عدد أكتوبر 1980
والبحث فى الانسان (3)
المدخل الفنومنولوجى فى الطب النفسى
“نموذج جاسبرز”
د. مجدى عرفة
الموجز
يقدم هذا المقال عرضا للنموذج المنهجى الذى قدمه العالم الرائد كارل جاسبرز للبحث العلمى فى مجال السيكوباثولوجى (دراسة الظاهر النفسية المرضية)، وهو يركز على الخطوة أو المرحلة التى يطبق فيها المنهج الفنومنولوجى فى دراسة الظواهر، ثم يحاول أن يستكمل الصورة المنهجية بعرض لملامح الخطوات التالية كما يراها جاسبرز.
كان العالم والفيلسوف الكبير جاسبرز(1) هو أول من أدخل المفاهيم والطرق الفنومنولوجية إلى الطب النفسى وقام بتطبيقها فى مجال السيكوباثولوجى (دراسة الظاهر النفسية المرضية)، وكانت حصيلة عمله وأعمال من سار على نهجه فى هذا المجال دعامة يصعب التشكيك فى أهميتها القصوى فى إرساء بدايات هذا العلم وأسسه الأولية ، وتعتبر تجسيدا حيا لدور المدخل الفنومنولوجى الذى لا بديل عنه فى دراسة النفس البشرية.
إلا أن الدور الرائد لهذا العالم القدير لا يقف عند حدود هذا العمل وإنما يتبدى فى النسق المنجهى العلمى المتكامل الذى قدمه لدراسة الظواهر النفسية المرضية وفيه يأخذ المنهج الفنومنولوجى مكانه المناسب جنبا إلى جنب مع أساليب البحث الأخرى بما فى ذلك الأساليب التجريبية دون أى تعصبات منهجية، ويحكم الأمور فيه نظرة معرفية أو أو إبستمولوجية ثاقبة وناقدة تستكشف خطوات العمل العلمى ومراحله واحدة وتوضح منطقة كل منها وحدود دورها ونتائجها.
والنموذج الذى يقدمه للبحث العلمى بذلك هو نموذج منهجى شامل ومترابط، من هنا أحسست أن محاولة عرض النموذج الذى قدمه لتطبيق المدخل الفنومنولوجى فى دراسة الظواهر النفسية المرضية سيكون قاصرا إذا لم يأت من خلال عرض الملامح العامة للنموذج المنهجى الكلى، كما أن عرض الإطار أو النموذج الكلى سيساعد على تحديد أبعاد وحدود دور المنهج الفنومنولوجى ومرحتله فى عملية البحث العلمى فى هذا المجال بشكل له أهمية حيوية فى تكوين تصور متوازن خالى من المبالغات لهذا الدور جنبا إلى جنب مع الأساليب والخطوات أو مراحل رئيسية:
1- تجميع الظواهر النفسية المفردة Collection of individual psychic Phenomena
2 – البحث فى الارتباطاتInquiry into connections
3 – التقاط الوحدات المركبة Grasp of complex unities
المرحلة الاولى: وفيها يتم عزل وتحديد وتمييز ووصف الظواهر النفسية وتسميتها بصورة تجعلها معروفة ومصطلح عليها… وهنا يميز جاسبرز بين نوعين أو جانبين للظواهر النفسية:
1- خبرات المريض الذاتية….. وسبيل دراستها هو المنهج الفنومنولوجى أى أن هذه المنطقة هى التى يطبق فيها المنهج الفنومنولوجى وبشكل لا بديل عنه…. وتشكل الخطوة الأولية والجوهرية والتى ينبنى عليها كافة خطوات ومراحل البحث العلمى الأخرى.
2- الظواهر الموضوعية… أو الجانب الموضوعى من الظواهر النفسية، وتعبير “موضوعى” كما يستعمله جاسبرز هنا يقصد به كل ما يمكن إدراكه من الخارج بالحواس أو قياسه كأداء (وذلك فى مقابل الخبرة الذاتية التى تلتقط بالتعاطف)، كما يشمل المحتوى العقلانى للظواهر النفسية والذى يمكن فهمه بشكل فكرى صرف بدون تعاطف (مثل المحتوى للضلالات وذلك فى مقابل “الخبرة” الضلالية الأصلية تعتبر ذاتية ولا تلتقط إلا بالتعاطف) بذلك فإن الظواهر الموضوعية كما يعنيها جاسبرز تتضمن:-
(أ) التعبيرات الظاهرة أو مظاهر وحركات الجسم التى تفهم مباشرة (مثل تعبيرات الوجه فى الحزن والفرح….).
(ب) المصاحبات الجسمية أو الفسيولوجية للأحداث النفسية(مثل ازدياد ضربات القلب مع الاستثارة، واتساع حدقة العين وزيادة العرق مع الخوف أو القلق…)
(جـ) الأداءات النفسية القابلة للقياس (مثل الإدراك… الذاكرة… الذكاء القدرة على العمل…..).
(د) أفعال المريض وسلوكه الملحوظ وهى ما يشكل عالم الشخص أو بيئته الشخصية.
هذا التمييز بين الظواهر كخبرات ذاتية ومظاهر موضوعية ليس فصلا لها او تفضيلا لجانب منها على الآخر وإنما هو تمييز يتيح لكل منها مدخل دراسته الذى يتناسب مع طبيعته وخصائصه لكى تكتمل فى النهاية المعرفة بالظواهر من كافة أبعادها.
المرحلة الثانية: وفيها يتم الربط بين المعطيات أو الحقائق التى تمثلها الظواهر المفردة بهدف الحصول على معنى أو تفسير لأحداث ووقائع الواقع النفسى، وهو يميز فى هذا الصدد بين نوعين أو مرتبتين من الارتباطات:
1 – الارتباطات النفسية ذات المعنى meaningful psychic connections أو الارتباطات القائمة على الفهم النشوئى genetic understanding للأحداث النفسية.
