باب جديد قديم
ندوات الجمعية
إبريل – مايو – يونيو 2001
تصدير:
هذا الباب ليس جديدا تماما، فقد سبق أن قدمت هذه المجلة موجزا لبعض الندوات، التى تقيمها جمعية الطب النفسى التطورى والعمل الجماعي، مثل ندوة “حدس اللحظة; لبشلار، أو إسلامية المعرفة أ.د. عبد الوهاب المسيرى أساسا)، كما أن كثيرا مما ينشر فيما يخص النقد الأدبى يكون قد نوقش – فى الأغلب- فى ندوة من هذه الندوات (ظل هذا التقليد حتى هذا العدد ، فنقد يوسف عزب لرواية حديث الصباح والمساء المنشور (ص 180)، هو موضوع ندوة من هذه الندوات).
الجديد فى الموضوع، أننا قررنا أن تمثل موضوعات الندوات بابا ثابتا فى هذه المجلة، حتى لو لم يزد تلخيص ما دار فى الندوة عن صفحة أو بضع صفحات. وسوف نكتفى فى هذا العدد بتقديم ندوات (1) ندوة إبريل2001: فيلم: مدينة الملائكة (تقديم ونقد: د. أحمد عبد الله ود. حسا م حشمت)
(2) ندوة مايو2001: المسيح اليهودى ونهاية العالم (تأليف: رضا هلال) (نقد وتقديم: د. إيهاب الخراط، والباحث أ. جلال الدين عز الدين)
(3) ثم ندوة يونيو 2001: مقتطفات من شعر د. أحمد تيمور (من ديوانى البراكين الطيبة. شجن شجر الشوارع. تقديم د. أحمد عبد الله ، ود. هانى يحيى).
دعوة وإيضاح
شروط هذه الندوات كانت ومازالت واضحة منذ البداية، وإن كان لا بد من الاعتراف بأنها لم تستوف أبدا. مثلا: كان، وما زال يشترط، أن من يحضر الندوة ،لا بد أن يكون قد قرأ العمل الذى سوف يقدم مسبقا، وهو أمر لم يعد يفى به إلا أقل القليل.
الأمر الذى ما زلنا متمسكين به لدرجة أنه لو اختفى فينبغى أن توقف هذه الندوات فورا، ( مثلما هو الحال مع هذه المجلة) هو أن يكون الهدف هو تحريك الوعي، لا استعراض المعلومات، وأن يكون الأمل فى استيعاب الآخر،أكثر من الانتصار عليه، وأن يخرج المنتدون من الندوة غير ما دخلوا، ولو بنسبة واحد فى المائة. إنها تحديدا ليست استعراضا موسوعيا، ولا معركة كر وفر للأفكار المتصارعة. إنها فرصة لإعادة النظر، والتفكير بصوت مسموع متعدد معا.
ننتهز هذه الفرصة، فندعو القراء لمشاركتنا هذه الندوات القادمة التى كنا نود أن نعلن عنها مسبقا، لكن تجربتنا السابقة أثبتت أن ما نعلن عنه، قد لا يكون هو ما نلتزم به لظروف مختلفة. إن هذه الندوات تعقد في:
قاعة الندوات فى مستشفى دار المقطم للصحة النفسية ، شارع عشرة ، مدينة المقطم الساعة السادسة مساء أول جمعة من كل شهر طول العام.
إننا أيضا ندعو القراء إلى التعقيب على ما نقدمه تلخيصا لهذه الندوات، بدءا من هذا العدد .
ونحن نرحب بأى شكل من التعقيب بالإضافة ، أو بالاستفسار، أو بالرفض، ونعد أن ننشر ما يصلح منه فى عدد تال .
(1) ندوة إبريل2001: فيلم: مدينة الملائكة
اقترح الفيلم: د. أحمد عبد الله
المقدمان: د. حسام حشمت ، ود. أحمد عبد الله
[فكرة عرض فيلم فى هذه الندوات لها تاريخ دال، ومع أنها نشأت كمهرب لالتقاط الأنفاس، مرة كل ثلاثة أشهر بديلا عن الالتزام بقراءة الكتاب”المقرر”، إلا أن التجربة أثبتت أنها كانت تجربة ثرية، حققت نفس أغراض الندوة العامة، وأحيانا ، بشكل أفضل من كتاب]
أولا: موجز الفيلم: (د. أحمد الفار)
يقدم لنا هذا الفيلم طبيبة، جراحة قلب “ميج رايان” علمية جدا، تقوم بعملها باحتراف ودأب كما يقتضى العلم، ولا تتحمل إمكانية حدوث نتائج مخالفة لما يقتضيه هذا الفهم العلمي، أو ما تنبئ به تلك السببية المباشرة، وهى بالتالى لا تؤمن بوجود مغاير لهذا الوجود العيانى الذى نعيش فيه…، وهى مرتبطة بعلاقة عاطفية (عادية). وهى تعانى من القلق والأرق الدائمين.
يراها أحد ملائكة الموت”نيكولاس كيج”، والذى كان مكلفا بقبض روح أحد مرضاها، ويرى جسامة الصدمة التى تعانيها من جراء موت هذا المريض، يتعلق بها هذا الملاك ويظهر لها. وتقوم بينهما علاقة ما، ومع إدراكها لاختلاف هذا الكائن وتفرده، تكتشف أنه بقدر ما يبدو حساسا وعاطفيا; إلا أنه يفتقد حاسة اللمس أصلا – (لا يشعر باللمسة)، وهو يتعجب حين يشاهد أو يسمع كلمة “لمس touch، كما أنه لا يشعر بالألم فهو لا ينزف أو يتألم إذا جرح، يبدو أن هذا هو تركيبه الحسي. وهى تندهش، وتفكر، وتتردد، وتهم أن تنأى عنه تشككا وريبة، رغم ما يجذبها فيه من غموض وسلاسة.
مع دخول هذا الملاك حياتها وإدراكها لوجود مخالف، تتسحب راحة غامضة مدغدغة إلى وجودها، فتطمئن إليها، وتنام لأول مرة دون قلق، بل وتكتسب نوعا من الحدس فى عملها لا يتوافق مع منطقها المادى السببى المباشر.
يلتقى صاحبها الملاك بالمريض الذى كانت تعتنى به مؤخرا هذه الطبيبة الجراحةالفائقة المهارة، ويكتشف أنه (المريض) كان ملاكا، ثم قرر أن يمارس اختياره الحر، وأن يتحول إلى بشر بوصفة محددة لتحقيق ذلك، كان عليه أن يسقط نفسه من شاهق، من عمارة بالغة الارتفاع ، ناطحة سحاب مثلا، يسقط منها كحقيقة أو كرمز، فيتحول إلى إنسان يستشعر الأحاسيس; من ألم وجوع وعطش وسعادة، مثله مثل سائر البشر.
يستمع الملاك الذى أحب الطبيبة إلى قصة المريض الذى صار بشرا، ويقرر أن يتنازل عن ملائكيته، ليستطيع أن يقترب من حبيبته ويلمسها ويشعر بما تشعر به، ثم إنه يتبع تعليمات المريض(الملاك السابق)، فيسارع بإلقاء نفسه من شاهق. يرتطم بالأرض، مجروحا (غير مهشم)، فيتحسس الدم على جبهته، ويفرح فرحة طاغية أنه أحس بلزوجته وبرائحته وتبدأ علاقته بالأحاسيس والآلام والمشاعر البشرية، فيصورها مرتبطة بكل ما هو نابض حي، وهو لا يصدق كل هذه الثروة ويبدو مستعدا لدفع ثمنها كاملة(بالإضافة إلى تنازله عن ملائكيته). ولتأكيد ثمن هذه البشرية، يصور الفيلم كيف بدأت علاقته بعالم البشر بتعرضه لحادث اعتداء من قطاع طريق محدثين. لكنه لا يبدو متراجعا ولا نادما.
يسارع الملاك الذى أصبح بشرا بالذهاب إلى حبيبته هائصا راقصا ، لا يكاد يصدق أنه يعيش هذه الأحاسيس وهو يسيل منه الدم، فرح به، متألم له أجمل الألم، منتشيا ، لا يصدق أنه مارس حريته فى اختيار أن يحس وأن يتألم.
ومع متعة الاكتشاف المتبادل: اكتشافه لعالم البشر والإحساس، واكتشاف الطبيبة الجراحة لعالم روحى مغاير، وبعيد لقائهم الجميل النابض الواعد بسعادة بشرية مليئة بروعة الألم، وجمال الإحساس، ونبض المفاجآت ثمنا “للإرادة الحرة”، تحدث مفاجأة ليست فى الحسبان:
فى حادث عشوائي، تقع الطبيبة مصابة بعد أن صدمتها شاحنة (لورى) ضخمة، يلتقط الحادث حبيبها عن بعد بحدسه الحاد، يأخذ فى العدو نحو مكانها بإلهام خاص، ولا يلحقها إلا وهى تحتضر. يحاول أن يمنع نهايتها بأمانيه، ويتذكر دوره السابق وهو يقبض الأرواح، ولا يستطيع أن يفعل شيئا.
يسألها وهى بين ذراعيه، إن كانت ترى أحدا يحوم حولها، فتجيبه بالإيجاب. فيعرف أنه ملاك الموت جاء ليقبض روحها. كانت بداية الفيلم تشير إلى موت طفلة فى الرابعة، يسألها هذا الملاك (قبل أن يصبح بشرا) ماذا كان أكثر كنت شيء تحبينه (فى الدنيا) ؟ فتجيب الطفلة (بعد موتها، وهى تمسك يده):قميص النوم الصوفى الناعم. وحين صار بشرا، أخبر حبيبته الطبيبة أن هذا هو السؤال(التقليدى) الذى يسأله كل من يفارق الحياة. تتذكر الطبيبة ذلك وهى تحتضر، وتقول له إنهم إذا سألوها ما ذا كان أكثر ما تحبينه، فسوف تجيبهم أنها كانت تحبه هو. نفس السؤال الذى بدأ به الفيلم .
بعد دفنها يأتيه صديقه الملاك (كان أسودا بالمناسبة)، ليسأله هل يندم على خسارته للأبدية، باختياره أن يتنازل عن ملائكيته، بمحض حريته ليكون بشرا من أجل حبيبة محدودة العمر، تركته بالموت هكذا دون سبب وجيه، هل لو كان يعلم تلك النهاية (الحتمية) كان سيقدم على ما فعل. يجيب الحبيب البشرى الحر: إن لمسة واحدة من شعرها، أو قبلة من فمها، تـفـضل الأبدية بدونهما.
وينتهى الفيلم، وهو إنسان يمارس حياة بشرية عادية، فى حضن ومواجهة موج البحر.
ثانيا: تقديم د. أحمد عبد الله (اختصره بقلمه)
يناقش هذا الفيلم علاقة الإحساس بالجسد، وكيف صارت علاقتنا بالجسد سيئة، حتى أنه قد صار لدينا اقتناع أن المشاعر لكى تكون سامية، ينبغى أن تنفصل عن الجسد، يوجد فى ثقافتنا خلط بين ما هو حسى Sensual وما هو جنسى Sexual، ولكن الحقيقة هى أن المشاعر وحتى الأفكار لا يمكن فصلها عن الجسد، وعن التمثيل الجسدى لهما. إنه لا توجد مشاعر مؤلمة، ومشاعر جميلة، وإنما هى ضفيرة واحدة. الإحساس بالجرح لازم للإحساس بالتئام الجرح، كما أن الوجود منظومة واحدة ، (مش يوم حلو ويوم مر). هما وجهان متلازمان، وبدون وجود هذا الإحساس المتنوع المتبادل المتداخل، لا توجد حياة.
هذه الحياة بكل تعقيدها، وبكل أفراحها، وآلامها، وجرحها، أصبحت دافعا كافيا لهذا الملاك ليتخلى عن أبديته ويغامر هذه المغامرة، وينزل إلى الحياة الأرضية، وهو لم يتراجع عن هذا الاختيار رغم كل ما مر به، وبالتالى جاء الموت فى هذا السياق ليس كنهاية حياة، وإنما كانتقال إلى مرحلة مختلفة من مراحل الوجود.
يناقش الفيلم أيضا قضية الإلحاد: هذه الطبيبة لا تؤمن بوجود آخر غير الوجود المادى العياني، وحين أعلنت ذلك لهذا الكائن حين تجلى لها فى البداية، رد قائلا: “إن بعض الأشياء حق، ولو لم نؤمن بها”. وحين بدأت الطبيبة الجراحة تؤمن بوجود آخر مخالف لما تعرف، حدث تغير فى استقبالها للحياة، واستمتاعها بها، حتى الطريقة التى تقود بها دراجتها اختلفت، كما أنها أصبحت تتمتع ببعض الحدس الذى يخالف طريقة التفكير الخطى المنطقى التى تمارس بها عملها، كما أوضح الفيلم فى البداية بشكل محدد دال. الفيلم يقول: إننا إذ نلحد، نفقد أشياء كثيرة .
وصلنى أن الفيلم يعلمنا – بطريق غير مباشر – أن هذا الإدراك الحسى هو جزء من الإيمان.(!!)
ثالثا: تقديم د.حسام حشمت (اختصره بقلمه)
أولا: أرى أن الفيلم يتعرض بطريق غير مباشر لمفهوم الحقيقة، وهل هى نسبية أم مطلقة، فنجد فى الفيلم إشارة إلى طبيبة مخلصة متفانية لا تؤمن بالغيبيات، أو بوجود الله، أو أى عالم آخر غير المحسوس والملموس، ومع هذا كان هناك عالم آخر، روحي، يسير بشكل يمكن وصفه بأنه متوازي، بل وأحيانا متداخل مع العالم المادي، فنرى فى الفيلم أن عدم إيمان هذه الطبيبة بهذا العالم لم ينف وجوده، بل إن عدم إيمانها به لم يمنع-أيضا – تدخله وتأثيره عليها بشكل شخصي. وضح ذلك فى تفاعلها إزاء وفاة مريضها.
أعتقد أن هذا يؤكد أنه توجد حقيقة واحدة مطلقة كلنا نسعى لكى نعرفها، وأن فكرة أن الحقيقة هي”وجهة نظر”، بمعنى أن ما هو حقيقى لى غير ما هو حقيقى لك، ليست فقط ساذجة، لكنها أيضا خادعة، وتدعو إلى عدم السعى للمعرفة.
ثانيا: أثار هذا الفيلم قضية نوع ومدى احتياج الكائن البشري، فكما نرى فى الفيلم، أنه يوجد مستوى آخر من الاحتياج غير الحاجة إلى أن أشعر، وأجوع، وأتألم، هذا المستوى يعلن الحاجة إلى أن” أحس”، وهو موضح فى طول الفيلم وعرضه حتى تركز تماما فى مشهد القبلة فى المكتبة، فالطبيبة انزعجت بشدة عندما قبلها الملاك، ليس لأنها لم تشعر به، ولكن لأنه لم يشعر بها، وكأن احتياجى ليس فقط لأن أحس، وإنما لأن يحس بى الآخر، كذلك أنا لا أحتاج فقط أن أري، ولكننى أيضا أحتاج أن أري. يظهر ذلك فى مدى سعادة البطل عنما تحول إلى إنسان، وهو ينبهر إذ يتكد أن العمال الواقفين يستطيعون رؤيته كما هو، بضعفه ودمائه، وألمه.
ثالثا: (وهو ما أعجبنى بشدة) إن الفيلم قد صور عملية ولادة إنسان، فبالرغم من أن أحداث الفيلم أشارت إلى أن عملية الولادة هذه تمت فى النقلة من ملاك إلى إنسان، أثناء السقوط من شاهق، إلا أننى أعتقد أن عملية الولادة قد حدثت طوال المدة من أول هذا المشهد حتى نهاية الفيلم. بل إنها لم تكتمل فعلا إلا فى المشهد الأخير حين قـبل خسارة أهم دافع فى حياته، الدافع الذى جعله يترك نوعا من الخلود لكى يدخل إلى عالم من المحدودية، والمرض والألم.
فى اعتقادى أنه كإنسان، لم يكمل إلا عند هذه النقطة، وهى “عدم التوقف عند الخسارة”. إنه بدلا من أن يتوقف محبـطا ، تمثل الخسارة كخبرة مكملة ، لا نهاية ميئسة.
إننى أرى أيضا أن هذه النهاية تشير إلى أن احتياجه لم يكن لهذه الفتاة أو هذه العلاقة بالذات، بل كان احتياجا لهذه الحياة و هذا الوجود المختلف، الذى لم ينته بوفاة البطلة.
تعليق د. أحمد حسين (كنموذج من معالم المناقشة. كتبه بقلمه)
استعرض الفيلم العديد من القضايا التى تمس أزمة الإنسان المعاصر، والذى صنع حضارة هائلة لها سماتها الخاصة، لعل أهم ما يميزها هو العقل والفهم والوضوح والإتقان. لقد قامت الحضارة الحديثة تبعا لذلك بعدم الاعتقاد إلا فيما يراه الإنسان ويثبته العقل، ومن ثم إنكار ما دون ذلك. ونظرا لما حققه هذا المنهج من إنجازات للإنسانية يصعب إنكارها، سلم الإنسان وجوده لما أفرزته هذه الحضارة من قيم مقدسة، حتى وصل الإنسان المتحضر إلى أزمته، أو مأزقه الوجودى الراهن.
اهتم صانعو الفيلم بمناقشة أزمة الفرد فى علاقاته بذاته، وبالآخر، وبالله وبالخلود، وبالموت.
