افتتاحيات
الافتتاحية الأولى: فشل محاولة هرب.
الافتتاحية الثانية: ردود ووعود
الافتتاحية الثالثة:
(أ) محمد فتحى عبد الفتاح يُذكّر.
الافتتاحية الخامسة: جفاف وحجارة ونيران.
فشل محاولة هرب
…… ولما كنّا قد قمنا بتوزيع العدد الأخير (31) على باعة الصحف بأنفسنا، ولما كنا لم نذهب بعد لمعرفة عدد المرتجع، فقد تصورنا – بنصف وعى – أن فى ذلك ما يجنبنا ألم الاحباط فنستطيع أن نستمر وكأن هناك من قرأ، … وكأن هناك من استجاب، لكن : “على من”؟ ظلت المقاومة تثقل الحركة وكأننا نسبح فى رصاص بارد منصهر، ولم يدب النشاط الممكن إلا اليوم فقط (.. / .. / …)، ولكن ويا للعجب صدر العدد عددين!!
يبدو أنه لا مفر.
ردود ووعود
ورغم أنه لم يصلنا ما أملنا فيه من ردود على الاستفتاء الذى طرح مع العدد الماضى، إلا أن بضعة الخطابات التى وصلت كانت أكثر من كافية، فعلا :
1 – فقد حضر عصمت داوستاش حضوره الطيب كما هو دائماً، وكتب مسامحاً : “…. أطالبكم بعدم التوقف، وطرح قضايا أكثر شجاعة”، يرسل هذا وغيره وهو فى حالة من البرد (مرضاً) والقرف (مزاجاً) والخوف (وعياً بما يراد بهذا البلد من تخريب)، مشيرا إلى آخر نكتة (: وزارة الثقافة) قبل انهيار الثقافة المصرية بعمقها الحضارى – فنقول له : لا تتخلّ، فنجد الرد جاهزا فى مقال له يقوم فيه بتعريف رقيق بألبوم الفنان محيى اللباد، فنشكر هما بأن نستمر بهما ولنا.
2 – أما حلمى شعراوى [1]، فهو يكاد يشد أذنى برفق : “…… واسمح لى ألا نشارك التشاؤم الذى عّبرت عنه فى افتتاحيات المجلة، فإن روح الشباب التى تحاورها على هذا النحو هى الروح المبدعة التى ننتظر نتائجها”، ثم يدعو إلى حوار، ويطلب الأعداد السابقة (!!) فنرسلها، فنحمل له جميلا ليس له رد إلا لآن نتعلم منه “التفاؤل” … فهو موقف أكرم وإن كان آلم.
3 – ثم يرسل لنا الدكتور نعيم عطية (وهو مشارك قديم ومصارع دائم) يرسل لنا مروعا من صرخة الخوف والقلق، ليصرخ فينا بدوره : “… إهدأ وتماسك”، ثم هو راح يرفض الغلاف، والآخراج، والتبويب (العدد الأخير)، ويدعونا إلى استعادة جهود الزميل عصمت داوستاشى (دون ذكر اسمه) وكأننا استغنينا عنه وهذا لم يحدث لأنه غير ممكن، فعصمت هو صاحب هذا العمل قبلنا، لكن بعد الشقة وحماس شباب التحرير مع غلبة الاحباط ولعبة المقاومة، كل ذلك اضطرنا ألا نثقل عليه بتلك الملاحقة ..، وها هو قد عاد طيبا مسامحا دافعا متألما، لا حرمنا الله منه ومن صديقه د. نعيم الذى لم ينس أن ينبهنا إلى “قلة المشاركة من خارج المجلة حتى لا تتكرر الأسماء فتعطى انطباعا بالإفلاس والخواء” فنستمع ونراجع أنفسنا، ونطلب منه مثل ذلك وأكثر، ولا نعد إلا بما نستطيع حالا.
4 – أما “هشام أحمد أحمد” فقد نبهنا إلى أمر هام حين كتب يفسر عدم مشاركته بآرائه فى المقالات المختلفة : “… لكننى فضلت الانسحاب عندما رأيتك مع مفكرين كبارا تسلخهم وتجردهم من ثيابهم الفكرية التى يتحلون بها، فهل هذا سيحدث لى أنا الذى لم أقم من غيبوبة الجهل إلا قريبا، وتقريبا عند بداية قراءتى المجلة الإنسان والتطور”؟ وقد سبق أن بلغنى إعلان مثل هذا التخوف (من السلخ) من أكثر من قارئ، بل من بعض المتميزين من الأدباء، إذن … فلابد أنهم على حق، ولا أتصور أن الحل هو أن نعد بلهجة أخف، فقوة الحوار فى قوته، ولا مكان – فى مثل هذه المجاملة طلبا للرضا والمؤانسة، وتعبير هشام عن ثيابهم (ثيابنا) الفكرية هو تعبير جيد، ذلك لأن هدفنا الأول (وربما الأخير) هو أن يكون حوارنا ليس إلا (مواجهة وعى بوعى)، وعى يفرز فكرا بوعى يحسن فهما، ذهابا وجيئة – ولم يكن هدفنا أبدا – ولن يكون – هو مباهاة ثوب فكر بثوب فكر يخفى كلاهما تحته وعيا مزيفا أو معتما أو خامدا، فلماذا لا نخلع ثيابنا الفكرية، والعقائدية لنفرز ما يثرى اللحظة من تحدى المواجهة، ثم يستطرد هشام (25 سنة) “إن هذه المجلة مهمة جدا عندى، لا أعرف لماذا، رغم أن اهتماماتى السابقة كانت فى مجالات الاختراعات (فترة اعدادى) ثم اتجهت وانغمرت فى بحر يسحب التفكير كلية وهو الشطرنج، لقد كان أفيونتى التى لا أفيق منها أبدا، ولمدة خمسة أعوام (اعدادى + ثانوى) – ويستمر فى خطابه يتحدث عن خبرته فى تلك الفترة – مما سنحيله إلى الباب الرابع (انظر ص ) إلى أن قال بعد أن ثار وتعرى وكشف وتحدى” … والآن هل ما كتبته سابقا لأستدر عطفا، أو لأشرح حالتى النفسية بطريقة خبيثة، لا أعتقد ذلك، ولكن لأوضح لكم أهمية هذه المجلة عندى … فهذه المجلة هى كتاب الشطرنج الذى أدرسه كى أتفاعل جيدا مع مباراة الحياة التى أعيشها، فهى (المجلة) تريحنى على قدر ما تتعبنى وأتعبها، وقد تبصرنى بمشاكل أفظع من مشاكلى، ومشاكل أسمى من مشاكلى، فأصمد وتتوالى الأعداد، ويستمر صمودى، وقد تعمينى عن جهلى بإحساسى أنى لا أزال أقرأ وأفهم، وقد أكون أخذت هذه المجلة على أنها والدى الذى لا أعيش بدون تعبه وقرفه وحنانه وعطفه، ولكنها فى النهاية تريحنى ثم ينهى هشام خطابه بقوله : “… أريد أن أعرف ما سبب انقطاع المجلة، وأخيرا قد يكون انقطاع المجلة هو الحافزلكتابة هذا المحتوى : وما الانقطاع إلا مؤثر كالمؤثرات الجسمية عند فرويد كمصدر جسمى للحلم”!!
