مجلة الإنسان والتطور
عدد أكتوبر 1983
تعقيب على رسالة د. ماهر شفيق فريد
م. ابراهيم عادل حسن
قرأت بأشد الاهتمام وببعض التفاؤل رسالة د. ماهر شفيق فريد للمجلة والتى سماها “قراءة فى العدد الماضى” بالرغم من القدر الكبير من الاختلاف الذى وصل فى بعض فقرات الرسالة لدرجة أننى احسست أننا كمن يذيع على موجة لمن يستقبل على موجة أخرى، ومع ذلك فانى أحسب أن المجلة مدينة لكل من يقرأها – بالرغم من اعتراضه عليها – بالرد ومحاولة تبادل الفهم، مع عدم الطمع فى سرعة الاتفاق، ومبعث التفاؤل هنا أن قارئا يقرأ المجلة ويشعر بالقلق مما يقرأ ولكنه يستمر فى قراءتها، اذ أنك لا تستطيع أن تستمر فى قراءة المادة الرديئة، ولكنك تستطيع – وقد ترغب – فى الاستمرار فى قراءة المادة الجيدة (غير المألوفة القالب) بالرغم من شعورك بالقلق لقراءتها، وهو نفس القلق الذى يشعر به معتاد سماع الموسيقى الكلاسيكية المكتوبة فى قوالب منتظمة ومعلومة عندما يستمع الى الموسيقى الحديثة المكتوبة فى غير هذه القوالب، أن الموسيقى الحديثة ليست موسيقى رديئة، كما أن الموسيقى الكلاسيكية كانت عند بداية العهد بها غير مألوفة.
أقول ذلك لأنى أعتقد أن مشكلة “القوالب” هى أهم أوجه الخلاف مع د. ماهر ومع بعض من قراء المجلة من ذوى الثقافة المرتفعة، ولا سيما ممن لهم علاقة باحتراف الكتابة ولذلك وفى بداية حديثى أوضح أن هيئة تحرير المجلة وأغلب من يكتب فيها من غير محترفى الكتابة، وأن كان ذلك لا يعنى اعتراضا – من حيث المبدأ – على احتراف الكتابة، الا أننا يجب أن ننظر الى الأمر من الزاويتين الآتيتين:
أولا – ان هذه المجلة تصدر لتؤدى دورا، قد يكون هذا الدور صغيرا، كما قد يكون غير تام التحدد ولكنه دور هام، وهى ان كانت ستؤدى نفس الدور الذى يؤديه غيرها فلا داعى لصدورها، فهناك مجلات متخصصة ثقافية ونقدية وعلى من يبحث عن اللوذعية والحرفية أن يتوجه اليها.
ثانيا – ان أول ما يجعل المادة مناسبة للنشر فى هذه المجلة، هو أن يكون لدى كاتبها “شئ” أصيل ونابع من نفسه يريد أن يعبر عنه ليشاركه فيه غيره من الناس، ذلك هو من يسمى “من يهمه الأمر” ويعتبر فقد من يهمهم الأمر سواء ككتاب أو كقراء – خسارة كبيرة، يتضاءل أمام تجنبها التضحية بقبول بعض مما قد لا يعجب د. ماهر، على أن الكاتب لابد له بعد ذلك أن يكون قد بذل جهدا جادا فى تنظيم عمله واخراجه فى اطار متماسك، ذلك الجهد من النوع الذى يسميه د. ماهر “استخراج عروق النضار من بين ركام الصخور” ولا اذكر أن عملا نشر بهذه المجلة لم يبذل فيه هذا الجهد، فيما عدا القليل من الصرخات المنطلقة من صدور بعض ممن يمكن أن يغفر عمق الطبقة الصادرة عنها الصرخة لهم عدم التماسك فى العمل، من أمثال أحاديث الصديق جاد الرب وبعض الأعمال القليلة الأخرى، أعود الآن لمشكلة القوالب التى أعتقد أنها جوهر الخلاف مع د. ماهر فأنا أعتقد أن أول ما يقلقه هو وضعنا فى قالب محدد، ولذلك فهو يطالبنا “بالخروج الى العراء”، مما اعتقد أنه يعنى أن نعلن بصراحة عن انتمائنا لأيديولوجية محددة، أو اتجاه سياسى أو مدرسة فلسفية بذاتها، والحقيقة أن الصراحة هى أخر ما ينقصنا، ولكننا ننتمى الى “الانسان” بقوته وضعفه فى معركته مع قوى التدهور والتخلف داخل نفسه وخارجها وطموحه للتطور، لذلك فأننا نعلم أن السير ضمن أى قطيع أو تحت أى راية أيديولوجية لن يجدينا شيئا بل سوف يفقدنا الكثير.
وأخشى أن د. ماهر سوف يعتبر هذا الكلام من باب “التعميمات المبهمة” اذ أنى شعرت من رسالته أنه يعنى بالوضوح “بطاقة الهوية” التى تحتوى على البيانات الآتية: هل أنتم يمينيون أم يساريون؟ متدينون أم ملحدون؟ من الحزب الوطنى أم من غيره؟.
من ناحية أخرى فانى أعتقد أن المشكلة الرئيسية بين د. ماهر وبين مواد المجلة – والتى يسميها مشكلة الغموض – انما هى مشكلة عدم تحديد القالب.