قدم الفيلم أنماطا متعددة من البشر المتحضرين، حيث نجد أن بطلة الفيلم الطبيبة جراحة القلب تتقن عملها، وتنفذ ما يفرضه عليها العلم المثبت فى المراجع وتنفذه بحرفية شديدة، ومهارة فائقة، حتى تتوقع نتيجة لذلك أن مريضها لن يموت، بل إنه ليس مقبولا أن يموت، ما دامت هى قد قامت بفعل كل ما هو صحيح كما أملاه عقلها، وعلمها ومهارتها. هى تؤكد أن المريض لن يموت، ولن يذهب إلى أى مكان آخر( لأنه لا يوجد سبب لذلك الآن من منطق سببى). هى نفسها الإنسانة التى شعرت بالعجز الشديد، وقلة الحيلة عقب وفاة المريض، وهى التى تعانى من الأرق وعدم القدرة على النوم بعمق. إنها تقيم علاقة مع زميلها الطبيب الناجح، الذى يراها عالية الكفاءة ، قريبة منه، تشاركه الكثير من أفكاره ، تزامله فيتكلمان لغة مهنية واحدة، باهتمامات مشتركة، فيصبح عرضه الزواج منها قائم على الندية فى المستوى المهني، والعقلي، وإشباع الرغبات الجسدية. هى صورة بدت أقرب إلى الحسبة الواقعية المعقولة (لدرجة كادت تبدو ميكانيكية ). هذا النوع من الوجود يمكن تلخيصه فى فقرة واحدة تقول:
“إن البشر قد قبلوا أن يسجنوا أنفسهم فى قالب من صنع عقلهم، فتنازلوا طواعية أو كرها عن الأهم من وجودهم، وهو الجزء المؤمن بالخلود، والقابل لما هو غير مدرك بالعقل، وغير محسوب بالمنطق”
على التوازى ، قدم بطل الفيلم النموذج المقابل للوجود، وفضل صانعوا الفيلم أن يتجسد هذا النموذج فى ملاك ،ربما قصدوا إلى تعميق شعور المتلقى بعمق الاختلاف. لكننى خلال مشاهدتى للفيلم – التى تكررت أربع مرات- لم يصلنى بطل الفيلم كملاك، لكننى استقبلته كنوع آخر من الوجود الإنساني، نحلم به جميعا فى أعماقنا، نبحث عنه سواء وعينا أو لم نع. ذلك الوجود المؤمن بالخلود بداية، الوجود المرهف الحس بالآخرين إذ يشاركهم مشاعرهم، ويتألم معهم، ويتعجب أنهم لا يفهمون ما يعرف، ويندهش مما يفعلون أو يقولون دون أن يرفضهم، وتتملكه رغبة شديدة فى أن يفهم، ويشعر، ويحس.
قبل هذا المخلوق أن يتنازل عن “الخلود” من أجل أن يشعر بطعم الكمثري، ويشم رائحة شعر محبوبته، ويحس بملمس جسدها، ويفهم ما هو الألم، ولماذا يتألم البشر. قبـل الملاك أن يتنازل عن”الخلود”من أجل أن يعيش الخبرات الإنسانية التى أضاعها الإنسان المعاصر من بين يديه، أو لعله بذل جهذا فائقا لكى يتخلص منها. من منا يشعر الآن بطعم ما يأكل؟ من منا يحاول أن يفرق بين طعم هذا وذاك؟ من منا يقبل الشعور بالألم، من أجل أن يقترب من الآخر؟
إنى أرى أن الفيلم فى مجمله قـدم العديد من النماذج للوجود الإنساني، كما أوضح علاقة تلك النماذج بالخلود، والموت، وموقفها من العلاقة بالآخر، ولعل شخصية”الملاك السابق”الذى تحول إلى إنسان يعيش الحياة بملذاتها، وآلامها، مخترقا الممنوعات، رافضا الخضوع لقواعد ما يجب، ومالايجب، والذى يتساءل عن أحوال الخالدين، ويشتاق لصحبتهم دون ندم على ما فعل، أو ما قدم من تنازلات. بل إنك تراه سعيدا بزوجته، وأبنائه وأحفاده ، وهو يراهم يستحقون تضحيته بالخلود. وهو يفشى سر التنازل عن الخلود ببساطة شديدة حيث لا أسرار مقدسة فى الفيلم، بل استعراض ومناقشة لنوعية وجود إنسانى يهدف فى الأساس إلى التكامل والإيمان بالتوجه نحو الخلود؟؟
كل هذه القضايا العميقة والجوهرية، يقدمها الفيلم بغاية السلاسة والبساطة والوضوح. حتى أنه قدم عالم الخلود بصورة تجعلها قادرة على التسلل إلى وعى من لا يؤمن بها.
إن الفيلم قد أظهر أيضا أن العلاقة بين الحياة والخلود، هى علاقة مفتوحة ذهابا وإيابا، بسلاسة ودون أسرار أو تهويمات. إننى أفضل ألا نختزل هذا المدخل من خلال الاقتصار على المنظور الدينى المقدس، حيث إن الفيلم بداية يبدو أنه يروج للإيمان بالحياة الآخرة والخلود، لكن الهدف الأساسى الذى وصلنى هو أن الذى طرحه الفيلم بشدة، هو نوعية وجود الإنسان ومنظومته القيمية. تلك الطبيبة التى تعانى الأرق، نعـمت بنوم هادئ عندما شعرت بوجود آخر، وآمنت به، وباحتياجها له. فى ذلك المشهد تحديدا: هى لم تره، لكنها شعرت بوجوده فقط، وقبلت ما لا يمكن إدراكه بالعقل، ولكن يمكن إدراكه بالإحساس، أو من خلال درجات أخرى من الوعي، بمعنى آخر تكامـل وجودها من خلال الإيمان بما هو خارج نطاق الفهم.
حرص الفيلم أيضا على إظهار التغير فى تعبيرات وجه البطلة عقب ذلك المشهد حتى نهاية الفيلم، حيث ظهر عليها بشكل واضح ملامح الارتياح والاطمئنان.
بقى أن نراجع ما قدمه الفيلم عن الموت، حيث أن الفيلم قدم الموت بصورة رومانسية شديدة، كما قدم لحظات الموت فى عدة مشاهد دون هلع أو فزع، بل إنه أبلغنا أن الأمور تتم ببساطة وتلقائية شديدتين، حتى أن البطل فى مشهد وفاتها حين كانت تتألم وهى خائفة ممن هو قادم، ثم حين رأته سألت حبيبها (الملاك السابق) “هل هكذا تتم الأمور؟ فأجابها بـ”نعم”.
إن الموت كما وصلنى من خلال مشاهدة الفيلم، هو انتقال من نوع وجود أو”حال وجود”إلى حال أخرى من الوجود، هكذا ببساطة.
تعقيب عام
القضايا التى أثارها الفيلم، هى قضايا جوهرية لها دلالتها العامة كما ذكر المقدمان وجرت المناقشة، إلا أن ثمة أمورا جوهرية أخرى تحتاج إلى النظر والاعتبار، وخاصة من منظور ثقافتنا الخاصة، وظروفنا المحدودة. ونعرض ذلك فيما يلي:
(1) مساحة الخيال وتوظيف الفن لمناقشة القضايا الحساسة: لم يعد الفن ،ولم يكن أبدا، مجرد ترويح وتفريغ، إنه مصدر من مصادر المعرفة، لا تقل فاعليته عن أى مصدر آخر بما فى ذلك العلم (والدين). بل إن الفن يمكنه أن يتناول قضية من قضايا المعرفة، بما فى ذلك قضايا الميتافيزيقا بمنهج أكثر رحابة، وخيال أكثر جسارة. إن وظيفة الفن المعرفية، بما فى ذلك فن السينما، هى أن تحرك الوعى ليمتد إلى أعمق، وإلى أوسع، ليس بإضافة معلومات محددة، وإنما بشحذ حواس معرفية معروفة ومجهولة. ليصبح الوعى البشرى – فى ذاته- أداة معرفية دون وصاية محددة لمحتوى التفكير المحدد برموز أيا كان مضمونها وروعتها ومصداقيتها.
هذا الفيلم تناول عددا من القضايا الجوهرية فى الحياة بنعومة ، ولكنها نعومة ذات اختراق متسحب. إنه يشير إلى منهج من مناهج المعرفة، جنبا إلى جنب مع توظيفه للوظائف الجمالية والتذوقية الأخري.
من الذى يستطيع ألا يستحضر خروج آدم عليه من السلام من الجنة، وهو يشاهد منظر سقوط نيكولاس كيج من ملائكيته من أعلى ناطحة السحاب، خصوصا إذا ركز على ترديده المتكرر ” يا للإرادة الحرة” “يا لحرية الإرادة”Free Will، Free Will إن قرار التخلى عن الملائكية، يبدو مرادفا لمرحلة اكتساب الوعى المسئول عن الاختيار، الذى يقابل بدوره مسئولية “حمل الأمانة” التى أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها. مقابل ذلك يصبح هذا الوجود الحر له عمر محدود، ونهاية حتمية، بعد مفاجآت وآلام بعضها مفسر ومقبول، والآخر مفاجئ ومفزع، لكن لا مفر من أن تؤخذ الصفقة على بعضها.
هذه النقلة فى التطور، لا أحد يستطيع أن يجزم بشكل نهائى بتفاصيل توقيت إتمامها على سلم التاريخ الحيوي، لكنها هى التى ميزت الإنسان، وقد تكون – إذا أسيء استعمالها كما هو مهدد فى هذه الأيام – سببا فى زوال هذا النوع برمته. نقلة اكتساب الوعي، والسماح باختيارات مسئولة ، لها نتائج غير مضمونة !!!
البعض يقول إنها الخروج من الجنة
والبعض يربطها باكتساب القدرة على التفكير التجريدي،والبعض يقول إنها الحرية على مستوياتها المختلفة، من أول لعبة الديقراطية حتى قرارات الانتحار. المهم أنها نقلة تميز ما هو بشر عما هو ملاك على ناحية، وعما هو حيوان على ناحية أخري.
لم يتناول هذا الفيلم هذه النقطة فى “مساحة كافية”، لكن المتأمل يمكن أن يدرك كيف أنها يمكن أن تكون مفتاحا محوريا لأزمة الوعى والحرية، التى تميز الوجود البشري. جنبا إلى جنب مع ما ركز عليه الزملاء حول مسألة روعة الألم ، وجمال الإحساس البسيط الرائع.
(2) تناول الفيلم كذلك قضية العلاقة بين عوالم الوجود، هل ثمة عالم آخر، وعوالم أخرى تعيش موازية لعالمنا (الواعى خاصة). هذه القضية قد يكون لها من الأثر ما كان لاكتشاف كوبرنيكس; تواضع موقع وحجم الأرض بالنسبة لسائر المجموعات الكوكبية الأخري. إن اختزال الإنسان لما يعرف أكسبه غرورا كاد يضيعه. لا علاج لهذا الغرور إلا بامتداد المعرفة، ليس فقط فى منطلقات الأكوان، ولكن أيضا فى طبقات الوعي.
(3) تناول الفيلم أيضا قضية الموت بشكل موقظ. إن الوعى بالموت هو الذى يعطى للحياة معني، هكذا علمنا نجيب محفوظ فى الحرافيش، كما أن وهم الخلود هو الذى يسحب من الحياة كل معني. بنفس الهدوء المتسحب قدم لنا الفيلم الموت باعتباره نقلة ناعمة، يسأل فيها الإنسان عن أكثر ما كان يحب فى الدنيا (المشهد الأول والأخير فى الفيلم) ثم يذهب إلى أين ؟ إن منظر الطفلة وهى تمسك بيد ملاك الموت وتقول له “إلى أين “؟، أو وهو تقول له “هل تأتى أمى معنا” له من الدلالات ما يذكرنا بالمبالغة فى الترهيب من عذاب القبر بصفة خاصة. نحن لا نقارن فنا بعقيدة، ولكننا نتذكر.
فتح الفيلم علينا باب الحياة الأخرى ، لكنه لم يخط بنا فيها إلا خطوة واحدة أو أقل، وعلى المشاهد أن يتدبر حاله بعد ذلك. هذا هو الفن.
لم نعرف إلا مؤخرا أن هذا الفيلم كان ممنوعا رقابيا، ثم سمح به بعد ذلك، أسباب المنع تبدو جلية، لكن ما هى أسباب السماح. شكرا لمن سمح. إذ يبدو أنه أكثر إيمانا ويقينا ممن منع. المهم إن تقديم الحياة الآخرة (أو الأخرى) بهذا السماح هو أمر إيجابى فى مجمله كما وصلنا.
(5) إن علاقة هذا العالم الموازي، (عالم الملائكة، وربما الجن) بالعالم الحقيقى يمكن أن تؤخذ بشكل تركيبي، على أنها علاقة مستوى من الوعى بمستوى آخر. فإن صح ذلك فإنه يفتح الباب لتمثل ما يسمى تعدد حالات الذات، ومدى إمكان إسقاطها على العالم الخارجي، وكيفية الحوار فيما بينها، أو الجدل توليفا بها.
(6) إن ما أشار إليه كل من المقدمين والمناقش من حيث ما ينبهنا إليه الفيلم من أننا ألغينا الوعى بروعة نعمة ما هو حس حي، وما هو إدراك مباشر، لحساب ما هو فكر مبرمج مختزل، وما هو منهج تجريدى رمزى هو من أروع ما قدم الفيلم، إلا أن هذا فى بلد مثل بلدنا، قد يفتح الباب لترويج مبالغ فيه لهذه الممارسات الفطرية على حساب التفكير الأكثر نضجا ومسئولية. الفيلم لم يقل هذا لكن الخوف كل الخوف من أن نبالغ نحن فى التصفيق للحدس، والغيب الجهول، لا الغيب الواعد بمعرفة أخري، على حساب ما نحتاجه من انضباط وتقنين.
إن من أخطر ما تنازلنا عنه فى عالمنا المعاصر، هو طزاجة الإدراك فى علاقته المباشرة بالطبيعة، وإن كان الفيلم لم يشر إلى العلاقة بالطبيعة إلا فى خلفية مسطحة كاريكاتيرية فى منظر صفوف الملائكة، وهى تصلى للشروق والغروب، وإن كان تجسيد العلاقة بالطبيعة تبدى حين جاءت النهاية والبطل يحاور موج البحر فى حيوية نشطة متجددة. رغم أنه فقد حبيبته التى من أجلها تنازل عن الخلود.
(7) جانب آخر يمكن أن يفيدهم دوننا، بل إنه يمكن أن يضرنا نحن إذا تمادينا فى إساءة فهمه أو استخدامه، ألا وهوالعلاقة العاطفية (التى يمكن أن تصل عندنا إلى علاقة جنسية) بين الإنسان وهذا العالم الآخر أو ما يقابله. عندنا الظاهرة التى تسمى “المخاوية”حيث يصاحب، أو يعشق، أو يزوج أحدهم، أو إحداهن شريكا من تحت الأرض، من الجان (والتفرقة فى تلقى الملائكة على أنها من عالم الجن أمر وارد بوعى أو بدون وعى). هذه الظاهرة يمكن أن تجد تدعيما لها بشكل مخل حين يحدث تقمص هذا العشق الجميل بين الملاك وبين الطبيبة، الأمر الذى يعمق مفهوما غير صحى بشكل أو بآخر.
(8) إن الدعوة الضمنية إلى التدين والإيمان بالله واليوم الآخر والبعث بعد الموت، هى أمور كلها تدخل ضمن ما يوافق عليه المتدينون، وقد يفرحوا به. لكن ظهور هذه الدعوة فى الأعمال الفنية بهذه الصورة، لا بد وأن يربط مع الموجة المتزايدة التى تسود المجتمع الأمريكي، خاصة مؤخرا داعية إلى العودة للدين، أو حتى إلى اختراع أديان جديدة . الخوف من تسخير الفن لمواكبة الموجات العقائدية أو السياسية الأحدث هو خوف مشروع، لأنه يمكن أن يؤدى إلى تسطيح التدين من ناحية، أو استخدام هذا النوع من الترويج لأغراض غير دينية أصيلة من ناحية أخرى (انظر ندوة شهر إبريل عن المسيح اليهودى ص243) .
وبعد
أى فرصة لدينا، مبدعين ومتلقين، لنأخذ حقنا ونحن نتحرك فى مساحة من السماح والخيال تسمح لنا بإعادة النظر هكذا ؟
(2) ندوة مايو 2001: كتاب: المسيح اليهودى
(تأليف: رضا هلال)
اقترح الكتاب د. أحمد الفار، واستجاب للاقتراح معظم الحضور، باعتبار أنه إسهام فى تفسير مأزق العالم وهو يمر بما يمر به ، ويحاول ضمن خبطاته أن يخرج منه بما يسمى اليقظة الدينية (أو شبه الدينية المستعملة للدين)، وارتباط ذلك بدعم إسرائيل وتأييد احتلالها للقدس، بزعم أن هذا التزام دينى بشكل أو بآخر. إن قيام إسرائيل اعتبر الخطوة قبل الأخيرة للمجيء الثانى للمسيح، أما الخطوة الأخيرة فهى بناء الهيكل فوق قبة الصخرة عند المسجد الأقصى . يتناول الكتاب محاولة شرح مايمكن أن يسمى “تدين أمريكا” المعاصر، كمدخل لفهم ما يجرى بها ، ومنها، وخاصة فى مجال ادعاء الحرية، والتدخل فى موقف الأقليات الدينية عبر العالم، ثم موقفها من إسرائيل.