فهل بقى لنا رد عليك يا هشام؟ وها أنت ترى : “أننا لم ننقطع .. لكننا نتلكا”!!
5 – ويكتب لنا الأديب المشارك والمؤسس “السيد نجم” (بعد أن يزيدنا تعريفا بموقع وخلق وموقف المبدع “أمين ريان” الذى أهدانا طواحينه فى الوقت المناسب) يكتب لنا عن العدد الأخير تحديداً، فيصفه أنه “غير عادى”، وعن المجلة : “… أن لها نكهة خاصة”، ثم يعيد التساؤل الذى نسأله أنفسنا بلا توقف، لمن نوجه “الإنسان والتطور”، وهو ينفى أن يكون توجهها للمثقف المتخصص الذى “لن يطيق أكثر من فرع اهتمامه”، ثم يشك السيد نحم فى أن يكون توجه هذه المجلة للقارئ العادى بغلافها “البغيض” والإفراط فى الحداثة واشتراطها تجربة ذاتية (لم نشترط ذلك وإنما رحبنا به) ثم مبلغ المائة قرش، ومن ثم التعالى على المتخصص وغير المتخصص، وهو يستشهد بتعداد من ذكرنا أننا أحبطناهم فيما كانوا ينتظرونه من أمثالنا (ص 10 العدد الماضى) يستشهد بما ذكرنا ناسيا أن ذلك كان من واقع تقمصنا لموقفهم، إذ من البديهى أننا لم ولا نتعمد الاحباط !!!!، ثم هو راح يثنى على العدد الأخير (31) وخاصة دعوة القراء للمشاركة والترحيب بتلقى الآلام الفردية البسيطة، ثم يهمس لنا أن يكون تناولها للفرد دون أن ننسى الفرد فى جماعته، فيعلن فى هذا الصدد حلمه “بعدد يتناول مثلا حرب أكتوبر …” الخ.
وخلاصة ردنا عليه – بعد الشكر – هو أن نصدر، ونتعلم، ولكننا أبدا لن نتعجل الرضا أو نسعى أساسا للقبول، وبالنسبة للثمن فقد نهجنا نهجا جديدا هو أن نبيع المجلة فور صدورها من مقر متوسط بالمدينة[2] بنصف الثمن (خمسون قرشا صاغا) ولكن ليس أقل من عشرين عددا معا (دون مرتجع (فما رأيك؟ أليس فى هذا حافز لعمل دوائر صغيرة – من أفراد متحمسين – لنشر كلمتها ناهيك عن احتمال أن تدر عليهم ثمن العدد القادم!!! عذرا).
6 – ثم كثيرون آخرون مثل الشاب عمرو محمد عبد الحميد (مشجعا مطمئنا)، وأحمد مبارك (مواكبا مشاركا)، والصديق صلاح الدين محسن (عاذرا مقرظا : ذلك الاقدام الجسور).
7 – أما الطبيب الشاب عاطف عبد السلام بسيونى، فقد كتب لنا بشجاعة محسوبة، تقديرا : “… لكثير من أفكارك وليس كلها”، وقد شعرت أنها بداية طيبة، لأن المصائب تترى (!!) حين يكون التقدير “لكل الأفكار”، و “كل المعتقد”، و “كل السياسة” … الخ لكن المهم فى خطاب الزميل الشاب فيما يتعلق باستمرار هذه المجلة هو هذا الكشف الواعى حين يردف : “… أقول لك أنك لا تستطيع التوقف عن هذا الذى تقوله على صفحات المجلة، حتى ولو لم يقرأ لك أحد، إنك يا عزيزى سوف تستمر من أجلك أنت، ولأنك تحب ذلك بلا تبرير لهذا الاستمرار (شهادة التاريخ – المشاركة بالوعى – القراء الطيبون)، دعك من كل هذا وكن جادا، وجادا مع نفسك (أنت تستمر لأنك تريد ذلك، وأنت تريد ذلك لأنك تحب ذلك وتكره عكسه، فلماذا إذن تقديم التبريرات؟؟) وأشعر فورا أنى تعريت رغما عن زعمى بأنى عار، ثم إنى تعريت فى مكان غير مناسب على صفحات هذه المجلة، فأحاول أن أقصف على من أوراق الشجرة التى أوشكت على الجفاف، فتتطاير الأوراق باعتبارها “تبريرات جديدة”، فأحاول الالتفات الناحية الأخرى أدارى سوأتى، فتظهر الناحية الأولى أكثر عريا فاستسلم، أو أدعى ذلك شاكرا له مفاجآته، لكننى أعود صارخا : “إذن ماذا؟؟”، وأبدأ فى الشك من حكاية “حتى لو لم يقرأ أحد”، لأنى لابد متخيل لى قارئاً ما، الآن أو يوما (وهذا ما أعنيه بشهادة التاريخ) – ثم أشك فى مدى طول نفس هذا الزميل الشاب العفى، فقد علمنى الزمن أن مثل هذه الشجاعة الشابة المقتحمة، لا تحتمل اختبارات الواقع، ولا ملاحقات المراجعة، ثم أتصور أن الأفضل أن نكمل الخطاب حواراً فى الباب الرابع (ص 146) فأحيل القارئ إلى هناك.
