عدد أبريل 1982
العقاد والوضعية المنطقية
د. عادل مصطفى
اخلع الجزم(1) لدى الباب
وسلم أمانك
وانكر ذاتك
وامسح الالف عن نوافذ دهشتك
والرمال عن ثقبى عينيك
كف عن عادة قياس الأشداق
وعد الأكف
وتضفير النظرات
واستعارة رءوس الجيران
عانق الخطر ولا تتأبط أطواق نجاة
قص الحبل عن سرتك.. وانزف وانفصل.. واستلم هاويتك
نفض الأجوبة العالقة على كتف قميصك.. وتجمل بالريب..
قبل أن تدخل هذه الورشة الحرام
ليتسنى لك بحث الدعوى القائلة
بوجود آماد وراء التل
وممكنات مغبونة
واحتمالات شهيدة
وبأنك أعرف من أبيك
وأكبر سنا من جدك
وأن القيمة تكره لعبة المكعبات
وأن العالم سؤال يتخلق
لن يفهمه الا سؤال مثله.
“من مدرج الفلسفة”
للعقاد على الأدب مآثر لا تنكر، وأياد لا تكفر. فقد وهبه الله بصيرة نافذة وقريحة وقادة وذكاء نادرا، وعزيمة فولاذية تتفتت لديها العقبات وتزهق دونها المكائد. وقد ترك لنا رحمه الله رائعات خوالد ستبقى للمتأدبين على الدهر فيضا مجانيا لا ينضب، وغذاء ملكيا لا ينفد. وأحسب أن سيرته الذاتيه هى أروع روائعه وآثر آثاره وأحظى عرائسه بما تحلت به من عفاف يؤثر ونبل يحتذى
على أن ما أصابه العقاد – خاصة بعد وفاته – من نفوذ أطبق وشهرة توحشت، قد دفعنى الى كتابة هذا المقال الذى ظاهره الخيانة وباطنه الولاء. فالشهرة نعمة ونقمة على صاحبها كما هى على الناس، نعمة حين تشد الانتباه وتقود الشخوص الى موقع الكنز، ونقمة حين تتسرب الى مجال غير مجالها، وتعيث فى أرض غير أرضها. حينئذ يتكشف الرى عن غصة، ويتحول الاكسير الى سم.
من هناته – رحمة الله – أنه كان مدفوعا فى كثير من كتاباته بعقدته المحلولة.. عقدة الشهادة افتقدها فأنكرها، ونكل بها فغالى، وأنفق الف دعسة ليقتل صرصورا ميتا!!.
كان مدفوعا بعنف جعله يتورط فيما لا يعيه، ويتدخل فيما لا يعنيه. ولعل مقاله المناوئ للوضعية المنطقية فى كتابه “بين الكتب والناس” (2)خير مثال يسجل كيف اقتنصه نقيصته الموهومة وغالته مغالاته المحمومة، فأفتى بشأن الوضعية المنطقية فتوى منكرة، تشهد أنه لم يتمثل ما قرأة عنها أن صح أنه قرأ شيئا ذا بال، وتقسم أن الفلسفة بالمعنى التكنيكى المتخصص كانت ثغرة كبرى فى ثقافته العريضة أفلح زمنا فى سترها بأعواد يابسة من التواريخ المحفوظة والاسماء المتضخمة والرسائل الشعبية يفتها لقوم لم يزل التفلسف الحقيقى بينهم رضيعا طرى عظام.
يستهل العقاد مقاله ببضعة أسطر يلخص فيها الاتجاه الوضعى المنطقى كما تتلخص السماء فى عيون النورس. فاذا به يتخبط ويتلعثم فى استخدام أبسط مصطلحات الفسلفة: يقول رحمة الله:
“خلاصة المذهب الوضعى الحديث فى بضعة سطور أن المعنى لا يكون الا لأحد شيئين: واقعة محسوسة أو عبارة من قبيل تحصيل الحاصل كاعادة المعنى الواحد بعبارتين مختلفتين، أو كقولنا أن 5 x5 = 25 فان خمسة فى خمسة هى بعينها خمسة وعشرون مكررة بعبارة أخرى، وما لم يكن المعنى واقعة محسوسة أو تحصيلا للحاصل على هذا الاسلوب فهو لا معنى أو هو مقابل لعبارة الكلام الفارغ باللغة الانجليزية”.
فى هذه الفقرة القصيرة يخطئ العقاد فى استخدام لفظ “شئ” فالمعنى لا يكون “للشئ” وانما للقضية أو العبارة، ثم يفرط فى الصياغة فى قوله “واقعة محسوسة” والمعنى لا يكون لواقعة وانما لقضية تقرر واقعة، ثم يخطئ اذ يقول “مكررة بعبارة أخرى” فالخمسة والعشرون ليست عبارة sentence بل حدا term. ويعود فيفرط فى المصطلح فى قوله “وما لم يكن المعنى واقعة محسوسة” فالمعنى ليس واقعة ولكنه قابلية تحقق عبارة تقرر واقعة.
هكذا لا تكاد تختتم جملة دون خطأ فى الصياغة أو تفريط فى المصطلح، فكأنى به يقف فى الورشة الفلسفية متعثرا مغتربا يمسك بالمسمار مقلوبا ليدقه بالفارة فى زجاج المرآة.
وانه لمن انكسار الرجاء واغتراب الأمل أن ننتظر من كاتب يخط فى الفلسفة بهذا الخط المختلف أى نقد يستحق اسمه لحركة فلسفية تجعل الفلسفة ورمتها تحليلا منطقيا لعبارات اللغة لا أكثر ولا أقلٍ.
وبعد أن يعرض العقاد الاتجاه الوضعى المنطقى فى بضعة سطور، يرد عليه فى بضعة سطور أيضا كما لو كان يكتف صبيا متعابثا، فاذا به يردد مغالطة محفوظة متحفرة نقلها عن غيره هى اقرب الى الطرفة الفكهة منها الى الحجة المنطقية الجادة فيقول:
“ان المنطق الوضعى بهذا المقياس نفسه كلام فارغ، لأنه لا يقوم على واقعة محسوسة ولا على تحصيل وهى مغالطة مشهورة فى المنطق شهرة العقاد فى اقليمه، وهى ميسرة معروضة فى كراسات المنطق، تقوم بدورها كاملا فى تسلية تلاميذ الفلسفة الذين ما فتئوا ينفخونها كالعلكة ثم يفقأونها بنظرية الأنماط!!.