2 – الارتباطات السببية او العلية causal connections للحياة النفسية، والتى يتم من خلالها تفسير explanation الأحداث النفسية، وتؤدى الصياغة الشاملة والكلية لهذه الارتباطات السببية إلى تكوين النظريات التفسيرية للحياة النفسية.
المرحلة الثالثة: وفيها يركز جاسبرز على أهمية النظرة الكلية فى دراسة الحياة النفسية فالوقائع المفردة التى يحاول البحث العلمى باستمرار فصلها ودراستها والتوصل إلى القوانين العامة التى تحكمها هى فى أصلها أجزاء من كليات أو وحدات مركبة ويجب لكى يظل فهمنا لها صحيحا أن نحيلها باستمرار إلى الكل الذى يحتويها؛ فالعناصر الفنومنولوجية كأجزاء…. يقابلها كلية حالة الوعى الآنية، والأداء المفرد المعين لشخص يقابله أداؤه الكلى، والعرض المرضى المنفرد يقابله الزملة المرضية ككل، ومرحلة ما من حياة الشخص يقابلها تاريخه الشخصى ككل، وفى النهاية فإن هذه الكليات الامبيريقية يجمعها الإنسان ككل شامل(2).
هذه هى الخطوط الرئيسية للنموذج المنهجى الذى يقدمه جاسبرز للبحث فى الظواهر النفسية المرضية او السيكوباثولوجى وسأحاول فيما يلى أن أقدم تفصيلا لبعض جوانبه بادئا بالمنطقة الفنومنولوجية (موضوعنا الأصلى) يتبعها المراحل التالية والمكملة لها بحيث يكتمل التصور المنهجى للمعرفة العلمية فى هذا المجال كما يراه هذا العالم والمفكر الرائد.
المرحلة الفنومنولوجية: دراسة خبرات المرضى الذاتية
الفنومنولوجيا فى السيكوباثولوجى كما يقرر جاسبرز ببساطة هى “الدراسةالتى تصف خبرات المرضى الذاتية وأى شئ آخر يوجد أو يأتى فى مجال وعيهم”(3)
والدور الفنومنولوجى فى هذا المجال كما يراه يتركز فى انه “العمل المبدئى الذى يتمثل فى تمثيل الظواهر النفسية وتعريفها وتقسيمها والمتبع كنشاط مستقل تماما….. والطبيعة الصعبة والشاملة لهذا العمل المبدئى تجعل من المحتم اعتباره غاية فى حد ذاته”(4) ، أى أن الهدف هو الحصول على تمثيل representation حى للظواهر التى يخبرها المرضى النفسيون وتمييز هذه الظواهر والتفرقة بينها بأكبر قدر ممكن من الوضوح ثم دراسة العلاقات المتبادلة بينها بشكل يسمح نتقسيمها ووضعها فى نظام، وحيث أننا لا نستطيع أن شكل خارجى مباشر (كما هو الحال فى حالة الظواهرالطبيعية) فإن الممكن فقط هو أن نضع تمثيلا لها من خلال الأوصاف الذاتية للمرضى أنفسهم يمكننا من التقاطها “من الداخل” بواسطة خبرة الفهم understanding أو التعاطف empathy ؛من هنا فإن هذا العمل كما يراه جاسبرز يقوم فى أساسه على الدراسة المنظمة للخبرة الذاتية من خلال الوصف الذاتى للخبرات الواعية بواسطة المرضى أنفسهم وبالاستناد إلى الأسس المعرفية (الابستمولوجية) والمنهجية للمدخل الفنومنولوجى.
وهذه المهمة تتم على خطوتين رئيسيتين:
(1) عزل الظواهر وتمييزها وإعطائها شكلا مفهوميان وهذا يجعلها قابلة للتوصيل إلى آخرين
(ب) تقسيم مجموعات الظواهر ووضعها فى نوع من النظام
(1) عزل الظواهر وتمييزها.
الخطوة الأولى للفهم العلمى لابد وان تكون استخراج وتعريف وتمييز ووصف ظواهر نفسية معينة، وبذلك يمكن تجسيدها بشكل واقعى ووضعها بانتظام فى ألفاظ واصطلاحات محددة، لابد وأن نبدأ بتمثيل واضح لما يجرى بالفعل فى المريض…. ما يخبره بالفعل، ولابد فى هذه المرحلة أن نصور فقط ما هو موجود فى وعى المريض وأى شئ لم يقدم نفسه بشكل فعلى فى وعى المريض فإنه يقع خارج اعتبارنا واهتمامنا، وهذا يتطلب ان نتحرر من أى تفكير أو تصور يتعلق بعلاقات الظواهر أو ارتباطاتها أو تفسيراتها ونركز فقط على الظواهر كما تقدم نفسها، ويرى جاسبرز أن التقاط الظواهر النفسية كما يخبرها المرضى يمكن يتم من خلال عدة طرق:
1- أوصاف المرضى الذاتية المنطوقة، ويشمل هذا الاستكشاف بالسؤال المباشر للمرضى، أو بواسطة بيانات أو تقارير عن خبراتهم يقدمونها تحت إرشادنا.
2 – أوصاف ذاتية مكتوبة، وهذه قد لا تكون جيدة حقيقة.. ولكن لها قيمتها ويمكن الاستفادة منها حتى إذا لم يعرف المرء الكاتب شخصيا.
3 – أن”يغمس” الإنسان نفسه فى سلوك المرضى وإيحاءاتهم وحركاتهم المعبرة. كل هذه المصادر للمعلومات يمكن أن توصلنا إلى الظواهر كما يخبرها المرضى إلا أن أفضلها وأعلاها قيمة فى رأى جاسبرز هو الوصف الذاتى الجيد.