مقدما الندوة: . د. إيهاب الخراط ( بمثابة قس بروتستانتي، وطبيب نفسى)
أ. جلال الدين عز الدين (خبير الشؤون الإسلامية فى الشرق
الأوسط، والمسؤول فى موقع إسلام أون لاين على شبكة الإنترنت)
عن الكتاب والكاتب:
المسيح اليهودى ونهاية التاريخ
المسيحية السياسية والأصولية فى أمريكا
رضا هلال
الناشر: مكتبة الشروق. القاهرة 2 شارع البورصة الجديدة- قصر النيل
الكاتب: رضا هلال. نائب رئيس تحرير الأهرام، كاتب ليبرالي، مهتم بدراسة ورصد السياسة الدولية، له عمود أسبوعى والعديد من المؤلفات التى اهتمت برصد الواقع الدولى وتأثيراته على أحوال بلادنا.
التعريف (بعض ما كتب على ظهر الغلاف)
يبين هذا الكتاب كيف تتحكم أسطورة”المسيح اليهودى فى الثقافة – ومن ثم فى السياسة – الأمريكية. تلك الأسطورة التى حولت يسوع الناصري(مسيح الحب) إلى مسيح يهودى منتظر، ليقود حرب نهاية التاريخ….
ويكشف الكتاب أن المسيحية الأمريكية(البرتستانية) مسيحية متهودة….
ويستعرض الكتاب المنظمات الأصولية وجماعات وميليشيات العنف المقدس “جيش الله”، ويحلل دور المسيحية السياسية والأصولية فى السياسة الخارجية الأمريكية. وينبه إلى أن الانحياز الأمريكى لإسرائيل أساسه لاهوتى وثقافي، وليس أساسه الصوت اليهودي.
إن هذا التعريف ليس جامعا مانعا طبعا، والكتاب من 226 صفحة من القطع الكبير غير الهوامش والمراجع، وهو مكون من سبعة فصول غير المقدمة والخاتمة، ويكاد لا يمكن تلخيصه، فرأينا- مع الوعى بالتحيز – أن نورد بعض المقتطفات بالحرف الواحد دون تعليق، كنوع من التعرف الذى يسمح لمن لم يقرأه أن يتابع، بشكل ما، بعض النقد والمناقشات التالية.
أهم ما ننبه عليه ابتداء، هو ماذهب إليه الكاتب من فروض أساسية (ضمن فروض أخرى فرعية) ، دعمها بمقتطفات منتقاه، تكاد تجعل من مارتن لوثر، والبروتستانتية المسيحية ، أساسا جوهريا لدعم الأفكار الصهيونية، وتبرير قيام إسرائيل والاستيلاء على القدس. الأمر الذى فنده المقدمان وناقشه المنتدون بجدية وحذر.
أولا: مقتطفات دالة (دون تعليق)
من المقدمة
(1) لا أحد يستطيع أن يفهم أمريكا وحرياتها، إلا إذا وعى وتفهم التأثير الذى باشره، وما زال يباشره الدين فى صنع هذا البلد. جيمس فن- أمريكا اليوم (ص 9)
(2)… تدين الأمريكيين. …” إن 95% من الأمريكيين يعتقدون فى وجود الله. وإن بين كل 5 أفراد هناك 4 أفراد، يعتقدون فى المعجزات والحياة بعد الموت والميلاد العذرى للمسيح (عذرية مريم)، كما أن 82 % من الأمريكيين يعتبرون أنفسهم متدينين، مقابل 55% فى بريطانيا و54% فى ألمانيا و48% فى فرنسا، أما من يذهبون إلى الكنيسة أسبوعيا فى أمريكا، فنسبتهم 44% ، مقابل 18% فى ألمانيا و14% فى بريطانيا و10% فى فرنسا.(ص 11)
حيث ترى تاريخا يصنع فى أمريكا، تجد تاريخا أمريكيا يهوديا
(3) وأصبح لليهود دور فى خطة الرب لنهاية التاريخ، التى تتضمن عودة اليهود إلى فلسطين قبل مجيء المسيح، ولكن الانطلاقة الكبرى للمسيحية اليهودية ارتبطت بحركة الإصلاح البروتستانتى فى القرن السادس عشر، إذ أعادت البروتستانتية الاعتبار لليهود، وأصبح العهد القديم (اليهودى) المرجع الأعلى للاعتقاد البروتستانتي.(ص 12)
هذه النقطة بوجه خاص، وكل ما يتعلق بدور البروتستانتية فى تهويد المسيح وقيام دولة اليهود تمت مناقشته تفصيلا من د. إيهاب الخراط (انظر بعد)
(3) تحالـف اليمين المسيحى مع اليمين السياسى فى الحزب الجمهوري، ليشكل ما أصبح يعرف باسم حزب الله (ص13)
(4) ..إن المسيحية السياسية والأصولية فى أمريكا، هى حركة ما بعد علمانية، نشأت فى مجتمع ما بعد علماني، عرف العلمانية قبل قرنين.(ص14)
من الفصل الأول: المسيح اليهودى
(5)… إن اليهود هم أبناء الرب ونحن الضيوف والغرباء ….. وعلينا أن نرضى بأن نكون كالكلاب، التى تأكل ما يتساقط من فتات مائدة أسيادها، تماما كالمرأة الكنعانية مارتر لوثر .من كتاب المسيح ولد يهوديا (ص 19)
(انظر مناقشة د. الخراط)
(6) لقد أدى انتصار المسيحية البولسية (نسبة إلى بولس)، إلى ظهور روح جديدة فى القرنين الثالث والرابع، لم يكن بولس نفسه يتوقعها إذ اعتبرت الكنيسة نفسها أنها إسرائيل الجديدة، وأنها حلت محل شعب الله المختار (ص 26)
(7)… كان كريستوفر كولمبس قد اكتشف أمريكا، بدافع اعتقاد بأن رحلاته هى جزء من سيناريو “ألفي- مسيحاني” سوف يقود فى النهاية إلى تحرير القدس من المسلمين (الكفار) وإعادة بناء المعبد (ص 30).
(8)كان نابليون بونابرت أول رجل دولة ،يقترح إقامة دولة يهودية فى إسرائيل(ص 38)
(9) خلال وجوده (نابليون) فى سوريا ضمن حملته الكبرى على الشرق ، أصدر بينا يدعو فيه اليهود إلى أن يقاتلوا تحت لوائه، لإعادة إنشاء مملكة القدس القديمة (ص 38)
(قال فيه)”…صارعوا ! إن هذه هى اللحظة المناسبة، التى قد لا تتكرر لآلاف السنين، للمطالبة باستعادة حقوقكم التى سلبت منكم لآلاف السنين، وهى وجودكم السياسى كأمة بين الأمم (يوثيل 3:21) (ص 39)Napoleon And The Jews، Frabz Kbler (1975)
من الفصل الثانى: المسيح اليهودى الأمريكى
اننى لم أحتمل أبدا فكرة وقوع القدس وفلسطين تحت سيطرة المحمديين … إن بقاء القدس وفلسطين المقدسة بالنسبة لليهود .. والأرض المقدسة بالنسبة لكل الأمم المسيحية الكبرى فى الغرب، فى أيدى الأتراك، كان يبدو لى لسنوات طويلة وكأنه لطخة فى جبين الحضارة من الواجب إزالتها (ص70)
هنرى كابوت لودج، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب، من خطاب ألقاه فى بوسطن عام 1922
من الفصل الثالث: الإحياء الدينى والمسيحية الصهيونية
”..ومع بداية الثمانينات أصبحت “عبادة إسرائيل”، فى مركز اهتمام قيادات الكنائس البروتستانتية الإيفانجيلية فى الولايات المتحدة. وجعلت الشبكات الدنية التليفزيونية والإذاعة” الكنائس المرئية”، من إسرائيل قضية القضيا فى برامجها” (ص 88)
..” قدم فالويل برنامجا آخر هو جبرى فالويل لايف، وكان يبث أسبوعيا فى كل أمسية من أيام الآحاد ، ويتلقاه 34 مليون منزل. (لاحظ منزل وليس فرد!!) قال فيه إن … إعادة تأسيس إسرائيل عند المسيحيين الأصوليين، هو إيفاء للنبوءات التوراتية، ويتوجب على كل أمريكي، بذل كل جهد ممكن لضمان الدعم الكامل لإسرائيل.(ص89)
من الفصل الرابع: صعود اليمين المسحيى واللوبى المسيحى الصهيوني
”..جاءت ولادة هذه المنظمة (السفارة المسيحية الدولية) المسيحية الصهيونية عام 1980، بعد قرار الحكومة الإسرائيلية اعتبار القدس عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل.
…. واختصر مؤسس المنظمة ورئيسها جان فان ديرهوفن، أهدافها بإعلانه “إننا صهاينة أكثر من الإسرائيليين أنفسهم، وإن القدس هى المدينة الوحيدة التى تحظى باهتمام الرب ، وإن الرب قد أعطى هذه الأرض لإسرائيل إلى الأبد”(ص 109، 110).
من الفصل الخامس: حزب الله وانتصار اليهومسيحية
(فى سبيل التدليل على أن نسبة تبدو متواضعة يمكن أن تكون هى كل المطلوب لنجاح حزب أو سياسة ما )
”…..فإذا كانت نسبة المسجلين للتصويت، حوالى 60% فقط، وكان حوالى نصف هذه النسبة فقط يذهب إلى التصويت، فإن نسبة 15% من مجمع الأصوات يمكن أن تحدد نتيجة الانتخابات. (ص 133)(هذه الـ15%التى يشير إليها يمكن أن تكون المحرك الأساسى لسياسة الدولة).
أما التأثير المنظم لترويج هذا الفكر اليمينى المسيحي/ الصهيونى فيتمثل في:
”….كشفت استطلاعات جالوب، أن حوالى 70 مليونا من الأمريكيين يشاهدون الشبكات التليفزيونية الإيفانجيلية الكنائس المرئية التى بلغ عددها 104 محطة تليفزيونية، إضافة إلى 1006 قناة تليفزيونية بنظام الشفرة الكابل، وتزايد عدد دور النشر المسيحية إلى 1300 دار نشر متخصصة فى العناوين المسيحية، إضافة إلى 7 آلاف مكتبة لتوزيع الكتب المسيحية، وتقدر مبيعاتها بحوالى 3 مليارات دولار سنويا (ص132)
”إن اليمين المسيحى كان مستعدا، بل راغبا بكل قوة فى إشعال حرب نووية من أجل إسرائيل; تحقيقا للنبوءات التوراتية”.(ص135)
”وكان من نتيجة التقدم البروتستانتى لاستعمار أمريكا، أن أصبح البروتستانت هم الغالبية بين سكان الولايات المتحدة (يشكلون أكثر من 60% من السكان)، وظل الكاثوليك فى المرتبة الثانية إذ يشكلون حوالى 24% من السكان، بتعداد يزيد عن 60 مليون نسمة. (ص 139)
”ودعا مؤتمر سنة 1997 لمراجعة وتعديل بعض النصوص الدينية فى العهد الجديد، وتعديل إنجيلى متى وبولس لإنصاف اليهود.” (ص147)
” يقوم تراث اليهو-مسيحية على تشارك اليهودية والمسيحية فى الكتاب المقدس” فهما تعتبران ديانتى الكتاب المقدس، والتشارك فى مؤازرة الوصايا العشر، والاعتقاد بأن المخلص يسوع المسيح ولد كيهودي، وهو مفهوم جدير بالاحترام، إلا أنه كما حدث مع البرتستانية، وتحولت إلى مسيحية -صهيونية، سخرت فى خدمة تأييد شرعية الدولة اليهدودية، واحتلالها للقدس والأراضى العربية، وبذلك يتحول مفهوم “اليهو-مسيحية” إلى مفهوم علمانى لمباركة الدعوة الصهيونية “اليهوديية” بإقامة وطن قومى لليهود فى فلسطين.”(ص 149)
من الفصل السادس الأصولية والعنف: المسيح اليهودى. والمسيح المسيحي
”…كما تهاجم المنظمة (منظمة شالسيدون Chalcedon – أكبر منظمة بين منظمات “الإحياء الأصولي” فى الولايات المتحدة) مبدأ الحرية الدينية ومبدأ التسامح الديني، لأنهما يعطيان الفرصة للفرد لارتكاب أخطاء لاهوتية، ويقول رشدونى إنه باسم التسامح الديني، قد يطلب من المرء المؤمن أن ينخرط فى القبول العام بالملحدين والمنحرفين والمجرمين وأتباع الأديان الأخرى …إن المسيحى ينبغى أن يعرف أن التعددية خرافة …وليس فى أى موضع فى الكتاب المقدس قد قرأنا أن الرب يعلم، ويدعم التعددية.(ص161) (راجع رأى د. حسام حشمت فى تعليقه على فيلم مدينة الملائكة، وأن الحقيقة واحدة ص231)
”…وتهاجم المنظمة (منظمة التركيز على المرأة من أجل أمريكا) الحياة العلمانية ومبدأ فصل الكنيسة عن الدولة ص 162
”…ورد قورش بأنه يتبع مشيئة الرب الواردة فى التوراة، وأحرق قورش المجمع، مما أدى إلى مقتل 74 من الديفيديين، بينهم قورش نفسه و21 طفلا تقل أعمارهم عن 15 عاما، عملا بما يعتقدون أنه خطة إلهية لنهاية التاريخ، ومجيء المسيح اليهودي”.(ص 170)
وفى تلك الآونة، انتعشت- الأنجلو إسرائيلية فى الولايات المتحدة التى كانت قد انتقلت إليها من بريطانيا، إذ أصبح الأمريكيون ينتسبون إلى إحدى القبائل الإسرائيلية المفقودة وهى قبيلة منسي.(ص 172)
وفى كتابة القبائل المفقودة و1882 الصادر فى 1879، اعتبر جوزيف وايلد راعى الكنيسة الأبرشية فى بروكلين، أن الرب أحاط بالعناية الإلهية شعبه إسرائيل الذى هم الأنجلوساكسون ، وأن عرش الرب هو عرش الملك داود الذى هو عرش المكلة فكتوريا”وقتئذ”، وأن الولايات المتحد تقوم بدور قبيلة منسي، وأن فهم نبوءات الكتاب المقدس، وأحداث الزمان يجب أن يتم فى ضوء ذلك، وأن نهاية التاريخ أصبحت وشيكة مع انتقال اليهود رلى فلسطين” (ص 172، 173)
”…وإلى جانب التنافس على دور الشعب المختار، الذى اعتقد الأنجلو إسرائيليين أن اليهود المعاصرين يخطفونه منهم، كانت وراء انتشار معاداة السامية; نظرة تقوم على “أبلسة اليهود”، باعتبارهم أولاد إبليس، الذين يحاولون السيطرة على الولايات المتحدة(أرض الميعاد)، والشعب الأمريكى (الشعب المختار) (ص 174)
”..وقد عبر هنرى فورد …..إبرازا لفكرة: كيف أن اليهود بدءوا السيطرة على أمريكا مبكرا منذ عام 1492، مع قدوم كريستوفر كولمبس (كتابه “اليهودى العلامى الذى قيل أنه تنكر له واعتذر، ثم قيل أنه نفى اعتذاره،وطبع من جديد) (ص 174)
من الفصل السابع: الصليبية العالمية
”….وفى المولايات المتحدة، وحدها 200 محطة تليفزيونية مسيحية، و 1500 محطة راديو مسيحية، معظمها إيفانجيلية، وتبث برامج لقادة اليمين المسيحى ومؤيديهم . أما على المستوى العالمي، فإن برنامج بات روبرستون نادى الـ 700، يتجاوز عدد مشاهديه يوميا المليون مشاهد، كما أن شبكته التليفزيونية CBN تغطى برامجها 60 دولة بأكثر من 40 لغة.(ص195)
”..فإن رسالتها الخارجية(رسالة اليمين المسيحى الأصولى) قد أصبحت-إلى جانب الجهد التبشيري- تهيئة العالم لعودة المسيح . وتنتشر فى الأوساط الأصولية الأمريكية طقوس الصلوات من أجل أن تهبط نعمة المسيح على الشرق بمسيحييه الأرثوذكس ومسلميه. بل يكثر الحديث عن صلاة نافذة 40/10 إشارة إلى خطى العرض 40،10، اللذين تقع بينهما الدول الإسلامية والأرثوذكسية. فالمسيحية فى الخطاب المسيحى الأصولى الأمريكي، ليست إلا البروتستانتية الإيفانجيلية.(ص 199).
“…وفى يناير عام 1997 ، نظم هوروفيتز وبيت الحرية مؤتمرا تحت عنواناليوم العالمى للتضامن مع الكنيسة المضطهدة، حضره ممثلو 40 ألف كنيسة فى الولايات المتحدة تضامنا مع المسيحيين فى الدول الإسلامية، واتهم المؤتمر كلا من الكنائس الأمريكية والإدارة الأمريكية بالتقصير . ودعا إلى العمل على إنقاذ مسيحيى الشرق من براثن الإسلام. (ص 201)
”.. إن قانون الحرية من الاضطهاد الديني، فى فلسفته ، يضع قضية الحرية الدينية فى صلب حقوق الإنسان، ويجعل من قضية الاضطهاد الدينى قضية عالمية بعد أن ظلت شأنا داخليا فى البلد الذى يجرى فيه الاضطهاد، ولا يجيز لطرف خارجى التطرق إليه، وإلا اعتبر تدخلا فى الشئون الداخلية.(ص 210)
ثانيا : قراءة ونقد: د. إيهاب الخراط
التحيز الغربى لإسرائيل
مكون الثقافة الدينية كيف نفهمه ونتعامل معه
تصويبات وتعليقات على كتاب “المسيح اليهودى تأليف “رضا هلال”
هناك تحيز غربى أمريكى لإسرائيل خاصة. وهذا التحيز واضح فى دوائر المتدينين، كما هو واضح فى دوائر غير المتدينين والمعادين للدين .
