عدد أكتوبر 1980
الباحث: أداة البحث، وحقله…
فى دراسة الطفولة، والجنون
د. يحيى الرخاوى
الموجز
فى هذا البحث نوقش دور الباحث بصفته أداة البحث التى تستوعب الملاحظات وتعيد إفرازها فى مجالى دراسة نمو الطفل ونظريات السيكوباثولوجي، واقتصرت المناقشة على هذين المجالين باعتبارهما يتفقان فى ضعف وخداع المادة اللفظية المتاحة للملاحظة، ويتطلبان نوعا من النكوص الإبداعى, ومن ثم التقمص الواعى والإسقاط ثم التنظير، وقد طرحت من خلال ذلك قضية الذاتية والموضوعية، وكيف أن الذات يمكن أن تصبح موضوعية الوجود بقدر درجة نموها واتساع وعيها اللازمين فى البحث العلمى من هذا النوع، واقترح البحث لتنمية هذين البعدين أن تتاح الفرصة لمن يتصدى لهذا المجال من البحث أن يمر بخبرة الممارسة الاكلينيكية تحت إشراف، مع الذهانيين خاصة ولمدة طويلة، وكذلك أن تكون حلقات البحث الإشرافى نوعا من العلاج الجمعى الذى يسمح بالنمو الشخصي.., وأخيرا أن يكون انتقاء الباحثين مستمر، بحيث يوجه كل باحث إلى ما يتناسب مع درجة نموه المرحلى, دون تفضيل أو تعميم، مع إتاحة الفرصة للجميع بما يلائم قدرة كل منهم ومرحلة تطوره ومواضع اهتماماته المتغيرة بتغير مرحلة تطوره.
إذا كانت الكلمة أمانة – وهى لا شك كذلك لا محالة – فكلمة العالم هى أخطر الكلمات جميع، وأثقلها مسئولية وأبعدها أثر، وإذا كانت هذه المسئولية يمكن أن تخف نسبيا فى مجالات العلم التى تحكمها الأدوات المضبوطة والمقاييس المقننة، فإنها ليست كذلك تماما فى العلوم الإنسانية التى يحكمها- أو ينبغى أن يحكمها فى المقام الأول – موقف العالم ذاته ودرجة نضجه، ومدى وعيه، وعمق بصيرته، ومدى كفاءته شخصيا كأداة موضوعية أساسية فى انتقائه و ملاحظته واستنتاجاته وتفسيراته وتنظيره معا.
ويزداد يوما بعد يوم، مع زيادة أمانة العلماء وصدق مراجعتهم لنتائجهم (الفاشلة خاصة) وتتبع تعميماتهم، يزداد اليقين بأن الموضوعية فى شكلها المثالى المطلق كانت حلما لم يتحقق أبد، ولعل الفضل فى هذا الاعتراف الأمين لايرجع فى المقام الأول (ربـما للأسف) لعلماء العلوم الإنسانية كما كان منتظر، بل لعلماء الفيزياء مثل بلانك وبوهر (كما يقول فان كام – 1958), ربما بفضل نمو مفاهيم الفيزياء الكمية الحديثة، على أن فريقا من علماء الإنسانيات ظلوا – رغم خوف زملائهم واختبائهم فى الجزيئات والمنهجية – متمسكين بأولوية الإنسان كأداة أساسية وجوهرية فى البحث العلمى فى مجالهم، ذلك الفريق الذى نجده يندرج الآن تحت ما يعرف بالباحثين الفنومنولوجيين (حيث دراسة الخبرة الأولية سابقة وأساسية بشمولها ابتداء), وأحيانا يندرج تحت النزعة الجديدة المسماة بالنزعة الوجودية فى العلوم النفسية، وهى شديدة الاقتراب من النزعة الفنومنولوجية إن لم تحتو إحداهما الأخرى, على أن هذين الاتجاهين ليسا جديدين إذ لم يخرجا عن إعادة تركيز النظر على أبعاد مختلفة لأقدم وأعمق وسيلة للمعرفة والقياس وهى الوسيلة الإكلينيكية، وبالرغم من أن تعبير “الوسيلة الإكلينيكية” يبدو تعبيرا خاصا بشكل م، حيث نشأ فى مجال فى مجال الممارسة الطبية عامة بما ذلك الممارسة الطبنفسية، إلا أنى فى هذا البحث سأحاول أن أقدم الجانب المشترك الذى يمكن تعميمه فى مثل هذه الممارسة بمواصفات خاصة متاحة لصنف خاص من الباحثين ممن يجد فى نفسه الكفاءة والشجاعة لأن تقترب ذاته -كأداة- من الموضوعية بدرجة تسمح له بنوع خاص من الملاحظة والتنظير فى بعض المجالات التى لاتستغنى عن ذاته، وأخص بالذكر مجالين محددين هما مجالى دراسة الجنون والطفولة.
وقبل أن أدخل فى تفاصيل هذه الحاجة إلى صقل الباحث وإتاحة الفرصة الحقيقية لنموه لابد من توضيح ضرورة هذه الوقفة العنيفة فى طريق الشائع عن ماهية العلم عامة، والعلوم الإنسانية خاصة، فقد أصبحت الإنسانية مهددة بانحرافات عقول بنيها أكثر من تهديدها من أعداء خارج الإنسان ذاته، وقد أصبح البشر فى خطر نتيجة فرط استعمال وسائل العلم والتكنولوجيا بقدر أكبر من القدرة على استيعابه،.. أكثر من الخطر الناتج عن انحرافات مزاج الطبيعة.
ذلك أنه لما حل العلماء محل المفكرين، وحلت المنهجية محل الحدس الميتافيزيقى, وحلت قوانين حسابات الاحتمالات محل قانون التطور الطبيعي.. أوقع الإنسان نفسه فى مأزق تضاعفت فيه المسئولية إزاء أى فعل أو تخطيط أو معلومة تصدر عن العقل البشرى, وخاصة فيما يتعلق بالمستقبل، وفى مجالنا هذا نشعر أنه لايوجد أهم ولا أخطر من دراسة الإنسان: تريبة وعلاجا، مما يجعلها حتما تلزم بضرورة أن تؤخذ باهتمام مضاعف; … ليس للمهتمين بعلوم النفس فحسب بل من جانب كل مهتم بمسيرة الحضارة ومستقبل الإنسان.
