاحظات تراكمت لدى كاتبها من خلال مطالعته الأعداد الماضية، وأتخذت من عدد (يوليو، أغسطس، سبتمبر 1983) مجرد “مناسبة” لاطلاق سراح هذه الملاحظات.
منطلق الحكم على أى مجلة هو الأهداف التى تضعها نصب عينيها، ومدى نجاحها فى تحقيق هذه الأهداف. والدكتور يحيى الرخاوى فى افتتاحيته يقدم برنامجا حافلا ذا نبرة نتشوية: “مواجهة تحديات العصر من تحطيم الأصنام السلفية، ورفض احتكارات التخصص، والحذر من تشنجات الأيدلوجية، وضرورة المشاركة الحقيقية من كل من يهمه الأمر”. هى قائمة جليلة حقا، ولكنها تستخفى وراء قناع من التعميمات المبهمة. نريد أن نعرف، مثلا ماهى على وجه الدقة تلك “الأصنام السلفية” التى نصبت المجلة ذاتها لمحاربتها؟ واين يبدا الخط الفاصل بين “المعتقدات” السلفية والأصنام “السلفية؟ ليس لدى كاتب هذه الكلمات شك فى شجاعة الرخاوى وقدرته على الجهر بالقول، فليخرج الى العراء وليخبرنا صراحة ماذا يقبل من قيم السلف وماذا يرفض؟.
وفى معرض تفسيره لنبرة الغموض التى تشوب كثيرا من محتويات المجلة – خاصة الجزء الابداعى منها شعرا ونثرا – يذكر الرخاوى أن المجلة تسكن “المنطقة الحرام بين اليمين واليسار، بين الدين والتصوف، بين العلم والفن “ويطرح احتمال أن تكون الجدة وعدم الألفة وخوف المشاهد هى من أسباب ما يستقبل على انه غموض ما” ولنسلم جدلا بأن المجلة تسكن “المنطقة الحرام” المذكورة (ليس هذا أمرأ واضحا بذاته – ولكن دعها تمر) ولنلاحظ – اولا – أن هذا لا يستتبع بالضرورة ان يكون المستكشف غامضا: فالوضوح صفة قارة فى عقل الكاتب لا فى طوبوغرافية الأرض التى يحاول أن يرسم خرائطها. بوسع الكاتب القدير – اليوت أوفاليرى أورنبو – أن يكون واضح الفكر رغم كل تعقده، جلى الحواس رغم كل تداخلها، محدد الرؤية رغم كل عمقها، وذلك لأنه قد راض نفسه على القيام بذلك الجهد الأكبر الذى بدونه لايكون الفنان فنانا: جهد الانتحال والتنظيم والحذف، جهد المراجعة والاعادة والنقد. أن الكاتب العظيم يستطيع أن يكون جليا فى قلب الظلام. والكاتب العاجز يظل مظلم الوعى، معتم الوجدان، ولو كان فى رائعة النهار.
ماالذى نجده فى محاولات يحيى الرخاوى (اليمامة والهدهد) وعصمت داوستاشى (المربع) وعادل مصطفى (بعد الحفل) وغيرهم؟ مادة خام قيمة ولكنها لم تمر بالعملية الابداعية التى تستخرج عروق النضار من بين ركام الضخور، وتفرض على عماء الأفكار وفوضى الانفعالات واختلاط المدركات نظام الفن وصرامته. انظر مثلا الى هذا المقتطف من قصيدة الرخاوى (اليمامة والهدهد) (عدد أبريل، مايو، يونية 1983):
نظرت للأرض الرحم الأم
ناداها الهدهد
فتذكرت العش المجدول
طارت مثل يمامة
تبحث عن صدر وليف لم يولد أبدا
وتهادت فى زفة عرس
…………..
…………..
