قـراءة فى :
“حديث الصباح والمساء”
لـ “نجيب محفوظ”
يوسف عزب
يعتبر نجيب محفوظ أهم كاتب باللغة العربية فى أدب الرواية. وهو يحتاج إلى مجلة دورية تتخصص فى دراسته ودراسة أعماله حتى يمكن التعرف عليه وعلى عالمه أسلوبا ومعني. ولكنى سأقتصر فى هذه المحاولة على التعرف على بعض جوانب من شخصية الكاتب ظهرت لى بمناسبة قراءة هذه الرواية وكذلك بعض قضايا أرى أنها أساسية فى حياة الكاتب وصلتنى من هذا العمل.
أولا: من حيث بعض جوانب شخصية محفوظ
(1) لماذا يقلقنى محفوظ بصفة خاصة دون أى كاتب آخر؟
إذا فاجأك أحد الاشخاص – وأنت تتحدث معه، أو اكتشفت أنت، أثناء تأملك داخل نفسك – صفة خفية داخلك لم تكن تدرى عنها شيئا من قبل، فالحقيقة أنك قد يصيبك بعض القلق وقد يصيبك بعض الاهتزاز، وكذلك اذا رأيت بعينيك قيمة أو صفة جوهرية من صفات الوجود الإلهى أو البشرى أو الكونى فإنك – فضلا عن كونك تسعد بذلك – إلا أنك تقلق أيضا، ولكن يمكن فى كل الأحوال احتمال ذلك لقله حدوثه ولكن ما الحال إذا كنت أمام رجل لا يتحدث إلا عن جوهر الحياة وحقائق الوجود بعد أن يستبعد منها كل عرضي؟ فما يفعله نجيب محفوظ هو أن يصفى الوجود كله إلى حقائقه الثابتة التى خلق منها (وكأنه رأى الله وهو يخلق الوجود أمامه وعرف منه حقائقه الثابته التى لا تتغير أبدا) كذلك يفعل عندما يتحدث عن إنسان، فهو يصفى الإنسان نفسه إلى عناصره الجوهريه بعد أن يستبعد العرضى منها (وكأنه أيضا رأى الإنسان وهو يخلقه ربه ورأى عناصره الجوهريه التى لا تتغير أبدا) بل ويصفى الطبيعة نفسها إلى حقائقها الأولي، إذ يغربل الواقع فيلقى بكل ما هو عرضى جانبا ويأخد كل ما هو جوهر، فتجد نفسك وأنت تقرأه أنك أمام الوجود وهو يخلق وتجد أمامك الحقيقة والحياة عاريتين كما خلقهما الله، وإذ تراها جميعا هكذا تخفق كل خلية من خلاياك تجاه الحركة والفعل ووجه الحق، فأنت ترى الإنسان كما خلقه ربه والحقيقة كما أنشأها الله فلا تجد مفرا أمامك للهرب وتجد نفسك فى مواجهه حاده بين التغيير والثبات بين الفعل أو التوقف بين الحق وبين الباطل ذو الألف وجه.
هذا هو ما يفعله نجيب محفوظ.
وقد فعل محفوظ ذلك برواية “حديث الصباح والمساء”, جاءت الحقيقة عارية من أى شئ يسترها.
(2) قضايا أساسية تشغل محفوظ
يتضح من تتبع نجيب محفوظ وأعماله أنه منشغل بقضايا كثيرة أهمها الموت والإيمان والانتماء وقد وضحت كثيرا فى أعماله واتضحت أكثر فى هذه الرواية .
ومن أول القضايا التى تشغله قضية الموت وتفسيراته ومفاجآته وكيفيه مصاحبته وردود الفعل تجاهه وانتظاره والأهم من ذلك كله قبوله له . مما يجعلنا نطلق على نجيب محفوظ لقب “متحدى الموت”, ويبدو أن محفوظ منذ ميلاده يحاول أن يصاحب الموت قبل أن يلقاه، ويبدو أيضا أن تلك المحاولة بدأت مع إدراكه للحياة، فهو يحاول أن يراه بوجوهه المتعددة حتى يألفه – أن كانت ألفته ممكنة – وفى هذه الرواية أيضا شغلت هذه القضية محفوظ كثيرا منذ القصة الأولى (أحمد محمد إبراهيم) وحتى الأخيرة (يزيد المصري), فأظهر فيها صورا عديدة للموت – رحيمة وقاسية – من الموت الوحش المسعور، إلى الموت خاتم الرسالة، فالموت المفجر والحافز على المعرفة، والموت كجزء أو كمصاحب للحياة، الى الموت المفاجئ الخائن، والموت المسدل للستار لعرض لم ينته، وإن كان ظهوره فى هذا العمل كان بخلفية أحداث ووعى الأبطال وليس فى مواجهتهم – مثل الحرافيش مثلا فقد كان فيها متفجرا ومتحديا فى وعى الأفراد – فهو طوال الوقت حاضر ولكن ليس فى المواجهة.