وفى محاولتنا لدراسة الظواهر النفسية بهذه الطريقة لابد وان نراعى طول الوقت عدة اعتبارات أساسية:
– يؤكد جاسبرز بشكل حاسم على أهمية أن يتركز الاهتمام فى هذه المرحلة بالظواهر كما هى أو كما تقدم نفسها من خلال الوصف، وأن نتجرد بشكل كامل (قدر الامكان) من المفاهيم المسبقة أو التصورات التفسيرية والسببية، ولكنه يقرر فى نفس الوقت أن هذه المهمة صعبة حيث ان عقولنا معتادة ومهيأة لرؤية الأمور فى ضوء التصورات المسبقة والفهم السببى، والباحث لا يمكن أن يمتلك قدرة التجرد هذه منذ البداية وإنما يحتاج إلى مران شاق حتى يصل إلى درجة معقولة منها
– يتطلب المدخل الفنومنولوجى ان يكون توجهنا طول الوقت نحو الخبرة النفسية الذاتية والداخلية وليس نحو أى مظاهر أو أداءات موضوعية خارجية، فهذه ليست موضوع البحث أو هدفه فى هذا المستوى، وقد تفيد هنا فقط كمعطيات مساعدة فى التقاط وفهم الخبرة الذاتية.
– عندما نقترب باستخدام الطرق السابقة من الحياة النفسية للمريض فإن انطباعنا الأول سيكون فى صورة خليط متناثر من الظواهر، ويجب أن يكون هدفنا الأول هو التقاط وحدة مفردة itemووصفها لتكوين مفهوم لها يمكن لنا وللآخرين الاستفادة منه دائم، ولابد أن نعطيها إسما نستطيع به التعرف عليها دائما
– يجب أن نقبل المعطيات الوصفية الذايتة التى يقدمها المرضى بصدقها الظاهر لنا ونعتبرها حقيقية وجديرة بالتصديق دون شك فى المريض أو تكذيب له.
– الظواهر النفسية كخبرات ذاتية للمرضى لايمكن إدراكها بواسطة أعضاء الحس ولا يمكن التقاطها من خلال اى جهد عقلانى أو فكرى، وإنما يمكن أن تلتقط فحسب عن طريق التعاطف أو التقمص الشعورى أو خبرة الفهم (ليس الفهم العقلانى)، وهذه نقطة جوهرية سبق ان تعرضنا لها بإسهاب فى الجزء السابق من الدراسة(5)
إن للظواهر النفسية نوعية جوهرية أو نهائية غير قابلة للاختزال، وهناك أمثلة واضحة على ذلك فى مجال السيكوباثولوجى مثل ظاهرة الرؤية السابقة deja vu وظاهرة الاحساس بتغير العالم derealization والهلاوس الكاذبةPseudohall
conation…الخ وكلها ظواهر لا يمكن اختزالها إلى مدركات حسية بسيطة ولا يمكن التقاطها بشكل حقيقى إلا من خلال خبرة الفهم أو التعاطف. وهذه الطبيعة أو النوعية الخاصة للظواهر النفسية والوسيلة التى تتطلبها لالتقاطها تجعل من الصعب تجسيدها بشكل يسمح بالاحتفاظ بمعرفتنا عنها وتوصيلها للآخرين، إلا أن جاسبرز يرى أن السبيل الممكن لذلك هو مدخل وصفى متعدد الجوانب او نوع من الوصف الشامل لكافة جوانبها” يساعد” الآخرين على أن يحققوا “لأنفسهم” خبرة فهمها أو التعاطف بشأنها من خلال ممارستهم الخاصة.
وقد يكون من المناسب أن نورد هنا جانبا من التصوير الفنومنولوجى لظاهرة نفسية كمحصلة للأوصاف الذاتية التى قدمها المرضى بشأنها لعل هذا يسهم فى توضيح بعض ماأجاول توصيله، ولنأخذ على السبيل المثال ظاهرة الضلالة delusion حين يتحدث عنها جاسبرز فيقول:
” من وجهة نظر فنومنولوجية فإننا نلاحظ أن الضلالة خبرة غريبة بشكل جذرى عن الشخص الصحيح أو الطبيعى، أنها شئ أساسى وأولى primary يأتى قبل التفكير بالرغم من أنه يصبح واضحا فقط فى التفكير…. إن الخبرة الضلالية من وجهة النظر الفنومنولوجية لا تتغير، إنها نوع من الخبرة لا يحدث فيه تغيير حسى sensory، ولكن التعرف على موضوعات أو أشياء معينة يرتبط بخبرة مختلفة تماما عما هو طبيعى، مجرد التفكير فى الأشياء يعطيها طابعا خاصا ليس من الضرورى أن يصبح خبرة حسية، وهذه الدلالة الجديدة والخاصة التى تكتسبها الأشياء يمكن أن ترتبط بالأفكار بنفس القدر الذى يمكن أن ترتبط به بالأشياء المدركة….”(6).
فى هذا التصوير الفنومنولوجى يمكننا أن نلاحظ كيف أن التوجه طول الوقت نحو الخبرة نفسها، وكيف أن المدخل الوصفى إليها يستعين بمقابلتها بظواهر نعرفها بالفعل مثل الإدراكات الحسية والأفكار ويحاول أن يحدد علاقتها بهم ومنها يمكن أن نفهم أنها شئ متميز نوعيا وغير قابل للاختزال إلى مدركات أو أفكار وإن ارتبط بها، كما يمكننا أن نلتقط من التصوير ككل تجسيدا لمعنى معين أو ماهية قد لا يكون من الصعب التعرف عليها مرة أخرى إذا قابلتنا بعد ذلك فى مريض ما بحيث يمكن أن نعطيها نفس الاسم.