ودراسة الطفل وتحديد خطوات نموه والتوصية بمناهج توجيهه قد أخذت حقها وزيادة فى مختلف المجالات، ولكن دعونا نراجع بقدر أكبر من التروى ودرجة أكبر من الشجاعة والمسئولية، ما إذا كنا نسلك الطريق الأسلم أم الطريق الأسهل، وما إذا كنا نحصل على المعلومات الأكثر ظهورا أم المعلومات الأصدق، وماإذا كنا نضع القوانين التى تتفق مع الغاية التطورية والمسيرة الحيوية الديالكتيكية، أم أننا نضع القوانين المستعرضة التى تفسر الارتباطات الآتية فى اجتهاد مضبوط، ولكن دون بعد ممتد؟؟
وسوف أختار للمناقشة كمثال يوضح ماذهبت إليه من مراجعة نظريات النمو مجال نظريات علم السيكوباثولوجى فأقول: إن أغلب نظريات علم النفس المرضى (السيكوباثولوجيا) مؤسسة على تصورات أساسية تتعلق مباشرة بمراحل نمو الطفل، وإن دراستها شديدة الصعوبة مالم نأخذ فى الاعتبار موقف الباحث وصفاته.
وقد بدأت هذه المراجعة أثناء قيامى بتدريس كل من منهجى علم نفس النمو، وعلم السيكوباثولوجيا لطلبة الدراسات العليا فى كلية الطب، حين واجهنى الطلبة من واقع تركيب دراستهم العيانية التشريحية أساس، واجهونى بسؤال حاد ومباشر عن مصدر هذه التصورات التى عليهم أن يحفوظها فيما يسمى بمدارس السيكوباثولوجى, وخاصة فيما يتعلق بما يلقى إليهم فيما يشبه اليقين عن انفعالات الرضيع الأولى وعلاقته بجسده أو بأمه، أو بوظائف إخراجه فى أيام نموه الأولى, وبعد استعراض الوسائل المختلفة من ملاحظة واستبطان وقياس وتتبع …. لم تقنعنا الإجابات المتاحة لدرجة تسمح بدراسة هذه المعلومات بطريقة مطمئنة وأمينة حيث كانت تتحدث مثلا عن لغة الرضيع العاطفية فى تسلسل وتناسق يكاد يصل إلى تصورات محددة يوما بيوم دون معرفة جذور مصادرها، وقد أتيحت لى فى نفس الوقت فرصة المشاركة والإشراف على بحث عن دور الممرضة فى تقييم سلوك الأطفال فى السنوات الأولى واتبعنا منهجا للملاحظة شديد التقنين، وخرجنا بنتائج زادت قلقى وحيرتى، وعدت أتساءل عن أمانة الكلمة والمعلومة ومسئوليتنا إزاء نشرها وعرضها على الآخرين، لا من حيث دقة المنهج أو حسن التسجيل فقد راعينا ذلك تمام، ولكن فى قدرتها على وصف حقيقة ما لاحظنا. وفى غمرة هذه المسألة المتزايدة أتيحت لى فرصة معاشرة طفلين حديثى الولادة يعيشان فى بيئة واحدة رغم اختلاف أسرتيهم، وقمت بتسجيل هاديء لخطوات نموهما منذ البداية، وخرجت فى النهاية أشد حيرة إزاء طبيعة النظريات النموية والسيكوباثولوجية المتاحة.
وكان لزاما على أن أراجع الأسانيد التى بنى عليها أصحاب هذه النظريات المطروحة نظرياتهم حتى أجرؤ أن أواصل تدريسها فى العام التالى, فضلا عن الاستفادة من تطبيقها فى الممارسة اليومية، ولم تقنعنى الأسانيد المتاحة إلا أنى ظللت مقتنعا بأن هذه النظريات- بدرجات متفاوتة-تحمل لنا جزءا هاما لاغنى عنه من الحقيقة الموضوعية (بالمعنى الأعمق للكلمة). ويقفز سؤال منطقى من واقع هذا التسلسل يقول: “هل يمكن أن تكون النظرية الخاصة بنمو الطفل صادقة ومتماسكة ومفيدة وتطبيقية… رغم ضعف الأسانيد التى بنيت عليها؟؟ ثم سؤال تال: وهل يصح القول التصالحى بأن “الحقيقة العلمية موضوعية فى حين أن النظرية ذاتية؟؟ ” وكأن الحقيقة العلمية ليست جزءا لايتجزأ من النظرية؟ وكأن الفصل التتبعى بينهما هو فصل منهجى ليس إلا، أما فى واقع الممارسة فالتداخل عميق وكامل ومن البداية للنهاية بحيث يستحيل أن نهرب من المواجهة الحتمية لإعادة النظر ى التداخل بين الذاتية والموضوعية فى كل خطوات البحث من أول الانتقاء حتى التنظير مارين بكل خطوات الملاحظة المضبوطة.
ووسط هذا الموقف المتصاعد العنف يبدو لزاما لتحمل التناقض الظاهرى سعيا للحقيقة ألا نستسهل رفض هذه النظريات رفض عابدى أصنام الأرقام والمنهجية، وألا نستسهل- فى نفس الوقت-الإيمان بها إيمان الخائف من إعادة النظر فيها وفى نفسه. إذن…. فإنه يبدو لزاما على العالم – إذا ماصدق فى المراجعة أن يستمر زمنا مطروحا بين نظرية متماسكة بلاسند مقنع، وبين ملاحظات ثابتة لارابط محورى بينه، فإذا التقط أنفاسه قليلا وسمح لنفسه أن ينظر فى التاريخ فسيجد أن اختبار الزمن قد حافظ على النظريات المتكاملة (النابعة من التحليل النفسى مثلا من أول فرويد حتى إريك بيرن، مارين بميلانى كلاين وإريك إريكسون) فى حين نحى جانب، بدرجة م، الملاحظات العلمية (هكذا تسمي) الجزئية والطرفية والكمية والعيانية حتى لو تجمعت تعسفيا فى نظرية ما فهل معنى ذلك أن ماهو ذاتى (حسب التعريف الشائع) أبقى وأكثر نفعاً وتماسكاً؟؟ وأن ما هو موضوعى (بالقياس الشائع أيضا) أضعف وأكثر تنافرا فيما بين اجزائه؟؟، لابد أن تكون الإجابة بالنفى, ولابد أن هذا النفى سيجعلنا نعيد النظر فى تسمية ماهو ذاتى على أنه ذاتى, وماهو موضوعى على أنه موضوعي. والذى أطرحه فى هذا البحث هو سلسلة من الافتراضات والتفسيرات تقول:
1-إن مصدر هذه النظريات المتماسكة هو ذات الباحث، سواء اعترف الباحث بذلك أم أنكره، سواء أقدم عليه بإرادته الواعية أم كان نتاجا طبيعيا لنوع خاص من الممارسة البحثية.