وكانت ثانى القضايا التى تهم نجيب محفوظ وترتبط أشد الارتباط بالقضية الأولي، هى قضية الإيمان بالله والتدين بوجه عام، ويمكن القول بأن محفوظ قد ولد مؤمنا رغم أنفه، إلا أنه أصر على التعرف على خلايا إيمانه وتفاصيله، والتعرف على الله والحوار معه، والتعرف على إيمان الناس ودينهم وأشكال التدين لديهم … إلخ، وقد ظهر ذلك فى أشكال عديدة منذ روايات أولاد حارتنا، وحكايات حارتنا، والزعبلاوى … إلى هذه الرواية أيضا التى تناول فيها الدين وتطبيقات الناس له وتكيفهم معه وتكيفه معهم وهكذا …
على أن ثالث قضية وأسهل قضية – نظريا وإن كانت أصعبهم من حيث واقعه المعاش فى التعبير – هى قضية الانتماء أو “ماذا يفعل الانسان إزاء ما يعتقد”؟ فقد شغل نجيب محفوظ بهذه القضية أشد انشغال، إذ ولد وترعرع فى أحضان ثورة 1919 وسعد زغلول ويبدو أنه لم ير فى حياته زعيما آخر غيره، على أن الانتماء عند نجيب لا علاقة له بمضمونه ونوعه ولا هو يقتصر على الانتماء السياسي، فالانتماء عند نجيب يتلخص فى سؤال حيوى وثابت على مدى حياة البشرية ألا هو (ماذا يفعل الإنسان إزاء ما يعتقد؟ وإلى أى قدر يدوم اعتقاده وإلى أى مدى يصمد أمام الإغراءات ؟) وروايته هذه زاخره بكل تلك القضايا واستجابات الناس لها على ما فيها من تنوع هائل.
وقد كانت تلك هى عناوين أهم القضايا التى شغلت وتشغل نجيب محفوظ والتى تجلت بوضوح فى هذه الرواية.
(3) الوصف عند محفوظ
الوصف عند محفوظ يختلف عن الوصف عند أى كاتب آخر فهو لا يعنى معناه اللفظى الذى يعنى بالأوصاف الخارجية للأماكن والأشخاص وغير ذلك من الأشياء، ولكن الوصف عنده هو كشف – بكل ماتحويه هذه الكلمة من معنى – هو كشف بما يحويه من حل لألغاز الوجود الدائمة والمحيرة، وهو كشف بما يفسره من مشاعر غامضة تجاه ظواهر انسانية معقده وهو كشف لما يحويه من ترجمة أمينة لعلاقة الإنسان بربه والظواهر، ثم هو بعد كل ذلك التعبير الناضج عن كل ذلك .
يأتى محفوظ ليحل ألغاز الكون الدائمة، ثم يعبر لك عنه بالتعبير المناسب الذى لا تجد بديلا عنه، وبالإجمال، ويمكن القول إنه وصف يكشف الغامض ويصف العسير.
وسأعود إلى ذلك تفصيلا فيما بعد .
(4) الصدمة عند محفوظ
يعتمد نجيب محفوظ فى رواياته على أسلوب الصدمة والأمور غير المتوقعة، فقد لعب كثيرا على ذلك وخصوصا فى هذه الرواية.
وأهم الصدمات التى لعب عليها محفوظ هى صدمة الموت الفجائى سواء لطفل كما فى أحمد محمد ابراهيم أو لفتاة مثل بدرية حسين قابيل أو لشاب كما فى مازن أحمد عطا المراكيبي، وكذلك صدمات التغير الفجائى فى مسارات الحياة والسلوك غير المتوقع وقد كان من أشد الأمور التى غيرت قاسم فى هذه الرواية هى صدمة الموت الذى حطم واقعة وخلقه خلقا جديدا.