8 – ويكتب لنا الزميل رضا البهات خطابا، وشعرا، فنثنى عليه، لكننا، وليعذرنا، نلاحظ أنه لا يتقدم، ولا يتأخر، لكنه يدور، فما العمل؟؟ لعلنا مخطئون، بل إننا لكذلك، فنرجو ألا يكفّ عما يحاول، فإما أن نصحح أنفسنا، أو ينتفع هو من خطئنا حتى يجد من هو أفضل منا، وإما أن نلتقى : من يدرى (ملحوظة : لم تصلنا مقالتك تعليقا على تفسير التراث الشعبى، فلتصل).
وبعد :
فيبدو أنه ليس أمامنا إلا الاستمرار، قهرا ذايتاً، أو رسالة مأمولة، أو ورطة معلنة، أو حركة متوجسة، لكنه – على أى حال : هو هو الاستمرار.
ولعل العدد (31) ثم هذه الردود الشجاعة المخلصة تهدينا أكثر فأكثر إلى ما هو نحن مما كاد يتحدد فى الخطوط التالية :
أولا : تسهيل تدفق الأحدث، والاعمق من معلومات تتعلق بهذا التخصص (فى النفس) وخاصة المعلومات التى تحاول اخفاءها شركات الاحتكار الدوائية – ومخاوف الأطباء التقليدية.
ثانيا : إضافة ما أسميناه “علم بالنفس” إلى ما يقال عنه “علم النفس” و (الطب النفسى .. الخ) وذلك من خلال مداخل ومنطلقات كانت هى الأصل ثم أزيحت بفعل المناهج والمخاوف، مثل أبواب مثل وموال، وبعض النقد الأدبى من زاوية نفسية، ثم مدخل إلى التصوف (بدءا من العدد القادم .. الذى أدمج هنا فى آخر لحظة) الخ.
ثالثا : محاولة اقتحام بعض المحظورات فى مجالات تم تشميعها وختمها بخاتم وخاتم وخاتم (نسر، وصقر، ونجوم، وأهلة، ومطارق، وسندان على كل شكل ولون) اقتحامها: ببركة العجز وسر إعادة النظر!!!
رابعا : مشاركة وعى “وحيد” متخلق نشط هنا وهناك، تأجيلا لياس مهدد، وأملا فى أن نخدع التأجيل لتصبح المشاركة مسارا ومصيرا، وبينما نزعم أنها للتهدئة والتأجيل ليس إلا : فإذا بنا نثب الوثبة الحضارية الواجبة والمأمولة، من يدرى؟؟ فإذا صح هذا، واستطعنا معا أن نستمر فيه وبه، فنحن جديرون بكم : يا كل من أخذتمونا مأخذ الجد.
ولم لا.
الافتتاحية الثالثة
أولاً : ويقفز إلى وسط الحلقة صديق قديم، قوى، فيكتب هذه الافتتاحية الثالثة، فنلحق بها فى آخر لحظة رأى الأديب خيرى شلبى، أما “فتحى” فقد استشعر فينا نغمة تراجع عن ما جذبه إلينا منذ البداية، وهو ما أسماه بذكاء بالغ “الحث الإبداعى” ، والحق معه من حيث المبدأ، فما صدرت هذه المجلة إلا لهذا، ونحن لم نتراجع عنه، فلعلنا لم نقدر على مواصلة التبشير به بطريقة صريحة، ولكن دعونا نستمع إليه أولاً :
الحاجة الاجتماعية إلى الحث الإبداعى
(لماذا وكيف يجب أن تستمر هذه المجلة؟)
محمد فتحى عبد الفتاح
سؤالان لم يسقطا من أجندة المجلة منذ عددها الأول، قد يتواريان بعض الوقت، لكنهما لا يلبثا أن يعودا إلى الظهور بصورة أو بأخرى ..
واستأذن القارئ فى نهج ذاتى للإجابة عن السؤالين …
لقد جاء لقائى الأول مع “الإنسان والتطور” تأثراً باسم رئيس تحريرها، واهتماماً خاصاً بمسألة الحث والتحريك الإبداعيين بصورة عامة. وكان هذا اللقاء بعد رحلة عمل / دراسة حرة (1) استمرت ما يقرب من عشر سنوات فى ألاتحاد السوفييتى (تخللها سفر إلى أماكن مختلفة)، وقد أتاحت لى هذه الرحلة معايشة السوفييت بأقصى تلاحم ممكن لأجنبى، وخلالها خبرت شرف المعاناة التى يعيشونها، بعيداً عن وهم الحلول الجاهزة ولن أفصل فى هذه النقطة لأن القارئ سيجد فى مكان آخر من هذا العدد حديثا مسهباً عنها (إيقاظ النيام قبل اشتعال الحريق (ص 125).
المهم أننى حين أطلعت على خبايا هذه المعاناة تفتحت شهيتى لرؤية “الجانب الآخر من الدنيا” عن قرب، فشددت الرحال إلى بريطانيا (بالذات) وأنا أحمل فروضا عاملة تساعدنى فى البحث عن إجابات الأسئلة التى تؤرقنى وسأكتفى من معايشتى للواقع البريطانى بمشهد مفصل :
مقعد بويى ساندز البرلمانى : وفحوى الديمقراطية :
لعل القارئ يذكر “بويى سساندز”، الذى كان عضوا فى الجيش الجمهورى الإيرلندى، وحكم عليه بالسجن 14 سنة، لأن البوليس عثر فى بيته وسط الظروف البريطانية الايرلندية العاصفة، على مسدس بدون ترخيص، وابان رحلتى البريطانية كان الرجل يناضل من أجل هوية السجين السياسى، لا المجرم المجرد، وكانت الحكومة البريطانية ترفض ذلك رفضاً قطعياً، وترد على الهيئات العالمية التى اهتمت بالأمر (منظمة الأمم المتحدة، ومنظمة حقوق الإنسان، وهيئات الجماعة الأوربية ..) بأن ساندز ورفاقه ليسوا سوى مجرمين نكرات .
آنئذ أقدم بويى ساندز على خطوة فاضحة، إذا تقدم من سجنه مرشحاً فى الانتخابات البرلمانية، وطالب جمهور الدائرة التى رشح نفسه فيها تأييده، لا من أجل أفكاره السياسية وإنما من أجل المطلب الخاص بهوية السجين السياسى ..