ويرى جاسبرز أن هناك ثلاثة احتمالات لأنواع الظواهر السيكوباثولوجية التى يمكن أن تقابلنا فى دراستنا الفنومنولوجية.
1 – ظواهر يمكن فهمها بوصفها مبالغات أو انتقاصات أو مزيج من ظواهر تخبرها بأنفسنا مثل مشاعر الاكتئاب والقلق الشديد أو مشاعر النشوة فى بعض حالات الذهان أو بعض النزوات المنحرفة perverted impulses…… الخ
2 – ظواهر معروفة لنا جميعا من خلال خبراتنا الخاصة، وتختلف فى المريض نفسيا فى طريقة ظهورها حيث لا تنشأ أو ترتبط بغيرها من الظواهر بطريقة معقولة وقابلة للفهم المتعاطف، فنحن نعرف ويمكننا أن نفهم مثلا كيف أن شخصا حين يخدع يصبح شكاكا، بينما قد ينشأ الشك فى مريض نفسى بشكل غير مفهوم أو ذو معنى.
3 – ظواهر خارجة عن متناول الفهم المتعاطف للباحث، وهذه قد لايمكن الاقتراب من معناها إلا من خلال تشبيهات أو استعارات، وتدرك بشكل فردى ليس من خلال أى فهم إيجابى ولكن من خلال ما يسمية جاسبرز”الصدمة التى يتلقاها مجرى استيعابنا للأمور فى مواجهة ما لايستطيع استيعابه”(7)، ويتضمن هذا النوع ظواهر قد لا يستطيع المرضى التعبير عنها بأى كلمات منطوقة أو حتى أى وسيلة من وسائل التواصل، ويورد جاسبرز كمثل على هذا النوع الخبرات السلبية Passivity experiences فى بعض حالات الفصام.
(ب) تقسيم مجموعات الظواهر
تحديد الظواهر وتعريفها يجب أن يتلوه وضعها فى نوع من النظام، وهناك طرق عديدة لترتيب الظواهر (وفقا لأسبابها أو محتواها أو دلالتها من وجهة نظر معينة منطيقية أو أخلاقية..الخ) ولكن المنهج الفنومنولوجى ينشد ترتيبا للظواهر وفقا لعلاقاتها ببعضها البعض، والشكل المثالى لذلك هو شكل”المتصل continuum بصورة مشابهة لترتيب عدد لا نهائى من الألوان فى الطيف، وفى هذه الحالة فإننا نقابل باحتمالين:
1- بعض الظواهر يمكن ربطها ببعضها وترتيبها بشكل منظم يمثل انتقالا متدرجا (مثل الألوان فى الطيف) وهو انتقال مبنى على نقاط أساسية مقارنة مثل الانتقال المتدرج بين الصورة الذهنية العادية normal image والهلاوس الكاذبة كاملة التكوين. بهذه الطريقة فإن الجمع بين الظواهر المترابطة يكون على أساس فنومنولوجى بحت حيث تستخدم فقط الجوانب من الظواهر التى خبرت حقيقة بوصفها نقاط التباين والاختلاف وتستبعد بذلك اى إشارات او نظريات إضافية.
2 – هناك ظواهر اخرى يصعب أو لا يمكن التقاط رابطة ما بينها على الأساس السابق (مثل الإدراك الحسى فى المقابل الأفكار أو الهلاوس فى مقابل الضلالات)، فهى تبدو متباعدة ومنفصلة اكثر منها مرتبطة باتصال تدريجى مثل هذه الظواهر يمكن وصفها فحسب تحت رؤوس منفصلة قد لا يجمعها نمط واحد داخل الحياة النفسية، ومن المهم التفرقة بين الانتقالات الفنومنولوجية المتدرجة وهذه الفجوات gaps ، الفنومنولوجية فالانتقالات المتدرجة تتيح لنا وضع الظواهر فى نظام ولكن حينما تكون هناك”فجوات” فإننا نستطيع فقط ان نقابل بين نقائض.
إن المثل الأعلى للنسق الفنومنولوجى هو عدد لا نهائى من الكيفيات النفسية غير القابلة للاختزال مقسمة ومرتبة بصورة تسمح بحصرها واستيعابها بشكل شامل وهذا النموذج مناقض لنموذج آخر – مأخوذ من العلوم الطبيعية – يقول بضرورة اقل عدد ممكن من العناصر الجوهرية( مثل عناصر الكيمياء) يمكن تحليل كل الظواهر النفسية إليها كما يمكن إعادة تركيبها لتشكل ظواهر متزايدة التعقيد( بالضبط كما يمكن تحليل المركبات الكيميائية إلى عناصر وإعادة تركيبها منها)؛ أى نموذج الذرة النفسية الوحيدة التى ينبنى منها كل ما هو نفسى فى تشكيلات متنوعة، والفنومنولوجيا تناقض هذا النموذج وتقول بأن الحياة النفسية كما ذكرنا تتميز إلى نوعيات أو كيفيات ل انهائية فى تعددها وغير قابلة لمثل هذا الاختزال.
وبالرغم من المدى الواسع واللانهائى لظواهر الحياة النفسية التى تسعى الفنومنولوجيا إلى استكشافها وتمييزها ووضعها فى نظام فإن جاسبرز يؤكد على حقيقة هامة وهى أن التأمل الدقيق فى حالة واحدة أو عدد محدود من الحالات غالبا ما يعلمنا من الظواهر ما هو مشترك فيما لا يحصى من الحالات الأخرى.إن المهم فى الفنومنولوجيا ليس عدد الحالات التى تمت رؤيتها أو دراستها وأنما المهم هو مدى الاستكشاف الداخلى للحالة الواحدة والذى يجب أن نمضى فيه إلى أقصى حد ممكن.