وهو أسلوب يهز القاريء ويجعله يستفيق من سيره الطبيعى ويضعه فى حالة انتباه وأحيانا غليان . .
(5) التناقض والخداع عند محفوظ
مع بعض التجاوز يمكن وصف العلاقة بين نجيب محفوظ كإنسان وأدبه بصفتى التناقض والخداع، فمحفوظ كاتب يفتح عينيه إلى أقصى الحدود، ولا يترك شيئا يمر من تحت يديه مهما صغر إلا ويراه ويثبت فيه رأيه وموقفه منه، كما أنه لا يترك أمرا للظروف أو الحياة أو القدر أو الدنيا أو الله، فكل أمر لابد أن يمرره من تحت مجهره ويقوم بتشريحه وإصدار الإنذرات عنه – مهما صغر – كما أنه شديد الدقة، شديد الصرامة، شديد الإحكام، شديد القسوة والحدة فى كتاباته، وقد كانت روايته هذه ملخص لكل هذه الصفات.
وهو يبدو فى أعماله على غير ما يبدو تماما فى حقيقته فهو كشخص شديد البساطة، شديد التوكل، شديد الرحمة.
ولا أعلم لهذا التناقض سببا اللهم إلا إفتراض أن هذه الكاتب يعتقد إنه شخص يؤدى الشهادة ويدلى بشهادته أمام التاريخ بكل أمانة ودقة وحدة، ثم يغلق ملف شهادته، ويلهو كما يلهو الناس.
(6) الرؤية العرضية عند محفوظ
الإبداع قد يكون من تفجر لحظة واحدة أو قد يكون تفجر عدة لحظات متتالية على خط ومعنى واحد.
فإذا جاء الإبداع نتيجة تفجر لحظة واحدة، كانت هذه اللحظة مشحونة، عالية الطاقة، فيظل الكاتب يحتك بها ويقلبها يمينا ويسارا وجنبا وعلى كل وجه ويقول ثم يعود فيقول مرة أخرى اعتقادا منه أنه لم ينته بعد من إفراغ طاقته وطاقة هذه اللحظة مما فيها من جحيم، وباعتقادى إنه يمكن تسمية هذه العملية بـ الرؤية العرضية فى الإبداع، إذ يأتى الإبداع فيها خطى عرضى وتكون الحركة فيه عرضية نتيجة الإعادة والتكرار.
أما إذا جاء الإبداع نتيجة تفجر عدة لحظات متتالية، فحينئذ يشتمل العمل على الحركة والنقلة المتتالية ويشار فيها للمعنى دون إعادة ويكون تجلى الإبداع فى الحركة والنقلة الدائمة فى العمل.
وقد جاءت رواية حديث الصباح والمساء من النوع الأول معبرة عن لحظة بذاتها – استمرت وقتا طويلا – عاشها نجيب محفوظ فاحترق بها وأصر أن يودعها أوراقه مهما كان الثمن صعبا، والشكل لعرضها أصعب، وهى رواية عرضية ليس فيها حدث ظاهر أو خيط واحد يتم تتبعه، فقد عرض كل فرد فى زمنه منذ ميلاده وحتى مماته، والذى قد يختلف تماما عن زمن وظروف الشخص الذى قبله أو بعده، وقد عرض حياة أشخاص الرواية دون اتباع لأى ترتيب واضح سوى الترتيب الأبجدى لحروف أسماء أشخاص الرواية وقد عرض لحياه أشخاص منذ ميلادهم وحتى مماتهم فى بضع سطور وتنتهى روايته عنهم عند ذلك القدر وقد تجد بعض التكرار فى ذلك، مما يجعلك ترجح النظره الأولى فى الإبداع ومحاولته إفراغ اللحظة من جحيمها.
لقد كان ذلك هو بعض ما وصلنى من شخصية الكاتب عندما حاولت قراءة العمل، ويتبقى محاولة تلمس ما أقدم عليه الكاتب .
ثانيا: بعض القضايا الأساسية التى وصلتنى من هذا العمل
يروى نجيب محفوظ فى هذا العمل حياة تفصيلية لسبع وستين شخصا ينتمون إلى أربع أسر تم ترتيب ورودهم بالرواية بحسب الترتيب الأبجدى لأسمائهم ودون تقيد بأى ترتيب زمنى أو تتالى فى الأحداث فنرى أن أول شخص بالعمل يمكن أن يكون قد ولد فى الخمسينات من القرن العشرين فى حين أن آخر شخص فيها ولد فى تسعينات القرن الثامن عشر، ودون رابط ظاهر إلا محاولة التنسيب لقرابة بعضهم لبعض، ودون حدث واحد يربط الشخصيات.
