عدد أبريل 1982
الافتتاحية
د. يحيى الرخاوى
-1-
يجرى دم جديد فى تحرير هذه المجلة نأمل معه وبه أن نكمل هذه المرحلة التجريبية التى لم تتبلور بعد لننطلق منها الى حيث يمكن وينبغي.
ويصلنا انذار هاديء من مؤشرات تنذر ببحث المجلة عن قارئا بنفس القدر الذى تحاول به تجديد ماهيتها.
ونشعر أن الاستمرار فى ذاته ليس انجازا كما انه لم يكن مطلبا، بل ربما يكون عنادا أو اصرار أو حتى قصورا ذاتيا، وان فرحتنا بقدرتنا على الاستمرار معناه الايجابي، ذلك أن الأمر قد يرجع الى الامكانيات دون الفاعلية أو الى الحماس دون العطاء الأصيل، الى آخر هذه الاحتمالات.
وفى مراجعتنا اللازمة للأمل والممكن، نتذكر عهدنا أن تحاول هذه المجلة “ما ليس كذلك” فهل يا ترى فعلت؟.
وقبل أن نجيب على هذا التساؤل نرجع الى النقد الأمين الذى قال به الأديب الناقد علاء الديب منذ لحظة صدورنا، والذى نستطيع أن نوجز مجمله – بعد أن هدهدنا برفق – فى قولة ناصحة حذرة تقول ما معناه : “واحدة .. واحدة .. ولا تتعدو الاختصاص تفيدوا وتستفيدوا”، والواقع أن مثل هذه النصيحة أطلت علينا من بيننا فى السنة الثالثة بشكل شديد الاغراء، فالحديث فى التخصص سهل مأمون، حيث يحمل حق الفتوى وسلطة الاحتكار وبريق الاضافة المعرفية بغض النظر عن لمس جوهر الحقيقة، ولكنا تعهدنا أن نعلن عجز تخصصنا وأن نحدد حجمه قبل – ومع – استعمال لغته، وقد حاولنا ذلك حتى لم نعد نملك حق الفتوى ولا ارهاب الاحتكار، ومع ذلك فمازال الناس – أغلب الناس – فى شوق لمعرفة أنفسهم من خارج (من خارج أنفسهم)، فما أخطر اللعبة وأبعدها عن تعهدنا المبدئى منذ صدورنا.
اذن … فلا .. ولندفع ويدفع قارئنا الثمن باختيار واع.
-2-
ونعيش فترة “خاصة” فى مصرنا فى عصرنا، وأحب أن أسميها فترة التوقع المخلوط بالأمل الغامض، كما أنها تبدو كأنها فترة التقاط الأنفاس بعد لهاث الجرى فى الطريق الوعر الرائع الشائك معا، وفى ظل البساطة المغرية والوضوح المتحدى تعود أصوات جادة للمشاركة الآملة، وتطرح اقتراحات واقعية، وتتحرك الجموع فى تطلع متشوق.
ولا نستطيع أن ننسلخ عن كل هذا تحت دعوى لوننا العلمى الثقافي، فقد تزيد فرص انتشار كلمتنا مع زيادة جرعة الجدية، وقد يجد الباحث “عن معني” بعض مطلبه معنا حين تهتز قيم المظاهر للمظاهر، وقيم سعار الامتلاك الجبان، نعم .. من حقنا أن نأمل مع الآملين .. ولم لا؟.
ولكن من واجببنا أن نحذر أكثر من الحذرين، وأن نتذكر ونذكر بمخاطر الافراط فى الأمل والافراط فى النسيان، فليس من المطمئن أن تنقلب الآية الى “كيفما يول عليكم تكونوا..” بدلا من “كيفما تكونوا يول عليكم”، وليس من المطمئن أن نتجاهل المكاسب الرائعة حتى لو كانت نبعت من سمات شخصية خطيرة، ولا أن نرتاح تماما الى الحسابات الهادئة بينما قد نحتاج الى ضربات متلاحقة حتى لو أخطأت أحيانا شريطة أن يكون النتاج النهائى هو بالايجاب.
ان التحدى الملقى علينا جميعا هو أن نعرف كيف نجمع بين رؤية، العيوب – وخاصة فى الرؤساء – والاستفادة من المزايا، بين تحمل الأخطاء واستيعاب العطاء، بين الحب المعترف بالجميل مع القدرة على النقد الواعي، أما الافراط فى التشفى بأثر رجعي، والتقديس بأمل غير واقعى فهذا ما تظلم الناس بالناس وخاصة الرؤساء وهم فى مواقع شديدة الحرج مفرطة الحساسية خطيرة التأثير.
ولعل اسهامنا فى كل ذلك هو أبعد الاسهامات عن المباشرة وأكثرها تواضعا، ولكنا نأمل أن يكون فى الاتجاه الصحيح مهما بدا صوتنا خافتا وسامعونا قلائل.