درات دورة
نبتت زهرة
كتبت همسات الريح على الأوراق بدمع الهجر:
“لا يطلب أى منكم ما ليس يحق له طلبه”
هذه قصيدة مخفقة، جنين ولد ميتا، أو ناقص التكوين. أن البيت الأخير فى هذا النوع من القصائد غالبا ما يكون بمثابة “لحظة تنوير”: بؤرة تجمع تلتقى عندها أشعة القصيدة، وتكتسب من تفاعلها معنى كليا يضفى المغزى على كل ما سبقه من جدائل. لكن هذا البيت الأخير”لا يطلب أتى منكم ما ليس يحق له طلبه” لا ينير شيئا. أنه حكمة باردة ومكرورة ومحفوظة. والقصيدة بهذه المثابة لا تتصاعد نحو ذورة فكرية أو وجدانية. أنها قصيدة سكونية بالمعنى السيئ لهذه الكلمة: فليس فيها حركة ولا صراع ولا دراما. والوزن رتيب يخلو من اى تنويعات ذات دلالة.
أنها محض كلمات صفت جنبا إلى جنب على صفحة بيضاء. وما هكذا يكون الشعر: الشعر الذى يضئ ويحرك ويفجر ويزلزل. لا ليس الرخاوى شاعرا( ولاقاصا) ولن يكون.
أتراه ناقدا أدبيا أذن وهو الذى يكتب صفحات طوالا عن دوستويفسكى أو فتحى غانم؟ أجل على معنى من المعانى، ومع تحفظات شديدة. أن عقله نافذ، وذكاؤه ماض، وحساسيته مرهفة، ولكن هذه الصفات كلها – وأن كانت ضرورية – لا تكفى لصنع الناقد الأدبى. على الناقد – بالضرورة – أن يكون مهتما فى المحل الاول بالأثر النهائى، بالعلامات المرقومة على الصفحة، لا بما سبقها من بيئة اجتماعية أو تجارب ذاتية. والرخاوى، بحكم تدريبه العلمى، عاجز – أو هو لا يريد- عن أن يسلخ العمل عن صاحبه، أن الافتراض الكامن وراء مقالته عن رواية “الأفيال” لفتحى غانم هو ” أن شخوص عمل روائى ليست فى النهاية إلا ذاته بما حوت من ذوات: بمعنى طبقات الوعى وتنظيماته”. والرخاوى يقول أشياء مفيدة عن طبقات وعى هذه الشخصيات، ولكنه على وجه الدقة لا يقول شيئا عن الطريقة التى ” نظم” بها الكاتب هذه الطبقات، أن كان قد فعل، وهو بهذا النقص يخرج مقالته – الممتعة والنافذة – من مجال النقد الأدبى كلية. سمه نقدا أدبيا من زواية نفسية أن شئت، أو سمه تفسيرا أدبيا للنفس (كما يحب الرخاوى أن يسمى مقالته عن عالم الطفولة عند دوستويفسكى)، أو سمه أى شئ غير النقد الأدبى كما نفهمه:
التعليق بالكلمة المكتوبة على العمل من خلال أداتى التحليل والمقارنة (اليوت). لاريب فى أن بيت النقد – كبيت القصة – له نوافذ كثيرة وأنه يتسع لاجتهادات نفسية وفلسفية واجتماعية وسياسية لا حصر لها. لكن هذه الاجتهادات هى الفرع وتحليل النص من حيث هو بناء لفظى هو الأصل. والرخاوى لايكاد يقدم شيئا يذكر فى هذا المجال الأخير.
متى يكون الرخاوى ناقدا أدبيا؟ فى لحظات قليلة تكاد تعد على أصابع اليدين. أنظر مثلا إلى ملاحظته البارعة عن تعدد الأجناس واللغات فى رواية فتحى غانم: المسرحية باللغة الألمانية (ص8) قائد ظائرة الرحلة يتكلم باللغة الانجليزية (ص19) فى حين يتكلم كوستا الفرنسية أيضا (ص43) والصحراء عربية لأن السائق يتكلم العربية (ص23) والخادم آسيوى (ص113) ذو وجه صينى (ص303) واستطرادات تذكر العبرية (جابى اشكنازى) فضلا عن الاشارة المتكررة إلى لغات غير مفهومة (ص6) وغامضة (ص30) ……… الخ.