وجرى الأمر كله وسط موقف غاية فى الحرج .. كان بويى ساندز قد أعلن هو ورفاقه فى السجن اضراباً عن الطعام (حتى الموت) من أجل الحصول على هوية السجين السياسى، وكان واضحاً أنه يسعى إلى استعارة الهوية البرلمانية بعض الوقت، فإذا نجح عن هذا الطريق فى إجراج الحكومة ومنحته هوية السجين السياسى تنازل عن المقعد البرلمانى للتو، وإن ركبت الحكومة رأسها وأصرت على رفضها سيكون بويى ساندز قد قدم علامة استفهام هائلة، حول فحوى الديمقراطية، وأهمية صندوق الاقتراع، بل وطبيعة الشرعية التى تستند إليها الحكومة ذاتها.
وقادت الحكومة البريطانية وأنصارها حملة دعائية شرسة ومكثفة ضد انتخاب ساندز، مخوفة الناس من أن انتخابه يعنى اعطاء تفويض برلمانى لقاتل..، لكن الناس اختاروه فى النهاية، وفاز بالمقعد البرلمانى للدائرة التى رشح نفسه فيها، وأصر بويى ساندز على “أن الموت أفضل من العبودية”.. وكانت النهاية المؤسية التى نعرفها جميعاً..
لقد أكد لى هذا الموقف، كما بينت لى اللمسة السريعة من قبله، شرف معاناة البريطانيين على الجانب الآخر من الدنيا، أمام ما يعتقد أنه حلول جاهزة ونهائية…
بين حرية الإعلام والرأى وحرية رأس المال:
ولا يظن القارئ أن الأمر قاصر على بريطانيا أو أن الأمر يقف به عند أوائل الثمانينات، فمتاهة الديمقراطية الغربية متاهة قائمة فى كل زمان ومكان … فقد شهد التليفزيون الفرنسى مثلا خلال الشهور الفائتة حدثا بالغ الدلالة :
لقد كان المذيع الفرنسى ميشيل بولاك الإعلامى الوحيد هناك الذى حصل على أرفع جائزتين لقاء خدماته التليفزيونية خلال عام 1986 جائزة بصفته أفضل مقدم برامج، والثانية بصفته أفضل مؤلف لبرنامج تليفزيونى .. وكان البرنامج الذى يقدمه بولاك، لما يزيد عن خمس سنوات، “الحق فى الرد” أشهر البرامج، وكان عدد من يتابعونه، وهو يبث على الأثير مباشرة يتراوح بين خمسة وعشرة ملاين فرنسى، وكان البرنامج مكرساً للأحداث السياسية العالمية ومشاكل المجتمع الفرنسى الملحة، ويعتمد على المواجهة العالمية بين أصحاب الآراء المتعارضة فى الموضوع الواحد، الذى يكون “بولاك” قد استعد هو نفسه لإذكائها بالوثائق به، ولشعبية البرنامج كان يعد من أكثر البرامج إدراراً للربح.
المهم أن تأميم القناة الأولى فى التليفزيون الفرنسى قد ألغى، واشتراها رجل يدعى “بويح” وهو صاحب واحدة من أضخم الشركات الإنشائية فى العالم، حتى إنه يلقب فى فرنسا بملك الخرسانة، وكان المعتقد أن برنامج بولاك ورقة رابحة فى التنافس بين قنوات التليفزيون الفرنسية الست لكن بويح أدلى بحديث للصحافة جاء فيه بثدد بولاك : “.. ان هذا العجوز يتمتع بمواهب خارقة ولكن لا يجوز له أن يتعدى الحواجز” .. ولم يكد الإعلامى الداهية يقدم حلقتين من برنامجه فى عهد المالك الجديد، دارت ثانيتهما حول مشروع بناء جسر يصل إلى جزيرة “رية” الواقعة فى المحيط الاطلنطى، وهو مشروع تضاربت حوله الأقوال كثيراً، ويرجح إصابته للبيئة بأضرار بالغة، وتقوم بانشائه شركة بويح نفسها.. لم يكد بولاك يقدم برنامج الجسر (وقيل أنه يعد برنامجاً آخر عن إلغاء تأميم الشركات الكبيرة) حتى وجد نفسه، مع طاقم الإعلاميين العاملين معه، على قارعة الطريق، إذ استغنى بويح عنه بجرة قلم، وبدلاً من البرنامج اللاذع فوجئ جمهور القناة الأولى بمسلسل “الذع” وهو المسلسل الأمريكى القديم حول المجند “كولومبو”.
الاحتفاء بالإنسان ومسئوليته عن إبداع حياته :
ولا بأس عند هذا الحد من تضفير ما يبدو حديثاً ذاتياً بحديث أكثر مباشرة عن “الإنسان والتطور” فحين قلبت المجلة عند لقائى الأول معها عام 1981 فوجئت بأن الاتفاق مع ما تختطه نهجاً لها يتجاوز رفض وصاية اصحابة الحلول الجاهزة (غير الموجودة أصلا كما فصلت) فقد كان بين اهتماماتى الأساسية فى الغربة (3)علم النفس، وكانت “الإنسان والتطور” المطبوعة العربية العامة (خارج أسوار الجامعة مثلا) الأولى، التى أراها تتجاوز علم النفس السلوكى إلى الآفاق الرحبة التى يرتادها العالم اليوم فى هذا المجال، وتبشر بأن يكون العلم هو علم القرن القادم بحق.
ولا بأس هنا من وقفة قصيرة مع علم النفس الإنسانى الذى كان بين المعالم الأولى للقائى مع المجلة، ذلك أن المعارف الخاصة بالإنسان وثيقة الصلة بموضوع المجلة مثلاً مثلها معارف علم النفس..
إن مدرسة التحليل النفسى التى دشنها فرويد إنما تتحوصل أو تتمركز حول الذات واللذة الجنسية، بما لا يجعلها قادرة على تغيير سعى الإنسان المتوافق توافقاً سليماً مع ما يحيط به .. هذا كما أن السلوكية – على انجازاتها، تركز على بعض مظاهر النشاط المشروطة بالاتصال اللفظى، وتجاهل غيرها على اعتبار أنها أنشطة غير قابلة للمعرفة بصورة دقيقة ..