ومؤدى نظرية الأنماط أن عبارات اللغة ليست من نمط منطقى واحد وأن معيار الصدق فى أحد هذه الأنماط غيره فى نمط آخر. ولكى نوفى هذه النطرية حقها من التمثل والفهم نشير أولا الى مغالطة الفئة التى ليست عضوا فى ذاتها. ان فئة “البشر” ليست هى ذاتها انسانا يمتلك رأسا وجذعا وزوجين من الأطراف، وحزمة الأقلام ليست قلما يكتب به، وطائفة الأعداد ليست عددا من بينها. الفئة اذن – بغض الطرف عن استثناءات لا يؤبه لها – ليست عضوا فى ذاتها، وما يقال فى العضو لا يصح أن يقال فى الفئة التى يندرج تحتها، لأنها تنتمى إلى نمط منطقى أعلى. كذلك إذا اعتبرنا العبارات التجريبية والعبارات التحليلية فئتين كل منهما عضو فى فئة أعلى هى فئة العبارات ذوات المعنى، فإن ما يقال عن كل من هاتين الفئتين لا يصح أن يقال بدوره على الفئة العليا التى تضمهما والتى تنتسب الى نمط منطقى أعلى.
ولكى نزيد الأمر وضوحا نقول أن هناك فرقا منطقيا كبيرا بين اللغة Language وما وراء اللغة meta-Language باعتبار أن ما وراء اللغة (أو ما بعد اللغة) هى لغة تتحدث عن لغة. وعلى الفيلسوف الا يخلط البته بين هذين الصنفين من اللغة كى يتجنب الوقوع فيما لا ينتهى من ضروب التناقض والمفارقة والاستحالة التى نذكر منها على سبيل التمثيل والترويح معا:
“لا تستمع الى نصيحة”!!.
وهى نصيحة تحذرك من النصائح ! غير أنها تنتمى الى نمط منطقى أعلى يحكم على ما هو دونه ولا يخضع هو نفسه لحكم نفسه والا وقعنا فى سلسلة لا متناهية من الاستحالات أو حلقة مفرغة من التناقضات. “لا تستمع الى نصيحة” هى بدورها نصيحة من وجهة نظر النحو غير أنك أن توسمت الدقة المنطقية وتحملت مزاحنا الاصطلاحى فهى ليست نصيحة ولكنها “ميتا – نصيحة” أى نصيحة تتحدث عن نصائح وتفترض ضمنيا مثول تلك النصائح المشبوهة فى قبضتها أو تخسر المعنى.
“جميع العبارات فى هذه الصفحة كاذبة”!!.
فاما أن ننسب هذه العبارة السابقة الى نمط منطقى أعلى من باقى عبارات هذه الصفحة أو أن ندور كالاتان فى ساقية التناقض.
“جميع الاقريطيين كذابون”.
امضاء إيمنديز الأقريطى!!
“لا تصدق كل ما أقول”
وهى عبارة ينبغى – نظريا – أن تصحب معها مقولاتى التى تحذرك من تصديقها، والا فهى خلو من المعنى.
(هذا) موز.
أن هذه العبارة ليست موزة !! ولكنها قادرة بالتأكيد على تأدية خدمة متواضعة لبائع الفاكهة!.
أما بعد.. فاذا قال الوضعى المنطقى: “لا معنى لعبارة لا هى تجريبية ولا هى تحليلية” فان عبارته ذاتها لا هى تجريبية ولا تحليلية، وان شئنا الرقة فان عبارته تلك ليست “لغة ولكنها ميتا لغة، أى هى لغة تتحدث عن لغة أو عبارة تتحدث عن عبارات ومن الخطأ أن نخلط بين النمطين فنحكم على هذه العبارة نفسها بالحكم الذى تحكم به على عبارات دونها فى المستوى المنطقى، فنقع فيما وقع فيه العقاد – ناقلا عن غيره – حين خلص بأنها بدورها عبارة خلو من المعنى لأنها لا هى تقرير تجريبى ولا هى تحصيل حاصل.
هكذا اصطادت العقاد مغالطة منطقية مقررة يتندر بها تلامذه الشهادات ولا تنخدع فيها أوهن الملكات، وقد طالما تفكه بها الوضعيون المناطقة وطلابهم مع هينمات الرواح وفى فسحات الاسترواح.
على أننى لم التقط هذه السقطة العقادية لكى نهلل لانكفاءته ونعبث باليته، فما تعنينا سقطات الرجل لا بقدر ما تعيننا فى تشريح فكره وتقدير ملكته وكشف تخومه. ونحن حين نطل من ثغرة الأنماط العقادية المتلبكة ونحدق من خلال عدستها فلن نرى غير فكر لم يتخلص من طين اللغة، ولم يتملص من عجين النحو !! فاستاذنا العقاد حين يرنو الى صياغة فكرة فلسفية لا تنطبع على شبكية ذهنه علاقات منطقية وقوالب صورية بقدر ما تنطبع علاقات معجمية وحركات اعرابية. وهو حين يحملق الى العبارات لا يرى مقدمة ونتيجة ولا يرمق موضوعا ومحمولا ولا يميز ثوابت ومتغيرات بقدر ما يتعرف على فاعل ومفعول ويقعد لمبتدأ وخبر ويؤخذ بطباق وكناية، فهو يتعامل مع لحم العبارة عاجزا عن استلال صلبها الصورى واستنطاق طويتها المنطقية، بل لا يدور بخلده أن التركيب اللغوى غير التركيب المنطقى وأن الصيغة النحوية غير الرصيد الصورى، وأن السبك الأدبى غير العمق الفلسفى، وأن الرافعى والمنفلوطى غير آير وريشنباخ.
أن أسقم العقول لا يطاوعه حسه الرياضى على هذا الخلط العقادى بين الأنماط، وقصارى بلادته حين يبتلع مغالطة العقاد أن يحس بوعكة منطقية لا يدرى كنهها.