ما بعد الفنومنولوجيا: البحث فى الارتباطات النفسية:
تقدم لنا المرحلة الفنومنولوجية كما كبيرا من الظواهر المفردة المأخوذة من الخبرة النفسية للمرضى يدعمها ويكملها كم آخر من المعطيات المتحصلة من ملاحظة المظاهر والأداءات الموضوعية، وهذه المهمة إذا تمت كما يجب فإنها تقدم الإجابة على السؤال الأول لعملية البحث العلمى….. إذ تحدد لنا”ماهى الظواهر؟” أو ماهية الظواهر، وهى بذلك الأساس الأول الذى يتوقف على دقته المنهجية وعمق تقصيه وشموله صدق وصواب الإجابة على الأسئلة التالية التى تطرحها عملية البحث العلمى هنا يبدأ البحث العلمى مرحلة”كيف؟” و”لماذا؟”، مرحلة البحث فى “تفسير” هذه الظواهر، كيف تنشأ؟ ما هى القواعد التى تحكمها؟ وما هى القوانين التى تربطها وتعللها؟ وهى بذلك مرحلة بحث فى علاقات هذه الظواهر وارتباطاتها.
والنظرة العلمية المألوفة والسائدة – قياسا على منهج العلوم الطبيعية بالذات – ترى أن هناك نوعا واحدا من الارتباطات هو الارتباط السببى، إلا أن جاسبرز يضيف نوعا آخر من الارتباطات يرى أنه يميز مجال النفس البشرية ويسميه”الارتباطات النفسية ذات المعنى” أو الارتباطات القائمة على الفهم النشوئى للأحداث النفسية، ويعتبره شيئا مختلفا عن الارتباطات السببية بمفهومها الدقيق.
ولنلقى نظرة على ما يقوله جاسبرز بشأن هذين النوعين من الارتباطات:
(1) الارتباطات النفسية ذات المعنى.
يرى جاسبرز أن الظواهر أو الأحداث تنشأ من بعضها البعض بصورة يمكننا التقاطها بواسطة نوع من الفهم المتعاطف empathic understanding يسميه الفهم النشوئىgenetic understanding، (8) فنحن على السبيل المثال نفهم كيف أن شخصا ما إذا هوجم يصبح غاضبا، وأن شخصا آخر إذا خدع يصبح شكاكا.. إلى آخره من المواقف التى تمتد لتشمل كل ما ينشأ من الدوافعdrives عموما. وجاسبرز يرى أن هذا النوع من الارتباطات يقع فى مرتبة مختلفة تماما عن مرتبة الارتباطات السببية بمعناها الحقيقى، ويحاول أن يميز بوضوح بين “الفهم النشوئى” الذى يقوم عليه التقاط هذا النوع من الارتباطات فى مقابل عملية “التفسير”explanation التى يقوم عليها إدراك الروابط السببية:
1 – تعبير الفهم understanding كما يستخدمه جاسبرز عموما يشير إلى الفهم المتعاطف للظواهر النفسية من الداخل، والفهم النشوئى يمثل نوعا من الالتقاط الذاتى المباشر للارتباطات النفسية حيث يغمس الإنسان نفسه فى الموقف النفسى ويفهم من خلال التعاطف كيف تنشأ ظاهرة أو حدث نفسى من ظاهرة أو حدث نفسى آخر، هو نوع من الالتقاط للسياق النفسى الكلى المتحرك للدوافع والتأثيرات المناقضة لها
(حركة النفس الديالكتيكية) بينما، فى المقابل يشير تعبير التفسير كما يراه جاسبرز إلى عملية إدراك الروابط السببية التى يمكن إدراكها فحسب من الخارج، إلى عملية الكشف الموضوعى عن الارتباطات والمبادئ والقوانين التى تحكم الظواهر والتى لا يمكن فهمها بالتعاطف ولا تقبل التوضيح إلا فى صيغة السبب والنتيجة، بذلك فإننا كما يقول جاسبرز – (نفهم) الارتباطات النفسية من الداخل كمعانى بينما (نفسرها) من الخارج بوصفها تتابعات أومتصاحبات منتظمة إن لم تكن حتمية.
2 – الارتباطات التى تفهم بشكل نشوئى هى ارتباطات ذات طبيعة صوريةideal وتفهم فوريا، حيث يقوم فهمها على حقائق واضحة أوبينة بنفسهاself-evident , أى على نوع من الخبرة التى تحمل قوة الإقناع الخاصة بها وهو اقتناع نحصل عليه من موقف مواجهة الشخصية الإنسانية ولا يكتسب استقرائيا من خلال التجارب، ويعتبر جاسبرز أن قبول هذا النوع من البينة الذاتية شرط من الشروط المسبقة لما يسميه (علم النفس الظواهر ذات المعنى) بنفس الصورة التى تقبل بها الادراك والسببية كشروط مسبقة للعلوم الطبيعية(9).
أما فى حالة الارتباطات العلية فإننا نجد من خلال التجربة المتكررة أن هناك عددا من الظواهر ترتبط ببعضها بشكل منتظم، وعلى هذا الأساس نفسر تفسيرا سببيا، أى نحصل على القواعد والقوانين السببية بشكل استقرائىinductive
3 – الفهم النشوئى يختص بمعطيات تقع فى نطاق الوعى والخبرة المباشرة، بينما تلجأ التفسيرات السببية فى بحثها عن العلاقات إلى عوامل واقعة خارج الوعى Exira-conscious وتتجمع لتشكل نظريات عما يوجد وراء الواقع الملحوظ.