تمثل الاشارة لغزاً لمن هو خارج هذه الدائرة ..، وانطلاقاً مما أراه من حجب المطبخ أكتفى بالتأكيد على ضرورة دور أكبر وصريح للدكتور يحيى الرخاوى بصفته رئيساً لتحرير مجلة اختطت لنفسها هدفاً، ورئيساً لجمعية “…. والعمل الجماعى” (التى مازالت إمكانية).
نأتى إلى مسألة عدد القراء وقيمة أى نشاط إنسانى إن لم يصل إلى المقصود منه، ولا بأس من أذكر هنا ما قاله لى صديق : هل تدرى ماذا يعنى أن يكون التوزيع قد وصل إلى 300 نسخة؟ “هات ورقة وقلماً وافترض أنها يجرى توزيعها على 400 بائعاً، وافترض لسبب من الأسباب أن كل أربعة بائعين يفقدون عدداً واحداً، وأن واحداً من كل عشرة آلاف يرونها يشترونها لمجرد الفضول وحب الاستطلاع”… وأ،ا لا أتفق مع هذا الصديق تماماً لأنى أعرف عشرة من الأصدقاء المقربين يشترونها عن قصد، وعشرين آخرين كانوا سيشترونها بالقطع إذا وقعت عيونهم عليها. والأهم من ذلك كله أنى أعرف على وجه اليقين أن هناك بين ألف وألفى متطلع يمكن أن يشتروها إذا وصلهم (فى نسق راكمى ومجسد) الهدف من اصدارها.
ولعل هذه هى النقطة المناسبة لإمساك الخيط من الطرف الصحيح .. إن القيمة الحقيقية “للإنسان والتطور” ستظل اساساً فى التعبير عن خطها (الحث والتحريك الإبداعى العام) الذى تحيطه الغيوم من هنا وهناك، والذى يحتاج إلى جهد وتجويد حتى يخرج جليا ويصل إلى جمهوره الحقيقى، وحتى إن ظل عدد القراء فى هذا الإطار (لا قراء) فإن هذه فى حد ذاتها قضية تستوجب مراجعة النفس واستمرار الصدور، قبل أن تستوجب التوقف ذلك أنها ظاهرة مرضية بالغة الخطورة، إذا نظرنا لها من باب الحاجة الاجتماعية، وإن كنا مازلنا قادرين على التلفت حولنا، وان ظللنا أوفياء لمقولتنا حول شرف الاجتهاد والمحاولة.
ثانياً: خيرى شلبى
فهو يقرؤنا من أول عدد حتى ذاك العدد الواحد والثلاثين طوال ثمان سنوات، وأنا لا عرف قارئاً لنا – حتى من بين مجموعة التحرير أو المجلة – استطاع أن يتحملنا بهذه الأمانة والدقة، يتحمل ذبذباتنا، وشطحاتنا، ومراجعتنا، وتجريبنا …. الخ، فإذا كان هذا القارئ بحجم وعى خيرى شلبى، وبسعة قلبه الفلاح المصرى الحقيقى، وبتعرى وجدانه القاص المبدع، فعلينا أن نحسن الاستماع إليه، وهو لم يقرؤنا من باب العلم بالشئ لكنه يقول بالنص : (مجلة الإذاعة)(4) “…إبداع الزملاء الذين تعاونوا مع هذه المجلة كان يحظى باهتمامى، وكنت أعكف على دراسته باستمرار” اذن فثمة قارئ يعكف ويدرس دون أن يشجب أو يصفق، ثم راح يرصد المسافة بين طموحات رئيس التحرير، وبين جهد مساعديه، وان لم يحرمهم حسن ظنه بهم كأطباء جيدين، ثم ينبهنا (فى النهاية) إلى أن المسألة الثقافية “شئ آخر”، له أصوله وأساليبه وأسراره الخفية.
ونرى أنه من حسن إنصاتنا إليه أن نتفق ونختلف، فنعترف بالقصور والتقصير، ونعترف بخصوصية المسألة الثقافية، وأصولها، لكننا لا نوافق تماماً على أن المشاركين الأصغرهم بعيدون عن طموحات المجلة بالقدر الذى رآه، كما نتحفظ ازاء الأسرار الخفية لدرجة احتمال الاحتكارية التخصصية، فقد كان من أهم أهداف وأمل هذه المجلة هو ضرب الانغلاق التخصصى بدءاً بوصاية المتخصصين فيما يسمى العلوم النفسية على الوعى البشرى، والمعرفة بالنفس، لدرجة احتمال تدخلهم فى حدس المبدعين، وربما يكون من حقنا أن نأمل فى “المثقفين” أصحاب الأسرار الخفية أن يسمحوا لنا بالتتلمذ الجاد، والمشاركة البكر، فهدفنا الواضح هو “تحريك الوعى”، “وإثارة الإبداع” بكسر التخصص، وارتياد المجهول، بغض النظر عن موقع انطلاق القذيفة من طبيب أو مريض أو طالب معرفة أو رحالة إبداع، وليس معنى ذلك أن نعفى أنفسنا من الغربلة، والانتقاء، والتوليف لنعزف لحنا متسقاً، ولكننا نعنى أساساً اهتمامناً “بما ليس كذلك” (إن صح التعبير)، ولعل هذا هو ما جعلنا، وبعد ثمان سنوات، مازلنا نفتقد تحديد هويتنا إلى هذا الحد الذى جعله يطالبنا أن نحدد شخصيتنا (ان كان لنا أن نستمر) “… هل هى مجلة ادبية صرفة، أم هى علمية ثقافية كما تصف نفسها، أم أنها مجرد صفحات مفتوحة على البحرى لكل من أراد أن يزعق صوتاً أهوج؟” ثم راح ينبه رئيس التحرير إلى أنه “….يضيع وقته وجهده من نماذج غير مستعدة أصلاً للتحاور، بل هى لا تمسك مقومات التحاور على النحو الصحيح”.