وفى الفقرة التالية من مقاله يصادر العقاد على موقفه كله فيقول :
” ونحن نزيد على هذا أن الانسان يستطيع أن يجزم بحقيقة لا صورة لها فى الخارج على الاطلاق، لأنه يستطيع أن يقول : “أن العدم مستحيل” ولا يمنعه من تقرير ذلك أن المحسوسات خلت من شئ يسمى العدم أو شئ يسمى المستحيل”.
هكذا يقع العقاد فى أبشع مغالطات المنطق على الاطلاق، مغالطة “المصادرة على المطلوب” petition principia ذلك بأن خصمه الوضعى المنطقى ينكر هذه الاستطاعة انكارا حاسما جازما، بل أن هذه الاستطاعة المزعومة هى بعينها لب الخلاف ومكمن الداء !! فكان على العقاد أن يثبت لنا أولا على أى أساس منطقى “يستطيع” أن يقول “أن، العدم مستحيل”، لا أن يصادر على هذه النتيجة المطلوب اثباتها فيدسها كمقدمة لاثبات نفسها شأن من يريد أن يرفع نفسه برباط حذائه.
ان عبارة “العدم مستحيل” لا يمكن ان تحمل معنى من وجهة نظر وضعية منطقية اللهم الا اذا كان العقاد يعنى بلفظ “العدم” فى سيمانطيقاته الخاصة “ما يستحيل وجوده” لتصبح القضية كالآتى:
“ما يستحيل وجوده يستحيل وجوده” وهو تحصيل حاصل، وبذلك تحظى القضية بالمعنى، ولكنه معنى يجب أن يبقى مغلقا على نفسه، عقيما من الوجهة الانطولوجية فلا يجيز للعقاد أن يولد منه تلك النتائج الميتافيزيقية المهولة التى ولدها فى مقاله، كتلك النتيجة القائلة بأن الوجود اذن أبدى لا أول له ولا آخر!.
أن قضية من قبيل “العدم مستحيل” التى يصادر بها العقاد، لايمكن أن تحمل معنى الا اذا تجاوزنا له باعتبارها تحصيل حاصل أو بالأخرى “تعريفا” متنكرا مؤداه أن العدم هو ما يستحيل وجوده.
وكل تعريف تحليلى، ولا يجيز المنطق الذى يدرسونه بالجامعات استنباط نتيجة تركيبية synthetic تخبر عن الوجود من مقدمة تحليلية تعرف لفظ العدم.
على أن وضعيا منطقيا مثل كارناب، معافى من التسيب المنطقى والسلس incontinence الاستدلالى الذى أصاب العقاد، ينكر هذه الاستطاعة التى يقذف بها العقاد بلا دليل، بل يؤكد استحالة هذا القول الجرئ الذى يتجاوز دائرة الوقائع التجريبية ويعلو على نطاق الظواهر ويجدف على المنطق القويم، ويرى من وجهة نظر تركيبية صرف syntactic أن قضية “العدم مستحيل” مجرد عبارة فاسدة التركيب المنطقى، من حيث انها توليفة لغوية فارغة تتعارض مع الاستعمال الحقيقى للكلمات، لأنها تستخدم لفظ “عدم” كاسم فى حين أن هذه الكلمة يجب الا تشير اصلا الا إلى عملية السلب أو النفى فى مجال المنطق.
وفى الفقرة التالية يحتج العقاد بالنقطة الهندسية عساها تنقر من الفوضى الذهنية ثغرات تنهل منها التشويشات الميتافيزيقية والاستنامات المحلية التى تشكل المرتع الخصيب الذى يعيث فيه الفكر الشعبى والارتزاق الادبى فيقول :
“فما هى النقطة الهندسية؟ هى شئ لا طول له ولا عرض ولا عمق ولا ارتفاع، وهى على هذا شئ ليس له وجود، وهى بعد هذا وذاك شئ لو أبطلنا القول به لبطل القول بجميع الرياضيات التى تقوم على تسليم ذاك التعريف : فهل فى وسع أحد أن يصف الرياضيات بالكلام الفارغ؟ واذا جاز الاستناد إلى أمثال هذه التعريفات فى الرياضة فلمذا يمتنع فىغيرها من التحقيقات؟!”.
هكذا يتحدث العقاد عن النقطة الهندسية كما لو كانت كيانا سحريا يوجد رغم غيابة !! ملوحا لغيره من الكيانات الغيبية بمناديل ميتافيزيقية بيضاء!! ولا يدور بخلده أن النقطة الهندسية ليست “شيئا” على الاطلاق .. ليست كيانا انطولوجيا هى نقطة رياضية لا وجود لها وليست “نقطة ميتافيزيقية” كمونادات ليبنتز Monads.
النقطة الهندسية وهم منطق logical fiction واعتبار شكلى وتدبر صورى محض لا يحوز أى صفة وجودية ولا يتمتع بأى وضع ميتافيزيقى، أو قل لمن لا يبصر من خلال سدم الالفاظ وغيوم النحو ان النقطة الرياضية موجودة بالمعنى الذى “يوجد” به حل للمعادلة س، لا بالمعنى الذى “توجد” به الذرات الترابية الدقيقة والاشباح الاثيرية الرقيقة أوما شاء العقاد أن يتبرع به “للوجود” من كائنات لا شيم منها برق ولا حصحص لها حق.
والنقطة الهندسية كغيرها من المعرفات تلحق بالفروض التى تشكل مقدمات النسق الرياضى الذى يستنبط النتائج من المقدمات استنباطا صوريا محضا، فهو تكرارى لا اخبارى، وهو تحليلى لا شأن له بعالم التجربة، وهو ينتزع المعنى من كونه تحصيل حاصل. أما تساؤل العقاد عن السبب فى امتناع الاستناد إلى أمثال هذه التعريفات فى التحقيقات غير الرياضية فلا يكفى لاتاحة الفرصة للتشويش الميتافيزيقى بالتسرب إلى ساحات البحث الفلسفى العلمى، أن لم نقل أنه يكشف عدم تمييز العقاد بين التحليل والتركيب .. بين قضية تكرارية تتحدث عن نفسها وقضية اخبارية تتحدث عن العالم .. بين عبارة الاتساق الداخلى، وأخرى يزكيها التحقق التجريبى.