ويرى جاسبرز أن الكثير من تفسيرات الظواهر النفسية وعلى رأسها التفسيرات الفرويدية هى فى حقيقتها نوع من الفهم النشوئى أو فهم لارتباطات ذات معنى أكثر منها تفسيرات سببية بالمعنى الحقيقى وهو يقرر هذا بشكل صريح حيث يقول:
“إن فرويد معنى فى حقيقة الأمر بسيكولوجية الارتباطات ذات المعنى، وليس بالتفسيرات السببية كما كان يعتقد…. إنه يعلمنا بطريقة مقنعة كيف نتعرف على ارتباطات محددة ذات معنى، فنفهم كيف أن العقد المكبوتة فى اللاوعى تظهر مرة أخرى فى شكل رمزى، ونفهم تكوين رد فعل معين reaction formation تجاه دوافع غريزية مكبوتة……… الخ”(10)
(ب) الارتباطات السببية وتكوين النظريات.
الهدف النهائى للبحث العلمى كما نعرفه هو الوصول إلى تفسير أسباب الظواهر وتكوين النظريات التى تقدم صياغة شاملة ودقيقة لارتباطات الظواهر السببية فى صورة قواعد وقوانين (11)والصورة المثالية لهذا هو التوصل إلى الصيغة البسيطة المباشرة لعلاقة أو إرتباط السبب – النتيجة بين ظاهرتين، وهو ما يسمى بالنموذج الميكانيكى الخطى أو وحيد الاتجاه.
ويرى جاسبرز أن طبيعة الحياة النفسية لاتقبل التفسير بواسطة هذا النوع البسيط والمباشر من مفهوم السببية، والصعوبات والتناقضات التى تواجهنا حين نحاول فرضه قسرا فى المجال النفسى يجب أن تدفعنا إلى إعادة النظر بحثا عن إطار مختلف وبديل لهذا الإطار أو النموذج الميكانيكى يتناسب مع الطبيعة الحية شديدة التعقيد للنفس البشرية.
هذا الاطار – كما يرى جاسبرز- هو بالضرورة إطار بيولوجى ففى الإطار أو النموذج البيولوجى تصبح الظاهرة العينية جزاء من كل حى ولا يسمح هذا بعزل حقيقة بسيطة أو سبب بسيط، وإنما يمكن إدراك الظاهرة فقط كحدث مركب وسط العديد من القوى والاشتراطات المؤثرة. إن النموذج الميكانيكى بعلاقته السببية وحيدة الاتجاه يستبدل هنا بنموذج آخر من شبكة حية لا نهائية أو ارتباطات تبادلية reciprocity متعددة بصورة يصعب حصرها، وساعتها يكون القول بسبب واحد بسيط شيئا مشكوكا فيه…. قد يكون هناك شرط (بدونه لا تحدث الظاهرة) condition sine qua non ولكن من النادر جدا أن يكون كافيا كسبب وحيد للظاهرة.
فى هذا النموذذج قد لا تسير العلاقات السببية فى اتجاه واحد وإنما تأخذ صورة تأثير متبادل (بين السبب والنتيجة أو الظاهرة والظاهرة) وتمتد فى شكل دائرى.
فى إطار مثل هذا التفكير البيولوجى فإن ماقد يبدو صعب التفسير أو متناقضا فى إطار العلاقة السببية الميكانيكية يصبح مظهرا طبيعيا لعلاقة سببية فعلية، فمن خلال هذا الكل يمكننا أن نفسر كيف أو يستثير أو يثبط، يششفى أو يمرض، يسبب السعادة أو التعاسة…..الخ وذلك وفقا لشدته والاختلافات فى بنية الكل.
ويصل جاسبرز فى تأكيده على أهمية هذا النموذج إلى أن يقرر: (إنها ضرورة مطلقة أن يرى عالم السيكوباثولوجى الحياة بالصورة التى يراها بها علماء البيولوجيا، إن هذا يفتح عالما تعتبر حقيقة الحياة النفسية جزاء منه بالرغم من أنها ليست مطابقة له).
من ناحية أخرى يوضح جاسبرز أن البحث السببى فى مجال الحياة النفسية هو بطبيعته نوع من الاستدلال على عوامل تقع خارج نطاق الوعى extra-conscious والنظريات النفسية عموما معنية بشئ يقع خارج الوعى ويفهم بوصفه الأساس وراء الحياة النفسية الواعية (بوحداتها الفنومنولوجية وارتباطاتها ذات المعنى…..الخ) والمتسبب فى حدوثها وإيجادها، هذا الشئ بطبيعته ليس فى متناولنا بشكل مباشر أو عيانى ويمكن فقط الاستدال عليه deduced، وما تحاوله النظريات هو صياغة تمثيلات له، فالنظريات فى رأى جاسبرز هى نماذج إفتراضية تحاول تمثيل العامل أو العوامل المسئولة عن الظواهر بشكل مجازى Metaphorical أو تناظرى analogical قد يأخذ صورة ميكانيكة ـ كيميائية (عناصر وأجزاء ومركبات وإرتباطات آلية أو ميكانزمات) أو صورة وديناميات (طاقة نفسية أو بيولوجية وتحولاتها) أو صورة عضوية (مثل المناظرة بين الأحداث النفسية والتركيبات المتصاعدة والهرمية للمخ) وغيرها من النماذج التى تسعى كلها إلى تجسيد شئ مفهوم conceived ولكنه ليس ملموسا عيانيا بأى حال
الطرق الفنية للبحث Research techniques
كان ما سبق عرضا للخطوات أو المراحل المنهجية والأسس المعرفية (أو الإبستمولوجية) التى تقوم عليها كما قدمها جاسبرز فى نموذجه للبحث فى مجال السيكوباثولوجى، وتبقى إشارة قصيرة مكملة عن رؤيته للطرق الفنية المناسبة للبحث فى هذا المجال.