2- إن درجة صدق أى نظرية هذا مصدرها تتناسب تناسبا طرديا مع درجة نضج الباحث ذاته التى تتناسب بدورها مع درجة وجوده الموضوعى (وليس مجرد موضوعية حكمه ومنهجه), وهذا الوجود الموضوعى مرتبط مباشرة بمدى وعيه وقدرة ترابط مخه.
3- إن مثل هذا الباحث، إذ هو أداة البحث الموضوعية ذاتها,لا يقوم ببحثه من داخل ذاته، وإنما يستعمل ذاتـه كحقل لاستيعاب الملاحظات وزرعها ونموها وإثماره، فلابد له من مصدر ثرى حافل بالملاحظات الضرورية، ولابد لوجوده من تنمية تسمح بتدريب قدرته على التقاط هذه الملاحظات وإعادة إفرازها فى نظرية تبلغ صحتها مابلغته قدرته على استيعاب هاتين الخطوتين المتداخلتين، وهذا الاستيعاب وإعادة الافراز ليسا مرادفين للمعنى الضيق للملاحظة أو الاستبطان، لأن الباحث يستعمل ذاته بكلـيته، وليس بجوانبها الظاهرة وفكرها التأملى المنشق فحسب.
وبإعادة النظر فى أغلب نظريات السيكوباثولوجى فإننا سنكتشف أن الخبرة “الذاتية-الموضوعية” معا بما تشمل جزئيا من تقمص إسقاطى تلعب دورا هاما وأساسيا فى التنظير وترتيب المعلومات وتقسيم مراحل النمو، فمن يراجع نظرية فرويد وماحوت من تفاصيل عن السنوات الأولى من العمر، أو من يراجع مادة ميلانى كلاين عن العلاقة بالموضوع، أو كتابات إريك إريكسون عن الطفل والمجتمع وعصور الإنسان الثمانية لابد أن يثار ليعترف فى شجاعة بهذا الاحتمال الأرجح القائل “إن الاستنتاجات التصنيفية المحددة التى صيغت فى نظريات واضحة مسلسلة لا يمكن أن تكون مجرد تجميع ملاحظات بقدر ما هى خبرة ذاتية تقترب أو تبتعد .. عن الحقيقة الموضوعية بقدر موقف “وجود” صاحبها ذات نفسه من هذه الحقيقة”, على أن هذا القول لايعنى, بداهة، طرح الملاحظات جانبا وإنما يعنى دراسة دورها الحقيقى فى إثارة هذا الموقف “الذاتي-الموضوعي” مع، فلابد من فرض أن ملاحظة الطفل إنما تثير فى المقام الأول عند الباحث الموضوعى نكوصا ذاتيا يكتمل بالتقميص الإسقاطى، أى إن ما بالخارج يثير بالداخل ليسقط ثانية إلى الخارج ثم ينظم المنظر هذا وذاك فيما يسجله فى شكل نظرية متماسكة للنمو وخاصة فيما يتعلق بعلم السيكوباثولوجي.
وقد أوضحت بعض الدراسات اللاحقة ما يوجد من علاقة بين المنظرين ونظرياتهم فيما يتعلق بظروف نشأتهم ومراحل تطورهم الذاتية (راجع على سبيل المثال دراسة إريك فروم لفرويد) ومثل هذه العلاقة كانت تفسر بعض الفلسفات ومدى تأثر أصحابها أثناء تنظيرهم لها بنشأتهم وتطورهم الروحى (حسب التعبير الشائع عند مؤرخى الفلاسفة).
****
والوسائل المتاحة لتنمية هذه القدرة الموضوعية الخاصة فى مجالنا هذا هى الممارسة الإكلينيكية والنمو الشخصى من خلال حلقات البحث الإشرافية الخاصة:
الممارسة الإكلينيكية:
وأعنى بالممارسة الإكلينيكية العمل التشخيصى والعلاجى والتتبعى فى مواجهة مسئولة، ولا أعنى بها مجرد الفحص وتجميع المعلومات وتصنيفها ورسم نتاج للصورة الاكلينيكية من خلاله، وتشمل هذه الممارسة التعرض الذاتى والمواجهة والمعايشة عبر كل وسائل التوصيل بين الممارس والممارس معه وبالعكس (ولا أقول الفاحص والمفحوص), ولاتقتصر وسائل التوصيل فى هذه الخبرة الطويلة على البعد اللفظى الشائع ( رغم أنه أرقى ما وصل إليه الإنسان تطوريا قبل أن يتشوه باللفظنة (verbalism ، ولكنه يتعداه إلى التواصل بلا ألفاظ وعبر الألفاظ كذلك، وهذه الإضافة ضرورية فى مجال بحوث الأطفال والجنون خاصة، حيث تفشل الألفاظ فى تحقيق الدرجة الكافية من التواصل، كما تفشل أحيانا فى صياغة الملاحظات فى ألفاظ قادرة على الوفاء بالإلمام بأبعاد الظاهرة قيد البحث، وتشمل الوسيلة غير اللفظية فى الممارسة الإكلينيكية التعبيرات الحركية ولغة الجسم كما تشمل الحدس الإكلينيكى المباشر فى نفس الوقت. وهذه الممارسة الإكلينيكية إنما تتم وتنموا بقدر المواجهة مع المرض، ولكن درجات الوعى بها وبطبيعة أبعادها تختلف من ممارس إلى آخر، كما أن نتاجها يختلف كذلك من النقيض إلى النقيض كما سيرد حالا.
وأحب أن أشير إلى أن عمق هذه المواجهة تكون مع الذهانيين (واسمحو إلى أن استعمل أحيانا مرادفا آخر هو “المجانين” لأن لفظ المجنون رغم عمويته وقسوته مازال أكثر تحديدا من كلمة الذهانى التى لم يتفق على حدودها بطريقة حاسمة حتى الآن), وقد سمح التقدم الهائل فى استعمال العقاقير المضادة للذهان أن يتجرأ الممارس ويجلس مددا أطول مع الجنون، وكذلك أن يتجرأ فيتعمق معه فى معنى جنونه ولايكتفى بتسجيل ظاهر أعراضه، وفى مرحلة أخرى وتحت مظلة العقاقير أيضا-وبقدر ماوهب الممارس من شجاعة ذاتية وموضوعية بحثية يخطو خطوة أعمق فى محاولة تقمص الذهانى بما يشمل خبرة النكوص البحثى والمعالجى معا (كما سيرد ذكره), ويتم ذلك كله فى كل من المقابلة الفردية وأثناء التتبع، كما يكون أشمل وأطول فى الوسط العلاجى, ويكون أعمق وأكثر تركيزا وتحديدا فى موقف العلاج النفسى الجمعى المكثف المهاجم للدفاعات والهادف إلى إعادة التوافق وأحياء الديالكتيك النموى (راجع مقدمة فى العلاج الجمعى للمؤلف).