على أنى لا أود أن أترك فقرة “النقطة” العقادية دون أن أنوه إلى دلالتها علىتكنيك الفكر العقادى كله، مؤكدا أنه لم تسرق التفاته النقطة الهندسية بالذات لو لم يكن مقودا فى فكره بالكثافة اللغوية والتهاويل اللفظية والا فالنقطة الهندسية التى ليس لها طول ولا عرض ولا ولا ولا ليست أبعد فى “وهميتها المنطقية” ولا أمعن فى أفلاسها الانطولوجى من الخط ذى البعد الواحد، ولا من السطح ذى البعدين بكل ما يستضيفه من أشكال هندسية، ولا من الاعداد الحسابية، ولا من الرموز الجبرية ولا من الفئات المنطقية، ولا مما شئت من القوالب الرياضية والنطقية المغبونة لا لم تمسك بتلابيبه تلك النقطة الهندسية بالذات الا بسلطان البطانة اللفظية والضجيج الخطابى، ولم يتقول عليها الا بوازع من الرياء الثقافى والتنفج الفلسفى.
وما يكاد المنطق يبتلع هوانه حتى يعالجه العقاد بفقرة أخرى من صنف “حوتى” يقول فيها :
“ما هو الدليل عند المنطقيين الوضعيين علىأن الحوت منحدر من الفقاريات الأرضية؟ فما من أحد عثر بين المتحجرات على حلقات متوسطة بين تلك الفقاريات وبين الحوت، وما من أحد جاْء بنظرية تربط هذه الحلقات بفروض معقولة، فاذا كان قول النشوئيين هنا علما صالحا للاثبات فما هى وسيلة الاثبات على مذهب الوضعيين؟”
وهو احتجاج يدل على أن العقاد يكتفى بنقل اعتراضات متخفية منقرضة ولا يجشم نفسه تعمق المذهب الوضعى المنطقى نفسه عند واضعية، أو أن انفاسه قد قصرت عن متابعة تحليلاتهم العميقة المرهقة التى تتطلب دربة ومرانة منطقية خاصة (ان لم نقل شهادة واحترافا).
ان أوسط الجامعيين الدارسين للوضعية المنطقية قد تعلم أن التحقق verification عند الوضعيين المناطقة نوعان : تحقق عملى وتحقق مبدئى، وأن تعذر التحقق العملى بسبب ظروف العلم الراهنة أو بسبب انعدام الظروف المواتية لا يحرم القضية من أن تكون “قابلة للتحقق نظريا”، كما تعلم هذا الدرس أن من التحقق ما هو ضعيف سمح، ومنه ما هو قوى قاطع، وأن الاحتمال هو ظل المعرفة التجريبية الظليل، وأن القانون العلمى هو وصف ترجيحى لسلوكيات الظواهر لا ضرورة فيه، وأن الاستنباط الصورى يدخل فى تكنيك التحقق التجريبى بشروط خاصة، كما أن الفرض والاستنباط الصوريين يدخلان جنبا إلى جنب مع التأييد التجريبى فى نسيج المنهج العلمى المعاصر.
نخلص من ذلك إلى أن الوضعية المنطقية خاصة بعد نضج الحركة وتعمقها فى التحليل ترى أنه اذا وجد موقف تجريبى “يمكن تصوره” حتى لو ظل من المستحيل كشفه بوصفه موقفا فعليا، فعندئذ لا تكون العبارات كلاما فارغا أما اذا كانت ذات طابع من شأنه الا تكون لأية ملاحظة ممكنة علاقة بصدقها أو بطلانها، فعندئذ تكون لغوا مهما يكن من وقعها فى نفوسنا بوصفها عبارة بلاغية أو ميتافيزيقية أو لاهوتية.
ونود أن ننوه هنا إلى حقيقة تؤكد “فقرة الحوت” أن العقاد لم يلم بها على الاطلاق وبالتالى لم يفهم “معنى المعنى” عند الوضعيين المناطقة ذلك أن تمتع العبارة بالمعنى لا يعنى على الاطلاق أنها صادقة، ولاشأن له البتة بتقرير حظها من الصدق والكذب، وأنما يعنى فقط أن هذه العبارة قد بينت كيف يكون طريق تطبيقها على الواقع سواء وجدناها تنطبق فصدقناها أو لا تنطبق فكذبنا. وعلى ذلك فالوضعى المنطقى لا يحكم على عبارة النشوئيين” الحوت من الفقاريات” بالصدق ولا بالكذب على نحو قطعى بات، ولكنه يحكم بأن لها معنى بالتأكيد من حيث أنها تتحدث عن أشياء مما يمكن تصوره ومما هو قابل للتحقيق من حيث المبدأ وأن لم يتوافر لها التحقق الفعلى فى الحاضر ولا فى فى المستقبل القريب. وحين يأتى اليوم الذى يتيسر فيه التحقيق الفعلى فسوف يسفر هذا التحقيق عن أحد أمرين: أما أن يؤيدها فتكون صادقة أو يفندها فتكون كاذبة وتبقى العبارة فى الحالتين ذات معنى. بل أننا نزيد على ذلك فنؤكد أن عبارة من قبيل” الارض مسطحة” هى عبارة ذات معنى بالتأكيد، لأنها قبلت التحقيق التجربيى الذى أثبت بطلانها ورصد لها نصيبها من الحق والمعنى على الوجه التالى:
” الأرض مسطحة” عبارة كاذبة ذات معنى.
وهو تقويم لا يلحقها بنمط من العبارات المشوشة من قبيل “الجوهر لا يفنى” أو “العدم يخلو من الجواهر” تلك العبارات التى تؤكد الوضعى المنطقى أنها عبارات لا هى بالصادقة ولا بالكاذبة، أنما هى فقط عبارات غير ذات معنى.
وفى فقرة تالية يقول العقاد:
” لقد وجد الحس كثيرا ولم يوجد معه معنى كماهو حال الحس فى الحيوانات السفلى”.