فى هذا الصدد يتحدث جاسبرز عن ثلاثة طرق فنية هى دراسة الحالة والطرق الإحصائية والتجارب، الأولى منهم هى الطريقة العامة والشاملة بينما ينحصر دور الإحصاء والتجارب فى منطقة معينة هى استكشاف الارتباطات أو التلازمات correlates.
1– دراسة الحالة Case-study
دراسة الحالة كما يعرفها جاسبرز هى (وصف الحالات وتاريخ الحالات case histories الذى يترواح بين وصف الظواهر المفردة والسيرة الشاملة biography (12) للمريض(13)، إن البحث فى السيكوباثولوجى مبنى على الاستكشاف اللفظى للمريض وعلى التعرف عن قرب على سلوكه وإيماءاته بالإضافة إلى كل المعلومات الممنكة عن حالته الحالية وتاريخه الشخصى السابق وذلك من خلال أوصاف المريض ننفسه أو ما يقدمه أقاربه ومعارفه أو أية وثائق متاحة متعلقة به، وهذه الطريقة فى رأى جاسبرز تشكل الأساس والمدخل الحقيقى لهذا العلم، والحالة الفردية individual case ستظل دائما (المصدر الرئيسى لكل ماله قيمة كخبرة فى السيكوباثولوجى)(14).
2– الطرق الإحصائية وإجراء التجارب
يؤكد جاسبرز على قيمة وأهمية هذه الطرق فى دراسة السيكوباثولوجى، فهذا العلم لايجب أن يقل فى سميه للدقة والضبط عن العلوم الطبيعية، إلا أنه يلفت النظر إلى أهمية وضع هذه الطرق فى مكانها الصحيح من الإطار المنهجى الكلى فى هذا المجال وإدراك حدودها والتحفظات التى يجب أن تراعى فى تطبيقها، فالطرق الإحصائية مثلا تحتاج إلى تعريف واضح ودقيق للمعطيات الأصلية الجارى دراستها بصورة لاتقبل أى لبس أو إبهام وإلا أصبحت الحسابات التالية غير ذات، من ناحية أخرى فإننا يجب أن نعى حدود النتائج التى تقدمها هذه الطرق الإحصائية فهى تؤدى بنا إلى روابط أو علاقات تلازم correlations وليس إلى علاقات سببية causal connections، إنها تشير إلى احتمالات وتستثيرنا لكى نفسر الأمور.
وبالنسبة للتجارب يرى جاسبرز أنه تحت ظروف معينة فإن التجارب يمكن أن تصبح (عوامل مساعدة) ذات قيمة قصوى، لكن الهدف النهائى للعلم لايمكن أن يكون مجرد الحصول على نتائج تجريبية، وهو من هذا المنطلق ينتقد عملية فصل ما يسمى (بالسيكوباثولوجيا التجريبية) عن بقية البحث فى هذا العلم واعتبارها مجالا خاصا تتم الدراسة العلمية(الحقيقة) للسيكوباثولوجى.
****
وبعـد
وهذا العرض لبعض ملامح النموذج المنهجى الذى قدمه جاسبرز لدراسة السيكوباثولوجى هو بدون شك عرض محدود وقاصر ولايتناسب مع عمق وشمول الإسهام المتميز لهذا العالم والمفكر الرائد، إلا أنه قد يفيد بدرجة ما فى إضاءة جوانب هامة من موضوع هذه السلسة من الدراسات وهو مراجعة مناهج وطرق البحث فى علوم النفس البشرية واستكشاف الحلول المحتملة للأزمة التى نرى أنها تمر بها حاليا. م خلال هذا إلاطار الأصيل الذى قدمه جاسبرز يمكننا أن نلاحظ كيف أن البحث فى علم النفس والطب النفسى قد تفرع الآن بمعظم ثقله فى اتجاه التجريب والإحصاء متجاهلا أو متناسيا أو منكرا الأصول الحقيقية لهذا العلم والتى تقدمها الفنومنولوجيا كمدخل ودراسة الحالة case-study كطريقة فنية للبحث.
لقد قدمت الفنومنولوجيا إسهاما لايقدر فى وضع الدعامات الأولى والأساسية للطب النفسى منذ بداياته وحتى اليوم، وبدون الأوصاف والتمثيلات والمعانى المحددة لقائمة طويلة من الظواهر الخبراتية والذاتية (الضلالات، الهلاوس، التغيرات الانفعالية………الخ) لما كان من الممكن تحقيق أى تقدم فى هذا العلم، وبدون الجهد الدقيق والمنظم فى دراسات الحالات ما أمكن الاختراق إلى العوالم الداخلية لنفوس المرضى وتجميع كم المعلومات والحقائق الذى يمكننا من الفهم والتفسير وصياغة النظريات.
ما أود أن ألفت النظر إليه هو أننا قد نكون فى أسس الحاجة للعودة إلى هذه الأصول؛ إن ما أسماه جاسبرز منذ ما يريد على نصف قرن (بالمهمة المبدئية) للمدخل الفنومنولوجى لايزال حتى اليوم ينتظر الكثير من العمل والجهد، ولا يزال المجال المعقد والغامض للنفس الإنسانية فى أمس الحاجة لاستكشاف ظواهره التى لاحصر لها من خلال المنهج الذى يتلاءم مع طبيعتها الخبراتية والذاتية…… وهى مهمة لايعلم أحد منتهاها.
إن جاسبرز يعلمنا من خلال نظرته الإبستمولوجية الدقيقة والناقدة كيف نحترم الخبرة الذاتية كجانب جوهرى فى دراسة النفس الإنسانية ويجعل من التقاطها من خلال التعاطف أو الفهم المتعاطف وسيلة علمية مقننة لا تقل فى أهميتها وعلميتها عن وسائل العلوم الطبيعية ولا بديل عنها فى مجالها.