أو أنظر إلى ملحوظته الأخرى التى لا تقل عن ذلك براعة حين يلاحظ تردد اسمى”يوسف منصور” و”زينب” فى ثلاث من روايات فتحى غانم “الرجل الذى فقد ظله”، “زينب والعرش”، ” الأفيال” وتعليقه على مغزى هذا التكرار.. هذا هو نوع الملاحظات الذى يضئ النص من الداخل، ويكشف عن العلاقات الباطنية بين أعمال الكاتب، وهو الذى يمتاز به الناقد الأدبى عن عالم النفس أو المؤرخ أو عالم الاجتماع.
ونعود الى افتتاحية العدد الماضى لنلاحظ أن الرخاوى – على سبيل الشرح لا التبرير – يكثر من استخدام كلمة “مرحلية” وكأنها الترياق السحرى الذى يغفر له كل غموض فنى أو كل طغيان فكرى الى غير ذلك مما أخذته عليه، واقر به – أوببعضه – بشجاعة تستحق الاحترام. هذه بعض جمله المحتوية على كلمته السحرية: “أن الغموض اضطرار مرحلى” (ص10)، “اضطررت إليه مرحليا بالضرورة” (نفس الصفحة)،’ كل ماأستطيعه هو أن يكون كل كذلك مرحلة لا أكثر’ (ص11)، ‘ أن شخصى – أكثر من غيره – يمثل هذا الموقف مرحليا بالضرورة’ (نفس الصفحة)، ‘ نؤجل سلسلة شخصيات شياطين ديستويفسكى.. لأسباب تحريرية مرحلية’ (ص 13)، ‘ سواء كان نكوصا لذاته، أم نكوصا مرحليا’ (ص 129). لا بل أن المجلة ذاتها ‘تصدر مرحليا فصلية’. أيكون من السرف أن أصطنع رطانة علم النفس (ولست – علم الله – من محبيها) لأقول أن الرخاوى يعانى من ‘حواز المرحلية’؟ هذه الفكرة المستحوذة التى تأخذ بمخنق قارئه، وتسد عليه سبل التفكير، وتمثل له – كطيف ليلى – بكل سبيل، كأنها رقية مفعمة بالبخور تنيم الوعى، وتهدئ المخاوف، وتزيل الشكوك.
بماذا تذكرنا هذه المرحلية؟ ربما كان أقرب الأمور إليها هو حديث ماركس وانجلز عن دكتاتورية البرولتاريا المرحلية التى ستكون مرحلة ضرورية قبل اختفاء الدولة ونشوء الفردوس الأرضى عديم الطبقات تحت شعار المطرقة والمنجل، وفى اطار تحالف الصانع والزارع والكاتب والمهندس والجندى. لقد غبرت ستة وستون من الأعوام على قيام ثورة أكتوبر 1917 الاشتراكية ولما نرى بعد مجرد بشير بزوال هذه المرحلة، فكم سيتعين علينا أن ننتظر – ياترى – قبل أن تبرأ مجلة الانسان والتطور مما يعتورها من غموض واختلاط؟.
وندع الرخاوى -أو لعلنا فر الحقيقة مازلنا معه – لنلقى نظرة خاطفة على بعض مواد العدد الماضى: هناك ملحوظة غفل من التوقيع عن الحب .. الملكية… والتشيئ منطلقها بيت نصيب.