وتأثير الدين والثقافة الدينية فى الشعب الأمريكى وفى دوائر صنع القرار هناك أكبر بكثير مما نعتقد.
فما هو حجم التحيز لاسرائيل فى دوائر المتدينين، فى أمريكا خاصة، وفى الغرب عامة؟ وما هى جذور هذا التحيز؟ وهل من الممكن مخاطبة هذا التحيز وتغييره أم أنه مستحكم؟ لأن جذوره عميقة تستعصى على التعامل؟
للأستاذ رضا هلال، فضل إثارة هذه الأسئلة ومحاولة الإجابة عليها، لكن تقديم إجابات خاطئة أو غير حقيقية على هذه الأسئلة، سيجعل تعاملنا مع التحيز الغربى لإسرائيل غير مجد، وربما نتخذ مواقف ضررها على قضايانا، وعلى دفاعنا عن حقوقنا، أكبر من نفعها .
خاطب الصهاينة قطاع الرأسماليين فى الغرب، من خلال طرح أن إسرائيل ستكون مشروعا إستثماريا ناجحا، وخاطبوا الاشتراكيين من خلال اليهود الاشتراكيين، وطرح الهستدروت كنموذج لاتحادات العمال الفعالة و(الكيبوتز( خاصة فى نماذجه الأولى كنموذج للاشتراكية فى مجتمعات صغيرة ومغلقة ومنتجة تتلاشى فيها الملكية الفردية، وخاطبوا الملحدين والمفكرين الاحرار، بخطابات فعالة من مدخل العلمانية، وهذا الكتاب يتناول كيف خاطبوا المتدينين وكيف تأثر هؤلاء بهم.
الفضل الثانى لهذا الكتاب، يرينا أن نظرية اللوبى الصهيونى الذى يضغط بالمصالح، أو نظرية الكيان عميل الاستعمار، لا تكفى لشرح أو تفسير ظاهرة الانحياز الغربى لاسرائيل. هناك عوامل التأثير على أفكار الناس ومشاعرهم. براعة الصهاينة كانت فى قدرتهم على التعامل مع المعطيات الثقافية – بما فيها المعطيات الدينية – للغرب من خلال استيعابها ومناقشتها واستغلالها .
نحن، إن لم نتعامل مع هذه المعطيات بفهم، ونستوعبها بدقة، فإننا نخطئ أخطاء فادحة، ليست مجرد أخطاء نظرية، لأن الأخطاء النظرية هنا ستؤدى إلى مواقف عملية خاطئة .
هل يوجد فى التوراة والإنجيل ما يبرر عودة اليهود لأرض فلسطين، أو يعطيهم حقا فيها ؟
فيما يلى بعض ما يحتاج إلى تصحيح جوهري، حيث أنه قد أبلغ للقارئ رسالات تكاد تخل بالأصول التى اقتطفت منها الآراء.
أخطاء فى الاقتباس ومقتطفات مقتطعة من سياقها
بعض أخطاء الكاتب فى اقتباس الكتاب المقدس
(الخط التحتى من وضع كاتب الدراسة النقدية ، وليس المؤلف)
يورد الباحث(ص 54) من سفر دانيال ” … فاعلم وافهم أنه سوف تنقضى ما بين خروج كلمة يهوة الآمرة بعودة اليهود إلى المسيح الرئيسى بتجديد اورشليم ” وصوابها ” .. فاعلم وافهم أنه من خروج الأمر لتجديد أورشليم وبنائها … “( دانيال25(9) ،ولا توجد كلمتا ” عودة اليهود” إطلاقا فى النص فى سفر دانيال .
لعل تفسير مارتن لوثر بالذات لهذه الفقرة من العهد القديم، له دلالته حيث يقول لوثر فى القرن السادس عشر:
“نعارض عمى اليهود ونعلم تحديدا أن كل النبوءات التى تقول بعودة اليهود إلى اراضيهم وامتلاكها امتلاكا ماديا لا ينتهي، قد تحققت منذ زمن بعيد . وآمالهم الحالية فى ذلك باطلة وضالة. لأن هذه النبوءة تتضمن جزئين:
أولا: أن يهوذا وإسرائيل يهوذا يعنى سبط يهوذا، وهو من العشيرة التى أتى فيها داود الملك ويسوع المسيح وإسرائيل باقى أسباط إسرائيل )المترجم) ـ سيعودان إلى أراضيهم بعد السبي، وهذا تحقق فى عهد الملك قورش والفرس قبل ميلاد المسيح، عندما عاد اليهود إلى الأرض وإلى أورشليم من كل البلاد، وكانوا يجتمعون فى أورشليم للاعياد سنويا.. أما أمل اليهود فى عودة مادية أخرى يفترض أن تحدث … فهو حلم خاص بهم لا يوجد حرف واحد فى كتب الأنبياء أو الكتب المقدسة يقول بمثل هذا أو يشير إليه
ثانيا: إن الجزء الثانى من هذه النبوءة وهو الجزء الأفضل جدا فيها، ولا يراه اليهود ولا يقدرونه، فهو أن الله سيخلق تجديدا فى الأرض، أى سيقوم بعهد جديد .. وهذا الجزء تحقق أيضا .. المسيح .. بدأ نظاما جديدا .. لكن اليهود يريدون مسيحا وفقا لعهدهم القديم ويتجاهلون العهد الجديد، فيفقدون كليهما” (1).
ويقتبس أ. رضا اقتباسا خاطئا آخر ” لأن الخلاص هو فى اليهود، وهو من أنجيل يوحنا، فى العهد الجديد، والصواب هو ” ..لأن الخلاص هو من اليهود ” يو22:(4).
والاختلاف البين فى المعنى باختلاف حرف الجر واضح . الخلاص “فى ” اليهود يعنى أن الخلاص كان ولا يزال فى حوزتهم، بينما ” من ” تعنى ببساطة أن المسيح مخلص العالم فى العقيدة المسيحية أصله من اليهود ” .
أما الإشارة التالية للكتاب المقدس، يقول فيها المؤلف
” ..إن يوحنا أقرب إلى أولئك الذين سموا يهودا مسيحيين، أو كان مسيحيا يهوديا” . والحق أن رؤيا يوحنا عكست أول الاطوار فى المسيحية، فلا أثر فيها للثالوث المقدس، بل على العكس من ذلك يظهر أمامنا الإله الواحد القادر على كل شيء أى الإله اليهودي”يهوه”، وفى الدينونة العظيمة الأخيرة يجلس على العرش هذا الإله ذاته وليس المسيح.. ”
وهنا سلسلة من الأخطاء:
(أ) يوحنا- ككل رواة الإنجيل وكتاب العهد الجديد عدا لوقا – كان يهوديا متنصرا ، تحول عن اليهودية إلى المسيحية ، كما تحول المسلمون الأوائل عن عبادة الأصنام إلى الإسلام .
(ب) يوحنا يقول عن الجالس على العرش فى الدينونة العظيمة ” ورأيت فى وسط العرش… خروفا قائما كأنه مذبوح .. خرت الأربعة حيوانات والأربعة والعشرون شيخا أمام الخروف.
ويشير أ. رضا محقا أن الخروف رمز محبب ليسوع عند كل رواة الإنجيل) وهم يترنمون مستحق .. لانك ذبحت واشتريتنا لله بدمك” . (رؤيا 5(6/19)، ونرى يسوع فى هذا السفر، يقول عن نفسه “شبه ابن الإنسان … قائلا لا تخف أنا هو الأول والآخر والحى وكنت ميتا وها أنا حى إلى أبد الآبدين آمين ” (رؤيا (ا/13/11)، ويقول “أنا الالف والياء، البداية والنهاية الأول والآخر .. أنا يسوع اصل وذرية داود كوكب الصبح المنير ” (رؤيا (22: 14 و 19)
فأى عبارات تعبر عن العقيدة المسيحية الصرف عن ألوهية المسيح أقوى من ذلك؟ وأى عبارات أبعد عن الاعتقاد اليهودى فى المسيح عموما أنه أدنى مرتبة من الله وفى يسوع، أنه ليس نبيا ولا من الله اطلاقا. فيسوع مفكر عظيم عند أكثر اليهود تعاطفا معه، أو مدع وابن زنا عند أقلهم تعاطفا معه.
ويقول الكاتب:
”لقد أدى انتصار المسيحية البولسية إلى ظهور روح جديدة فى القرنين الثالث والرابع، لم يكن بولس نفسه يتوقعها، إذ اعتبرت الكنيسة نفسها انها اسرائيل الجديدة وأنها حلت محل شعب الله المختار (اليهود” . (ص .26
والصواب أن بولس، وهو أحد كتاب العهد الجديد، هو الذى صنع التعبير أورشليم الجديدة، و”(إسرائيل الله” (غلاطية (16/6) ، وكان بولس يتوقع بمنتهى الوضوح تقدم المسيحية طبعا مرة ثانية! وتراجع اليهودية .
ويقول الكاتب مقتبسا المؤرخة اليهودية باربرا توخمان:
إن التوراة أصبحت جزءا من الايمان البروتستانتى .. كما أصبحت عودة اليهود كاملة إلى فلسطين تمثل عصب الإيمان البروتستانتى المبنى على التوراة . إن نبوءات التوراة تتضمن أن اليهود سوف يعودون إلى فلسطين، ثم يصبحون مسيحيين (ص134)
والصواب أن التوراة هى أسفار موسى الخمس، أو أسفار العهد القديم والاسم يطلق مجازا على كل العهد القديم. العهد القديم جزء من الايمان المسيحى من أول لحظة لم يضف البروتستانت شيئا إلى مكانته ولم ينقصوا منها أبدا، اما الخطأ فى اقتباس العهد القديم، فنجده فى قول الكاتب:
” إن اليهود سيعودون إلى الأرض ثم يصبحون مسيحيين، ومن البديهى أن التوراة (العهد القديم) لا توجد فيه أى إشارة لكلمة “مسيحيين” إطلاقا، بل إن هذا اللفظ لا يرد فى العهد الجديد إلا مرة واحدة.
اما القول بعودة اليهود إلى الارض فهو قول لم يرد فى أى من إقرارات الايمان البروتستانتى المعروفة (وستمنستر ، هايدلبرج، دورت ..الخ) ولم تكن من عصب ولا أطراف أى إيمان بروتستانتى) ما عدا بعض المتطرفين الذين لا يـنظر اليهم فى دوائر علوم اللاهوت بأى قدر من الجدية، والذين ظهروا فى اواخر القرن التاسع عشر وفى القرن العشرين .
موقف مارتن لوثر وجون كالفن
يقول أ. رضا هلال مقتبسا مرة اخرى باربرا توخمان:
”الكنيسة الكاثوليكية كانت تعتقد أيضا أن النبوءات التى تتحدث عن العودة، تشير إلى العودة من بابل، وأن هذه العودة قد حدثت بالفعل على يد الإمبراطور الفارسى قورش … غير أن حركة الاصلاح البروتستانتي، تنكرت لهذا الاعتقاد الكاثوليكى وروجت لفكرة أن اليهود أمة مختارة مفضلة (ص31)
وقد أوردنا فيما سلف نصا صريحا يوضح، أن لوثر (مؤسس الإصلاح) لم “يتنكر” لهذا التفسير الكاثوليكي، بل أيده أشد التأييد، ويمكن أن نورد أكثر من ثلاثمائة نص من كتابات لوثر وحده، توضح أن هذا كان موقفه من أول حياته لآخرها) . كما لا نريد ان نثقل على القاريء باقتباسات مماثلة من “كالفن” وغيرهما من مؤسسى البروتستانتية).
يكرر الكاتب عدة مرات ” أصبح العهد القديم المرجع الاعلى للاعتقاد البروتستانتي” ولا نعرف من أين أتى بهذه المعلومة. إن هذا الكلام يتجاوز مستوى الخطأ إلى ما هو أخطر. لوثر وعظ وكتب وشرح فى العهد الجديد أضعاف ما كتب ووعظ من العهد القديم. وهذا دأب كل المفكرين المسيحيين من بداية المسيحية إلى اليوم) راجع مثلا كتاب أهم اللاهوتيين الكالفينيين فى القرن العشرين لويس بيركهوف الأشهر “اللاهوت النظامي” تجده يقتبس 5 مرات فى المتوسط من كل صفحة من صفحات العهد الجديد بينما لا يقتبس من العهد القديم أكثر من مرة واحدة فى الصفحة فى المتوسط (2)، وبيركهوف وهو إنجيلى محافظ (ايفانجيليى على حد تعبير أ. رضا) لا ريب فيه، وهو أيضا من أشد معارضى الفكر القائل بعودة اليهود بالمعنى العياني، أى إلى الأرض .
ويكرر المؤلف عدة مرات أن “يسوع المسيح أصبح لا يعرف بانه ابن مريم، مؤسس الديانة المسيحية” بل نبى فى سلسلة طويلة من أنبياء العبرانيين (ص 49).
نورد فقط أن لوثر فى مقارنة المسيح بأنبياء العهد القديم، قال عن يسوع “صانع خلاصنا…، بداية كل بر ، سبب الخلاص، نهاية الشريعة، ايماننا يعتمد عليه وحده، خالى من كل أثم، مجده لا يستقصي، رأس الكنيسة، قدس اقداسنا .. الخ ) يورد 140 اقتباس فى كتاب واحد( اخترناه كعينة عشوائية وهو مجلد 29 من أعماله الكاملة بالانجليزية ) بينما يذكر موسى 25 مرة فقط، ويقول عنه ” عبد آمين خادم للخطية”( لأنه يقدم شريعة حرفية، بالمقارنة بالمسيح الذى يزيل الخطيئة من قلب الانسان ظل لمجد المسيح الآتى .. الخ، وذكر هارون 9 مرات وإبراهيم 10 مرات فى هذا الكتاب(3)
لوثر وكالفن اتفقا فى هذا الأمر، ولا يمكن نسبة ما يصفه الكاتب إلى أيهما ، والأخطاء فى الاقتباس والاستدلال متكررة وكثيرة، لا نستطيع أن نحصرها لضيق المكان .
الواقع أن لوثر دعا فى بداية حياته إلي” العطف” على اليهود وعدم القسوة فى معاملتهم، مع إصراره على أن” إيمان اليهود الحالى بالله باطل”و” حيث أنهم لا يقبلون المسيح، فهم لا يستطيعون أن يفهموا على الوجه الصحيح ما يقول موسى أو الانبياء ” و”نعرف سبب استكبار اليهود ورذالتهم .. هم يظنون أنهم يرثون وعود الله بالتناسل الجسدي، لا بالإيمان القلبي.”
” ولايوجد سبب لافتخار اليهود، بل عليهم أن يتواضعوا ” ” اليهود لم يعودوا شعب الله، بل المؤمنون الحقيقيون بالله ووعوده فى قلوبهم هم فقط شعبه “(3) واضح بعد كل هذا أن لوثر لم يروج ” إن اليهود أمة مفضلة مختارة، ولا داعى لأن نورد مئات المقتطفات مرة ثانية.
ويقول لنا الكاتب أن لوثر كان”يؤمن بأن نبوءات التوراة حول إنقاذ كل إسرائيل كاملة، ستتحقق وكان يلوم البابوية (الكاثوليكية) لتحريفها المسيحية وصدها بذلك اليهود عن اعتناقها” ((ص 145)، وكرر هذ القول فى عدة مواضيع من الكتاب.
لا شك ان لوثر كان يؤمن “بانقاذ” اليهود، ولكن الكلمة “انقاذ” لعلها ترجمة لكلمة salvation والمعنى الأدق “خلاص”.
لوثر كان يؤمن أن عددا كبيرا من اليهود سيتحولون إلى المسيحية فى آخر الزمان، والخلاص المقصود هنا هو الخلاص من الخطية، الذى آمن لوثر أنه لا يتأتى إلا بالايمان بالمسيح. هذ الاعتقاد لا يشير إلي”الانقاذ” بالمعني”السياسي” بل “الخلاص” بالمعنى الدينى .
وربما كانت سقطة لوثر فى أيامه الاخيرة ليست التحيز للصهيونية بل على العكس، معاداة اليهود. هذه هى الترجمة الأوفق لكلمة معاداة السامية، ففى آخر حياته نسمعه يقول: أحرقوا مجامعهم (معابد اليهود)، وما لا يحترق غطوه بالأوساخ أو ادفنوا فيها، حتى لا يبقى فيها حجر على حجر.. ومنازلهم كذلك اهدموها ودمروها “(4) “واطردوهم من بلادكم(5).
صيحة الكراهية هذه التى أطلقها لوثر هى ما يسوقها لنا المؤلف، منتزعا الكلام من سياقه فيقول:
” إن حركة الاصلاح البروتستانتى لمـا يئست من تحويل اليهود إلى البروتستانتية، تبنت الدعوة لعودة اليهود إلى فلسطين للتخلص منهم، وكان فى ذلك إعلان نشأة المسيحية الصهيونية”(كذا؟!!!)
ذلك أن لوثر قال “من يحول دون اليهود وعودتهم الى أرضهم فى يهوذا ؟ لا أحد. سنزودهم بكل ما يحتاجونه إليه لرحلتهم، لا لشيء إلا لنتخلص منهم “
لوثر يقول احرقوهم، دمروهم، اطردوهم من بلادكم لماذا لا يعودون إلى “يهودا”. لاحظ اللفظ الساخر الذى فرضه سياق الهجاء، لأن عالما كبيرا مثل لوثر لم يكن ليخفى عليه أن يهودا هى جزء صغير جدا من الأرض التى يحلمون بها) ثم يقول ” نحن لا نمنعهم . “وهو يدرك جيدا أن الذى يمنعهم كانوا العثمانيين حكام فلسطين فى ذلك الوقت ، أى كأنه يقول “ليحاولوا الرجوع فسيفشلوا لكن سيرحلوا عنا على أى حال” .