ومادمنا قد توصلنا إلى الحديث عن التواصل بلا ألفاظ، وعبر الألفاظ. ومادمنا قد استعملنا تعبير النكوص البحثى فى هذه المرحلة من النقاش، فلابد من الربط بين هذه الوسيلة فى دراسة الجنون خاصة وبين دراسة الطفل التى تتطلب القدرة على النكوص أيض، بل لعل هذه القدرة ذاتها هى التى سمحت لبعض الفنومنولوجيون بالاستفادة منها فى دراسة علم نفس الحيوان.
وهذه الخبرات جميعا تعتمد عل إثارة النشاط للبقايا الطفلية داخل الممارس أو الباحث، أو بتعبير أعمق للكيان الطفلى أو حالة الأنا الطفلية على حد تعبير إريك بيرن، ويستتبع ذلك العودة إلى المستوى الأساسى للوعى بعد استيعاب هذه الدعوة الخطوة النكوصية التى أثارتها المادة المتاحة (غير اللفظية عادة)، تلك المادة المستمدة فى مجالنا ه من المجنون أو من الطفل حسب موضوع البحث أو الممارسة.
والنكوص فى خدمة الذات وظيفة عادية من وظائف الأنا الناضج المتكامل، وهى تستعمل فى مجالات التكيف الأعمق، ولكنها تستعمل بشكل نوعى فى مجالات خاصة فى الإبداع الفنى والعلمى حيث تعنى قدرة الفنان والالم الفنان (المبدع) على النكوص إلى مرحلة سابقة من تطوره بحيث يعيد معايشة (وليس مجرد تذكر) خبرات قديمة بطريق مباشر فى شكل إعادة وليس استعادة أو غير مباشر، فى شكل تقمص إسقاطى على شخوص وأحداث حقيقية أو خيالية، والنكوص الإبداعى يخدم هدفين لازمين لعملية الإبداع : الأول هو بعث الطاقة الكامنة فى جزء مغمور من الذات، والثانى هو تهيئة فرصة أوسع لتجميعات وارتباطات جديدة من مخزون المادة المطبوعة فى المخ أساسا.
وعلى النقيض من هذا النوع التكيفى والإبداعى من النكوص تواجهنا خبرة النكوص المرضى فى مجال الذهان والفصام بوجه خاص، حيث تبدو مظاهر النكوص وما يترتب عليه كعلامة مميزة لهذا المرض إذ تجتمع المادة الطفلية مكثفة وملخصة مع بقايا النفس الناضجة بعد تناثرها وشللها، فالإعادة الطفلية هنا تختلط عشوائيا مع أشلاء النفس الناضجة ويكون نتاج هذا وذاك هو الصورة الاكلينيكية للفصام، ولكن هذا النكوص بالرغم من خطورته وفشله إلا أنه يحمل فى عمقه معنى وهدفا أيضا مما أسماه “أريتى” النكوص الغائى، كما أنه هو هو الذى يثير النشاط النكوصى فى المواجهة أثناء الممارسة الاكلينيكية أو البحث.
أما خبرة النكوص العلاجية فهى الخبرة التى يسمح فيها للمريض أن يعود أدراجه إلى مرحلة طفلية سابقة، نتيجة لتناقص ميكانزمات دفاعه، وهى قد تحدث بدرجات مختلفة فى الممارسة الجادة للتحليل النفسى إذا لم يتشوه بالعقلنة ومجرد طرح الذكريات وتفسيرها، كما تحدث بشكل أكثر مباشرة وتكثيفا فى بعض أنواع العلاج الجمعى المكثف والممتد أحيانا فى ماراثون مهاجم لكل الدفاعات مرة واحدة، وعلى قدر استيعاب هذا النكوص المقصود فى التأهيل والتعامل مع الواقع فيما بعد يكون نتاجه إيجابيا أو سلبيا.
وأخيرا فأن خبرة النكوص المعالجة والفاحصة هى التى هدفت إلى إيضاحها منذ البداية، وهذه الخبرة هى التى تسمح للمارس أن يحصل على معلوماته فى الفحص وعلى نتائجه فى العلاج بقدر قدرته على خوض هذه الخبرة هو ذاته فى ظروف مضبوطة ومسئولة، تثيرها المادة البدائية المعروضة ( فى حالة الفصام خاصة)، أو المستعيدة لنشاطها قصدا ( فى حالة العلاج المكثف للعصاب)، وحتى أزيد الأمر وضوحا أورد بعض التفاصيل فى خبرة مواجهة الفصامى من خلال هذا الأسلوب حيث تبلغ مسئولية النكوص وعبء المواجهة أعمق أعماقها، وتحمل أكبر مسئولياتها، وتمر بأبلغ مخاطرها حين يقوم التقمص النكوصى من جانب الممارس لم أبعاد التناثر المطروح فى الصورة الإكلينيكية بأبعادها المتتالية غورا فى العمق، وإذ هو فى هذا المستوى الشجاع من التراجع المسئول يكون فى كامل وعيه شاحذا قدرته الترابطية النشطة التى يمكن من خلالها :
(أ) أن يحول دون أى نكوص عشوائى ذاتى يهدد تماسكه نفسه.
(ب) أن يتحمل أعباء نكوصه ونكوص المريض فى آن واحد.
(ت) أن يستطيع العودة إلى تنظيمه الأعلى حاملا معه بعضا مما وعاه فى رحلته هذه التى زار فيها المريض فى بيته البدائى مستعملا هو ذاته أقدم ألواح وجوده.