ولعلك تسمح لنا – ياعم خيرى – أن نذكرك بما جعلك تصبر علينا طوال هذه المدة، ونحسب أن من بعض ذلك : درجة السماح التى تمسكنا بها طول الوقت، حتى لا نحرم من النقاط لؤلؤة نادرة حتى لو أحاطها كوم من الرطان أو النشاز – وقليل ما هو كذلك – وليس معنى هذا أن نفتحها على البحرى كما تقول، ولكن طبيعة عملى الأصلى علمتنى أن أعتنى بالنص الفج كما هو، حتى نص المجنون فى قمة تناثره، ثم أعود لأرتاده المرة تلو المرة، لعله يفصح عن مستوياته المختبئة بين ثنايا فجاجته، ومن هنا – ربما – فتحتها على البحرى، لكننى عدت فتبينت، وإن كان متأخراً بعض الشئ، أن البحرى أراد أن يغلق الشرقى والغربى والقبلى مرة واحدة لحساب ريح محملة بكل مخاطر المفاجآت الخماسينية والدوامات الخادعة، فتلفعت بك (بما تمثل)، وبحدود علمى واجتهاد أدبى، وقلت كفى إلى هنا، دون إصرار على اغلاق البحرى، لأنه (البحرى) يابن بلدى، هو مصدر النسمة العليلة (التراوة) دائماً أبداً فيما عدا عواصف السموم ودوامات الغبار فدعنا نترك نافذة البحرى مفتوحة مع التأكد من متانة المزلاج متى لزم استعماله.
وأخيراً فأن ملاحظتك على الصورة “الملطوعة” على الغلاف الأخير، ومدى تنفيرها، هى ملاحظة تلقيناها أيضا من أكثر من صديق (د. نعيم عطية مثلاً)، ولست متأكداً من ضرورة تراجعنا، وأفيدك أننا أردنا بنشرها هكذا فى هذا الموضع أن ننبه على مسألة جوهرية، وهى كيف أن من يسمونهم متخلفين عقلياً قادرون على الإبداع بشكل أو بآخر، فهذا الرسم لطفل متخلف، (كذلك الرسم على ظهر الغلاف)، وحتى قدرته على التنفير قد تحسب له فنيا.
وأخيراً – يا خيرى – لست من قراء الإذاعة، وكنت دائماً أسأل نفسى حين أقرأ لك قصصك القصيرة فى أماكن أخرى، أسألها : لماذا الإذاعة؟، ما علينا، فعذراً لأنى كتبت الرد عليك فى موقع غير متصدر، وبعد أن قررنا إدماج عددين فى بعضهما، فجاء حوارنا وكأنه محشور فى غير موضعه.
ولعل هذا التأخير قد سمح لك بتتبع الافتتاحيات السابقة لترى التذبذب بين ما انتهينا إلى تحديده فى الافتتاحية الثانية، وبين ما ينبهنا إليه محمد فتحى عبد الفتاح من أ، دورنا الأساسى بستحسن – أو ينبغى – أن يقتصر على ما أسماه “الحث الإبداعى”، وقد كنا نتصور ذلك فى بداية الأمر إلا أنه يبدو أن هذا الحث الإبداعى ينبغى أن يأتى بطريق غير مباشر، وفى ثنايا كوم من السرد الإبداعى إن صيح التعبير.
وشكراً مجدداً.
هذا العدد
ونحاول مع قليل من التراجع أن نلتزم فى هذا العدد بأبواب العدد السابق، فبعد باب الافتتاحيات نقدم قلما جديدا بسيطا ومتواضعا – (مثلما قدمنا فى العدد الثانى د. سيد حفظى ثم تراجع أو كاد) يحكى عن مأزق الرؤية (رؤيته) : “.. فى لجة الطب يلقى فيه بالمرض” مستعيرين قياسا على قول ابن الرومى : “.. فى لجة الماء يلقى فيه بالحجر”، وكأن المرض النفسى والمريض إذ يعرض على الطبيب النفسى لا ينبغى أن يؤخذ باعتباره شيئا “تقيسه” آلة حرفية (طبيب) بقدر ما هو ثورة تحرك دوائر وعى إنسان يقال له الطبيب، فى موجات متلاحقة متصلة، فأين المدى وكيف السكون؟، ثم يقدم لنا عصمت داوستاشى كتبا “ألبوم” (نظر) لمحيى اللباد، فنتعاطف معه (مع اللباد) فى صراخه انتظارا لمائة خطاب تقول له : “أكمل” ونحن نكمل بأقل من عشرة، ولكننا نحملها معا كل من أذن، أليست لها أذنان (القفة)؟؟
ومن هنا جاء الاتجاه الانسانى فى علم النفس كمحاولة للتغلب على المثالب التى نتجت عن النظرة الجزئية (للمدرستين السابقتين) والتجزيئية للإنسان عامة (ذاكرة وانتباه وغرائز .. الخ) وصولاً به إلى صورة أكثر ارتباطاً بإدراكاتنا اليومية عنه، بصفته كائناً يحلم ويحب ويبدع وينمو ويسعى إلى تحقيق ذاته وإشباع حاجاته الإنسانية … ويتفاوت حظ أفراده بقدر تفاوتهم فى تحديد غاياتهم وقدراتهم الارادية ناهيك عما يبذلون من جهد أو بصفته (إن شئنا تدقيقاً أكثر) (2) كائناً منفرداً (وليس نمطاً) كليا (وليس مجرد أجزاء أو مجموع أجزاء) يتحرك دوماً حركة تحتمل التدهور والرقى (ليس صيغة نهائية) يسترشد بعالم الطموحات والقيم العليا فى السعى إلى غاياته ..
وكان هذا الاتجاه الإنسانى فى علم النفس بكل ما يمثله من تجاوز وما يرهص به وما يعنيه من احتفاء بالإنسان، وبالخبرة الانسانية وبالمنهج الذى يجعل من هذه الخبرة علماً، منطلق لقاء جديد بينى وبين المجلة…
هكذا وجدت نفسى مثل غريب فى بلد اجنبى يتحدث مع شخص لا يعرفه (المجلة) دون مبالاة، وفجأة ومع الكلمات يكتشف أنه من نفس القرية التى ولد وعاش فيها، وباتت الغرام الذى لا يستطيع التخلى عنه .. وهكذا أمسكت بالقلم وكتبت رسالة مختصرة لرئيس التحرير “أهلاً أهلا بلديات”.. ومن يومها ارتبطت بالإنسان والتطور وقد رسخ هدفها فى وجدانى على أنه الحث والتحريك الإبداعى بأوسع المعانى وفى أوسع المجالات .