ولقد فرضت فرضا عندما حاولت فهم بعض جوانب هذا العمل، وهو أن نجيب محفوظ قد اهتم بمعان محددة وتتبعت تلك المعانى فوجدته يهتم بيقين الموت والإيمان والانتماء وسريان أحكامهم على مصائرهم الناس.
وقد تتبعت هذه الأحكام متصورا أن محفوظ يهتم بها أكثر من اهتمامه بأى شيء آخر.
ثم وجدت أن الأمر مختلف بعض الشيء، إذ وصلنى انطباع آخر هو أن أغلب إهتمام محفوظ ينصب على تصوير الحياة بوضوح بكل صغيرة وكبيرة فيها بما فيها من معنى ولا معنى، فاسقطت الفرض السابق (الموت – الإيمان – الانتماء) أو بالأصح جعلته فى الهامش وجعلت أشاهد الحياة معه كما أرادها محفوظ .
ولكنى فضلت بعد القراءة الثانية أن أركز على المعانى التى طالما أهتم بها محفوظ مثل الموت والتدين – حسبما تجلت فى هذه الرواية – كما فضلت التحدث عن نقطة أخرى مختلفة – ولكنها هامة – وهى مسألة الوصف عنده وطبيعته التى تختلف عن أى كاتب آخر، وأخيرا عرجت سريعا على قضية الانتماء عند محفوظ حسبما ظهرت من الرواية ولذلك سأتناول هذا العمل بالنظر إلى التحديد السالف بيانه، وقبل أن أفصل ما رأيت، أود أن أعرج سريعا على طبيعة هذا العمل ثم أبين قبل الحديث عن الموت كيف ضجت هذه الرواية بالحياة ضجيجا يساوى – إن لم يعلو – على ضجيج الموت.
طبيعة هذه الرواية
أزعم أن فى هذه الرواية ما يجعلها مختلفة عن أعمال نجيب محفوظ الباقية، ذلك أنها تتعرض إلى حيوات أشخاص كثيرة منذ ميلادهم وحتى الممات، أى للوجود الإنسانى المجرد أيا كان شكل وجوده سواء حوى معنى أم لم يحو أى معنى على الإطلاق، وتلك تجربة نادرة وثرية فى آن، وذلك لطبيعة الوجود الإنسانى ذاته الكثيفة والثرية والمتداخلة والغامضة فى آن واحد، وهو ما يتميز به الوجود البشرى – فهو يظل دائما أبدا فى حالة تكشف وافصاح دائم حين تعود إليه – تكتشف فيه جديدا وتفسره تفسيرا جديدا وتطلع على معانى جديدة فهو معون دائم للمعرفة .
ولقد زخرت هذه الرواية بسلوك غير مألوف وزيجات غير متوقعة وتصرفات حادة وطباع مختلفة وتحولات مفاجئة، والرواية إذ عرضت لهذا الكم الهائل من البشر، فإنها تحتاج دائما إلى قراءة مستمرة للتعرف عليها.
(1) ضجيج الحياة فى هذه الرواية
رغم صعوبة تصور فكرة محورية لهذا العمل لأنه كما قلنا يعرض لحياة عريضة لبشر كثيرين، إلا أنه يمكنى أن أجازف وأقول أن نجيب محفوظ شغله فى هذا العمل ( سر وجود هذه الحياة واستمرارها على أرض مصر) , والأغلب انه تساءل كما تساءلنا جميعا (ما سر وجود وسر بقاء حياه المصريين، وسر استمرارها؟ وما الهدف؟ وما الغاية؟)
يبدو أن محفوظ فى حياته وفى أدبه لم يصل إلى إجابة شافية لهذه الأسئلة، بل يبدو أحيانا أن محفوظ لم يهتم بالتوصل إلى إجابة عليها، إذ عرض لنا الحياة وعلينا أن نرى أو لا نرى غاية، فذلك لا يهم كثيرا، ويبدو فى أحيان أخرى أن محفوظ يشير فى إشارات بسيطة على لسان بعض أبطاله إلى الغاية فنجد راضية تسأل ابنتها سميرة بعد وفاة زوجها: ماذا تبقى لك بعد ذلك؟ فردت ابنتها قائلة: مخزن من التحف (كان يمتلكه زوجها), فأعقبت والدتها قائلة: بل يتبقى لك وجه خالق السماوات والأرض.