(ث) وفى الخبرة المعالجة، تزيد خطوات هذه العملية خطوة تجميعية مباشرة لا تقتصر على احتفاظ الفاحص المعالج بمستواه المتماسك طول الوقت وزيادة ثرائه من خلال هذه الرحلة الواعية، بل إنها تتعدى ذلك إلى محاولة أن يصحب فى عودته بعض الاجزاء الناكصة للمريض ذاته على قدر ما تحتمل قدرة المريض على الاستيعاب فى مرحلة علاجية بذاتها، وهذه الخبرة الفاحصة والمعالجة فيها من البحث والخلق ما بدرجها بشكل ما تحت النشاط الفنى فى نفس الوقت، الأمر الذى يقترب من الدعوة إلى “…………. أننا بحاجة إلى نمط جديد من البحث يختلف بطرق كثيرة عن البحث العلمى التقليدى، لغته أقرب إلى لغة الشاعر …. لأن الباحث ينزع إلى أن يصبح أداة البحث” (كما يقول هارمان 1962).
وهذه الممارسة الإكلينيكية تتم فى كل مقابلة إكلينيكية جادة ومسئولة، ولكن الاختلاف بين الفاحصين يكون فى درجة الشجاعة فى رؤيته، وأخيرا فى مدى قدرته على صياغتها فى ألفاظ، فقد تتم هذه المواجهة آلاف المرات دون أن تظهر حقيقة الجانب النكوصى فيها أو الجانب البنائى بعد النكوصى, أو الجانب الإسقاطى التقمصى, ولكن بتكرار هذه المواجهة- حتى فى درجة متوسطة من الوعى بها- ينمو الحدس الإكلينيكى رويدا رويدا حتى يصبح هو رأس مال الممارس للتشخيص والتصنيف، والممارس للعلاج معا. إذن فالحدس الاكلنييكى ليس ضربا أعشى يعتمد على الفطنة والألمعية الشخصية، ولكنه نتاج طبيعى للممارسة الإكلينيكية السليمة الطويلة والمسئولة، وهنا ينبغى أن نقرأ أن هناك ممارسة إكلينيكية روتينية ونافعة ولكنها لاتنطبق عليها هذه المواصفات مهما طالت، إذ لاينبغى أن نتصور أن مجرد مرور السنين مع المرضى الذهانيين خاصة قد يكسب الفاحص هذه القدرة، بل إن العكس تماما كثيرا مايحدث، ومن خبرتى الشخصية وخبرة إشرافى على من هم أصغر منى طوال عشرين عاما نتعرض فيها فى اليوم الواحد لعشرات المرضي..وجدت أن الممارس يمر بأطوار مختلفة، وقد ننقسم فى النهاية إلى فريقين، فريق يحمى نفسه أكثر وأكثر بمرور الزمن من رؤية كل هذه التنافر والتناثر-فى نفسه وخارجها يوميا باستعمال مزيد من الدفاعات (الميكانزمات), ومزيد من الاتجاه إلى التنظير والتفسير العضوى الآلى الميكانيكى الجزئى البحت، وفريق يغامر تدريجيا باستيعاب مايرى بما يتضمن ذلك من آلام ومخاطر، وليست أفضل أحد الفريقين على الآخر وإنما قد قدمت هذا الاستدراك خوفا من التعميم السطحى, إذ أنه من الطبيعى أن يستعمل أى فاحص أو معالج ماشاء من ميكانزمات ليستطيع أن يواصل عمله بكفاءة معقولة، ولكنى أؤكد أن الفريق الأول (المدافع ميكانيكى التفكير), قد يصلح معالجا مسكنا ممتاز، ولكنه لايصلح باحثا منظرا بالمعنى الذى أقدمه، وهنا أقول إن الممارسة الإكلينيكية المعدة لهذا النوع من الباحثين المنظرين المعالجين لابد أن يكون لها شروطها الخاصة وإشرافها الخاص وتتبعاتها الخاصة وقياستها المميزة مما سأرجع إلى بعضه بعد قليل. كما ينبغى أيضا أن أقول أن ممارسة التحليل النفسى التقليدى مع العصابين خاصة، ودون مواجهة مباشرة وجها لوجه، لاتحقق بالضرورة هذا النوع من النمو الإكلينيكى الذى يهيئ لإعداد الباحث الذى أعنيه، لأن التواصل الذى أقصده هو تواصل المواجهة الكلية اللفظية وغير اللفظية مع، أما الاقتصار على دوائر الألفاظ المغلقة، وتجنب مواجهة النظرات فهذه ممارسة أخرى لها دور آخر ونتاج آخر.
ثم أن هذه الممارسة الاكلينيكية التى أعنيها ليست هى هى حساب الاحتمالات من خلال تجميع مظاهر الأعراض فى زملة بذاته، وان كانت لاتستغنى عن تفاصيل هذه الملاحظات والمعلومات فى إعادة البناء والتصنيف والتقويم الحالى والمستقبلي.
وأخيرا فهى لاتشمل التأمل الذاتى بالمعنى العقلى الانشقاقى القديم، وإن كانت تشمل الحضانة الذاتية للملاحظات ثم التأليف الذاتى بين الداخل والخارج كما سيأتي.
وهكذ، يمكن أن نؤكد على أهمية الدور الذاتى إذ نقترب من الذات الموضوعية من خلال الممارسة فى كل من الملاحظة وإعادة التركيب، كما نؤكد فى نفس الوقت على خطورة الدور الذاتى إذا مازادت الدفاعات (الميكانزمات) فزادت الشخصنة Personalization من خلال الخوف من المواجهة الأعمق.
المقابلة مع دراسة الطفل ودور الباحث الذاتى فيها:
فإذا كانت هذه الأمثلة الصريحة للنكوص الفنى والنكوص المعالجى والفاحصى والباحثى قد انتهت بنا إلى شيء، فقد انتهت بنا إلى التأكيد على الدور الذاتى (المشروط بدرجة معينة من الوجود الموضوعي) فى الخبرة الإكلينيكية بالذات، فكيف نستفيد من هذه الملاحظات تنظيرا وتطبيقا فى دراسة نمو الطفل وتقويم النظريات المطروحة؟
لنا أن نقول الآن فى هذه المرحلة من النقاش: إن القدرة النكوصية الخلاقة هى عماد الإبداع الفنى من ناحية والبحث العلمى بمواصفات خاصة، وفى مجالات بذاتها من ناحية أخرى, وهى هى وقود الحدس الإكلنينكى المسئول، وهى كما قدمنا ليست الملاحظة المجردة، ولا الاستبصار الانشقاقى وإ ن شملتها جميع، وفى دراسة الطفل وما يتعلق بالنظريات السيكوباثولوجية خاصة نجد أن هذه الدراسة وذلك التنظير يحملان قدرا من الإبداع الخالقى, الذاتى بالضرورة، هو الذى ينظم المعلومات المتاحة فى شكل نظرية متماسكة، وأنها عمل فنى علمى مع، وفى نفس الوقت هى عمل ذاتى موضوعى فى آن واحد، على أن نتاج هذا الإبداع العلمى مثل كل إبداع يأتى من ثلاث مصادر أساسية لاغنى عنه، وهى فى مجالنا هذا:
1- أبجدية الإبداع: وتعنى مجموع الملاحظات الشعورية، واللاشعورية فى صورها الجزئية المتباعدة.