وهى عبارة أن دلت على شئ فعلى على أن العقاد لا يميز بين الاحساس العارى sensation الذى تشارك فيه ألة التصوير وشريط التسجيل – بله الحيوانات السفلى – وبين الادراك الحسى perception الذى يتسلم هذه الاحساسات الخام من مركزها الخاص بالمخ فيترجمها الى احساسات مفهومة فى مركز مخى آخر ولا يعدم الاستفادة من العمل الترابطى الكلى للمخ ومن انطباعاته وخبراته السابقة. ويقول ايضا:
” وقد وجد الحس فى الانسان ولم يوجد المعنى على حسبه وبقدرة فليس الانسان صاحب الحواس النافذة اقدر الناس على استخراج المعانى وتأليف الصور الذهنية”.
وهى عبارات أن دلت على شئ فعلى أن العقاد يداخل بين مقولتى الكم والكيف على نحو معيب؛ فقولنا “أن الغذاء يقوى الجسم” لا يدحضه أننا لا نرى أكثر الناس شراهة وبطنة أقوى من أقلهم. كما تدلنا هذه العبارات على أن العقاد مصمم على أن يفهم ” معنى المعنى” كما يريد هو لا كما يشترط له الوضعيون المنطقيون فليتزمون به ويلزمون.
وفى الموضع التالى من مقاله يرد العقاد على الفكرة الرامية الى تجريد الأخلاق المعيارية من المعنى المعرفى أذ أنها تبحث فيما يجب أن يكون وما يجب أن يكون ليس كائنا لنطابق بين العبارات والوقائع ونتحقق من الصدق والكذب.
يقول العقاد:
” نقول نعم وكذلك الدائرة كما يجب أن تكون غير كائنة فى مناظر الطبيعة، فهل نحذف قياسها لأجل ذلك من حساب العلوم؟”.
فلعله مثال متخفى لما يمكن أن نسميه ” التفكير اللفظى” أو” الحجة اللفظية” التى تعتمد على تركيب منطقى فاسد يتخفى فى صياغة مشوشة تكثف ألفاظا أسئ استخدامها تكثيفا يربك المستمع ويجعله يشده ولا يعى وتسلمه للوجوم لا للفهم. هى خدعة تشبيهية تعتمد على خفة يد لفظية، نقلها العقاد عن بعض فلاسفة الأخلاق النظرية يعللون به الفارق بين سلوك فعلى وآخر مثالى. غير أنهم اذا سلموا بوجود سلوك واقع كائن يختلف عن سلوك مثالى يرون أنه “يجب” أن يكون،فلا أحسب الرياضيين المعاصرين- كما يضاهى العقاد مضاهاة غير مشروعة – يسلمون بدائرة شاذة متعثرة واقعية وأخرى مثالية كاملة البهاء والرونق ” ينبغى أن تكون” بنفس المعنى الأخلاقى.
ليس ثمة دائرة صالحة وأخرى طالحة.. لسبب بسيط هو أن الدائرة ليست كائنا فيزيقيا محسوسا ولا هى بالكائن الميتافيزيقى المغيب. وليست معرفتنا بالدائرة معرفة تجريبية حسية ولا هى بالمعرفة التأملية الغيبية وأنما هى فى الحقيقة مواضعة لغوية لرؤية عقلية صرف، فما الدائرة ألا” لفظ” تواضع الرياضيون على أن يشير الى مفهوم صورى واحد محدد تحديدا مطلقا.. فالدائرة هى الشكل المتخلف عن حركة نقطة على مستوى ثابت وعلى بعد ثابت من نقطة أخرى ثابتة، وهذا الشكل هو صورة محضة تدرك بالملكة الصورية العقلية لا الملكة الحسية التجريبية، أما الشكل الذى يرسمه المهندس بفرجاره على الورق فليس دائرة حسب تعريفنا الدقيق الصارم، وأنمام هو ” شبه دائرة” تقوم مشكورة بدورها كوسيط اعتبارى نستعين به على رؤية ” الدائرة الحقيقية” التى هى رؤية عقلية محضة.
وهذا التعريف للدائرة يدخلها فى زمرة المعرفات التى تدخل بدورها مع المصادرات والبديهيات لتشكل فروضا يستقر عليها النسق الرياضى الاستنباطى الذى يستل النتائج من المقدمات كما يسل الدقيق من الحبوب. فهو نسق صامت لا يقول شيئا عن العالم، كتوم لا يتورط بالافتاء فيما لا يعلم حصيف لا يجود بما لا يملك، وهو تكرارى لا يأتى بجديد، ولاتضيف نتائجه شيئا الى مقدماته(وهو ما تعنيه الوضعية المنطيقة بتحصيل الحاصل) أنه فى النهاية نسق صورى صرف، غير كائن ولا يجب عليه – من حيث كونه نسقا صوريا – ان يكون.
إن الدائرة المثالية العقلية بقياساتها ومواصفاتها لا يصح منطقيا أن تاخذ طابعا معياريا تجاه دوائر الواقع الناقصة بنفس المعنى الأخلاقى، فهى لا تنبئبنا بما ينبغى أن تكون عليه دوائر الطبيعة وأنما بما هى عليه بالفعل! وكلا الصنفين من الدوائر تخضع للقوانين الهندسية بنفس القدر، فالدائرة العقلية الكاملة تمدنا بغير شك بمعرفة تقريبية للدوائر الطبيعية الناقصة، بيد أنها لا ينبغى أن تتعالى على أشباه الدوائر التى تتخذها محيطات الأشجار ويخطها الأطفال على الرمال، وتفضلها بعض البحيرات وتملأها بالزرقة. أن الكرة العقلية الكاملة ليست أكرم على الواقع من الكرة الأرضية الناقصة، ولئن تفقها” كروية” فلقد فاقتها الأرض “أرضية”!!.
وفى الفترة التلاية يحاول العقاد أن يسوى بين الأحكام التجريبية وأحكام القيمة فى المرتبة المنطقية فيقول:
” لسنا نرى فى الواقع فرقا بين حقيقة تقول أن العدل جميل وأن الحبر أسود.. فاذا سألتنى ما هو الجمال سألتك: ما هو السواد فى وصف المداد؟ هل هو لون؟ هل هو ضد اللون؟ هل هو نقيض البياض؟ هل نفهم من مناقضته للبياض أو السواد حاصل بذاته بمجرد زوال البياض؟” .