هذه ليست كلمات صهيوني، بل هى كلمات رجل فقد أعصابه من شدة الغيظ من اليهود. هل إذا كان قد قال “ألقوا بهم فى البحر” يكون بذلك قد أسس “للصهيونية البرمائية”؟
المؤرخون على اختلاف مشاربهم، رصدوا تحول لوثر من العطف على اليهود الى معاداتهم والدعوة الى قهرهم. على سبيل المثال يقول المؤرخ هاينرخ جراتز ” ..سمم لوثر العالم البروتستانتى لعهد طويل بكلماته المملوءة بالكراهية لليهود البروتستانت صاروا أكثر كراهية لليهود من الكاثوليك”.
حجم وعمق التأييد المعاصر لإسرائيل فى الأوساط البروتستانتية الغربية
أوضحنا فى عجالة بعض الاسباب التى تدعونا إلى الاعتقاد بأن تأييد إسرائيل ليس له جذور عميقة فى الفكر البروتستانتى الغربي، كما يوحى لنا المؤلف فى كتابه. وهذا يعنى أن التاييد الغربى الذى يقوم على تبريرات دينية، يمكن زعزعته، إن فهمناه وتعاملنا معه على الوجه الصحيح .
أما البعد الآخر، فهو ما تطرق إليه المؤلف فى أجزاء اخرى من كتابه، وهو ما يتعلق بقراءته لخريطة تأييد إسرائيل فى الدوائر الإيفانجيلية، والكيفية التى تؤثر بها هذه الدوائر بالذات على دوائر دينية أخرى خاصة عند الكاثوليك.
نجد لزاما علينا أن نوضح بعض المفاهيم، حتى يتسنى للقارئ متابعة ما نقول. البروتستانت، وعددهم حوالى 450 مليون نسمة، وهم المؤمنون بأن الكتاب المقدس وحده هو السلطة العليا للإيمان، وتقاليد الكنيسة تأتى فى المرتبة الثانية. إن البروتستانت يعتقدون أن كل المؤمنين كهنة وعلى قدم المساواة، ولا توجد طبقة خاصة للكهنة، وأن الخلاص بالإيمان والنعمة فقط، ولا توجد قيمة للأعمال الكفارية.
والبروتستانت الليبرالييون هم الذين يؤمنون بأن القيم المسيحية قيم إنسانية، وأن تاريخية المسيح ومعجزاته من عدمها مسائل ذات أهمية ثانوية، وأنه يجب فهم الكتاب المقدس، مع الأخذ فى الاعتبار أن به جوانب أسطورية، وأن الله موجود فى الإنسانية أو الكون كله، وكونه موجود فى ذاته بالمعنى التقليدى هو أيضا محل مراجعة عندهم.
اما الكلمة “إنجيليون” و “إيفانجليون”، فتطلق أحيانا على البروتستانت عموما . لكن التعبير الدقيق يشير إلى البروتستانت الذين يؤكدون على الخبرة الروحية الشخصية، اختبار الولادة الثانية أو التجديد، وضرورة التبشير، ويؤمنون بتاريخية المسيح ومعجزاته ووجود الله فى ذاته، وعصمة الكتاب المقدس، مع وجوب فهمه فى إطاره التاريخي.
وتطلق كلمة إنجيليين فى العالم العربى بشكل خاص، على أكبر طوائفهم، وهى الكنيسة المشيخية. وهم فى العالم العربى بالذات إيفانجيليون بصفة عامة فى ممارساتهم ومعتقداتهم، ويندر وجود الليبراليين بينهم.
الأصوليون المسيحيون تعبير نشأ فى أوائل القرن العشرين، فى رد فعل على الليبراليين، ويطلق على المتزمتين والحرفيين المؤمنين بالوحى الإملائى ) ويعتبر عديد من الإنجيلين أنه صار لفظا تحقيريا، يدل على التزمت وضيق الأفق).
نولى انتباه القارئ الآن، إلى أن الامريكيين فى معظمهم يؤيدون إسرائيل لأسباب مختلفة. وللأستاذ رضا هلال الفضل فى تنبيهنا أن معظم الامريكيين متدينون. كثير منهم ليبراليون فى تدينهم، وعدد يتراوح بين 20 إلى 40% منهم إنجيليون محافظون.
الواقع أن حركة تأييد عودة اليهود إلى فلسطين بناء على دوافع دينية، بدأت فعلا بمجهودات أناس مثل ويليم بلاكستون كما أشار الكاتب. ذلك أن بلاكستون قام بعمل تعديل بسيط، لكن مهم فى نظريات سكوفيلد فى القرن التاسع عشر، فقد أشارت هذه الحركة بناء على تفسير معين للكتاب المقدس يسمى ” سابقى الالف سنة” أن اليهود سيعودون إلى فلسطين بقيادة المسيح، الذى سيعود ثانية ليقيم ملكا بهؤلاء اليهود الذين سيتحولون إلى المسيحية.
إن معظم اللاهوتيين الإنجيليين، لا يتفقون مع هذا التفسير الذى لم يكن له أثر قبل ذلك فى أى أوساط مسيحية بروتستانتية أو كاثوليكية أو أرثوذكسية.
إن ما يهمنا هو أنه حتى هذا التفسير، قال بعودة اليهود بقيادة يسوع المسيح بعد مجيئه. لا قبل المجئ.
أما بلاكستون ففكر بأن يؤيد المشروع الصهيوني، لعل هذا يسرع بمجئ المسيح!!
وقد عارض معظم فقهاء اليهود المشروع الصهيونى فى بدايته، لأن النبوءات التى يؤمنون بحدوثها حرفيا، تقول بوجوب ظهور المسيا أولا.. وحيث أن اليهود ينتظرون مسيا آخر غير يسوع المسيح،) هوالذى ينبغى أن يقودهم لأرض فلسطين) فقد استنكر الفقهاء اليهود أنفسهم المشروع الصهيوني. لكن العودة عندما نجحت وأعلنت دولة اسرائيل قلبت موازين الأمور، فاستغل المتدينون من اليهود وبعض الإنجيليين هذا ليقولوا أن النبوءات صادقة، وتغاضوا عن المسيا وعن التجديد … وعن أمور أخرى ثابتة فى هذه النبوءات .
يمكن للقارئ أن يختلف مع هذه الأفكار، أو يظنها خيالية او خرافية، لكن الأسهل فى مناقشة دعاة عودة اليهود لفلسطين أن نطرح السؤال ” أين المسيا” واليهود والمسيحيون والمسلمون ينتظرون عودة المسيح فى نهاية الزمان، غير أن كلا منهم يعتقد أن المسيح الآتى سيكون على ديانته .
اليهود ينتظرون مسيحا يهوديا والمسيحون ينتظرونه. والمسلمون ينتظرونه مسلما حنيفا.
البعض ينتظرونه ليقيم ملكا على الأرض، وآخرون فى السماء.
ليس من الضرورى أن نتفق فيما سيحدث بعد أن يعود المسيح، الأهم الآن أن نوضح أن فى كل الكتب وفى كل التفسيرات لا يعود اليهود بدون المسيح.
أما بات روبرتسون وجيرى فالويل وعدد كبير من مبشرى التلفزيون، أو كما يقول المؤلف رعاة الكنائس التلفزيونية، فهم يستغلون الحماسة التى تثيرها عودة اليهود لأرض فلسطين. فى من يبحثون عن معجز أو عن دليل على إعجاز الكتب المقدسة، حتى لو كان الدليل مصطنعا أو غير حقيقى أو منتزع من سياقه.
هذا هو خصمنا فى جذور التحيز الغربى الدينى لاسرائيل المتاجرة بما يدعون أنه إعجاز. إن السكوت على ما يظن أنه إعجاز وتشويه التفاسير واقتطاع النصوص الدينية من سياقها، هو ما يجب علينا أن نواجهه، وهو واجب دينى قبل أن يكون واجبا وطنيا.
هل ينتبه كل منا إلى محاولة اصطياد إعجاز حيث لا إعجاز، والتنبؤ بأمور حيث لا تنبؤ، وهل نجرؤ على مجابهة المدعين من كل دين ومن كل ملة ومن كل خلفية ثقافية. إن لم نحب الحقيقة، ونبحث عنها بإخلاص، نخسر أنفسنا ونخسر فرصتنا فى الدفاع عن قضايانا.
المراجع
1- Plass، Ewald M. (1959) What Luther Says: An Anthology. Concordia Publishing House. Saint Louis، Missouri.PP685-9
2- Berkhof، Louis (1991) Systematic Theology. Eerdman”s Publishing Co.، Grand Rapids،USA.
3- Oswald، Hilton C.(1972) Luther”s Works. Concordia Publishing House.
4- Chapman، Colin ( 1983 )Whose promised Land? Lion Publishing Plc. Herts، England.P.31.
5- Ellisen،Stanley A. (1991) Who Owns The Land ? Multnomh Press .Portland،USA.P.77
6- Graetz، Heinrich (1898) History of The Jews. ، Jewish Publication: Society. Philadephia In Ellisen Ibid P.77
عن المنهج والتعميم والتطبيق (تقدير وتحذير)
الأستاذ/ جلال الدين عز الدين
كان المقدم الثانى شابا نابها متواضعا موسوعيا، هو الباحث جلال عز الدين، ولم نستطع للأسف أن نحصل على ما قدم مكتوبا منه حتى الآن، ونعد أن نقدمه فى عدد قادم إن أمكن. كما أن تسجيل الندوة قد أصابه عطب، حال دون تفريغه حتى الآن، لذلك نكتفى أن نورد بعض الملاحظات التى أثارها الباحث الشاب فى تواضع جم، واحترام محمود
أولا: كان زميلنا الدكتور أحمد عبد الله المدرس المساعد للطب النفسى بكلية الطب جامعة الزقازيق، هو الذى اقترح اسم هذا الباحث الكريم، ليشاركنا الرأى والحوار، بعد أن اعتذر هو عن مناقشة الكتاب لظروف خاصة، وكنا نريد بدعوة د. أحمد عبد الله أو من يرشحه أن نثرى الحوار، باعتبار الدكتور أحمد من المهتمين بالشأن الإسلامى فى صورته المعاصرة ، وفى نفس الوقت من المنشغلين بالهم العام الوطنى والقومى والإنساني، وقد أحسن الاختيار فنشكره.
ثانيا: فوجئنا أن الباحث الشاب الأستاذ جلال (المسئول عن أبحاث شؤون الشرق الأوسط فى موقع الإسلام على شبكة الإنترنت) فوجئنا أنه لم يتحمس – كما كنا نظن – للتفسير الذى قدمه الكاتب، والذى كنا نحسب أنه يروق لكثير من المسلمين، وبالذات من يستسهل التفسير التآمري، ويريد أن يختزل الأمر إلى امتداد عشوائى لثأر قديم، يصل حاضرنا الدامى بالحروب الصليبية، بدون موضوعية ولا ترو.
ثالثا: كانت أغلب انتقادات الباحث الشاب منهجية بحتة. تكاد تكون أكاديمية قح، حتى لاحظ بعض الحاضرين وجه الشبه بينه وبين مناقشات درجة الماجستير أو الدكتوراه. فقد تناول نقد المنهج، وأخذ على الكاتب التعميم، وكثرة الاقتطاف الانتقائي، دون مناقشة الرأى الآخر، وأحادية التفسير، ولم يصفق لتبرير التحيز الطاغى للغرب، ولا لمسيحيى أوروبا وأمريكا (متدينين وغير متدينين) لإسرائيل، دون أدنى موضوعية أو عدل.
رابعا: لم يطرح الباحث الشاب أى تفسير بديل، كما لم يتناول بالنقد أو المراجعة ، مثل د. إيهاب أى نصوص بذاتها، وكان هذا مقبولا ومفهوما، فالكاتب لم يعرج أصلا إلى تعميق وجهة نظر إسلامية،تاريخية أو معاصرة، تؤيد أو تنفى ما ذهب إليه.
قراءة فى كتاب:
المسيح اليهودى ونهاية العالم
المسيحية اليهودية والأصولية فى أمريكا
جلال الدين عز الدين علي
يمثل كتاب المسيح اليهودى ونهاية العالم نموذجا مثاليا للكتاب المعلوماتى الوصفي، الذى يزخر بالمعلومات والإحصائيات والاقتباسات المثرية للقاريء والباحث المتخصص، وفى الوقت نفسه لا يؤخذ منه استنتاج أو حكم، لأن هناك فجوة كبيرة بين البحث ونتيجة البحث، مصدرها اختلالات منهجية عميقة، وافتقار إلى التحليل المؤدى إلى التفسير.
وإلى جانب هذه الملاحظة العامة، توجد ملاحظات جزئية كثيرة.
وفيما يلى تفصيل لما سبق عرضه فى النقاط الثلاث التالية: مشكلة التحليل، ومشكلة التفسير، ومشكلات جزئية وشكلية.
أولا: مشكلة التحليل
التحليل هو عملية تفكيك للظاهرة موضع البحث، من أجل الكشف عن العلاقة بين مكوناتها، والخروج بنتائج معينة، عندما نعيد تركيب هذه الظاهرة، ونخرج من عملية الفك والتركيب بفهم أوضح للظاهرة.
ولذا فعملية التحليل تفترض أساسا أن يوجه الباحث طاقته من البداية، لدراسة مكونات واضحة فى ذهنه، واستكشاف العلاقة بينها، كما يفعل الطبيب الذى يقوم بتحليل عينه من دم المريض، لاستكشاف الأوزان النسبية لمكوناتها، والخروج بنتيجة، بأنه يعانى من أنيميا، أو سرطان أو غير ذلك والعياذ بالله، لأن نسبة هذا العنصر قليلة أو كثيرة، أو مفقودة، ولذا فلكل اشتباه فى مرض معين التحليل الخاص به الذى يركز على مكونات معينة فى عينة الدم، أو غيرها، للتوصل إلى إجابة تحدد بأكبر قدر ممكن من الدقة طبيعة المشكلة، أو بمعنى آخر تلمس حقيقة الظاهرة.
الكاتب الأستاذ رضا هلال لم يهتم بهذا البعد للعمل البحثى فى كتابه المسيح اليهودى ولم يكن ذلك ضمن أهدافه من تأليف الكتاب، التى كشف عنها فى مقدمة الكتاب; معلنا أن فرضية البحث هى كيفية تفسير تدين وتهود أمريكا. وهى عبارة مجافية للمنهجية العلمية فى ذاتها، وربما كان الأوفق القول: إن هدف البحث هو اختبار مدى صحة فرضية تدين وتهود أمريكا، أو على نحو أدق: ما مدى صحة فرضية تدين أمريكا، وما وزن البعد اليهودى فى هذه الظاهرة. وربما نضيف سؤالا مكملا هو: وما أثر ذلك على رؤية أمريكا وسلوكها (القيادة / الرأى العام أو قطاع منه / مؤسسة بعينها . . . إلخ) تجاه الصراع العربى – الصهيوني، لأن هذا الموضوع شغل حيزا كبيرا من الكتاب، وكأن ذلك التحيز الأمريكى لإسرائيل والصهيونية هو النتيجة المباشرة – فى مضمون الكتاب – للتدين الأمريكى المصطبغ باليهودية، بشكل مباشر وبدون جهد تحليلى يستحق الذكر .
ربما كان من الأوفق صياغة هدف البحث على ذلك النحو، ومحاولة الإجابة عن هذه التساؤلات من خلال دراسة العلاقة بين متغيرات معينة، أو الإجابة عن تساؤلات بحثية فرعية ذات طابع إشكالى من أجل الوصول إلى نتائج معينة، ولكن الكاتب – بدلا من ذلك – حدد مقولة معينة على أنها مسلمة، وحدد أن هدفه هو تفسير هذه المقولة، ثم كانت رحلة الكتاب كله; من البداية إلى النهاية حشدا للمعلومات والوثائق والإحصائيات التى تثبت هذه المقولة، ولا تفسرها، ولا تحللها.
فالكاتب مثلا، لم يعن بالبحث فى طبيعة التدين الأمريكي، ومدى علاقته بالأصول الدينية المسيحية أو اليهودية، وإن استشهد بهذه الأصول ، وورودها على ألسنة شخوص كتابه، فيما يخص مسألة محددة، وهى الصهيوية والانحياز لإسرائيل. وجاء استشهاده بهذه النصوص فقط من أجل إثبات مقولته المسلم بها من البداية، وليس من أجل تحليل العلاقة بين القول والفعل فى سلوك الأمريكي، أو كيفية فهم الأمريكى للنصوص أو صياغته لها. أو مدى تعارض النصوص أو توافقها . . إلخ مما تقتضيه محاولة فهم طبيعة التدين الأمريكي، باعتبارها صلب موضوع الكتاب .
وفى بعض المواضع بدت إشارات مبشرة بأن الكاتب وضع يده على نقطة هامة، كالقول بأن الكاثوليك الأمريكيين حاولوا أمركة الكاثوليكية، ولكنه لم يوضح بعد ذلك ما طبيعة النسخة الأمريكية من الكاثوليكية، وما مدى اختلافها عن النسخة الفاتيكانية. وهل حاول الأمريكيون البروتستانت أيضا أمركة البروتستانتية الأوربية أم لا؟ كما أوضح الكاتب فى موضع قريب أن الأمريكيين الكاثوليك وإن كانوا أقلية فهم أكثر تماسكا من البروتستانت (الأغلبية) لأنهم يتجهون إلى كنيسة واحدة، فى حين يتعدد انتماء البروتستانت إلى مئات الكنائس/المذاهب، ولكنه لم يوضح طبيعة التباين وحدوده بين تلك المذاهب. وهكذا كلما بدا للقاريء وميض تحليلى عميق، يخبو هذا الوميض على الفور، وتعود الوصفية المعلوماتية، المقصود بها إخضاع القاريء لمقولة الكاتب المسلم بها من البداية.