2- موضوعية المبدع: وأكرر أنى لاأعنى هنا بالموضوعية ماهو ضد الذاتية، بل إنى أعنى معنى يؤكد الذاتية فى شكلها المسئول وباعتبارها الأداة والحقل الأول لاستيعاب الواقع وإعادة تشكيله بالتالى, أما درجة موضوعية المبدع فأعنى بها فى هذه المجال معنى محددا ألا وهو درجة نموه الشخصى التى تجعل ذاته كأداة أساسية فى الإبداع حيث هى حقل لاستيعاب أبجدية المالحظات، تجعلها ذاتا ليست بالضرورة مختلفة عن الآخرين وإنما هى فى موقف البحث هذا يمكن أن تكون عينة لوجود منفتح قابل للتعدد والتجمع، كما أنه قادر على رحلة الالتحام والعودة بوعى نسبى مع الآخرين بوصفهم كيانا منفصلا طول الوقت، ومن خلال هذه الحركة النشطة منه وإليه بما ينتج عنها من اتساع فى دائرة الوعى تصبح هذه الذات- بدرجة ما- عينة لوجود مشترك يمكن الاعتماد على نتاجه بقدر اقترابه من هذه الموضوعية” على أن موضوعية الذات هذه وارتباطها بالنضج الشخصى أمر يختلف من مجال إبداع إلى مجال آخر، ففى الوقت الذى قد تكون فيه انشقاقية مرحلية فى بعض حالات الخلق الفنى, وبالتالى يمكن أن يعتمد على نتاجها فى مجال محدود ومؤقت دون اشتراط مواصفات موضوعية دائمة فى شخص الفنان… نجدها فى حالة البحث العلمى (فى مجال العلوم الإنسانية خاصة) موضوعية أشمل وأكثر ثراء ومرتبطة بسائر مناحى النضج الذاتى, حتى فيما لايتعلق بمجال الإبداع ذاته.
3- القدرة الإنشائية: وهى التى تميز المبدع (الفنان أو العالم الفنان) فى دوره الأخير، لأن العاملين الأساسيين السابقين قد يتصف بهما متصوف أو إنسان نام له أبعاد متطوره فى دائرة محدودة. أم المبدع العالم فهو القادر على إعادة تركيب أبجدية الإبداع عبر ذاته الموضوعية (نسبيا بالضرورة) فى جماع نظرى متماسك ومتكامل:
فاذا كنا قد انتهينا إلى التأكيد على أن الباحث هو أداة البحث فى مجالى دراسة الطفولة والجنون، فجدير بنا أن نشترط فيه مواصفات معينة، وأن نتيح له فرصة تنمية ماينبغى أن ينمو، فهو خليق أن نعامله بانتقاء وصيانة بدرجة لاتقل عن جهاز أشعة جيد، أو مقياس نفسى مقنن، وفى الخبرة والممارسة الاكلينيكية يمكن أن نعدد بعض المواصفات اللازمة،ولكن يخشى أن تستقبل هذه المواصفات بمنطق قيمى أو أخلاقى ، وكأنها قائمة مدائح يسارع أى إنسان لتصور التحلى به، إلا أنه ينبغى التأكيد ابتداء أن مواصفات بذاتها تبدو لازمة لمجال بحث بذاته أو فى نوع خاص من الممارسة، ولكنها ليست ضرورة ولا شرطا مسبقا فى مجالات أخرى, والنظرة العلمية هى التى تحترم الفروق بين الأفراد واختلاف مراحل نموهم، وتحسن الانتقاء المرحلى مع فتح الباب للتنمية أمام من يشاء أن يتعرض لمجالات أصعب وأصعب من البحث والممارسة.
وأورد هنا تحديدا لبعض المواصفات التى سبق أن اشترطتها فى الممارس الإكلينيكى إذا ماأردنا الاعتماد على حكمه التلقائى كأداة تسجيل ذات كفاءة مقبولة، حيث قلت: “.. ولعلى أقدم تصورى للمواصفات التى تجعل هذه الأداة البشرية…. فى أحسن أحوالها فيما يلى:
1- أن يكون .. لامـا بالأسس العامة لفرع تخصصه من مصادرها المتاحة، وبصفة متجددة، على أن يكون من اطلاعه موقف القارىء الخلاق، لا المتلقى فى استسلام، حتى إذا ماحاول باستمرار أن يختبر إمكانية تطبيق ما قرأ أو تعلم كان أمامه سبيل للمراجعة، وهكذا يمكن باستمرار التقريب بين ماهو نظرى وماهو عملى, وكذلك بين ماهو مثالى وماهو ممكن، من خلال هذا الموقف الذى يشمل التهديد المستمر بالإحباط، ومن ثم الألم الشخصى, لابد وأن يضع فى اعتباره احتمال تغيير ذاتى مستمر.. وقد يعنف أحيانا.
2- أن يكون على إطلاع متوسط بنبذة من العلوم الأساسية التى تكون الأرضية الثقافية لعصره من تاريخ وفلسفة واجتماع وغيرها مما يمثل الأصول النظرية لماهية الإنسان وطبيعة وجوده، حيث أن هذه الأرضية تؤثر بطريق مباشر على المريض، وعلى الطبيب على حد سواء، ومن ثم على العلاقة بينهما.
3- أن يكون مسايرا للأحداث اليومية، بمعنى أن يكون ملما بما يجرى فى الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من حوله ومايصاحبها من تغيرات فى الأفراد والجماعات، بادئا بالبلد الذى يعيش فيه مع مريضه، فإذا كان لابد من تأثير وتأثر فلابد أن يكون فى مجال الوعى تحت الضوء ما أمكن، على أن هذه المتابعة اليومية وفى ظل سرعة الاتصالات العالمية لابد وأن تتعدى حدود وطنه ليساير من موقفه الواعى كل التحركات فى العالم التى تؤثر ضمنا على نوعية وجوده ووجود مريضه، ولعل هيجل كان يعنى هذا البعد حين أشار إلى أن قراءة الصحف اليومية هى الصلاة اليومية لانسان العصر.