ثم نجده فى أحيان ثالثة يحاول الإجابة تفصيلا عن الغاية، فيجيب أولا: إن البقاء من أجل البقاء فقط – دون النظر أبعد من ذلك – هو غاية أساسية فى ذاته، فأنت حين تقرأ الرواية تجد أشخاصا عديدين تولد وتحيا وتموت دونما جديد، ودون أى معنى ظاهر أو واضح، ودونما غاية بعيدة أو قريبة سوى الحياة ذاتها، فهى الحياة من أجل الحياة، فتجد الحياة فى أبسط صورها تدافع عن نفسها أشد دفاع، تقهر الموت وتقهر الأحزان وتقهر كل شيء لتبقي، فجليلة مثلا يموت زوجها أثناء وصول أول هدية لعريس ابنتها فتخشى من مصادفة توافق لحظة وفاة زوجها مع لحظة وصول أول هدية من عريس ابنتها، فتقوم باستقبال هدية العريس باطلاق زغرودة الفرح أمام زوجها المسجى أمامها، ثم تعتذر لجثته عن هذه الزغرودة وأنها بذلك تتفادى الفأل الشؤم ثم تكمل نواحها ونديبها عليه.
فالحياة عند محفوظ لها أنياب وأظافر كما أن للموت أنياب وأظافر، ولولا ذلك لقضى الموت عليها ولكنه لم يستطع.
ثم سرعان ما يفاجئنا محفوظ بأروع ما لديه إذ يقول المقولة المناقضة لذلك وهى إن أكتفينا وتوقفنا عند هذه النوعية وهذا المستوى من الحياة (المشتركين فيه مع جميع الكائنات), فسرعان ما سنفنى ولا يـبقى الموت من هذه الحياة شيئا، ثم يفاجئنا محفوظ – فى مواجهة هذه النوعية من الحياة – بحضور الموت الفانى الذى لا يبقى ولا يذر (كمقابل ومرادف لهذا المستوى من الحياة) . فنرى الموت يفنى ويعدم ذرية كاملة ويحصد الأشخاص وتبلى به الأشياء – بكل الأسباب وبدون أسباب – دون شيء يبقى أو يذكر .
ثم يضيف محفوظ ما هو مرتبط بذلك، الحياة مرادف العدم لا تفرق عنه فى شيء – سرى فيها الموت الفانى – سواء عاشت لأحلام أنانية أو خلت من الفعل أو القرار مثل حازم سرور عزيز.
وكأنه ينذر بأن الاكتفاء والرضا بهذا المستوى من الحياة دون الطمع أكثر من ذلك هو ضد الحياة ذاتها ومرادف للموت بل يفنى تلك الحياة دون ذكر.
ولم تقتصر الرواية على ذلك، إذ يشير محفوظ إلى المعنى الباقى للحياة إذ يعرض لنا حيوات أشخاص مخلتفة كانت نوعيه حياتهم نموذجا مستمرا عبر الأجيال تتشكل منها المجتمعات وتتكون منها خصائص هذا المجتمع فتجد عرضه لها وعرضه لوفاتها وكأنها ستستمر وتتكرر عبر الأجيال. انظر مثلا فى وصفه لعمرو عزيز الذى أكمل حياة جميلة رائعة فيها حبه لمن حوله ووصفه لوفاته أمال رأسه وكأنما قد غفا وكأنه واعد بالعودة مرة أخرى فتلك حياة لا تنتهى ونوع من الخلود. ونماذج أخرى لم ينهى قصتها بموتها – (رغم ابتداء معظم قصص العمل بالميلاد وانتهائها بالوفاه) مثل من انتهى وعاش لفكره وحلم – مهما كان مختلفا عن عقائد الآخرين – مثل سليم حسين قابيل فقد أنهى قصته بأنه عاش مخلصا لحلمه.
وكذلك عرضه للموت الفداء الخلود أمير سرور عزيز الذى مات فداء وطنه والذى أنهى قصته بأنه أول من رفع الراية الحمراء من الأسرة – لاحظ لفظ رفع الراية الحمراء وكأنه بداية طريق وليس نهاية – فلن نجد معنى الفناء فى موت هؤلاء، فكل هؤلاء لم يسر عليهم معنى الموت الفاني، بل يقرر محفوظ أنهم ممتدون بشكل أو بآخر فى غيرهم عبر الأجيال . . فحياتهم لا تنتهى بموتهم الشخصي، فهناك من يأتى ليكمل المسيرة.