قد تبدو القضية ذاتية مرة أخرى، لكنها ليست كذلك، ففى محاولة للإجابة عن سؤالى لماذا وكيف يجب أن تستمر المجلة أسهبت فى الحديث عن بعض ما ارتبط بتجربتى الشخصية من الخط الذى أرى أن المجلة تختطه لنفسها..، ذلك أن الهدف هنا هو التزام شئ أدعو المجلة إليه (من خلال الكتابة، وهو تجسيد أهدافها فى تعبير واضح، يمكن أن يصل إلى دائرة معقولة من القراء) وليس استقصاء اهتماماتى أو ما ألتقى فيه مع المجلة بقضه وقضيضة، وإن وجب التأكيد على أن أرضية هذا اللقاء هو المنهج الجدلى الذى تجعل نهايات كل الأشياء مفتوحة، ومن هنا ضرورة الحث لإبداعى، ومعنى الاحتفاء بإبداع الإنسان لحياته. وأى قادر على أن يتلفت حوله فى مجتمعنا، وإلى ما يجرى حولنا فى العالم، يمكن أن يدرك عمق الحاجة إلى ذلك ..
ولا يظن القارئ أننى أعنى أن المجلة حققت ما فصلت، ناهيك عن وعودها المفتوحة الآفاق، لكنى أرى أنها تشكل فيما تقرره عن نهجها إمكانية لتحقيق الكثير … ومن فضل القول بعدما سبق التأكيد على أنى لست أرى مجالاً :
– للحديث عن ترويج المعارف النفسية (ورغم احترامى لهدف من هذا النوع فإن له متخصصيه، والإنسان والتطور لا تجيده، ناهيك عن أنها لا تتبناه).
– أو للحديث عن الاهتمام الحرفى بالشعر والأدب والفن .. فكل ذلك له مجالات عدة، قد لا تكون كافية لكن صفحات “الإنسان والتطور” لن تقدم مساهمة تحسم ما يوجد من خلل ..
لست أرى مجالاً لذلك (وغيره) إلا بقدر ما يرتبط بالهدف الذى أعتقد أنه هدف المجلة (الحث والتحريك الإبداعى العام) وبقدر ما يوضح هذا الهدف، لأنه لم يتضح على النحو الكافى (احتكاماً إلى عدم رؤية المتحاورين معها له) فيما يخص القارئ قد تكون المجلة أسهبت فى الحديث عن توجهها، لكن الباحث يمكن أن يرى أنها أسهبت أيضاً فى الحديث عن غيره، ذلك بالإضافة إلى أنها لم تكن موفقة دوماً فى ترجمته وإقرار أو تكرار الهدف نثراً لا يعنى شيئاً إن لم يتخلل هذا الهدف روح المادة المنشورة..
إن المجلة فى حاجة إلى إزالة ما يحيط هدفها من غموض ولبس، ولا بأس هنا من التأكيد على أن المجلة فى حاجة إلى حجب ما يجرى فى مطبخها الداخلى لا لأنه سر ولا لأنه عيب أن يطرح، وإنما لأن أقصى اجتهاد فى إيضاحه لا يمكن أن ينقذه من الخروج لمن ليس فى دائرتها، لا مبتسراً وغامضاً، فلا يحقق ما قصد به، ولأنه يمثل فى النهاية إضافة “سيم” جديد إلى “السيم” الذى قد تمثله المجلة حين تنغلق على مجموعة بعينها، يمكن أن يفهم الواحد منها الآخر، بالاشارة، بينما ونطالع فى باب مثل وموال صفحة جديدة عن هم الناس من واقع حدسهم الشعبى قبل وصاية الألفاظ النفسية الحديثة، ويواصل عصام اللباد ترجمته لكتيب ليفى شتراوس، فيقدم لنا الفصل الثانى والثالث عن التفكير البدائى والعقل المتحضر فى سلاسة وإيجاز نأمل معهما إعادة النظر، ثم نقلب فى دفاترنا القديمة فنخرج قصيدة لشاعرنا الصديق أحمد زرزور(الآخذ على خاطره فى الأغلب من تحفظنا على الحداثة) ثم ننشر شعرا من الذى قد يراه هو وزملاؤه “ليس بشئ”، لأننا نراه وجها طيبا لوعى نشط يعلن عن نفسه بأبسط أشكال التعبير وأطيبها، ونحن – بعد – حريصين كل الحرص على الأختلاف مع زرزور وصحبه، ومن خلال ذلك نستأذنه أن يخفف من غلوائه فى رفض نشر هذا الذى ننشره، ثم تأتى القصة القصيرة والأقصر حتى لا ننسى اسهام الأدب فى التعريف بالنفس، وأخيرا فإننا مازلنا نرحب بما نسميه مؤقتا الكتابة الطليقة، بما يفيد خبرة ذاتية متميزة لم تأخذ شكلا محددا، ثم نختتم الفصل بقراءة نقدية لمجموعة محمد المنسى قنديل “بيع نفس بشرية”، فنعود بذلك إلى نشاط قديم كان قد توارى عن صفحات هذه المجلة، ولعلنا نكتشف من خلال هذه القراءة عن الجنس خاصة، أن الأدب باب مستقل لمعرفة النفس دون وصاية علمية مسبقة، كما يعز علينا أن تختزل هذه الرؤية العميقة الغور لما هو جنس بشرى كيانى متنوع الحضور واللغات، أن تختزل إلى حكم نقدى متعجل نشر فى مكان آخر وأشرنا إليه فى الدراسة كذلك يعود إلينا محمد فتحى عبد الفتاح ناقدا متميزا، ليقدم لنا الفيلم السوفيتى “الموضوع” من مدخل يتفق تماما مع ما نأمل فيه، ليذكرنا – بالمناسبة – بما نصدر لأجله.
ونواصل فى الباب الرابع “ذهابا وجيئة” محاولة تغليب الرد على الرسائل أكثر من افتعال حوار لم يحدث، وإن كانت رسالة الزميل الشاب عاطف بسيونى قد أغرتنا أن تكون حوارا لكننا تراجعنا فى آخر لحظة.