أهيم بدعد ما حييت وأن أمت
أو كل بدعد من يهيم بها بعدى
يقول الكاتب المجهول (وهو الا يكن الرخاوى ذاته فأنه على الأقل أحدى تناسخات هذه الشخصية الأسطورية): من أسخف ما ينقد به الشعر أن يقال: فلو قال الشاعر كذا: لكان أصوب، أو: ولو قال كذا لكان آنسب، ذلك أن هذا تدخل خطير، فالشعر كلمة… تصل أو لا تصل (ص26). أحق هذا؟ أن هدف الشاعر هو أن يولد تأثيرا فنيا معينا، ووسيلته لبلوغ هذا الهدف – ولا وسيلة له سواها – هى أن يؤالف بين أصوات ومقاطع وكلمات وعبارات وجمل فى نسق عروضى بعينه. فأذا أخفقت كلمة الشاعر فى أن تصل، أفلا يكون من المنطقى أن نتساءل عن الأسباب؟ وسيدلنا البحث – فى تسعة أعشار الحالات – على أن علة الاخفاق هى أن الشاعر استخدم الكلمة الفلانية أو القافية الفلانية أو البحر الفلانى ولم يستخدم غيره. هنا يكون من حق الناقد – بل من واجبه – أن يكون مشرعا الى جانب كونه مفسرا ومحللا ومقارنا. وله أن يقول: لو قال الشاعر كذا: لكان أصوب، أو: ولو قال كذا لكان أنسب.
ويسقط الكاتب المجهول على تعديل الخليفة عبد الملك بيت نصيب أفكاره الخاصة (وهى فى حد ذاتها صائبة تستحق الاحترام) عن الحب والامتلاك، وينطلق فى موعظة قصيرة عن قمة الاحتكار وخبث الانانية وسفالة القسوة تحت اسم الحب. أيه يا ظلال سلامة موسى وتلامذته من نقاد الشعر العربى القديم! أهذا ما انتهينا اليه بعد أجيال كاملة من النقد والتنظير والممارسة؟ يتساءل الكاتب: أى حب خصوصى هذا الذى يتمنى تشويه المحبوب بمجرد اختفاء مالكه؟ (ص27) ولا أحيله على أبى فراس الحمدانى القائل: اذا مت ظمآنا فلا نزل القطر، ولا على تحليلات بروست الرائعة لعاطفة الحب، وأنما أحيله على الفطرة الانسانية كما نراها فى أنفسنا وفيمن حولنا من رجال ونساء. وكل أولئك يقول بصراحة ووضوح: أن الأنانية جزء لا يتجزأ من عاطفة الحب. وتمنى الشر للمحبوب اذا كان سيكون من نصيب الغير ليس بالأمر النادر وأن جهد أغلبنا فى مداراته ودفعه لأن ضمائرنا لا ترضاه، وحسنا الأخلاقى وموروثنا الدينى يأبياته. وعلى هذا فأنه اذا قال عبد الملك أو غيره (حيث أن القصة كلها قد تكون موضوعة، دون أن يقدح ذلك فى دلالتها):
أهيم بدعد ماحييت وأن أمت فلا صلحت دعد لذى خلة بعدى
كان صادقا مع الفطرة الانسانية فى آعمق أعماقها، ومحللا بارعا لأخفى ما فى النفوس من دوافع وتيارات. قل ما شئت عن عيوب هذا الاتجاه الوجدانى ( فأنا مشاركك مذمته) فأنك لن تكون الا قادحا فى فطرة الانسان لا فى بيت الشاعر. ومن حقك أن ترفض هذا البيت وأن تستخلص منه ما شئت من دلالات. لكنك فى هذه الحالة لن تكون الا أخلاقيا يستخلص القيم من الشعر ويعيد تقييمها، تماما كما أن الرخاوى – فى نقده النفسانى – لا يكون الا عالما جيولوجيا – ينقب فى طبقات الوعى ويخرج الغابر منها الى ضوء النهار.