ولا يقتصر الأمر على هذا الإحباط المنهجي، بل إن المعلومات تتنافي، ولاتدل على المعنى الذى قصد إليه الكاتب، بحيث لا يبقى لدلاتها أثر، وفى موضع معين يوضح الكاتب مثلا، أن تأثير الفاتيكان على الكاثوليك الأمريكيين يتجاوز تأثير العلمانيين، ويستشهد بحوادث معينة، ثم لا يلبث أن يقرر أن ما يجمعهم بأمريكا أكبر مما يجمعهم بالفاتيكان، وأن الأمريكيين الكاثوليك عارضوا الفاتيكان فى بعض المواقف، مثلما عارضت الفاتيكان أمريكا فى مواقف معينة، هكذا بما يكشف عن أن طبيعة المشكلة لا تنصرف إلى العلاقة وبين الفاتيكان وأمريكا من خلال الكاثوليك الأمريكيين،ولكن إلى العلاقة بين الكاثوليك والبروتستانت داخل الولايات المتحدة، فى هذا المثل المحدد.
ثانيا: مشكلة التفسير
الخلل فى التفسير نتاج مباشر للخلل فى التحليل، ولذا ففى اعتقادى أن كل مايؤخذ من الكتاب هو بعض النصوص والاستشهادات، والإحصائيات، ومعرفة أن هناك ظاهرة معينة لها وزن فى المجتمع الأمريكي. وهذا ما يؤخذ فى كثير من الأحيان من الكتابات الوصفية، دون تحديد للوزن النسبى لهذه الظاهرة. فقد فهمنا أن هناك آلاف المؤسسات التى تؤمن بعقيدة معينة، وتعتمد على وسائل اللوبى والدعاية والعمل الجماهيري، ولكننا لم نفهم على الإطلاق الوزن النسبى لهذه الظاهرة بين الظواهر المحيطة بها، فى مجتمع توجد فيه هذه التنظيمات بعشرات الآلاف، وتجتذب إليها ملايين المؤيدين، وتدور فى علاقاتها مليارات الدولارات. ولم نفهم إلى أى حد تؤثر هذه البيئة فى صنع القرار الأمريكي، مقارنة بالمصالح الاقتصادية مثلا؟ ولم نفهم طبيعة العلاقة بين الانحياز الأمريكى لإسرائيل، وبين الواقع الإسرائيلى الداخلى والإقليمى: مثلا: مدى يهودية إسرائيل وتمثيلها لما يسمى الأمة اليهودية (لا يوجد تعريف متفق عليه لمن هو اليهودي. وهناك صراع بين يهود الولايات المتحدة ويهود إسرائيل على التعريف: والكاتب لم يلتفت مثلا لتأثير الجماعة اليهودية الأمريكية على المجتمع والسياسة الأمريكيين فى هذا المجال رغم أهميته)؟ ولم نفهم أثر حرب أكتوبر 1973 أو الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية أو اتفاقية أوسلو أو اغتيال رابين، وتولى نتانياهو أو شارون أو غير ذلك من المتغيرات الهامة على إدراك اللوبى الصهيونى لإسرائيل والصراع العربى الإسرائيلى ونظرتهم لمستقبله، أو علاقة أمريكا بإسرائيل . . . إلى غير ذلك من أسئلة ذات طابع تحليلي، أى تفكك الظاهرة، وتبحث فى العلاقة بين متغيراتها، من خلال رصد الواقع، بتحولاته، ومن ثم تعيد التركيب وتتوصل إلى استنتاجات مؤسسة على عمل بحثى جاد. وما يثير الدهشة أن رضا هلال اهتم بانتصار إسرائيل فى 1967 وتأثيره فى نمو الأصولية الصهيونية الأمريكية، ولم يهتم بالمتغيرات السابقة على أهميتها، وهو ما يؤكد حرص الكاتب على حشد كل ما يدعم حجته وليس اختبارها كفرضية.
الأرقام ودورها فى التفسير
كثيرا مانشاهد فى واقعنا المصرى نموذجا إدراكيا للاهتمام بالكم دون الكيف، والمطلق دون النسبي، بحيث يندفع أصحاب هذا النموذج إلى أحكام وتصرفات يثبت بعدها خطأهم، وأن الأرقام لا قيمة لها فى ذاتها. ومن ذلك مثلا نموذج الريفى التائق إلى العمل فى الخارج، الذى تعرض عليه وظيفة راتبها ألف ريال أو دينار، فيتهلل فرحا، دون أن يسأل عن مستوى المعيشة الذى يتيحه هذا الراتب فى الدولة التى سيعمل فيها، الذى قد يكون أدنى بكثير من وضعه القائم، وهى مشكلة تظهر لأن هذا العامل البسيط اهتم بالمطلق (الرقم) على حساب النسبى (علاقة الرقم بالأسعار السائدة فى البلد الآخر)، ولأنه لم يدرك أن العلاقة بين الرقم والسعر هى بمثابة وجهين لعملة واحدة، فالنقود ثمن للسلع، والسلع ثمن للنقود سواء بسواء، وقيمة المال تتحدد بما يشتريه من سلع وخدمات، وهذا هو ما يعرف فى علم الاقتصاد بالدخل الحقيقي، فى مقابل الدخل النقدى (الكمى).
وفى كتاب رضا هلال المسيح اليهودى نجد النموذج منطبقا بشقيه: الانخداع بالأرقام الكبيرة، وعدم إدراك الوجه الآخر للعمله.
نجد أرقاما كبيرة لظاهرة التدين الأمريكي، من قبيل أن نسبة الأمريكيين الذين يعتقدون بوجود الله 95%، وأن 82% يعتبرون أنفسهم متدينين مقابل 55% فى بريطانيا و54% فى المانيا، و 48% فى فرنسا، وأن نسبة من يذهبون إلى الكنيسة أسبوعيا فى أمريكا 44% مقابل 18% فى المانيا و 14% فى بريطانيا، و10% فى فرنسا، ونجد أرقاما بآلاف المحطات الإذاعية والتليفزيونية، وملايين المشاهدين، ومليارات الدولارات التى يجرى تدويرها فى العمل الديني، فى صورة تبرعات أو نفقات حملات انتخابية . . إلخ دون أن يتساءل الكاتب حول:
1- مضمون هذه المؤشرات، حتى أكثرها اتفاقا مثل إيمان 95% بوجود الله. ما طبيعة نظرتهم للإله؟ وهى هل نظرة متفق عليها بينهم أم أنها موضع خلاف؟ وما مستوى إيمانهم بصفات الله وتطبيقهم لها فى حياتهم؟ فالعلمانيون هم المعطلون الحديثون لصفات الله، فهم لا ينكرون وجود الله فى الغالب، ولكنهم يعتقدون بأن الله موجود ولكنه خلق الخلق ونسيه، وتركه يدبر شئونه بمعزل عن الوحي، ولذا فالإيمان بوجود الله أو الذهاب إلى الكنيسة أو الاحتفال بمناسبة دينية ما، ليست له دلالة ذات قيمة على الإطلاق فى الحكم بالتدين، أو تفسير موقف أو سلوك ما على أنه نتيجة لذلك التدين. وهل وجود عدة ملايين يشاهدون برامج دينية معينة معناه أنهم صاروا من أتباعها أو اعتقدوا بما تبثه ؟ رضا هلال نفسه من مشاهدى هذه البرامج ولكنه لايبدو من مؤيديها !
2- نسبية هذه المؤشرات بالمقارنة بمؤشرات العلمانية. فما هو الوزن النسبى لآلاف المحطات الإعلامية الدينية بين المحطات الإعلامية الأمريكية ؟ كمـا ونوعا؟
3- الوجه الآخر للعملة: ألا يمكن أن يكشف تصاعد الظاهرة الدينية (بصرف النظر عن وزنها) عن رد فعل على شيء ما: هو طغيان النموذج المادى لما بعد الحداثة، أى أنه دليل على عدم تدين المجتمع الأمريكي؟
القيمة التفسيرية للنصوص الدينية
إن الحكم بأن بروتستانتية الولايات المتحدة هى السبب أو الدافع لمساندتها لإسرائيل والصهيونية هو حكم لايثبت بذاته، ولمجرد أن النصوص الدينية البروتستانتية تنم عن ذلك . فقد انطلقت الصهيونية من فرنسا قبل الإصلاح الدينى البروتستانتي، أيدت روسيا (الأرثوذكسية) الصهيونية، بل إن أطرافا مسلمة قد أيدت الصهيونية قديما وحديثا. ولذا فإن من شأن ذلك التفسير الجاهز أن يعطل ملكات البحث العلمى لأن كل موقف أمريكى من الصهيونية وإسرائيل سيتم تفسيره بسبب واحد، رغم إمكانية تناقض المواقف.
لقد تعرض اليهود فى مختلف دول أوربا الغربية (البروتستانتية والكاثوليكية) للاضطهاد وللطرد ثم عادوا ثم طردوا أو بقوا . . وهكذا، دون أن يتغير مذهب الدولة الديني، فما تفسير ذلك؟ لابد أن يجتهد الباحث فى فهم البنية الاجتماعية السائدة فى كل مرحلة، ووضع اليهود فيها، ووضع القدس وفلسطين فى كل مرحلة. ويمكن القول إن الصهيونية تطورت من أفكار دينية متعصبة إلى أفكار قومية إلى مشروع سياسى إلى دولة، فى سياق تطور الدول الأوربية من ملكيات مطلقة تقهر رعاياها بالدين، إلى دول قومية علمانية عنصرية، وإمبريالية، فى الوقت الذى تحول فيه اليهود من أداة لاستغلال الشعود (كجباة ضرائب ومرابين) إلى سبب للنقمة والثورات، ومن قيمة نافعة (مستثمرين وتجار ومحصلى ضرائب ومرابين) إلى عبء (عندما تولت الدولة القومية الوظائف التى كانوا يقومون بها فأصبحوا بلا وظيفة)، مع العلم بأن كل دولة كان لها وضعها الخاص، وفى الوقت نفسه الذى بدأ فيه مسلسل الترهل والترنح فى الخلافة العثمانية. وأنه لو اختل أحد هذه العناصر، فإن النتيجة ستختلف عن الواقع الراهن. فماذا مثلا لو أن الدولة العثمانية كانت قوية وسيطرتها على فلسطين مضمونة؟ هل كان البروتستانت سيتبنون التفسير الحرفى للتوارة بعودة اليهود إلى فلسطين أم أنهم كانوا سيفسرون فلسطين بأنها الولايات المتحدة أو سويسرا . . إلخ، ويسبغون عليها صفات أرض الميعاد؟ وماذا لو أن اليهود بقوا عنصرا نافعا وغير مسبب للمشكلات الاقتصادية والسياسية؟ هل كانت الدول الأوربية ستعمل على طردهم أم استقطابهم؟ رغم أنها دول كاثوليكية تتهم اليهود بقتل المسيح وعدم الإيمان به أو بروتستانتية ترى أنهم لابد أن يتوجهوا إلى فلسطين؟
إذن النص وحده لايفسر شيئا، وخصوصا بالنظر إلى بيئة تتعامل مع النص الدينى كأنه قطعة صلصال يتم ليها وتشكيلها وإعطاؤها أكثر من شكل ومعني، وأحيانا تعلى تفسيرات الحاخامات والقساوسة على النص ذاته.
ثم لماذا لاتستهدف البروتستانتية الأمريكية تهجير اليهود الأمريكيين، فى حين دعت بحماس إلى تسهيل هجرة اليهود السوفيت إلى فلسطين وليس الولايات المتحدة؟
إن مثل هذه التساؤلات تشتبك مع الواقع ومعطياته، والبيئة التى يدور فيها الاستشهاد بالنصوص والاقتباسات، ولا تكتفى بالاستسلام لزبدها الراغي.
وهكذا يمكن القول إن الافتقار إلى العلاقة المقنعة بين السبب والنتيجة، هى آفة كتاب المسيح اليهودي، وهى نتيجة منطقية لضعف التحليل، وأن الكتاب لم يول أية عناية لما يسمى علم اجتماع المعرفة، بمعنى دراسة البيئة التى تطورت فيها هذه الأفكار والمعتقدات ، وتأثيرها فى صياغتها، أو تطورها ولكنه اكتفى بالرصد والوصف بدون أى جهد تحليلي، ثم انتقل من الوصف الانتقائى إلى التفسير دون هذا التحليل، ومن ثم افتقدت تفسيراته القدرة على الإقناع.
الديباجات والواقع
إن هناك واقعا استعماريا معينا، وهناك واقعا اجتماعيا سياسيا معينا داخل المجتمع الاستيطانى الأمريكي، يتطلبان تغطية بغلالات مقدسة، تلهب الداخل من أجل تتأييد المشروع الاستيطانى الإمبريالي، وتوحد ذلك الداخل المنقسم بطبيعة تكوينه، وتبرر قمعه واستغلاله للخارج. ومن يبحث فى المصادر الدينية، لن يعدم التوصل إلى نص هنا أو هناك يتم تفسيره بطريقة أو أخري، وتسويق الأهداف السياسية من خلاله. وهذا هو لب القضية فيما يتعلق بالاقتباسات التى أوردها رضا هلال فى كتابه، كدليل على أن أمريكا تلتزم بحماية اسرائيل كالتزام ثقافى وأخلاقى وكهنوتي، دون أن يوضح الوزن النسبى للمتدينين والكهنوتيين داخل الولايات المتحدة، ودون أن يستكشف نماذج التعارض بين المصالح الأمريكية والإسرائيلية من الواقع المعاش، لأنه لايهدف إلى البحث عن إجابة، ولكنه يهدف إلى البحث عن سند لمقولة جاهزة. ودون أن يوضح كيف أن الدين فى ذاته يدين مثل هذه الأعمال .
وخضع رضا هلال لطغيان هذه النصوص والاقتباسات الديباجية إلى الحد الذى جعله يفسر التزام أمريكا لإسرائيل بأنه التزام دينى من أكثر الدول فى العالم مادية وعلمانية، لأكثر دول العالم أيضا مادية وإباحية، وأن يفسر الحروب البريطانية الفرنسية أو الإسبانية حول العالم الجديد، بأنها حروب دينية وتنافس بين البروتستانت والكاثوليك من دول اعتمدت نهضتها الحديثة على التخلص من الدين إلا كديباجة يتم تسويق الأهداف السياسية من خلالها فى الوقت الذى تحرم فيه الديانة المسيحية الحرب، وتدعو إلى الابتعاد عن السياسة.
العلاقة بين السبب والنتيجة
ليست هناك علاقة علمية بين السبب والنتيجة التى يتوصل إليها الكاتب. وهذا من أكبر العيوب التى تشوب عملية التفسير، وتهدم جهد الباحث وتضعف مصداقيته. وقد حفل الكتاب بنماذج كثيرة للوقوع فى هذا العيب المنهجي، بتفسير كثير من الأمور السياسية بردها إلى العقيدة الصهيونية المسيحية وبدون أى دراسة لآليات الحدث المراد تفسيره، فلم يجر مثلا أى بحث لعملية صنع قرار معين، قبل الحكم بأن الدافع من ورائه كان الانتماء البروتستانتى أو الكاثوليكى للقائمين بالحدث.
وبشكل أوسع وأعمق، لم يبد الكاتب أدنى اهتممام بدراسة علم اجتماع الأفكار والمعتقدات التى شكلت صلب موضوع كتابه، فلم يبحث البيئة التى تطورت فيها هذه الأفكار والمعتقدات، وتأثيرها فى صياغتها، أو تطورها،ولكنه اكتفى بالرصد والوصف بدون أى جهد تحليلي، ثم انتقل من الوصف إلى التفسير دون هذا التحليل ، ومن ثم افتقدت تفسيراته القدرة على الإقناع.
ومن ذلك تفسير السياسة الخارجية الأمريكية بدافع الرسالة الصليبية العالمية. فى حين تشير الاستشهادات التى أوردها الكاتب للدلالة على أن تأثير الاتجاهات الدينية فى السياسة الخارجية كان فى شكل الأداة لزعزعة استقرار النظم الشيوعية فى العالم وخاصة فى أمريكا اللاتينية، وأنها استثمرت الصراع الاستراتيجى الرأسمالى – الشيوعى للانتعاش، وبالمثل تحاول انتزاع دور فى ظل النظام الدولى الجديد فيما بعد الحرب الباردة من خلال التركيز على القضايا الاجتماعية والثقافية وحقوق الإنسان، لفرض مفاهيمها فى هذا الشأن متحدية عولمة النموذج المادي.