هكذا يريد العقاد أن يرخى غلالة من الغموض المصطنع عساها تسوى بين صنوف العبارات،وتوحد بين الرتب بالغائها، وبين الرقاب بقصفها!! يريد أن يسدل على الجميع ليلا واحدا تبدو فيه جميع البقر سودا!! فيعمد الى ألاعيب لغوية عتيقة الزى نقلها عن قدماء لم يوفر لهم زمنهم أضاءة علمية طبيعية ومنطقية تخرجهم من كهوف الألفاظ وتخلصهم من شراك الحروف وتبصرهم بخداع النحو. فجعلوا يعبثون بألفاظ بريئة تواضع عليها الناس ويقلبونها ظهرا لبطن كما يعبث أطفال الشقاء بالسحالى والخنافس المنهكة.
ومن وجهة نظر وضعية منطقية فان عبارة من قبيل “الحبر أسود” لا تنتمى البتة الى نفس الفئة المنطقية التى تشمل عبارة من قبيل “العدل جميل”.فالقضية القائلة “الحبر أسود” قضية تجريبية تتحدث عن موضوع فيزيقى واقعى فتصفه “بالسواد” ذلكم الانطباع الحسى المباشر الذى يتفق فى شأنه كل ذى بصر ويعرفه معرفة بالاتصال المباشرknowledge by direct acquaintance وعلى ذلك فهى قضية تأليفية تحمل خبرا عن كائن واقعى، وقابلتها للتحقيق التجريبى تسبغ عليها “المعنى”.
أما عبارة من قبيل “العدل جميل” فيجب ألا تخدعنا صيغتها النحوية فتعمينا عن صيغتها المنطقية. فهى وأن اتفقت وسالفتها من الوجهة النحوية- من حيث اشتمالها على مبتدأ وخبر – فشتان بينهما من حيث البنية المنطقية. فاذا كانت عبارة “الحبر أسود ” تقريرا عن كائن واقعى فان عبارة “العدل جميل” تقرير عن حالة وجدانية… فقائلها يقصد فى الحقيقة أن يقول:” أننى أرتاح الى المساواة فى توزيع الحصص تولد فى مشاعر سارة”. وبترقية مضمونها من وجدان مغلق الى نزوع عملى تصبح كالآتى: “أننى أنزع الى المساواة فى توزيع الحصص وأحسبكم تتجهون نفس اتجاهى”.
فهى أذن عبارة تشير الى انفعالات المتكلم وتعمل على توليد انفعالات مماثلة لدى الآخرين. أنها فى النهاية عبارة خدعت العقاد بمظهرها اللغوى فظنها قضية تنطوى على حكم Judgment – شأن أختها التى حكمت على الحبر بالسواد – فى حين أنها فى أشد صورها فعالية ليست أكثر من توجيه أو أمر فحواه “فلنعدل” أو” علينا بالعدل”.
أننا هنا بصدد وصية مستترة لا بصدد قضية منطقية تقبل الصدق أو الكذب. أنها” حكم قيمة” لا يخرج عن كونه أمرا استخفى وراء صيغة نحوية خداعة. ونحن نعترف “للأوامر” و” الطلبات” بمعنى ما ولكنه معنى أداتى instrumental meaning لا معرفى cognitive meaning ونحن لاننكر اثر الأحكام القيمية فى الحياة الانسانية، ولكن هذا الأثر فى حد ذاته لا يمكن أن يعد” صادقا” أو” كاذبا”.
ومعنى هذا أن العبارات التقويمية لا تقرر شيئا ولاتشير الى شئ فلا سبيل الى تقديم “شهود اثبات” أو” شهود نفى” على صحتها أو كذبها.
وفى فقرة تالية من مقالة يقول العقاد رحمه الله:
” ماذا نفهم من قول الطبيب الجسدى أذا قال لنا عن دواء من الأدوية أنه شاف لبعض الأمراض؟ أفى قوله هذا معنى يخالف معنى الطبيب الأخلاقى حين يقول أن العدل دواء شاف لداء الفوضى والظلم فى المجتمعات؟ من الذى رأى فعل كل قطرة فى كل خلية جسدية فثبت له أن الشفاء قد حصل من تأثيرها. فلماذا يكفينا أن ننظر الى النتيجة لنصدق الطبيب؟ ولماذا لا نكلفه أن يرينا فعل كل قطرة فى كل خلية ثم لا نكتفى من الطبيب الأخلاقى بقوله أن العدل شفاء من داء الظلم والفوضى”.
ولست أقصد بسرد هذه الفقرة العقادية أن أفند مضمونها، فأحسب أن تحليلنا السابق للهوة المنطقية السحقية بين أحكام التجربة وأحكام القيمة.. بين صيغة تقرر واقعة وأخرى تضمر وصيته، كاف لبيان تهافتها. وأنما قصدت بسردها أن أكشف للقارئ اغتراب العقاد الشديد عن عالم المنطق ومناخ الفلسفة، عدم المامه بأبسط مصطلحاتها وأمعنها ألفة وبداءة. فهو لا يفرق بين التجريبىexperimental المعتمد على الاجراء المعملى وبين التجريبى empirical المعتمد على الخبرة الحسية بأشمل معانيها وأوسع ميادينها سواء المعملية أو غير المعملية، وهو ما نقصده حين نتحدث عن عبارة “تجريبية” أو قضية “تركيبية” أو صيغة ” أخبارية”. ولا يعلم العقاد أن قصارى مثل هذه العبارات أن تقرر خبرة حسية ألا أن تقرر ضرورة منطقية، بل أن قصارى القانون العلمى ذاته ان يصف سلوك الظواهر وصفا اختماليا ترجيحيا لا حتمية فيه ولا ضرورة، وباختصار أن الضرورة والاخبار لا يجتمعان فى قضية واحدة.