وننتقل الى ”قصة” محمد عبد المطلب “أقول صاحب القلب الأخضر” لنجد أنها تعانى مما تعانيه مقطوعة الرخاوى. أن السطر الأخير يقول: ”يا الهى.. الى أى درجة هذا القفل أنيق وجيد ومتقن الصنع؟؟”
(لاحظ أن علامة التعجب -لا علامة الاستفهام – هى الترقيم الصائب هنا، ولكن كتاب هذه الأيام – فيما يبدو- أكثر انشغالا – كقارئ عزبة شقرف مركز بلقاس – بأمور أهم كثيرا من صناعة الانشاء: فهم لا ينامون من الليل الا قليلا من كثرة تفكيرهم فى ”العلم وماحوى، والكون وماطوى، وما يندرج تحت ذلك من موضوعات علمية وفلسفية، تتوه فيها العقول والأفكار”) أقول آن هذا السطر الأخير كان يراد به أن يكون لحظة التنوير، ولحظة التنوير – بحكم تعريفها – لا تقبل غموضا ولا التباسا ولا ابهاما، ولكنها فى قصة محمد عبد المطلب تقبل تفسيرين على الأقل، يرتطمان ولا يلتقيان: فهى – من ناحية – قد تعنى (والأرجح أن هذا ما يريده المؤلف) ان المتكلم وقع ضحية لخداع الآخرين، واغرائهم له بأن يدخل القفص الرائع الشكل ذا القفل المتقن الصنع، فراح هو ذاته يتغزل فيه وقد التقم الطعم: ياالهى.. إلى أى درجة هذا القفل أنيق وجيد ومتقن الصنع”.
والتفسير الآخر- وهو على الطرف المقابل للتفسير السابق – أن المتكلم أبصر الخدعة بوضوح، وراح يتأمل – على نحو لا يخلو من كلبية – كيف يزين الناس لأنفسهم الأوهام، وينتهون إلى الاقتناع بما لفقوا من آباطيل، وتنقلب فى عقولهم سلالم القيم، حتى ليصبح القفل – رمز السجن والاحتباس – آية الجودة والاناقة واتقان الصنع: ينطلق فى هذه التأملات وهو واقف على مبعدة، لا ينوى دخول القفص، وحسبه – فى دور المشاهد المعقب الذى ارتضاه – أن يعلق على حماقة الآخرين.
بأى هذين التفسيرين نأخذ؟ ان مجرد الحيرة بينهما أمر كاف لهدم الأثر الكلى الذى كان الكاتب ينتويه، ومحو الانطباع الموحد الذى علمنا آدجار بو(وليس قوله وحيا منزلا، ولكنه جدير بالاعتبار) أنه غاية القصة القصيرة. هذا الالتباس فى الدلالة دليل على التباس أعمق فى عقل الكاتب: فهو لا يرى هدفه بوضوح، ويصوب إلى أكثر من دريئة فى آن واحد، فيخطئ الأهداف جميعا.
وثمة التباس آخر يكمن فى عنوان القصة ذاته: “أقوال صاحب القلب الأخضر”. ماذا تعنى كلمة “الأخضر” هنا؟ واضح أن لها معنيين على الأقل، أحدهما طيب والآخر سيئ فهى من ناحية تعنى البرائه والنقاء والخصب، ومن ناحية أخرى تعنى السذاجة والفجاجة. ومحك الاختيار بين هذين المعنيين هو التفسير الذى نرتضيه للقصة بأكلمها. هكذا يأخذ الالتباس الأول برقاب الالتباس الثانى، ويجد الكاتب ذاته – كما يقول التعبير الانجليزى – واقعا بين كرسيين.
وتعانى المحاولات الابداعية التى تنشرها المجلة من عدد من العيوب الفنية: هناك التعبير المباشر والانغماس فى الرثاء للذات كما فى لزومية الصمت للفنان الراحل عبد المنعم مطاوع:
كنت أعلم أن العالم يملؤنى بالحزن ….