مثال ذلك نقد د. ماهر لقصيدة اليمامة والهدهد، أن أحد مآخذه الرئيسية على القصيدة هو أن: “البيت الأخير فى هذا (النوع من القصائد) غالبا ما يكون بمثابة (لحظة تنوير) أما البيت الأخير فى هذه القصيدة وهو (لا يطلب أى منكم ما ليس يحق له طلبه) فهو لا ينير شيئا…”.
وتعليقى على ذلك: انه لا اعتراض على أن أحد القوالب الممكنة للقصيدة أن يكون بيتها الأخير بمثابة لحظة تنوير، ولكن من التعسف أن نحكم بأن هذه القصيدة هى (من ذلك النوع من القصائد) الذى لابد أن يكون بيته الأخير بمثابة لحظة تنوير، لست ناقدا ولكن.. هذه قصيدة رثاء قاتمة، وبيتها الأخير بيت هام، فهو لحظة حقيقة، حقيقة صماء ساكنة، تفسر الكثير وتصك القارئ بصراحتها وبردودها، وهى قصيدة جيدة ومؤثرة وقد أحببتها.. جدا، ولذلك فأنا أعتقد أن تطبيق القواعد النقدية الجاهزة والمحددة على الشعر لاسيما الشعر الحديث – هو أمر شديد الصعوبة وقد يكون شديد الظلم، اذ أن لكل قصيدة من الملامح والمواطن الجمالية ما يختلف عن غيرها، واستنباط المواطن المشتركة للجمال فى الشعر الحديث والتى تصلح أن تكون معايير نقدية هو أمر لا يجب أن يؤخذ بمثل ذلك التبسيط أو التعسف.
مثال ذلك أيضا اعتراض د. ماهر على ما ورد فى المجلة حول بيت نصيب من أنه: “من أسخف ما ينقد به الشعر أن يقال: فلو قال الشاعر كذا لكان أصوب، أو لو قال كذا لكان أنسب، ذلك أن هذا تدخل خطير، فالشعر كلمة.. تصل أو لا تصل”، يقول د. ماهر فى معرض تعليقه على هذا القول: “أحق هذا؟ ان هدف الشاعر هو أن يولد تأثيرا فنيا معينا ووسيلته لبلوغ هذا الهدف ولا وسيلة له سواها – هى أن يؤالف بين أصوات ومقاطع وكلمات وعبارات وجمل فى نسق عروضى بعينه، فاذا أخفقت كلمته فى أن “تصل” أفلا يكون من المنطقى أن نتساءل عن الأسباب وسيدلنا البحث فى تسعة أعشار الحالات على أن علة الاخفاق هى أن الشاعر استخدم الكلمة أو القافية الفلانية أو البحر الفلانى ولم يستخدم غيره، هنا يكون من حق الناقد. بل من واجبه أن يكون مشرعا الى جانب كونه مفسرا ومحللا ومقارنا، وله أن يقول: لو قال الشاعر كذا لكان أصوب، أو لو قال كذا لكان أنسب”.
وتعليقى على ذلك أن هذا الأسلوب قد يصلح لتصحيح كراريس مادة الانشاء فى المدارس الثانوية ولكنه ليس بالضرورة هو أسلوب النقد الأوحد، فليس من باب النقد أن تهدم عملا فنيا لتقيم على اشلائه عملا آخر.
أن الشاعر يستخدم الكلمات والعبارات ويضعها فى نسق بعينه ليخلق تأثيرا متكاملا يقصده، فاذا أنت انتزعت من هذا النسق شيئا، أو استبدلت أو أضفت اليه شيئا آخر من عندك فليس بالغريب أن يكون الناتج تأثيرا شديد الاختلاف عما كان يقصده الشاعر، والشاهد على ذلك بيت نصيب ذاته، وما تحول اليه هذا البيت بعد أن “صححه” عبد الملك، وبصرف النظر عن أيهما أفضل.
أما عن التساؤل: ماذا يبقى من مجلة الانسان والتطور بعد عشرين عاما، فان فترة العشرين عاما فترة طويلة أظن أن بعض ملامح هذا المجتمع ستتغير خلالها ومنها: جرعة الصراحة المقبولة التداول، القدر المتاح من الحرية، قدرتنا على الاستماع لرأى الآخرين قبل المسارعة الى رفضه مقدما وازاء ذلك فلا أتوقع – ولا أرجو – أن تظل المجلة طوال هذه المدة تصدر بنفس الصورة وتؤدى نفس الدور. وقد تتوقف عن الصدور قبل مرور هذه الفترة وحينئذ يكون شرفها أنها أدت دورا ما – مهما ضؤل – خلال فترة ما – مهما قصرت – ولا أخفى أننى آمل أن تتمكن هذه المجلة خلال هذه الفترة من أن “تصل” الى عدد أكبر من القراء وأن يكون وصولها أعمق، على الا تتخلى – مقابل ذلك – عن شئ من مبادئها.
ختاما أرجو أن أكون محقا فى تفاؤلى بأن د. ماهر وغيره ممن يقرءون مجلتنا بقلق ولكنهم يستمرون فى القراءة هم من أكثر القراء اهتماما، وأنهم فى نهاية الأمر بعض “من يهمهم الأمر”.