محاور أخرى فى الزمن واختبارات الحياه
كان عرض نجيب محفوظ للدهر – فى أغلب الأحوال – على أنه ضد الحياة وهو دائما مخبيء للأسى والألم ومن نجا منه قد فاز، فمعظم شخصيات محفوظ فى هذه الرواية ابتلاهم الدهر بالمآسى وانتهوا من حياة مستقرة هادئة إلى حياة مفعمة بالمآسي.
انظر فى مثال تعرض معظم شخصيات محفوظ للمال كاختبار حقيقى للإنسان فى حياته لا يمكن اغفالها، إذ ذكر عن عطا المراكبيى أن والحق أن الثروة . . . هتكت حرصه وشحه وجشعه اللانهائى إلى الثراء، وحتى عمرو عزيز يزيد فذكر عنه محفوظ أنه كان دائم التطلع لربط أسرته بالفرعين الغنيين فيها بتزويج أبناؤه الذكور منهم، وغيرهما من الأمثلة كثيرة مما زخر به العمل حيث كان المال والسعى ورائه فاعلا فى حياة أشخاص الرواية.
كذلك فى مثال استهلاك الحياة فى انتظار شيء مارغم البدايات الصحيحة وماتؤدى إليه من عقم كما فى غسان عبد العظيم وشاذلى محمد إبراهيم وعقل حمادة القناوى الذى لم يستطيع أن يؤمن ورفض أن يكفر …. وتفشى الشك فى خلاياه.
أجمل ما عرض من خلال العمل ما أظهره محفوظ من دورات الحياة.
من الازدهار إلى الضمور
من الحياة للموت،
وقد أبدع فى تصوير ذلك حتى يخيل إليك انك تنتقل دائما من الحقيقة إلى السراب
كما بدت ملامح صراع آخر فى الرواية بين ما مثلته المدنية الحديثة بكل قساوتها وبين ما كانت تمثله راضية من التوكل والطيبة … إلخ.
ختام هذه النوعية من ضجيج الحياة
لقد اختتم نجيب محفوظ هذه الحياة الرائعة، التى اختلطت وامتزجت فيها الحياة بالموت بالإيمان بالانتماء اختلاطا لاينفصم أبدا، والتى اختلطت فيها أيضا البساطة بالطيبة بالحزن بالانكسار بأحلام العذاري، اختلط كل ذلك بنسيج واحد فى حياة رائعة، استمرت على مدى أجيال طويلة من حياتنا وحياة مصر.
أعلن لنا محفوظ هكذا وبكل بساطه أن كل ما فى هذه الحياة من روعه سواء عاشها هو أو من قبله قد انتهى وقد جعل حياة حبيبة عمرو عزيز ووفاتها رمزا لهذه الحياة ورمزا لنهايتها.
لقد كانت حبيبة – حسب قول محفوظ – تمثل أروع ما فى هذه الحياة. انظر ما قاله عن حياتها إن يكن لميدان بيت القاضى والحوارى التى تصب فيه وأشجار البلخ السامقة أثر …. إن يكن للمآذن والدراويش والفتوات والأفراح والمآتم أثر إن يكن للحكايات والأساطير والعفاريت أثر، فهى حياة تجرى مع الدم … فى قلب حبيبة.
وفى موتها قال كانت حبيبة آخر من مات من آل عمرو , فبكت الجميع بحرارتها المعروفة حتى صفت عينيها , ولما ماتت لم تجد من يبكى عليها.
لقد كانت هذه الشخصية تمثل رمزا لهذا الحياة الرائعة الجميلة التى عرضها محفوظ وبكت الجميع عند رحليهم، ولأنها كانت خاتمة هذه النوعية من الحياة وكانت آخر من رحلوا ولأنه لا يوجد بعدها – من نفس النوع – فلم تجد من يبكى عليها.
(2) الموت فى هذه الرواية
لقد جثم الموت بثقل أنفاسه على الرواية من أول شخصية حتى آخر شخصية فى كل كلمة حتى ملأنا أكثر من الحياة .
ولقد تعددت مواضع وأشكال ظهوره، فهو مرة فى خلفية الأحداث وأخرى فى وعيك وأنت تقرأ وتنتظره وثالثة فى مواجهتك مباشرة فارضا نفسه عليك بلا حياء.