-3-
ويجدر بنا ونحن نرحب بالدم الجديد (فى البلد والتحرير معا)، أن نفرح بجرأة الزميل د. عادل مصطفى على فتح ملفات “العملاق” العقاد شخصيا وهو يحاجيه حول نقده “للوضعية المنطقية” وهو يبدو فى ذلك متحيزا لهذه الوضعية بدرجة لم يعتد قاريء هذه المجلة أن يجد محرريها وقد تبنوا مثل ذلك، ومع هذا فان فرحتنا بالزميل الشاب تكمن في: ان هذه المجلة قد صدرت لتناقش المقدسات والمسلمات، وأستاذنا العقاد يبدو من المقدسات والمسلمات عند قطاع كبير من القراء العرب، ولكن صديقنا الشاب يكاد يعلن – باحترام وتواضع – أن الأوان قد آن للتخلص من اشاعة عدم تكرار العملقة، ومن المبالغة فى احترام مجرد الموسوعية، وهذا لا يعنى أن أستادنا العقاد لم يكن الا عملاقا موسوعيا فحسب، وانما قد يعنى أنه كائنا ما كان، فان هناك ما يقال فيما قال، وأن “كم” الفكر، و “اغارة” النشر لا تمنع أن يقول شاب مجتهد رأيه فيما قرأ دون قيود قامعة، ونحن نعترف أن أستاذنا العقاد لو كان حيا لأمسك بمقود عنقه (مع الرحمة) أو بتلافيف أمعائه (مع الأرجحة)، وقال فيه ما شاء له القول واللسان أن يسعفاه به، ولست واثقا من قدرة انبراء مريديه لفعل ذلك بأمانة كافية وسحق مناسب، وعلى أى حال فلتتسع الدوائر حول الحجر الملقى ولنأمل أن نستمع ونتحمل، وسواء أصاب هذا الشاب أم أخطأ فان مجرد فتح مثل هذا الباب ليشعرنا ببداية جديدة لفحص ملفات قديمة مهما كانت مخطوطة بسلاسل الذهب ومغلفة بموانع الفكر الحديدية، ولنا حق الخطأ وواجب التعلم وفضل الاثارة وحث المراجعة.
-4-
ومازالت مواضيع المجلة فى قسميها لا تهتم أساسا – أو كلية – بالتفوق أو الجودة لذاتها بقدر ما تهتم باضاءة زاوية خافتة أو عرض فكر بكر حتى لو كان متناثرا، نقول هذا بمناسبة ما وصلنا من بعض التعليقات التى تقيس ما ننشر بمقدار ما هو مصقول يد الصنعة، فى حين أننا قصدنا ونقصد توظيف هذه المادة “الخام” فيما يمكن أن تضيف به، وما يمكن أن يتخلف منها وخاصة من غير صاحبها.
-5-
ثم ننتقل الى قرائنا القلائل ممن تفضلوا ببذل الجهد والعناية لدرجة أن أرسلوا يحاوروننا ويحيوننا ويهجوننا فيوقظونا (أن أمكن)، ونقف مليا نحاول أن نصر على نوع الحوار الذى ارتضيناه دون انزلاق فى الدفاع والتبرير، ويشترك فى حوار هذا العدد ضيف عزيز – هو صاحب بيت بالضرورة – وهو الأستاذ الدكتور محمد شعلان ليعيد بدء ما بدأناه، وكنا قد بدأنا بالمراسلة عبر المحيطات منذ أكثر من خمس عشرة سنة، ثم انتقلنا الى المجاسدة منذ بضع سنوات طويلة، وتخافتنا بالمكاتبة لشهور تالية، ليقوم الصمت بعد ذلك بمواصلة الحوار طوال أعوام مشحونة. وها هو ذا يعود لنبدأ من البداية .. ولم لا؟ ولم لا نأمل فى مشاركة أوسع لنتعلم أعمق؟ ولم لا نتجرأ بالهدوء والصبر لنعرض ما يمكن أن يفيد من يمكن أن يستفيد من واقع حوار لم ينقطع بين اثنين ممن يتصورهم الناس قد أنهوا مشاكلهم بمجرد لصق اللقب أو احتراف حل مشاكل الآخرين؟.
ونحن نكاد نعرف ابتداءكم هى قضية محفوفة بالمخاطر واحتمالات التسطيح وحوار الكر والفر، ولكن أليست هذه هى طبيعة كل محاولاتنا فى هذه المجلة؟ فليكن .. ولنبدأ من حيث بدأنا .. وليشهدنا الناس.
كذلك يواصل الارسال فى هذا العدد ضيف العدد الماضى (م. عبد السلام .. ولعله هو)، ولا نعرف من عنف قسوته وثورته ان كان سيسمح لنا بالاستمرار معه أم أن فض الاشتباك الذى أعلنه كان يأسا نهائيا مما نحاوله، أو مما هو نحن، أو ما تصوره كذلك.
ويحل ضيوف آخرون، ويستمر القدامى فى كرم سمح.
-6-
ثم يجد القاريء ما اعتاد أن يجد، ولكنا نتعمد هذه المرة أن نضيف الى معلوماته الأساسية بعض المعرفة الطبية النفسية المباشرة من خلال مراجعة وتقديم علاج شائع هو الصدمة الكهربائية من منظور يتعلق بالتعريف بماهية الانسان كما تعلمناها من خلال هذا العلاج وما يمكن أن يعنيه.
ونعتذر – لأسباب كثيرة – عن تقديم الباب النقدى للأدب فى هذا العدد واعدين بالعودة القريبة لا محالة.