إن مثل هذه الآراء والمفاهيم قد تصدم أصحاب العقول المبرمجة وفقا لنموذج العلم التقليدى الطبيعى، ولكن أى عقل متفتح يتعامل مع مجال النفس الانسانية يعرف مدى ما تمثلة من حقيقة، والإنجاز الذى قام عليها بالفعل فى مجال السيكوباثولوجى يقف شاهدا على أن هذا هو الطريق وأنه يجب أن يستكمل.
المراجع
Jaspers, K.(1968).(The phenomenological appyoach in psychopathology). British J.of Psychiat. 114, 1313-1323 (1963). (General Psychopathology) Translated by: Hoenig, J & Hamilton, M. W. Manchester:Manchester University Press
[1] – كارل جاسبرزK. Jaspers هو عالم وفيلسوف ألمانى ولد عام1883 وبدأ حياته العملية كطبيب نفسى وقام بدور رائد فى هذا المجال تجسد فى مرجع كبير باسم (السيكوباثولوجيا العامة) General Psychopathology صدر لأول مرة عام1913، إلا أنه تحول بعد ذلك تماما إلى الفلسفة، وفاقت شهرته كفيلسوف دوره السابق كطبيب نفسى, وقد صاغ فلسفيا ذوأسس وجودية أسماء (فلسفة الوجود).
[2] – الوحدة المركبة أو الكل المقصود هنا ليس بالمعنى الميكانيكى وإنما هو أقرب إلى المفهوم الجشتلتى( الكل أكبر من محصلة الأجزاء عنها فى خصائصه…الخ)، وهذه المرحلة كما وصفها جاسبرز تتجاوز نطاق البحث الحالى، لذا سأكتفى بهذا القدر من الإشارة إليها.
[3] – انظر المراجع – Jaspers (1963)
[4] – انظر المراجع – Jaspers(1968)
[5] – انظر العدد السابق ص 32 – 36.
[6] – انظر المراجع – Jaspers (1963)
–[7] – أنظر المراجع – Jaspers (1988)
[8] – يميز جاسبرز بين هذا النوع من الفهم الفنومنولوجى بالرغم من اشتراكهما فى عدد من الخصائص، فالفهم أيضا على التعاطف( ليس فهما عقلانيا)، ويتم (من الداخل)، وظواهره يجب أن تكون فى نطاق الوعى’ إلا أنهما يختلفان اختلافا مميزا: فالفهم الفنومنولوجى له طابع أو نوعية ساكنة static حيث يشير إلى فهم الظواهر المفردة كما هى من خلال تمثيلها لأنفسنا بينما الفهم النشوئى هو التقاط للنفس فى حالة حركتها أو اضطرابهاPerturbation.
ونحن فى حالة الفهم النشوئى لا نفهم الظواهر المخبرة ذاتيا فحسب… وإنما كل الظواهر الأخرى التى نراها مباشرة فى مظاهرها الموضوعية مثل الأداءات الفعلية والمصاحبات الجسمية……إلخ. وبينما يلتقط الفهم الفنومنولوجى الساكن معنى ظاهرة مفردة…. فإن الفهم النشوئى يؤدى بنا إلى التقاط معنى الارتباطات النفسية ونشأة ظاهرة نفسية من أخرى.
– [9] يتحفظ جاسبرز هنا بأن يقرر أن هذه البينة الذاتية للارتباطات ذات المعنى لاتغن دائما أنها موجودة حقيقة، إن الحكم على كون الارتباط ذى المعنى المتبدى فى أى حالة معطاة حقيقى لايعتمد على هذه البينة وحدها، وإنما يعتمد مبدئيا على الحقائق الملموسة التى يفهم الارتباط من خلالها والتى تمثل المعطيات الموضوعية، وهذه المعطيات الموضوعية تكون دائما غير كاملة بحيث لا تسمح بأكثر من مجرد تفسير لا يصل فى معظم الأحوال إلى درجة عالية من الموضوعية.
[10] – انظر المراجع- Jaspers(1963)
[11] – الارتباط السببى هو النوع الوحيد من الارتباطات الذى يسعى إليه نموذج العلوم الطبيعية حيث يحاول من خلال الملاحظة والتجريب صياغة قواعدrules ، ثم على مستوى أعلى يمكن إرساء قوانينlaws، وقد وصل هذا إلى مثالى من خلال التعبير عن القوانين العلية بواسطة معادلات رياضية دقيقة.
ويرى جاسبرز أننا نتبع مسارى مماثلا فى السيكوباثولوجى، حيث نجد ارتباطات سببية خاصة، كما يمكننا أيجاد عدة قواعد (مثل القواعد الوراثية فى حالة بعض الأمراض مثل مرض الهوس والاكتئاب )، إلا أننا لانستطيع فى معظم الأحوال أن نصل إلى درجة القانون فالقوانين التى يمكن صياغتها قليلة فى هذا المجال ونحن لا نستطيع أن نصل بها إلى درجة صياغة معادلات، لأن هذا يعنى تعبيرا كميا خالصا Complete quantification عن الظواهر الملاحظة وهو ما لايجوز على طبيعة الظواهر النفسية التى لابد وأن تظل نوعية qualitative.
[12] – يفرق جاسبرز بين(سجل الحالة) case-record وسيرة المريض أو ترجمة حياته biography ،فى الأولى يدرس المريض بوصفه حالة خاصة من مرض أو اضطراب ويحكم اختيار الظواهر الضرورية والتى تستحق التركيز وجهة نظر معينة وخاصة، بينما فى الثانية يدرس الفرد كذات متفردة ويحكم الأمور وحدة هذا الفرد ككل مترابط بما يؤدى إلى وجهات النظر التى تعطى منظورا للكل.
[13] – انظر المراجع –Jaspers (1963)
[14] – انظر المراجع – Jaspers (1963)