ويوضح النموذج الذى استشهد به المؤلف، وهو تشريع قانون الحرية من الاضطهاد الديني، هذا الأمر، حيث يؤكد الكاتب على أن مشروع هذا القانون هو مبادرة يهودية أمريكية، ثم يستخدم النموذج فى تأكيد دور المنظمات المسيحية فى توجيه السياسة الخارجية. وبالنظر إلى القانون والصراع الذى تم لإقراره، تتضح حقيقة أن القانون صيغ بشكل فضفاض،ولم يكن محددا إلا فيما يخص دولا بعينها تعتبر فى قائمة العداء الصريح للولايات المتحدة ولا يضر ذكرها صراحة، كإيران والسودان والصين، فى حين لم تحدد الدول التى ذكرتها المنظمات اليهودية المحافظة والمسيحية الأصولية ضمن ذلك الصراع مع التيارات الليبرالية لإقرار القانون، كالسعودية وباكستان أو حتى مصر. الأمر الذى يؤكد أن الجماعات الأصولية تنجح فى صراعها مع التيار السائد والإدارة (العلمانية) فيما هو متفق عليه، مثل الأمر مع الشيوعية سابقا.
ويوضح الكاتب مثلا أنه خلال الحملات الصليبية على المشرق العربى الإسلامى تم اضطهاد اليهود، وتشكيل محاكم التفتيش . . إلخ وخلال الإمبريالية الغربية الحديثة على بلدان الجنوب، ومنها العالم العربى والإسلامى تمت الاستعانة بالهيود وتوطينهم فى فلسطين. وهذه الحقيقة حول وضع اليهود فى الغرب وعلاقة المسيحية الغربية باليهودية، لايكفى لتفسيرها فقط، أنه قد حدثت حركة إصلاح دينى أسفرت عن البروتستانتية التى أعادت الاعتبار لليهودية، وأنتجت فكرا مسيحيا صهيونيا سبق الصهيونية اليهودية بعقود . وهذه هى المقولة المركزية للكتاب.
ثالثا: ملاحظات جزئية وشكلية
اليهود الأمريكيون وإسرائيل كموضوع لا كطرف:
اليهود فى أمريكا صامتون فى كتاب رضا هلال، لا يتكلمون إلا نادرا، وفى بادرة من بوادره التحليلية الوامضة التى لا تلبث أن تخفت على الفور، عندما أوضح أنهم فى ذروة التأييد الأمريكى للصهيونية فى بداية القرن العشرين عارضوا الصهيونية المسيحية، وأكدوا رفضهم للتعامل مع اليهود ككيانات قومية متميزة، وفصلهم عن مجتماعتهم، وأوضحوا على ألسنة ممثليهم أن اليهود الصهاينة فى الولايات المتحدة لايتجاوزون 150 ألف نسمة، من بين أكثر من ثلاثة ملايين يهودى أمريكي! وبخلاف هذه الومضة لانجد أى تفاعل بين اليهود والمسيحيين فى أمريكا، ولاتفسير لتحول الأقلية اليهودية إلى الصهيونية، وكما سبق لايوجد أدنى اهتمام بالتفعال بين اليهود الأمريكيين وبقية المجتمع الأمريكي، وبين الصهيونيتين المسيحية واليهودية. والأمر نفسه ينطبق على إسرائيل.
السقوط فى المنطق الصهيوني: من خلال استخدام عبارات من قبيل الغزو العبرانى للمسيحية، وهو يقصد الغزو اليهودى للمسيحية الذى أسفر عن البروتستانتية، وهذا التعبير يفيد بأنه هناك استمرارية بين يهود القرن 16 والشعب العبرانى قبل الميلاد، وهو زعم صهيونى مرفوض تاريخيا وعلميا.
عدم تحديد المفاهيم والمصطلحات: وخاصة التى تعبر عن المذاهب المسيحية
أسلوب القص واللصق: تكررت فى مواضع مختلفة من كتاب عبارات وفقرات بأكملها، بنصها، أغلبها أحكام أو اقتباسات معينة، نتيجة إصرار الكاتب على الدوران حول فكرة واحدة، ومحاولة إثباتها فى كل موضع بشكل يبعث على الملل، حتى إنه بالإمكان تجاوز فقرات أو حتى صفحات بأكملها، لأنها لا تحوى جديدا فى الفكرة أو حتى فى النص.
غياب المنهج فى العرض والتتبع: هناك تتابع تاريخى واضح فى فصول الكتاب من عصر المسيح عليه السلام إلى عام 2000، ولكن داخل كل فصل من هذه الفصول يتم إيراد موضوعات سبق تناولها، وأحيانا بنصها، على النحو السابق بيانه، ولا يوجد تحديد واضح لموضوع الفصل وسياق الكتاب بشكل عام، وذلك فى ظل منهج حشد المعلومات، والانتقال مرحلة مرحلة، بدون تخطيط موضوعي، ففى كل فصل تجد الخلفية التاريخية المعادة، وتطور البروتستانتية، ويختلط البحث بالنتائج، وتتداخل الفترات الزمنية، وأحيانا يتم القفز من قرن إلى قرن أو قرنين تاليين للحكم بأن هناك استمرارية معينة فى التأثر البروتستانتى باليهودية، دون أن يكون هناك أدنى التفات لما تم خلال هذه المساحة الواسعة من تأثير متبادل بين الفكر والواقع.
يهودية المسيح: وصف تكرر من الكاتب كثيرا فى الكتاب سواء على سبيل الاقتباس ونقل أفكار الآخرين، أو على لسان الكاتب، بالحكم بأنه ولد يهوديا. وهو أمر لا يمكن التساهل فيه، باعتبار اليهودية ديانة، وليست قومية، وحتى الكاتب نفسه أورد اقتباسات لقساوسة، أفتوا بأنه دينيا لا يوجد شيء اسمه اليهومسيحية، وأن ذلك مجرد تعبير سياسي، وممثلين لليهود حذروا من التعامل مع اليهود ككيانات قومية. وطالما لايوجد دليل على أن المسيح ولد يهوديا، فلم يكن من التوفيق استخدام الكاتب لهذا التعبير والحكم، ناهيك عن وجود نصوص إسلامية تؤكد إسلام المسيح عليه السلام وتبشيره بالإسلام ورسوله.
خاتمة:
من بين الفوائد التى استخرجتها من هذا الكتاب، موضوع كثيرا ما نشغل به فى عالمنا العربى والإسلامي، ونبالغ فى التعويل عليه تفسيريا بلا جهد تحليلي، وهو تأثير اللوبى اليهودى الصهيونى فى الولايات المتحدة. وكل من يقرأ كتاب رضا هلال المسيح اليهودى سيدرك على الفور أنه بدون يهود وبدون لوبى يهودى فى الولايات المتحدة، فإن السياسة الأمريكية تجاه عالمنا العربى والإسلامى هى سياسة معادية، وأن صهيونية الولايات المتحدة تبلورت رغم أنف يهودها، ثم لم يجد هؤلاء اليهود بدا من الخضوع للصهيونية الأمريكية فى النهاية، وهو عكس التصور الشائع لدينا بأن السياسة الأمريكية ضحية مسكينة للوبى اليهودي! التى نبرر بها تحالفنا مع الولايات المتحدة ضد مصالحنا القومية وهويتنا الحضارية الإسلامية، ومن منطلق إسلامى سلفى معاد لليهود أحيانا!
لمحات من المناقشة
أهمية الموضوع وضرورة الحوار
بدأت المناقشة بالتذكرة بطبيعة الندوة، وشكر الحاضرين الذين امتلأت بهم القاعة على غير العادة، وشكر المؤلف الذى تفضل بالحضور، على الرغم من أنه لا يشترط حضور مؤلف العمل المقدم، لكن تكبد المشقة زاد الندوة جدية، وأثرى الحوار بلا جدال.
نبه المقدم على رأيه من أن أسعد ما يسعد مؤلف لمثل هذا العمل الموسوعى الجاد، هو أن يؤخذ مأخذ الجد، بغض النظر عما إذا كان مضمونه قد قبل أو رفض، وأن ما قدمه المقدمان هو منتهى الجد، ومنتهى الاهتمام، وبقدر محدود من الهجوم العشوائي، أو التجريح المقصود. ولولا أن المؤلف قد قام بهذا الجهد الرائع لإخراج الكتاب لما لاحت فرصة هذه المراجعة فى هذا اللقاء.
= قال المؤلف توضيحا، وربما دفاعا، بعد شكر منظمى الندوة والمقدمين، أن الكتاب لا بد أن يقرأ فى حدود ما وضع له، فهو صحفى وليس باحثا أكاديميا، والكتاب مكتوب للرأى العام، وليس للتقدم لجائزة علمية، أو لنيل درجة علمية، وكل المعلومات التى وردت به هى من مصادر موثقة، ومصادر معلوماتية حديثة من مواقع جادة على شبكة”الإنترنت”، وأن الفكرة العامة، والتنبيه على ضرورة عدم اختزال التحيز الأمريكى لإسرائيل، إلى ما يسمى “اللوبى الصهيوني” قد وصلت لأغلب من قرأ الكتاب بحجم مناسب، وأن أغلب المآخذ التى أخذت على الكتاب لم تخرج به عن فكرته المحورية، وهى ضرورة استيفاء معلومات القضية، والبحث وراء الأسباب الظاهرة، حتى نجد أسبابا أخرى ، وليست بالضرورة بديلة.
جاء عدد من الردود على توضيح المؤلف على الوجه التالي:
(1) إن مسئولية الصحفى عن تقديم المعلومات، ليست أقل من مسئولية الباحث الأكاديمي، وإذا كان بعض الاختزال والتبسيط مقبولا من الصحافة اليومية ، فإنه ليس كذلك تماما فى كتاب يكتبه صحفى . ثم إن خطر المعلومات المهزوزة المصداقية على الرأى العام من صحفي، أكبر كثيرا من خطر معلومات أكاديمية قد لا يحصل عليها الشخص العادى فى وجبات قراءته اليومية أو العادية.
(2) رجح آخر – بعد شكر المؤلف – أن المؤلف قد بذل الجهد اللازم لجمع المعلوما الضرورية وأكثر، لكن الكتاب يمكن أن يوصف بأنه غرق فى فيضان دفق المعلومات خاصة تلك التى تتوافر بغزارة من خلال شبكة الإنترنت، وهذا ما ينبغى أن ينتبه إليه كل المؤلفين والقراء على حد سواء. إنه بقدر ما سهلت لنا الوسائل الحديثة الحصول على المعلومات، زادت من مسئولية الباحث والقارئ فى الانتقاء والتمحيص.
(3) قال أحد الحضور (الإنجيليين) إن أصدقاءه جميعا ، دون استثناء، من المسلمين، وأنه لا يكاد يرى مسيحيين إلا فى الصلاة فى الكنيسة، وإن علاقته بهم طويلة وعميقة وحميمة. ثم تساءل: ما ذا يكون رأيهم فيه شخصيا إذا قرأوا هذا الكتاب، وبلغتهم بشكل مباشر أو غير مباشر وجهة نظر المؤلف ، أو لعلها وجهة نظر من اقتطفهم؟ أليست هذه مسئولية الكلمة المطبوعة.
وبعــد
كان من أهم إيجابيات الندوة أن أثارت الموضوع برمته، وأنها دعت الجميع دون استثناء إلى استمرار التقصي، وأن التساؤل ما زال قائما يبحث عن تفسير لهذا التحيز الغربى الشمالى عامة، والأمريكى خاصة، لما هو إسرائيل معنى ودولة، وأنه يستحيل أن يكون التحيز لمجرد تحقيق أسطورة شائعة، أو رؤية نبوية واعدة، أو وعد إلهى غامض لا يمكن أن يكون صدر عن الحق العدل سبحانه وتعالي، على حساب أطفال أبرياء، وليتم بطرد خلقه من ديارهم، وديار أجدادهم لحساب تحقيق ما تصوره مجموعة من المستعمرين خاصا بهم. فالله سبحانه رب الفلسطينين والإسرائيليين ، بل هو رب المؤمنين والملحدين على حد سواء، وهو لا ينتظر – تنزه وتعالى – إذنا بربوبيته من أحد من عباده أو منكريه. ولا يظلم ربك أحدا.
ثم هب أن كل ما جاء فى الكتاب هو صواب فى صواب، فإن مجرد إثبات ذلك قد لا يكون هو المطلوب، بل قد يكون مضرا، إذا أصبح تبريرا أو تفسيرا لا يعقبه تخطيط ومواجهة. إن المطلوب سواء حصلنا على تفسير أم لا ، سواء كان التفسير الذى حصلنا عليه صحيحا أو خطأ. المطلوب هو أن نعد عدتنا الأن، وليس بعد لمواجهة كل القوى الظالمة والمتعصبة، والمتحيزة، الآن وليس تاريخا. صحيح أن التاريخ سوف يضيء لنا زوايا ينبغى أن تضاء، لكن الصحيح أيضا هو أن هذه الإضاءة لا بد أن تسخر الآن فى فعل إيجابى قادر ليس على مستوى أطراف الصراع المحلى ، وإنما على مستوى البشر كافة.
ندوة يونيو 2001
مقتطفات من شعر د. أحمد تيمور ، من ديوانى
البراكين الطيبة. شجن شجر الشوارع.
(تقديم د. أحمد عبد الله، ود هانى يحيى)
التقديم العام:
بدأت الندوة بالتذكرة أن هذه الندوة تتجنب تقديم ما نتصور أنه نقد الشعر . الشعر لا ينقد بعبارات ، قد لا ينقد الشعر إلا شعرا، مثلما كتب محمود محمد شاكر قصيدته على قصيدة الشماخ المسماة “القوس العذراء.
ثم تساءل مقدم الندوة عن ما هية الشعر، واسترجع المقدم تساؤل صلاح عبد الصبور عما إذا كان الشعر حالة ، أم حلية، أم أسلوبا، وانتهى صلاح إلى أنه حالة.
وأشير إلى أن الشعر هو جرعات من الكشف المكثف ، يتجلى فيها إعادة تخليق اللغة ، جنبا إلى جنب مع تشكيل الزمن (الإيقاع). فكيف بالله يتجرأ أحد أن يزعم أنه ينقد شعرا.
لكن يبدو أنه فى نهاية النهاية ، مادام ثم شاعر، وثم متلق، فما بينهما هو الناقد.
ولكن – أخري- نحن لا ندعى الوصول إلى مرتبة النقاد، فهو التلقى المشارك، إن صح التعبير.
وقد عرجت المقدمة إلى المعركة الدائرة حول قصيدة النثر، وخاصة بعد ما عاد لإثارتها عبد المعطى حجازي، حتى وصل الحوار إلى ما يشبه السباب بينه وبين الدكتور جابر عصفور وآخرين. وتساءل المقدم عن رفض شعر جويدة بوجه خاص رغم شعبيته وجاذبيته وسلاسته، وقد وصل السب النقدى إلى نص يصفه ساخرا”شعر دا يا مرسي” ( اقتباسا من مدرسة المشاغبين:”سنتنتنضم” إنجليزى دا يا مرسي؟). ولم يتردد المقدم فى إعجابه المتحفظ بكل من شعر جويدة وتيمور، وأن السهولة لا تعيب الشعر، والموسوعية وحضور المعنى المباشر من حيث المبدأ لا ينقصان من قدر الشعر شعرا، ما دام قد تكثف وتنغم وجدد واخترق.
بدأت الندوة بكلمة د.أحمد عبدالله الطبيب النفسي، الذى كان وما زال أحد أعمدة هذه الندوة وهذه الدار التى تعقد فيها الندوة، ثم إنه من رواد ومريدى صالون الشاعر صاحب الديوانين المقدمين د.أحمد تيمور، وقد أوجز ما قدمه كتابة فيما يلي:
لمـــاذا ؟!
د.أحمد عبد الله
لماذا ندوة، وإذا كانت ندوة، فلماذا الشعر؟
وإذا كان الشعر فلماذا أحمد تيمور ؟!
الندوة عندى تعنى محاولة جديدة للكسب المعرفى (ملقيا أو متلقيا)، وأزعم هنا أنى أجد ضالتى فى هذه الندوة. فأواجه جوانب تحدياتنا، وأعيش أزمتنا المتمثلة فى التوقف عن إثراء الوعى المعرفي. هذا ببساطة ما نحاوله هنا فى مثل هذه الندوات. سواء قدمت عملا يعجبني، أو لا يعجبنى فهى تزيد شيئا فى رؤيتي، وأظن هذا المراد.
فلتكن إذن ندوة . . . فلماذا الشعر ؟!
الشعر جامع الفنون (دراما – أطروحه – تشكيل – موسيقى – بعد فلسفى – بعد نفسى) الشعر هو التجريد الكثيف المثير لمختلف الحواس، ومع ذلك فتقديم الشعر يمثل بالنسبة لى صعوبة كبيرة، فالشعر هو التقديم، وهو الشرح النهائى المجرد، بيت من الشعر قد يجب صفحات من الكتابة المنثورة، الشعر لا يقدم بل يقرأ أو يسمع فيفعل بك ما يفعل، تحمله أو تنساه هذا حقك وهذا حقه بدون نقاش.
ورغم هذه الصعوبة الكبيرة، فلا بأس من المحاولة .
فليكن الشعر . . . فلماذا أحمد تيمور!؟
يوجد الآن بيننا كيان شعرى مميز بالفعل، اسمه أحمد تيمور (فى ليلة سمعت شعرا بالبرنامج الثاني، وفى منتصفه قلت: هذا شعر تيمور، وقد كان) وهذا وحده جدير بالنظر (قابلا أو رافضا هذا حقك). قد يثير هذا اتهام من قبل بعض الناس للشاعر بالنمطية، ولكن من وجهة نظري، هذا يعبر عن وجود شخصية شعرية مميزة ولها خصوصيتها، فأنت تسمع شعرا تقول هذا نزار قباني، وتسمع موسيقى تقول هذا عمار الشريعي.