يحثو على هامتى التراب – وينفض ريشه الملون على …
ويغمس فى قرارى مرقمه الجارح…..
وهناك التباس النية فى يوميات عادل مصطفى بعد الحفل مما يتبدى فى قلق التشبيهات، وافتقارها إلى وحدة الجو الوجدانى، مما يبعثر تأثيرها ولا يساعد على تكوين انطباع واحد محدد: أن التشبيهات العقلانية ظلام واحد متجانس كمطلق شلنج (ص56) لا تنسجم مع التشبيهات الهومرية لا يا عميق الحزام (قارن وصف هوميروس لخصرهيلين النحيل). فالأول ينطق بلسان اللوذعية والثقافة والخبرة، والثانى – كما علمنا محمد مندور – ينطق بلسان الفطرة والسذاجة والصدق. ليس ثمة اعتراض من حيث المبدأ على أن يمد الكاتب شبكته لكى يقتنص تشبيهاته من أبعد الآفاق وأكثرها تنافرا (ماذا يكون شعر الشعراء الميتافيزيقيين الانجليز(القرن17) أو شعر الشعراء الرمزين الفرنسيين (القرن 19) أن لم يكن كذلك؟) وأنما وجه الاعتراض هو أن عادل مصطفى لا يخضع هذه التشبيهات لعملية صهر والتحام ولا بسط وتسفر عن وحدة كولردج قوة الخيال الصاهرة بحيث تذوب المتناقضات فى وعى القارئ استقرار الرصاصة أو السهم.
وأتساءل فى النهاية: ماذا سيبقى من مجلة الانسان والتطور بهد عشرين عاما؟.
اخترت هذه الفترة عشوائيا لأنى لا أتوقع للمجلة أن تعيش طويلا، أو – اذا عاشت – لأنى لا أتوقع لها انتشارا أوسع كثيرا ولا فاعلية أقوى كثيرا ( وهو مصير يبدو أن يحيى الرخاوى قد راض نفسه عليه برواقية تدعو للاعجاب، وأنقشاع للأوهام نادر بين رؤساء التحرير) وإنما حسبها – أن عاشت – أن تظل ساكنة وجود شفقى، يلتقى عنده الليل بالنهار، ويحاول ابتداع لغة جديدة فينجح مرة يخفق فى أغلب المرات.
على أن قولى هذا (وقد آن الأوان لكى أنقد نفسى ذاتيا) لا يخلو من قدرية يائسة قد تعكس الأحداث توقعاتها. لقد قلت – فى معرض تعليقى على محاولات يحيى الرخاوى – أنه لن يكون قط فنانا، لأنه عالم أساسا، وأنه لن يدرك شبح الفن، لأنه قد جبل من طينة مغايرة. ويقتضى الحق هنا أن أقر أنه قد رد على ردا مفحما، وأحرز على نقطة فى هذا الصدد: فقد كتب – بسخرية مهذبة هى من أبلغ دلائل التمدين – أما الطنية التى جبلت منها، فأنا لا أعرفها مثلما يبدو أنكم تعرفونها، حيث أتصور أنى مستمر فى تصنيعها رغم تقدم العمر وفرط الانهاك.. وأذا بنى الفعل جبل للمجهول: أصابتنى رعدة لا تقل عن خوفى من المصير الذى حذرتمونى منه.
صدق يحيى الرخاوى وكذب ماهر شفيق. فليس هناك جبلة مطلقة غير قابلة للتغير، وأنما الانسان – كما علمتنا الوجودية – مشروع دائم فى طور التخلق، وانطلاقة نحو المستقبل. وقدره أنما يصنعه المعلوم لا المجهول، يصنعه جهده وارادته وذكاؤه وضميره وابداعه، لا جبلة مجردة ذات طابع مثالى مطلق.
