عدد أكتوبر 1980
مقتطف وموقف
المتقطف:
من كتاب (الإنسان والجنون)(1)
تأليف: اشتيفان بنديك
(من شعر أحد المرضى فى (الجرانج) ذلك المستشفى الذى تمت فيه هذه التجربة الرائدة للعلاج المتكامل بالعمل مع العلاج الفيزيائى وعلاج الوسط) (ص 210،209).
يقول المريض:
القصيدة الأولى
تعلمت فى المساء فى أحدى القرى
فى حجرة صغيرة مع التنهدات
أن جدى هو السيدات والسادة: سلفى السكير، لا أنا
أعرف الآن أن جدى
يضطهدنى، رغم أنه مات
ويحدق فى بعينين زجاجيتين
ويرقص على قمة رأسى
ذات يوم سأغادر غرفتى عند الفجر
وقد عزمت أمرى
وأرتقى التل فى تحد
حيث أوجه الطمة لجدى
ولكن ربما لا يهم
إذا لم يوجد تل- فلست أطلب سوى غرفة
فسيحة غير مفروشة
أستطيع فيها أن أخرج من ذاتى
فى قتامة المساء
يجب أن أشكر الله لهذه المعرفة
التى أزعم أنها نصف الشفاء
وأن أعرف أن كل ما أعانيه
يلقى باللائمة فيه على سلفى
أن أعرف أنه حين الوحش المفترس
ذو الصرخة الطويلة الحادة المنبعثة
يجعلنى أنطلق فى وهدة الليل
فإنه جدى وليس أنا
والآن سأقول ما أعرفه أنا بمفردى
إذا هاجمنى مرة أخرى معولا
فلن أستطيع أن أصارع من هو أنا
لذلك فأنا أكتب اشعارى على الماء
****
القصيدة الثانية:
واضحة وضوح النهار وعباءة الليل السوداء
هى حالتى- فصبغياتى تهددنى بالفناء
(لا ذاتى) تعذبنى بالليل والنهار
ولا استطيع دفع المعاناة مادامت قدرى
ثمة ذات ثانية فى داخلى
تقتل ذاتى الحقيقية، وهى فى الواقع
قد قتلتها تقريبا، وما أفظع أن أشهد ذلك(2)
إننى أحبس أنفاسى وأشهد صيحة المنتصر
تحتدم المعركة بينى وبين(لا- ذاتى)
واحدة من الاثنين يجب أن تمحى، ياللمحاولة!
فالصراع سيدمر روحى
ولذا أفكر فى الموت كثيرا
وحين تستسلم إحدى الذاتين أخيراً
فمن المؤكد أننى سأكون قدمت
وحتى ينتهى قلق تحطم الأعصاب
أريد أن أعرف جواب السؤال- من أنا؟
***
وللمؤلف(طبيب نفسى) ثلاث تعليقات تحتاج إلى تعليق:
أولا: فقد قال وهو يقدم شعر هذا المريض(ص209):
(… فلقد تصادف لسوء الحظ أن أقرأ فى واحد من كتبى عن الوراثة والصبغيات، الأمر الذى جعله يعتقد أن جده- وليس هو-هو المسئول عن مرضه العقلى، فكتب فى ذلك قصيدتين)
ثانيا: فصل المؤلف ما بين القصيدتين(ص210) بقوله:
(فى وسع المرء أن يفهم بعض ما يسميه العلماء بالانفصام أو الثنائية، فحين تنفصم الروح، وينطلق الشخص الآخر، المرعب من الأعماق، الآخر الذى ليس أنا ولكنه أنا، إن الشئ المخيف هنا أن الشاعر لا يعرف حقا أيهما هو الذات الحقيقية).
ثالثا: تعقيب بعد القصدتين (ص211).
(إن المرء هنا يساوره الإحساس بأنه لا توجد ذاتين فحسب وإنما ثلاثة، الثالثة هى تلك التى يرعبها مراقبة ما إذا كانت الذات أو الذات الثانية هى التى سوف تنتصر، لم أفكر فى شئ كهذا من قبل، فالفصامى لا يعذبه الصراع المحكوم عليه بالفشل بين شخصيتين فحسب، وإنما يزيد فيتعذب من جراء عدم استطاعته معرفة أى الشخصيتين هى الحقيقة، لقد تقبل الاثنين، لكن الشك يسلمه لليأس.