ظهر أحمد تيمور على الساحة الشعرية فى عام 1990، بديوانه الأول ثنائية الطفو والغرق، وبلغت دواوينه حتى الآن أربعة عشر ديوانا، فحفر لنفسه فى خلال عشر سنوات مكانا ثابتا فى ساحة الشعر مناوئا من ظهر من قبله بعشرات السنين، وأثار جدلا كثيرا ما بين محب أو رافض لشعره. وهذا أيضا جدير بأن يلتفت إليه، قد تعجب به، أو لا تعجب، هذا حقك، لكن أن تحسن قراءته فهذا حقه (قبل أن تحكم عليه).
وما بين يدينا الآن ديوان “شجن شجر الشوارع” ديوان تيمورى بما يحمله من زخم التاريخ والشخصيات والأماكن والألوان والصور الحركية. فتجد فيه التاريخ الفرعونى والقبطى والإسلامي، وحتى النظام العالمى الجديد ومن المتنبى وهوميروس وبيرندللو، حتى صلاح عبد الصبور وأمل دنقل. ويطوف بك أحمد تيمور الرحال من عمان إلى فاس وخان الخليلى والحسين وفلسطين.
انظر فى قصيدة عبير الأرجوان، فترى الصور الملونة المتحركة والتحولات بين النبات والحيوان والبشر:
”القرنفل صار عصفورا
وصار الفل قمريا
وصار الورد دوريا
وصار الشيخ زرزورا
وصار الآس شحرورا
وراح العندليب
يصف ريش جناحه
من سوسن حينا
وحينا من فروع الزعفران. . . “
ما يهمنى فى الشعر ليس الشعر، لكن “الحالة” الشعرية للشاعر، ما يثيرنى عند أحمد تيمور هى حالة الارتحال المستمر عبر النفس، عبر الآخرين، عبر الزمن، عبر البيئات والعوالم المختلفة، انظر:
”يا سادتى
إنى إليكم قادم
من أول التاريخ
خلفى فى الأماسى المعادة
والصباحات المكررة الطلوع
مغارب ومشارق
قد سرت
فوق المسرح المنصوب فى عمرى
وعدسة آلة التصوير تلتقط المشاهد. . . “
ومنذ أول قصيدة فى 1990 “شجرة توت “إسمي” حتى “مونودراما الممثل”. تتضح عملية الكشف المستمر، والإغارة على النفس فاستبصارها فاكتشافها ثم تأكيدها، وتتكرر المكاشفات الداخلية كثيرا، انظر:
”فسدى . . سدي
حاولت تطبيع العلاقة
بين أيامى وأحلامى
أجل
فقد اكتشفت
بأننى مثل المياه منافق
أتشكل الأشكال
تفرضها على جسدى الأوانى
أستقى من صبغة الإبريق
فالإبريق
ألوانى
وأفترض افتراضا ساذجا
أنى كيان رائق . . . “
أحمد تيمور لا يزال يحاول أن يكتب أحمد تيمور، يعريه ليكتشفه ثم ليؤكد وجوده، وهذا المبرر الحقيقى للإبداع، فالإبداع حركة مضادة لحقيقة الكون الفاني، والبشر الفانون.
لم يكن من الممكن التجوال داخل النفس، ومحاولة الإمساك بها، بدون التجوال فى الخارج، الآخر، الأشياء، حتى تكتمل الرحلة (رحلة الداخل والخارج) لكن أحمد تيمور فى ترحالاته الخارجية يرى الأشياء، ثم لا يكتفى بمشاهدتها، فيقترب منها ثم يلمسها ثم يصاحبها ثم يتوحد معها، انظر “قصيدة شجن شجر الشوارع”.
يرى الشجر أولا ويحس به ويخاطبه
”يأيها الشجر النبيل” . . .
يا أيها الشجر القتيل . . .
ثم يصاحبه: ” إننى مازلت مالكا الحزين على غصونك “
ثم يتقمصه: ” أنا ومنذ عرفت
أنك كالحسين تموت عطشانا
منعت الماء عن حلقي
ومائى بارد عذب فرات سلسبيل” . .
ثم المعيه والتوحد:”إنى ومنذ عرفت
أنك صورتى
فى الكائنات السندسية
منذ معرفتى
بأنى آدميتك النظيرة
أننا فى الكون
تكوين وتكوين بديل. . .”
أحمد تيمور لا يبحث عن ذاته ليؤكدها كيانا مستقلا وحيدا، لكن كيانا متمثلا فى “الأشياء” أيضا، فيصير الوجود البشرى رحبا متخطيا حدود الذات البشرية.
وإذا كانت القصيدة (والإبداع بشكل عام) حركة مضادة للفناء البشرى والكونى المحتوم، (تذكر ماتركه الفراعنة ليبقوا كيانا حاضرا بعد اختفائهم)، فالموت هو القوة الخفية المحركة لشعر أحمد تيمور أو فلنقل التسليم بالموت، ولكن الإبداع يجابه الفناء ويستخدم سلاح العشق سواء فى رحلة الداخل أو الخارج، فتجد أحمد تيمور عاشقا دائما لامرأة، للبحر، لشجرة، ودائما مصر، وكأن كل هذه المعشوقات شيء واحد، يحاول تيمور أن يقبض عليه ليؤكد وجوده الممتد .
العشق والموت ثنائية أحمد تيمور الرائعة. تذكرت غريزتى الحياة والموت (فى المنهج التحليلى) الأساسيتين للوجود. انظر تيمور يشدو لهما بهما:
“العشق والموت القريب
هما عمودا هذه الدنيا إذا وقفت
العشق والموت القريب
علاقتا قلبى
بوجه حبيبة لم يأت بعد . . . “
يا الله . . أحيانا أتصور أننا لو لم نكن سنموت، لم نكن لنعشق، ولم نكن لنبدع.
وأعرج جانبا على نقطة تهمني، واعذرونى فوطأة المهنة على ثقيلة، فأتذكر مرضانا الذين لم يحتملوا الرؤية فتناثروا، والمبدعون الذين استفزتهم الرؤية فشيدوا فنا، فلماذا هذين المسارين ؟!
أولا: لو نظرت لألم الشاعر هنا، تجده ألما آمـلا، بخلاف إحساس المريض العقلى – انظر: “لحبيبتى ألا تجيء الآن
لكن لى تصور أنها جاءت غدا
فالنجم يظهر صورة فى أفقنا
من بعد آلاف السنين من الأفول. . . “
وكأن ألم الرؤية عند المبدع لا يعجزه عن إيجاد مخرج
”لكننى فى الحق
انتظر التى ستجيء ماشية
على ساقيك
تمنح خضرة الفردوس للأسفلت
تطرح زهرتها للعاشقين المتعبين
فليس فى هذا وذلك . . . مستحيل”. . .
ثانيا: إرادية الرؤية وقبول اختبار المكاشفة، إدراكا لمتعة الرؤية المعادل لألمها
”سيبعثك الشوق بعد مماتك
حى العذابات
إن العذابات أعمالك الفاضلة”. . .
”ستفتح بابا وتغلق بابا
وسوف يظل العذاب عذابا
وسوف تظل السراديب
مجهولة الفتحات
روحك
سوف تظل بأسرارها جاهلة
وأنت حريص
على أن ترى كل شيء
وإن أخذوا مقلتيك عقابا لذلك
فالرعب سكناك
حين يراوغك الوجد باللافتات
ويحرمك الوصف
والكشف
واللحظة الفاصلة” …
وكأن المبدع يرفض أن يتجنب ألم الرؤية بالتوقف والجمود الوجودي، فذلك موته الحقيقي، ولهذا فعلاقة المبدع بالألم علاقة قابلة متحملة، وهذا فرق جوهرى بين المبدع والمريض، فالمبدع يتحمل مسئولية اختياره الإرادي.
” ليكن وراء الماء نار
ليكن أمام النار بحر
كامتداد الليل
أو سعة النهار
ليكن بحضن النار ماء
كالدم المغلي
يعدو فى عروقى
يشعل التاريخ فى جسدي
ويبدأ الانفجار”….
”النار أرحم
من عمود الثلج
أصبحه
وأمسى فيه
تذكارا عقيما لا يزار
النار ترجع بى
إلى كينوتى الأولى
رمادى الخصائص
إننى اخترت الرماد
وإننى أحياه
فى أعماق حسى الان
هذا الاختيار”
ثالثا: القدرة على العشق، لايمكنك احتمال ألم الرؤية وأنت وحيد تماما، ونرى المبدعون أقدر على الهروب إلى حب متصل
”حسب النهاية
أن أكون مكلفا بالعشق
مهموما بوخز الأبجدية
مولعا بالشمس
ممسوسا بجنى الجميل
معلما عيني
كيف تكون تجربة العيون
فى الانبهار” ….
رابعا: قبول ما يجب قبوله والتحرك فى اتجاهه، فنجد مثلا قبول الشاعر لرؤية محدودية الوجود وفصل هذا عن معنى الفناء – الانتهاء
”حسب الطريق
أسير فيه مفارقا للوقت
أترك فوق هذا الكوب الطيني
آثارا لخطواتي”…
هذا هو الموقف الإبداعى: “حسنا إذا كان الوجود فانيا فلنترك شيئا” بخلاف موقف المريض: ” إذا كان وجودى فانيا، فكل شيء بلا معني”.
خامسا: البحث الدؤوب عن يقين، اليقين هو الذات.
”وأنت تحب العصافير كاملة
والهوى كاملا
والحقيقة كاملة دون أى اجتزاء
وترفض أنصافها الباطلة”…
وموضوعية إدراك عدم حدوث ذلك:
”كذلك قالت لى القابلة
لذلك سوف تموت
وفى شفتيك الحنين
وفى رئتيك الأنين
وفى مقلتيك الرؤى الهائلة”…
وكأن اليقين الحقيقى عند المبدع هو التحرك نحو اليقين، وتحقيق الذات الحقيقى هو التحرك نحوها، والآخر الحقيقى يحضر بالتحرك نحوه.
وكأن الحركة (بالداخل والخارج) هو الحتم الوجودى المبدع، بل إن الوصول قد يكون التوقف والموت الحقيقي، والثمن . . هو هذا الألم الجميل الذى لا يكسر صاحبه
هذه حالة أحمد تيمور، وأظنها حالة إبداع حقيقى بهذه النظرة، وأظن هذه الحالة لا تجعلنى ألتفت للشعر التقنية والصيغة، فذلك ليس ضالتى بل هذه الحالة التى تفعل بالقاريء ما تفعله حسب تلقيه.
وأشارك هذا الرجل حمله الثقيل . .
”يا هذه الأشياء
أسألك التبصر
والتخيل والتفكر والتدبر
والتفهم والتوسط والمرونة” . . .
لك الشعر ياتيمور، ولنا مصاحبتك رحلتك المغامرة.
قراءة من الجانب الآخر
فى ديوان “شجن شجر الشوارع”
د. هانى يحيى
حين نبدأ فى الحديث عن ديوان شعر، نجد أنفسنا أمام العديد من القضايا، فمثلا، هل ما بين أيدينا شعرا؟ وما هو الشعر؟
اختلاف كبير وممتد حول ماهية الشعر، فلم يعد كما وصفه العرب القدماء، هو كل كلام موزون مقفى له معني، ثم لم نعد نعنى بالقافية، وصار الوزن مختلف عليه، وأصبح فقط موسيقى ما، وكان الشعر خلال تاريخه الطويل يعرف بالنفي، فهو ليس كلاما عاديا، أى أنه كلام مختلف، إذن فهو كلام، لغة، ذلك الابتكار الذى وقف الإنسان أمامه مبهورا حتى “فى البدء كان الكلمة”.
وقضية أخرى لا تختلف عن سابقتها فى الأهمية، ألا وهى وظيفة الشعر،أهو الشعر للشعر، أم الشعر النبوة، ولا نكاد نحسم شيئا .
واليوم نقدم لشاعر اختار اللغة العادية اليومية، الشاعر د. أحمد تيمور، ثم نرى تلك اللغة العادية تومض بين السطور أحيانا بصور وتراكيب، مثيرة للدهشة، وغير عادية، ومن بين اللغة العادية، ينسج صورة تأخذ فى الامتداد المكانى والزمنى واللونى والضوئى والصوتي، حتى نكاد نلمسها ونراها ونسمعها ومن ذلك مثلا قوله:
فوق شفا الرصيف
تتابع العربات
تملأ باللظى رئتيك
ثم تعيد ملأهما رمادا
والدخان يحط فوق القلب
لكن فى استخدامه للغة العادية، يسقط أحيانا فى الابتذال والعادية أكثر مما ينبغي، فنراه (كالهم الثقيل)، يا عيني، . . . . إلخ)، وكما تجذبه اللغة، يجذبه الامتداد أحيانا، ويستخدم الشاعر تقنيه السرد، مما يفقد القصيدة قوتها الشعورية الأولي، حتى إذا ما انتصفت، أصبح الاستمرار ثقيلا يحمل نفس الدفق الشعورى الذى بدأت به القصيدة، فمثلا حين يتحدث عن العشق والموت فيقول:
العشق والموت القريب
هما عمودا هذه الدنيا إذا وقفت
وساقاها إذا سارت
وعيناها إذا رقدت
هذا من ناحية الامتداد، وحين نتحدث عن التصوير، تجذبنا أداة واحدة يستعملها الشاعر بكثرة، وهى حرف الكاف، ليصنع به صورا، ولكنه الحرف الأضعف للتشبيه، والذى يفقد التشبيه كثيرا من قوته، فهو مثلا يقول:
مكتوبان كالكبريت
وأرى أنه من الأقوى مثلا أن يقول:
مكتوبان كبريتا
والأمثلة كثيرة على ذلك، ومايسرى على حرف الكاف يسرى على “كأن” ومثل ذلك فى أحيان كثيرة أدوات للتشبيه.
حين أقرأ شعر الدكتور أحمد تيمور أرى امتلاءه بالكثير جدا من أسماء الأعلام، سواء شخوص، علوم، مدن … إلخ، مما يشكل عائقا حقيقيا، لاستيعاب كل مفردة بما تحمل من تاريخ وإيحاء، يمتد عبر تاريخها، ولكن شحنتها تكاد لا تصل حين تلاحقها مفردة أخري، وهكذا فيقول مثلا فى قصيد درامي:
أنا يوليس قيصر روما، وأنا كسرى الفرس، أنا شروان، وأنا هولاكو خاقان التتر بن الخاقان، قل: أنا قيس . . قلت أنا قيسان …. إلخ.
وحين نتحدث عن الأفكار أرانى فى حالة من الغزو، تارة تغزونى الأسماء، وتارة الأحداث، وتارة العفاريت، وتارة أخري، الآخر الذى هو أنا، وأرى الشاعر ينساق من اغتراب إلى اغتراب فى رحلة ما بين العشق وبين الموت.
وأخيرا . . يثير الشاعر الكثير من الإشكاليات والأطروحات، التى تحتاج إلى المزيد والمزيد من الوقت وربما لن تحسم إلى الأبد.
وأخيرا . . يثير الشاعر الكثير من الإشكاليات والأطروحات التى تحتاج إلى المزيد
المناقشة والتعقيب
لم تجر مناقشات تذكر بعد التقديم، اللهم إلا مثال بسيط حول حساسية أحد الحضور لما أصاب الماء من تشويه، حين ضرب به مثلا للنفاق، مع أن الشاعر ما كان يقصد الماء العذب فى ذاته ، بقدر ما كان يشير إلى تشكله فى الإناء حسب شكل الإناء، واعترض المعترض حتى على التعريف الذى كان يعرفون به الماء فى دروس الأشياء والصحة، وأنه ” سائل بلا لون ولا طعم ولا رائحة”، واستشهد باعتراض شبه شعرى يقول” وتعلمنا: أن الماء بلا طعم ، وبلا لون ، وبلا نكهة، الماء الماء العذب، هو شهد الفطرة”وما بين شهد الفطرة، وأن يكون مثالا يشبه به المنافق يدور الحوار حول المعنى وليس حول الشعر، وهذا يظلم الشعر فى الحالين.
وقد عقب الشاعر د. تيمور على ما قاله المقدمان، أو بالأحرى المقدم الثانى الذى قال أكثر مما زودنا به للنشر فى الصفحتين السابقتين. بدا الشاعر مستثارا مدافعا، عنيدا، وهذا طيب لأنه شأن الشعراء منذ امرئ القيس حتى تركز فى المتنبى خاصة، قال د. تيمور ما موجزه، أنا أكتب ما يعن لي، هذا جزء لا يتجزأ من وجودي، هذه حياتي، لا يمكن إلا أن أكتب، وشعرا ، وهكذا، لا أحد يحق له ولا يستطيع أن يمنعني، يقول النقاد ما يقولون ولكننى سأظل أكتب..وليقل الناس ويختلفوا ما شاء لهم القول والاختلاف ” وكلام آخر بنفس الحدة فى هذا الاتجاه. بدا وكأنه يردد قول شيخ الشعراء “أنام ملء جفونى عن شواردها ويسهر القوم جراها ويختصم”.
لم نجد تفسيرا لهذه الحدة إلا أن الشاعر شاعر فعلا، وأن النقد أعجز عن يحيط بدفقة الشاعر، حسنا أو غير ذلك.
ولم تسنح فرصة لتناول بعد هام جاء فى قصيده الدرامى (المونودراما)، الذى كشف عن منظور نفسى رائع ، هو منظور تعدد الذوات. إن دراسة د. ماهر شفيق فريد لهذا القصيد، والملحقة بالعمل، لم تظهر هذا البعد المتعدد، وراحت تؤكد على مقولة”تحقيق الذات”، و”الوعى بالذات” ، الأمر الذى رأينا أنه يحتاج أن نفصله فى مبحث مستقل عن تعدد الذوات: حوار أم صراع أم تبادل أدوار نحو ولاف محتمل (من وحى شاعر).