لكن حدسى الداخلى ( القائم على ما أملك من حس نقدى) قد يصدق وأن أخطأت استدلالاتى العقلية: فليس هناك تلازم – بالضرورة – بين الأمرين. سوف أثابر(الى أن تكذب الأحداث ظنى) على الاعتقاد بأن يحيى الرخاوى عالم لا فنان، مهما نال من جوائز الدولة التشجيعية أو حتى التقديرية، ومهما طوقت رأسه أكاليل الغار، ومهما دبجت عنه من مدائح شاورنية وغير شاورنية. وسوف يثابر الرخاوى على أخراج تلك المخلوقات الغريبة الشائهة من بنات خياله: ثعابين وبيوت زجاجية ويمام وهدهد وأغان ثكلى ونشوات ومخدارت. ولن يسعدنى شئ قدر أن يطيش سهمى، وتخيب توقعاتى، وبفرض نفسه فنانا وقاصا وشاعرا، رغم ‘أنى لا أظن هذا أمرا قريب الاحتمال.
وأعود إلى السؤال الذى بدأت هذا الاستطراد: ماذا يبقى من مجلة الانسان والتطور بعد عشرين عاما؟ فأقول: يبقى القليل وأن يكن – فى ميزان واقعنا الثقافى الهزيل – كثيرا.. تبقى بعض محاولات نقدية للرخاوى (دوستويفسكى) ومحمد شعلان (توماس هاردى) وبعض فقر من قصص، وأبيات من قصائد (حيث أننا قلما نجد فى المجلة عملا ناجحا من ألفه إلى يائه) ويبقى – قبل ذلك كله – طموح المجلة النبيل، طموحها إلى الاقلاق والتحريك والتغيير، وهى قيمة باقية وأن كان أغلب ما تنشره زائلا.
أن المجلة الانسان والتطور تتقدم – ببطء ولكن بثقة – إلى احتلال ركن خاص بها فى سراديب الموتى، فى طريق الكباش، فى متحف العاديات الأدبية والأحافير الثقافية، مثل مجلات السيرياليين المصريين فى أربعينات هذا القرن، ومثل جاليرى 68)، ومثل مجلات أخرى تصدر بالرونيو والأوفست وتجدها على أرصفة باعة الكتب والصحف فى شارع طلعت حرب وغيره.. بعد عشرين سنة ستكون مجلة الانسان والتطور قد ماتت مثل المجلات التى سبقتها، ولكن كل ميت كان حيا فى يوم من الأيام، وكان له قدر من التأثير – يتفاوت قوة أو ضعفا – على المحيطين به.. وقيمة المجلة الحقيقية هى أنها مرحلة فى حياة أهم كتابها: يحيى الرخاوى، وعادل مصطفى، وواحد أو اثنين آخرين.. مرحلة سوف يتجاوزونها يوما ما نحو آفاق جديدة، ويومها سوف يسعهم أن يلقوا – من فوق الكتف – نظرة ملؤها الحنين إلى جزء عزيز من ماضيهم.
وفى الختام أقول لهيئة تحرير المجلة: لا يؤيسنكم ما أوجهه اليكم وما قد يوجهه غيرى من نقد: أنكم حقيقة لا سبيل لتجاهلها، ولئن عدا عليكم قانون الفناء فهو عاد علينا جميعا أن عاجلا أو آجلا… أنما شرف الانسان وقدره أن يتمكن – فى الفترة القصيرة المتاحة له على ظهر هذه الأرض - من أن يحاول ويجاهد ولو باءت جهوده – فى النهاية – بالاخفاق.
أن جهدكم- وهو مالم أحاول آخفاءه – يبدو لى مخفقا ولكنه الاخفاق المشرف الذى يسمو على نجاح كثيرين ممن حولكم.
[1] – هذا هو العنوان الذى اختاره الكاتب، وأن كنا نفضل العنوان الذى اقترحه التحرير وهو ” هذه المجلة..” من بعيد” .. إلى متى؟”.
1983-10-01