كان مؤلف القصائد يناهز الأربعين، ابن رسام شهير، وكان من المقدر أن يكون رساما موهوبا لو لم تتصارع ذاته مع الذات المغايرة فى داخله، فصار محملا بالشكوك والقلق، عاجزا عن التوافق.
الموقف:
إن هذا المقتطف جدير أن يقرأ من أكثر من زاوية، وموقفنا هنا هو تعقيب على ما قال المريض وما رأى الطبيب على حد سواء، ومناقشة لهما، وهذا الأسلوب إنما يؤكد لنا ظاهرة فنومنولوجية أساسية وهى وحدة التكامل فى ظاهرة واحدة تشمل الفاحص والمفحوص معا، وهذه الأساسية يمكن أن تكبر وحدتها لتشمل موقفنا مع المقتطف ثم موقف القارئ من الاثنين معاً… وهكذا.
1- وأول مانشير إليه هو كيف قدم الطبيب تفسيراً لبعض ما جاء فى القصيدة على أنه نتيجة لأن المريض الشاعر قرأ له كتابا عن الوراثة.
وهذا التفسير يثير ثلاثة أسئلة ونقاط للمناقشة:
2- إن ذكر( الصبغيات) فى الشطر الثانى من القصيدة الثانية لا يعنى إطلاقا أن المريض يتكلم مباشرة عن الوراثة بمفهومها العلمى، وخاصة إذا ما أخذ هذا السطر فى إطار حديثه عن وعيه الفائق بتركيبه الوالدى النابع من استعداد وراثى وانطباعات بصمية من البيئة الوالدية بما هى كما هى، وبرموزها الراجعة إلى أجيال سابقة، وبأثر الأجيال الأقدم الفعلى فى توجيه السلوك، وهذا الأثر لا ينبغى أن يختصر إلى وراثة ولا تأثير تقليدى بقدر ما يفتح هذا الشعر أبوابا لفهم(تعدد الذوات) بما فى ذلك(الذات الوالدية)parental ego state و(الذات الجد) Grandparent ego وهكذا، وهذا ما أسماه إريك بيرن التحليل التركيبى العلوى أو المتصاعد، وقد ظهرت هذه النظرية(التحليل التفاعلاتى) وانتشرت منذ الستينات أى بعد أن كتب هذا الشاعر شعره وفسر هذا الطبيب مادة الشعر، وهنا نشير إلى ان التفسيرات المطروحة للسلوك النفسى متأثرة دائما بالمتاح من النظريات فى جانب، وبحدس المفسر العلمى والذاتى فى جانب آخر، وكل من الجانبين يغذى الآخر فى نشاط مثمر.
وواضح أن هذا الكاتب الطبيب بلغ من صدق الحدس أنه تنبأ بتعدد الذوات ولم يقتصر على قبول ثنائية وقطبى صراع مسطح، فهو يقول مباشرة(إن المرء هنا يساوره الاحساس بأنه لا توجد ذاتين فحسب وإنما ثلاثة).
وهذا المنظور يؤكد الثورة التى نعيشها فى فهم النفس الإنسانية حاليا: هو حتم التعدد، هذا المفهوم الخطر الذى قد يفتح الباب خطأ للتخلى عن مسئولية التوحد، وفى نفس الوقت- وبالرغم من ذلك- هو شديد الأهمية وحتمى لأى فهم على مستوى تركيبى فنومنولوجى سليم.
وأهمية التركيب الفصامى وخطورته لا تكمن فى وجود ذاتين، أو بتعبير أدق فى تفكك الذات إلى ذاتين أو أكثر وإنما فى تساوى الشحن(الوجدانى والإرادى، والطاقاتى بأى معنى رمزى أو مباشر) بين هذه الذوات بحيث لاتتفوق إحداها على الأخريات فى لحظة بذاتها، وفى هذا يقول التفسير المطروح:
(… فيتعذب(المريض) من جراء عدم استطاعته معرفة أى الشخصيتين هى الحقيقية، لقد تقبل الاثنين.. الخ) الواقع أن الفصامى فعلا يتقبل الاثنين بل الحقيقية أنه لا يستطيع إلا أن يتقبل الاثنين وهذا ما أسماه الرخاوى(1979) تساوى التكافؤ فى(دراسته عن السيكوباثولوجى) وفسر به كثيرا من أعراض الفصامى، وهذه شهادة أخرى بسبق الحدس التفسيرى الجيد لأى تنظير لاحق.. مما يدفعنا إلى الدعوة للاجتهاد فى قبول كثير من تفسيرات المرضى والأطباء- وحتى بدون نظريات مدعمة- باعتبارها مثيرات للتفكير واحتمالات التصديق.