4- أن تكون حياته الشخصية على درجة من الاستقرار، لابمعنى الثبات والجمود، ولكن بمعنى الوعى ووضوح المسيرة فى حركة هادئة ما أمكن نحو مزيد من الإيجابية والمسئولية، فاتحا باب المراجعة المستمرة والقدرة على تغيير مفاهيمه.
5- أن يكون متابعا لمسيرة الاتجاهات المختلفة فى فرعه.
6- أن يكون واعيا للتغييرات التى يمكن أن تطرأ على فكرة وعواطفه بمرور الزمن من خلال ممارسته لمهنته وحياته، ليجعلها تتم قدر الامكان باختيار وإدراك ومسئولية.
7- أن تكون له رؤية للحياة، ورأى فى تفاصيل مسيرتها ليتخذ من هذا وذاك موقفا فى الوجود… يترجمه إلى فعل يومى, بسيط ما أمكن.
8- أن يكون مستعدا للتغيير من خلال الاحتكاك المستمر، وخاصة من رؤية مرضاه وتفحصهم، حتى تصبح ممارسته هى ثروته الحقيقية، ودافعه لمزيد من التغيير نحو الموضوعية.
9- ألا يكتفى باتساع دائرة وعيه بمعنى شحذ بصيرته، ولكن عليه أن يختبر حقيقة بصيرته تلك بمراجعة آرائه إزاء فعله اليومى, وفى مجتمعه الصغير، وفى ممارسته المهنية.
10- أن يدرك ضرورة معايشته وحدته” الخاصة فى شجاعة، مع إدراك حاجته للآخرين وطريقته فى إشباع هذه الحاجة ذهابا وإيابا بوعى إرادة من نفسه إليهم وبالعكس.
فاذا كانت مثل هذه المواصفات ضرورة نسبية للطبيب أو المعالج أو الفاحص (الممارس الاكلينيكي) فإنها لاشك أشد ضرورة عند الباحث فى مجال علم سكيولوجية الطفل وعلم السيكوباثولوجى, إذ يتعلق عمل الأول بمستقبل الأمة والانسانية الحضارى التطورى عامة إذا أحسن التطبيق، فى حين يتعلق بصحة الفرد حالا ومستقبلا.
وكما حذرت ابتداء، فإن مجرد ذكر المواصفات لايعنى إلا نقطة البداية، أما الأهم والأخطر فهو إعداد المجال لنمو هذه المواصفات.
نقل الخبرة.. واتاحة الفرصة:
ولا أستطيع أن أعمم التوصيات من موقعى المحدود فى الممارسة الاكلينيكية فى المجال المرضى ولكنى أضع حقيقة ماوصلنا إليه مجردة للاستفادة منها قائلا:
1- إن الممارسة الإكلينيكية المدروسة الطويلة، تحت إشراف مباشر، وتقويم مستمر، فى مجال الأمراض الذهانية خاصة، والتى لابد وأن تعرضنا لخبرة النكوص المعالجى, هى دراسة مفيدة لكل مقدم على البحث فى مجال علم السيكوباثولوجى وبعض نواحى سيكولوجية النمو.
2- إن القول بأن المادة المستقاة من المرضى لاتنطبق على الأسوياء.. قول سليم من جانب، وغير سليم من جانب آخر، فلو أخذنا مادة النكوص المرضية بعجزها وتناثر ماحولها وتصورنا أن هذه هى صفات الطفل لكنا أبعد الناس عن الصواب، أم أن نستعمل المادة المرضية النكوصية خاصة فى أثارة الطفل القابع فى جوفنا من جانب آخر، فهذا سبيل سليم ومفيد فى تقديري.
3- إن دراسة الجنون والطفولة بوجه خاص تحتاج لموهبة خاصة لأنها دراسة فنية علمية فى نفس الوقت، وتنمية هذه الموهبة ممكنة مثل تنمية الإبداع عند أى فرد، ولكن درجة النمو لابد أن تختلف من فرد لآخر، وعلى ذلك فإن فريق الباحثين الذين سيعرضون لمثل هذه الخبرات الاكلينيكية تحت إشراف لابد وأن يعاد تصنيفهم، فيكمل بعضهم الطريق حتى نهايته ويتوقف الآخر ويختار طريق ومجال بحث آخر، ولا يعيب هذا أحدا فإن لكل قدراته، ولابد أن نتعلم فى هذا الشأن من ممارسة التحليل النفسى الطويلة تحت إشراف، تلك الممارسة التى تنتقى فى النهاية بعد سنين طويلة من المحاولة والمراجعة ما لا يزيد عن عشرة فى المائة ممن يتقدمون لممارسة التحليل النفسى بصفتهم صالحين لذلك، وهذا الانتقاء الذى يستمر بإشراف يومى متصل يهدف إلى ضمان المحافظة على حسن علاج بعض الأفراد، ألا يجدر بنا- إذا- ونحن أمناء على العلم أن نفتح الباب لمثل هذا التدريب والنمو والانتقاء ونحن نعد البحاث الذين سيحملون أمانة الكلمة، ومعلومة المستقبل، اللتان قد تعممان فى خطورة بال حدود وذلك لضمان المحافظة على موضوعية المعلومة ومسئولية البحث العلمي.
حلقات البحث الاشرافية:
إذا كان النمو الشخصى ضروريا لصقل الباحث أداة البحث، وكانت الممارسة الإكلنينكية هى إحدى فرص إثارة هذا النمو عند صاحب الاستعداد، فلا ينبغى تصورها بحال من الأحوال الوسيلة الوحيدة أو الوسيلة التى لاغنى عنه، ذلك أن أى مجال يسمح بالنمو الشخصى سوف يسهم فى صقل الباحث فى الاتجاه الذى نوصى به ضرورة فى هذين المجالين، وإنى أورد هنا بعض معالم البعد الآخر دون تفصيل، وهو ” النمو الشخصى من خلال حلقات البحث الإشرافية”.