وأخيرا فإن الباب الخامس يحوى هذه المرة جزءا منتقى من اسهامات أعضاء هذه الجمعية (جمعية هذه المجلة) فى مؤتمر القاهرة الدولى للصحة النفسية دون غيرهم : باعتبار أنها أعمال متكاملة يمكن أن يشرح بعضها بعضا فى نفس العدد، آملين أن نعود إلى المتميز من الأبحاث التى عرضت فى المؤتمر فى عدد قادم، ولا ننسى أن نعلن رأينا فى هذا المؤتمر ومثله، ثم نعرج إلى موقفنا من دعوة إسرائيل إليه، ومحاولة التسلل المثابر من الأبواب الخلفية، ويحتوى الباب على حالة تشير إلى عدم تميز نوع المرض النفسى منذ البداية حيث نعرض لحالة مريضة مازالت فى مفترق الأمراض، وينتهى هذا الباب بجزء جديد فى الموسوعة النفسية عن الانتحار وإن كان لم يتم، كما أن ثمة مقتطفا موجزا كان لازما للإشارة إلى صورة الغلاف فيما يتعلق بقضية الفن والعلاج، ورسم الحلم.
جفاف وحجارة ونيران
ثم أحاطت بنا أفواه الرعب من الجفاف، وألسنة النيران فى آن.
أما أفواه الرعب فهو ما يشغل الناس هذه الأيام من الخوف من العطش والجوع – جفافا – إذ يبدو أن النيل العظيم يفكر فى الغضب على من لم يرع، ومن لا يرعى، هبته ونعمة حضارته.
أما ألسنة النيران فهى ما أشعلته حجارة صبيان وفتيات غزة والضفة من حريق، فى مقابل ما أحاطها من نباح المفترسين وسعار الجبناء إذ يفيقون على ما لم يحسبوا له حسابا.
ونحن لا نملك إزاء فتح ملف مياه النيل إلا أن نتذكر أن ذلك قد يحمل خيرا ما، إذ قد يكون امتحانا تطوريا محددا لقدرتنا على البقاء أصلا، مجرد البقاء وليس كيف نبقى، ولابد لنا أن نأمل أن نفيق بتهديد العطش والجوع، إلى ما لم ننتبه إليه بتهديد التخلف وعتامة الوعى، وأحسب أن الافاقة إذا لاحت، فلابد أن تطرح جانبا هذا الجدل المضحك – مثلا – حول تطبيق الشريعة أم تشريع المطبق، أو ذلك العبث الدائر حول انتقاء الطريقة الأمثل لمنع التفكير وحظر المراجعة : هل يتم ذلك بالانتماء لأقرب فكر مستورد جاهز، أم بالاختباء فى أرسخ فكر قديم ساكن، لأننا حين ننقرض – لا قدر الله – سوف ننقرض لأننا استغنينا عن عقولنا وحقنا فى التدبر بلا مقابل، سوف ننقرض لأننا بعنا وعينا لسماسرة العقائد وتجار الأفكار (لا التفكير) فهل آن الأوان أن نعدل الوجهة ونرتب الأولويات قبل فوات الأوان؟؟ إن القضايا الأولى بالاهتمام هى القضايا الحضارية المترجمة إلى فعل يومى مسئول، وإنما تكون القضية حضارية أو غير ذلك بمقدار قياسها بوحدة الزمن التى تتحرك فيه، فهل يا ترى وحدة الزمن الذى نتحرك به وفيه (فى السياسة والرأى والإبداع …. الخ) هى : أين تذهب هذا المساء؟ أو هذا الأسبوع؟ أو هذا العام؟ يا سيادة وزير الرى، أو وزير الرأى؟ أم أنها “ماذا للأجيال القادمة؟ وكيف؟ وبدأ من هذه اللحظة يا معالى وزير الزراعة أو وزير الوعى”؟
هذا ما رأينا بشأن مياه النيل.
أما هذا الحريق الذى اندلع فى الضفة وغزة ففى رأينا أنه “خير كله”، وسيظل من أجمل وأروع علامات تاريخ شعبنا : ذلك الحجر الذى ألقاه صبى فلسطينى (أو فتاة عربية) ولد فى عهدهم، ولم يسمع غير كذبهم، لكنه بكل حب الحرية الحياة : تركهم فى غيهم دون أن يستسلم أو ينسى ما لم يذكره به أحد، وبمجرد أن استطاع أن يرى حجرا، فيعرف أنه الحجر، اندفع إليه ليمسك به فيلقيه فى غيابة ظلامهم لتشتعل به النيران، تشتعل فى تاريخهم المزيف قبل عرباتهم المصفحة، فهل يا ترى تمتد حرارتها ولسعها إلى وعى الأمة العربية قاطبة فلا تخمد أبدا … هذا هو الأمل الأوحد، حتى لو لم يلح لنا قريبا الآن، فأى ريح سوف تهب بعد ذلك سوف ننتظر منها أن تذرو الرماد الذى على الجمر المشتعل بالغيظ والحجارة، ونحسب أن من حق الأجيال الآملة أن تؤرخ بهذا الزمن – زمن الحجارة المشتعلة، ومع كل الألم على الشهداء والمحجوزين فلا يوجد أخير من هذا الخير فى هذا الوقت بالذات، الحريق خير، والشهادة خير، والقمع – نفسه – خير، لأنها جميعا هى إعلان لبعث الحق من تململ أصحاب الحق (لا من قرارات الأمم المتحدة) وكل ما خالف الحق باطل ونستضيف ناجى العلى على غلاف مجلتنا هذا العدد بالمناسبة : عهداً وتذكرة.
أثناء قراءة البروفة الأخيرة فى 3 /3 / 1988 : تعقيبان لازمان :
1 – حكاية ثورة مصر : غباء أمريكى، وخيبة حكومة مرتجفة، ومغامرات تقلصية، وغيظ شريف، وقضاء محرج، وهرج سخيف، وبطولات موروثة سهلة، والله ومستر شولتز أعلم.
2 – ذهب أ. د. صلاح مخيمر فى 2 / 2، ولم ينتفع به كما يجدر بنا وبه فلعلنا نجد فى ما ترك ما نفيق به، ونبدأ منه. رحمه الله.
3 – وميخائيل نعيمة : آه لو تعلمنا كيف نقرؤهم بلغة 1988.
1- مدير مركز البحوث العربية للدراسات والتوثيق والنشر.
2 – 47 شارع الفلكى – باب اللوق – القاهرة.
3 – العمل مراجعاً مترجماً للمواد العلمية فى وكالة نوفستى الصحفية بموسكو (1974 – 1982)
4 – نشر عمودين كاملين عن المجلة فى أحد الأعداد الحديثة من مجلة الإذاعة