فعبارة الطبيب القائل:”هذا الدواء يشفى من هذا المرض” هى قضية تأليفية لا تقطع بسببية ولا تجزم بضرورة، ولا تدعى أكثر من تقرير ارتباط وتعاقب بين الظواهر.. شوهد فسجل. وبتحليلها تسفر عما يلى: ” لقد استخدمت الدواء (س) فى الحالات أ،ب،ج،د،.. الخ التى تشابهت فى المنشأ المرضى pathogenesis والتغيرات المرضية pathology والعلاماتsign والأعراض symptoms تشابها سول لى أن أجمعها جميعا فى حزمة واحدة وأسميها( المرض ص) على سبيل التدبر اللغوى المريح. وقد كانت النتيجة فى الحالات جميعا هو انتقاء الأعراض والعاملات والتغيرات الباثولوجية بشكل أثار فى نفسى عادة التوقع expectation الذاتية بأن ما سيجد فى المستقبل من الحالات المشابهة للمرض(ص) سيكون من المرجح أن تنتفى أعراضه وعلاماته وتغيراته الباثولوجية باستخدام الدواء(س) “.
ونحن اذ نحملق الى هذا التحليل ونفتش فى زواياه وخباياه لا يعثر على أثر لسببية ولادعوى بضرورة.
قلت أننى لا أقصد بسرد هذه الفقرة العقادية أن أفندها فلا العرامة فى هدم منهدم ولا الصرامة فى قتل مقتول. ولكنى أردت بايرادها أن أضع المنطق العقادى ذاته تحت الميكروسكوب لأكشف ما فى دولابه من فوضى وما فى سنتراله من تداخل. حتى القضية الأخلاقية التى وقع عليها اختياره عساه ينصف الأخلاق لا تخدم اتجاهه، لسبب بسيط هو أنها ليست قضية أخلاقية على الأطلاق أو أن شئنا دقة المصطلح فهى ليست قضية ميتا أخلاقية من النوع الذى افرده الوضعيون المناطقة بوصفه خلوا من المعنى. فهذه القضية العقادية “العدل شفاء من داء الظلم والفوضى” أو بالأحرى ” العدل دواء للظلم” أو” العدل يلغى الظلم” هى قضية لا تقرر قيمة ولا تأمر أمكرا ولا توصى بوصية بقدر ما تلقى درسا لغويا وتنوه الى اعتبار معجمى!! فهى تحصيل حاصل، والوضعى المنطقى يعترف لها بالمعنى ولكنه معنى ليس فى مقدوره أن يعيننا ولا أن يعين المجتمعات المظلومة اللهم إلا على الاستخدام الصحيح للفظ “العدل” ولفظ” الظلم”!!
وجهد عبارته بعد تحليلها أن تقول:
” أنك حين تسوى بين نصيب الفرد ونصيب أخيه ينتفى كونك لم تسو بين نصيب الفرد ونصيب أخيه” !!! أو” أن المساواة هى انتماء عدم المساواة” !! وشأن القائل بهذه العبارة كشأن القائل” أن العقاد ليس شخصيا غير العقاد” .
ولم يشأ العقاد أن يختم مقاله قبل أن يكشف لنا سوأة فكرية اخرى يحمر لها خد المنطق ويستحى لمرآها اى طالب مبتدئ فى الفلسفة فيقول:
” فلا ينس أن الحس والواقع مصدر تلك الضلالة وأن علوم العقل المجردة كالهندسة وما أليها سلمت من الآفات الحسية الواقعية التى يفتتن بها الوضعيون”.
فهذه عبارات كشفت ببساطة خلط العقاد بين وضعية كونت الفجة وبين الوضعية التى يهاجمها فى مقاله والتى هى “منطقية” أيضا وليست وضعية” عارية”. فالوضعيون المنطقيون لم يفتتنوا بالتجربة دون علوم العقل المجردة كما توحى عبارات العقاد، بل أنهم يرون أن قضايا هذه العلوم المجردة تشكل صنفا من صنفين لا ثالث لهما من القضايا التى تحمل معنى، وهذا بعينه هو الشق المنطقى من تسمية مذهبهم.
كما كشفت هذه الفقرة كشفا مجانيا عدم دراية العقاد بسر اليقين فى الرياضيات والمنطق، ذلك اليقين الذى يتوج العلوم” العقلية المجردة” وتعطل منه العلوم التجريبية “الحسية”. وما أحسبنى متجنيا اذا قلت أنه كشف يسحب الثقة فى الفكر العقادى لا بصدد الوضعية المنطقية وحدها بل بصدد فلسفات العصر وعلومه كلها سواء العقلية منها والتجريبية.
أنه كشف يؤكد أن العقاد عاش فى القرن العشرين بفكر ينتمى الى قرون سالفة ظن أهلها أن يقين العلوم العقلية يرجع الى طبيعية” العقل” ذاته وأن العلوم الطبيعية يجب أن تصطنع لها منهجا عقليا صرفا اذا شاءت الدقة واليقين اذ أن العالم الخارجى قد جاء على غرار العقل وطبيعته!!.
أما نحن أبناء القرن العشرين فنعلم أن قضايا الرياضيات يقينية لا لسر الهى اجتباها ولا لنفحة سماوية اكتنفتها!! بل هى يقينية ببساطة لأنها لا تقول شيئا!! ولا تذيع نبأ!! أنها تحصيلات حاصلtautology تكرر ولا تخبر.. هى قضايا مغلقة على حالها لا يعنيها الا اتساقها الداخلى.. هى تكرار قصد واحد فى رموز مختلفة.. هى قوالب فارغة انطوائية لا تقترف الخطأ لا عن فضيلة خاصة بل لأنها لا تتورط بالاخبار عن الطبيعة والافتاء فى أمر العالم بفتوى تحاسب عليها.
تنطوى القضايا الرياضية على رموز نتعارف عليها عند الاستعمال ومحددة بطريقة اتفاقية، فقولنا(2+3=5) قول صادق بنفس الطريقة التى يصق بها قولنا أن ابن الأربعين لا يكون فى الخامسة والعشرين من عمره!! أو قولنا أن الأعزب لا يكون متزوجا.. فكل هذه القضايا صادقة بشكل “قبلى” apriori دون أى شاهد تجريبى بل لمجرد تحليل المعانى المتعلقة بحدودها. لقد حددنا ما نقصده بالرموز2،3،=،5 وكل ما فعلناه أن كررنا الجزء الأول من هذه القضية فى جزئها الثانى. سر يقين الرياضيات أذن هو أن قضاياها تحليلية فى تحصيل حاصل وأنها عملية اعتصار نتائج ثم من مقدمات كانت تلك النتائج قابعة فيها أصلا فهى تحصيل حاصل… وصورتها: أ هى أ.