يجتمع الباحثون عادة فى أى مركز علمى مسئول لمتابعة مايجرى من أبحاث ومناقشة خطواتها وتعديل مسارها وإعادة النظر فى فروضه، وتوجيه صغار الباحثين إلى مايسهل مهمتهم ويشحذ قدرتهم، وهذه الاجتماعات تركز فى أغلب الأحيان على المادة الخارجية والطريقة ولا ترتد إلا قليلا إلى الباحث ذاته كإنسان وأداة، بل إن بعض هذه الاجتماعات تصبح مجالا للتراشق الموسوعى بالمعلومات، أو للمطارحة المعرفية وقصائد الفخر والهجاء، أو تقتصر على التنافس فى العناية بتشريح الأجزاء، وكل هذا مهم ومثير رغم كل شيء، إلا أنه جانب واحد من التحدى المعرفى المطلوب، وهو فى كثير من الأحيان يزيد من دفاعات الباحثين ويكاد يعوق نموهم الشخصى, وإذا قبلنا هذا المستوى من الاجتماعات فى مجالات تسهم فيها الموضوعية العيانية فى ضبط قائدة هذه المبارزات، فإنه يستحيل علينا أن نقبلها فى مجالات يعتبر فيها نمو الموضوعية الذاتية أمرا جوهريا ومحوريا.
ومنذ كان فرويد يجتمع بتلاميذه للاشراف على التحليل النفسى أسبوعيا بانتظام فى شكل توجيه مهنى, وإشراف بحثى فى نفس الوقت، اعتبرت مثل هذه الإجتماعات نوعا من العلاج الجمعى لامحالة، ولست هنا فى مجال التفصيل بالنسبة لهذا الشأن، حيث ركزت بحثى فى هذه المرحلة على جدوى الممارسة الإكلينيكية وإسهامه، وأكتفى بأن أشير هنا إلى أمثلة رؤوس مسائل تتعلق بالبعد الآخر فى حلقات البحث الإشرافية:
1- أن يشرف على كل جماعة بحثث قائد عام يتصف مصفات موضوعية متفتحة تسمح له بالاستفادة ممن هم أصغر منه نتيجة لتلمذته الدائمة، على أن يواصل قيادته الإشرافية المسئولة فيما يتعلق بالمساعدة فى انتقاء المجال المناسب والبحث المناسب للشخص المناسب حسب شخصية الباحث ودرجة نموه وقدراته فى كل مرحلة، على أ ن يتغير ذلك بتغير الباحث أولا بأول.
2- أهمية طمأنينة الباحث إلى الهدف المشترك من البحث العلمى, وإلى درجة معقولة من موضوعية القائد والزملاء (أو على الأقل من اتجاهم إليها). العمل على تنميته، ومن ثم تتاح الفرصة للتعبير عن ذاته، وسماع الآخرين، مع احتمال التغير المغامر فى كل آن، سواء بالتراجع وانتقاء مجالى أكثر تناسب، أو التقدم إلى مجالات أصعب وأكثر مسئولية.
3- أهمية إطلاق الحوار الشخصى بجوار المبارزات الكلامية والدفاعات المعرفية فى إطار بناء بحيث ينمو التماسك الداخلى للمجموعة، لتصبح فى ذاتها كيانا مستقلا قادرا مساعدا للقائد ومحددا له معا.
4- احتمال التدخل الشخصى فى بعض مناحى الشخصية والسلوك والأمور الذاتية عند بعض الباحثين ممن يتعرضون لنوع من البحث يستلزم درجة خاصة من التوافق الشمولى فى مجال البحث وخارجه، حيث قد يؤثر السماح بالانشقاق بين السلوك الشخصى والموقف البحثى تشويه القدرة على الملاحظة والتعمق فى بعض المجالات بذاته، إذن فهذا التدخل لابد وأن يكون محدودا بأهمية درجة معينة من النضج والموضوعية لباحث بذاته فى مجال بذاته، وهو يساعد على إعادة انتقاء الباحث لموضوعه أو يحفزه ضمنا لاستكمال نضجه، وهو لايهدف أبدا إلى دفع أحد فى اتجاه لايلائمه، أو إلى تصنيف تفصيلى, أو تدخل أكثر من حدود مجال البحث تحقيقا للأمانة فى ضرورة تناسب نمو الباحث مع نوع ومجال بحثه.
خاتمة:
ولا أسارع بالقول بأن هذه الأفكار والمناهج قابلة للتطبيق فى المرحلة الحالية من نمو شعبنا فى ظروفه المرهقة، إلا أن الحقيقة تظل حقيقة دون النظر إلى توقيت تطبيقه، ثم أن الإعاقة الثانية تأتى من تناقض مؤلم فرضه تقسيم العلوم فى المجال الواحد وفرط التخصص، وهو أن الذين تتاح لهم فرصة الممارسة الإكلينيكية الطويلة والعنيفة ليسوا بحاثا فى المقام الأول بل معالجين مهنين أساس، وأن الباحثين المتخصصين والمتفرغين لهذا الغرض ليست أمامهم الفرصة الحقيقية للإحتكاك الإكلينيكى المثمر بالصورة التى عرضتها.
وأخيرا فإنى مايمكن أن تلقاه مثل هذه الدعوة من مقاومة من الفريقين مع، مقاومة خبرتها شخصيا حين اضطررت للتعرض لدفاعات شخصية فى التعليم والإشراف والتقييم، وينبغى لمن يتصدى لمثل هذا أن يحترم مرحلة النمو العامة والخاصة، وأن يواصل الاستفادة من المتاح ولكن لايحق له أن يتنازل عن يقينه من واقع خبرته خوفا من مقاومة شخصية أو عجز مرحلى.
المراجع العربية
– الرخاوى (يحيى) (1977). مقدمة فى العلاج الجمعى- القاهرة – دار الغد للثقافة والنشر.
– سيفرين (فرانك) علم النفس الإنسانى, ترجمة: طلعت منصور، عادل عز الدين، فيولا الببلاوى. (1978)، مكتبة الأنجلو المصرية.
– فروم (إريك). فرويد، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد (1972) المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت.
REFERENCES
– Arieti S.(1974) Interpretaion of Schizophrenia. New York: Basic Books, Inc. Publishers.
– Berne, E.(1971)Transactional Analysis in Psychotherapy.New York:Ballantine Books.
– Erikson,E.H.(1972) Childhood and Society.Penguin Books Ltd. Harmondsworth Middlesex, England.
– Guntrip,H.(1974) Schiziod Phenomena: Object-Relations and the Self. London: The Hogarth Press.
– Hamdi,E.(1978) Group Psychotheropy: An Egyption Approach Cairo. Dar El-Ghad Scientific Publications.
– Humanistis Psychology. 1978 (in Arabic-see Arabic Refernces). Derived originally from: Main Currents in Modern Thought1962.,18,.5
– Thines,G(1977)Phenomenology and the science of Behaviour.London:George Allen& Unwin.
– Van Kaam(1958) Assunmptions in psychology.J. Individ. Psychol,22,14-.28(In Humanistic Psychology 1978,in Arabic See Arabic Refernces).