3- ونحن نختلف مع المعلق فى أنه: لو لم تتصارع ذاته(المريض) مع الذات المغايره فى داخله.. لكان من المقدر أن يكون رساما موهوبا (مثل والده).. إذ لابد من موقفنا هذا أن ندعو إلى قبول الصراع بشكل بناء يسمح بأن يقلبه إلى ولاف حى ناتج من تضاد مفيد، أما تصور أنه(لو لم تتصارع.. لكان أفضل.. الخ) فإن ذلك يسير مع الشائع بأن الصحة النفسية قد تكون فى انعدام الصراع، وربما لم يقصد الكاتب ذلك أبدا- بل إن موقفه فى كتابه كله يؤكد أنه لم يقصد هذا التبسيط، والأولى أن نستعمل تعبيرا يقول (.. ولو اتجه الصراع بما أنتج من قوى وطاقة إلى إعادة بناء الذات والواقع بدلا من المواجهة الصفرية لأنتج مبدعا بدلا من مريض- ليس بالضرورى رساما مثل الوالد).
4- إن استعمال كلمة الروح فى المجال العلمى قد يكون باعثا على التشويش رغم صدق حدس المؤلف ووضوح رؤيته،ولعل الخلط كان فى الترجمة إلى الانجليزية أو إلى العربية، فاستعمال مثل هذه الألفاظ تصبح خطيرة وتفسيرها يفتح أبواب الغموض أو تداخل المعارف بلغاتها المختلفة، وقول الكاتب(فحين تنفصم الروح) قد لا يعنى شيئا البتة وقد يعنى ما أسماه ساندور رادو( الذات الفاعلة) Action self وهى الذات المحورية التى تمسك كل المستويات التركيبية فى وحدة واحدة، والفرق بين الاستعمالين واضح.
5- إن تصوير المريض للذات المستعيدة لنشاطها المستقل فى خبرة الفصام على أنها(الوحش المفترس) أو انها(تقتل ذاتى الحقيقية) هو إعلان مبدئى لما يعيشه المريض من رعب الخبرة إلا أ ن الرعب الأكبر وما يترتب عليه من ضياع وتناثر هو العجز عن تحديد أى من الذوات هى الحقيقية، والتصور لثنائية الخير والشر داخل الإنسان ينبغى أن يتراجع من منظور علمى، وإذا قبلنا بهذ الثنائية فى الأحوال العادية فينبغى أن يتخذ الطبيب الذى يواجه هذا التفكيك موقفا مغايرا من داخله لأن حق النشاط البيولوجى والسلوكى لكل من هذه الذوات متكافئة الشحن لا يمكن أن يعطى فرصة تعديل كاف يسمح بتوليف علاجى سليم إلا إذا تغير مفهوم الطبيب إلى(السماح) دون( الحكم الأخلاقى) و(التقبل للمتناقضات) دون( الاسراع بقبول حكم المريض على ذواته أو حكم المجتمع على داخلنا).. وكل هذا يتطلب درجة من تصالح الطبيب مع ما هو(أو من هم..) هو بشكل يعلن حتم نموه المستمر.
6- إن العودة إلى النص الشعرى يقول بوجه الشبه الشديد بين الشعر الأصيل الصادر من شاعر متماسك رائع الإبداع وبين ما نسميه شعر المرضى فالصور المعروضه هنا متواترة تماما فى كل الشعر المعروف وخاصة ما يسمى بالشعر الجديد، ونحن ندعو من يشاء من القراء للبحث عن صور مشابهة له أو لنا، ووجه الشبه هذا لا يشير بحال من الأحوال إلى أن الشعراء مرضى بالضرورة، ولكنه قد يطمئنا إلى أن المرض شعر بشكل ما… وبألفاظ أخرى فإن وجه الشبه بين رؤية الشاعر ورؤية المريض رغم اختلاف مسار كل منهما خليقة بالدراسة لإفادة النظرية والخبرة العلاجية على حد سواء.
(1)
[1] الاسم الأصلى بالانجليزية هوThe Gilded Gage والعمل أصلا وارد من المجر، والناشر للطبعة العربية المترجمة هو دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، والمترجمان هما د. قدرى حنفى مع د. لطفى فطين.
[2] – البنط الأسود والتأكيد فى الأصل