أما العلوم التجريبية فقضاياها تركيبية تأتنى بنبأ عن شئ، ويضيف محمولها خبرا جديدا الى موضوعها لم يكن متضمنا فيه من قبل، هى قضايا قيض لها أن تطل على التجربة، وحملت أمانة الاخبار عن العالم… صورتها أ هى ب وقدرها الاحتمال.
ويختم العقاد مقاله بالاشارة الى سكتس امبريكاس الذى انتهج نهجا تجريبيا وضعيا كان محصوله فى نظر العقاد ضئيلا هزيلا… يقول العقاد:
” ونؤكد له أن الحقائق التى كشفها سكتس أمبريكاس ذرة من هباء الى جانب الحقائق التى قررها ارسطو وأفلاطون وسقراط”.
وبعد أن نبدى عجبا واجبا تجاه هذا النكوص المفاجئ الى عصور عتيقة لا تمثل العلم ولا الفكر البشرى فى صورته الناضجة، متشفعين له بذلك الارتباط الوثيق بين الفلسفة واليونان فى الذهن “الشعبى”، غاضين الطرف عن ذلك التفريط الاصطلاحى فى لفظى “حقائق”،”قررها”!!
وعن ذلك الانتقال غير المشروع الى” كل” من خلال “جزء” لا يمثله خير تمثيل ومن خلال “عينة” شاذة غير محايدة، بعد أن نبدى هذا العجب الواجب نقول: أن الأتباع ليسوا حجة على المتبوع، وان محصول سكتس لا يدين منهجه ” من حيث هو منهج” “فالحقائق” التى كشفها سكتس ليست هى كل ما يمكن أن يكشفه منهجه التجريبى، وما هو حق مما كشفه أرسطو وأفلاطون وسقراط لم يشرق بالضرورة من مبازغ تأملية ميتافيزيقية.
على أن العلم المعاصر الذى هو” وضعى منطقى” يضفر الاستدلال الصورى بالتحقيق التجريبى- قد أتى “بحقائق”!! لا نرى ” حقائق” أرسطو وأفلاطون بجانبها الا ذرة من هباء.
ولا يخفى على دارس الفلسفة المتخصص أن أرسطو لم يكن منهجه خلوا من مسحة وضعية أو” خطوة تجريبية” وأن الحدس العقلى للماهيات عنده أنما يتم من خلال الاستقراءات التجريبية الحسية ولاينشأ من فراغ.
وبهذه الفقرة “الهزلية” ينتهى المقال الذى لم أقصد بتفنيده أن انتصر للوضعية المنطقية، وأنما قصدت أن أسد بعض “مسارب” ينفذ منها نفوذ العقاد الى أرض غير أرضه. فالشهرة بين عبده القديم وحش يعيش على الموت ويتقوت بالسنين، فما يزال يتورم وينتفخ حتى يمنع الهواء ويحجب الضياء ويرهب الجبناء. وما تزال العامة تقتدى ببطل الرياضة أو بنجم الشباك حتى فى الأمور التى لا يكون للبطل فيها مؤهلات خاصة تجعله أولى بأن يتبع؛ فبراعة فلان فى التمثيل أو فى الملعب لا حق لها فى تزكية سيجارته أو عطره المفضل، ورهافة حسه فى فنه الخاص لا يلزم أن تمتد بالضرورة لتشمل ذوقه فى التدخين أو فى التطيب.
كذلك لا يجب أن تأخذنا شهرة العقاد المدوية فتخنق فينا ملكة النقد وتعمينا عن عيوب سافرة فى نسيجه وثغرات فادحة فى بنيته. فسيولة القريحة وفخامة اللغة وسمو الأسلوب لا يقرب المرء شبرا من خدر الفلسفة المعاصرة التى تجهد لأن تكون علما دقيقا لا لهوا لفظيا وخفة يد slight of hand ” كلامية”. وملكة التجريد والنفاذ الى الأرصدة المنطقية من خلال رخام التراكيب النحوية وركام الخبرات الجزئية لا شأن لها بملكة تحفظ التواريخ وتخلق التشبيهات وتغازل المجازات وتؤلب النحو وتستنفر الألفاظ!! وماأظننى مغاليا اذا قلت أن فكر العقاد لا يعدو أن يكون “فكرا نحويا لفظيا تشبيهيا”، تستعبدة نتيجة مسيطرة فما يزال ينوع عليها تنويعا خطابيا جدليا كلاميا، تارة يكورها ويمطها ويضيئها، ويزيدها وضوحا وجلاء لا صدقا وبرهانا. فأفكاره تزكى نفسها، ونتائجه تتقوم بذاتها ولا تثبت بمقدمات خارجة عليها زائدة عنها. ففكرة العقاد – فى الأغلب الأعم- لا تعدو من وجهة نظر منطقية أن تكون مصادرة على المطلوب، فهى نتيجة conclusion تدس نفسها كمقدمةpremise ، متخفية فى ثوب لفظى مختلف أو متلثمة بلثام نحوى محكم أو متنكرة فى هيئة شاهد أو مثال. فهى المرشح والمصوت، وهى الممثل والمصفق، وهى المقدمة والنتيجة.
وبعـد …….
فماهمنى العقاد بل القارئ. أفتح عيونه على الخرافة فعساه يشده. وأعمل مقصى فى حبله السرى فعساه ينزف فينفصل.. ويتسلم هاويته.. ويحتضن مغبته.. وينغمد فى كبد مغامرته الفكرية الخاصة.
فأن أفلح مقالى فى أن يقلق استنامه.. ويهمز سكونا.. ويهز قطعية dogmatism أكن قد بلغت طوق الأمل وحمادى المراد… وأن ارتد الى طرفى وزجرتنى أصدائى.. ابتلعتها وتأبطت عزائى.. وركبت دهشتى والجا فى الجنح.. ضاربا قطع الظلام ضربات كيخوتية ما زلت أعلم أنها لا تسلم .
[1] – الجزم (بفتح الجيم) القطيعة أو الإيقانية أو – باصطلاح الفلاسفة – النظرة الدوجماطيقية كنقيض للنظرة النقدية.
[2] – بين الكتب والناس : عباس العقاد، دار الكتاب العربى، بيروت سنة 1966 ص 411.