غير أن الرواية زخرت بنغمات شديدة الروعة عن معانى الموت، وتعددت هذه النغمات بتعدد زوايا النظر اليها. من منظور دور الموت فى حياتنا إلى منظور الموقف الشخصى من إدراك حتم الموت ودورة الحياة، إلى أخيرا المعنى الأدبى للموت.
وسأحاول أن أبين ما وصلنى بشكل عام عن الموت فى كل ذلك ومع اختلاف المعانى المتعددة التى أعطتها الرواية للموت مع اختلاف المنظور.
مقدمة لازمة
1- تملكتنى فكره دائمة عن الموت – قبل قراءة هذا العمل – تقول أن أحد المفاتيح الأساسية للشخصية المصرية على مر التاريخ هى نظرتها للموت .
وباعتقادى أن ما يمثله الموت فى حضارتنا يختلف عن ما يمثله فى الحضارة الغربية وتأثيره فى نوعية حياة شعوب الحضارتين .
فإن حضارتنا على مر التاريخ قد أدركت الموت إدراكا عميقا وغائرا وصعبا ولم تستطع هضمه واستيعابه وكان أن انكسرت أمامه انكسارا دائما ظهرت تجلياته فى حميع مناحى الحياة وخلص إلى نتيجة مؤداها أن الحياة لا تستأهل مادام الموت قادم قادم وترامت أشكال حياتنا تحت هذه المظلة ووفق تجلياتها من التقشف للزهد …إلخ.
ذلك بخلاف موقف الحضارة الغربية الذى أدركته إدراكا عظيما أيضا – ولكنها أخذت منه موقف مختلف تماما ولكنه موقف الإنكار- فقامت بإعلاء حياتها على حساب كل شيء.
* وباعتقادى أن تلك هى الأرضية الثقافية التى سادت وعى أبطال شخصيات محفوظ سواء كان ذلك بشكل مدرك أم غائر غير مدرك. لقد كانت تلك هى الأرضية، وتنوعت أشكال التعبير عنها بشكل خفى سأحاول بعد حين التعرض لها تفصيلا.
* على أن أروع ما فى محفوظ – ولعله أروع ما فى الحياة من تناقض – هو أيضا ما يؤدى إليه يقين الإدراك لحتم الموت من رد فعل عكسى بالتمسك بالحياه فى – أدنى أشكالها – فإذا كانت المسألة أن الموت قادم لا محالة وإنه لا فائدة من الهرب منه، فلنحيا قدر الإمكان وأيا كانت نوعية وشكل هذه الحياة ومهما تدنت مستويات البقاء فيها حتى لو كان من أجل البقاء فقط. فرأينا الأبطال – عند مستوى البقاء من أجل البقاء – تضج بالحياة وتدافع وكأنهم يحافظون على حياتهم حتى يأتى الموت ليأخذها.
2- كذلك كان لدى إعتقاد أن رد الفعل المفجع والمأسوى عند الأحياء لاختفاء شخص بالموت مرده أساسا إلى معاملة الموت كقاتل خائن فاجأ الإنسان من وراء ظهره وقتله.
لم ينكر محفوظ مفهوم الموت الخائن دائما ومفهومة كقاتل محترف ولكنه لم يتوقف فى عمله هذا عند ذلك ونظر إلى أدواره الخارجية الاجتماعية الفلسفية.
نغمات الحديث عن الموت فى الرواية
1- إذا انتقلنا بعد ذلك للحديث التفصيلى والمباشر عن الموت فى الرواية بتعدد نغماته – كما ذكرنا سابقا فى المقدمة – صور نجيب فى الأغلب الأعم من الرواية الموت كنهاية طبيعية لحياة كل فرد تاركا الحياة لوارثها الله رب العالمين فمن التراب نشأنا وإليه نعود ويبقى وجه الله (لا أصل لأحد منهم، كلهم نشأوا من التراب [راضية لقاسم مشخصة أحمد عطا]) إلى قول راضية لابنتها – عندماتوفى زوجها -: ماذا يتبقى لك ؟ فردت ابنتها قائلة : مخزن تحف – الذى كان قد تركه لها زوجها بعد وفاته – فردت عليها والدتها قائلة: بل يتبقى لك وجه الله ….
فبكل ذلك يعلن نجيب أن هناك حقيقة يجب أن ترسخ فى نفوس شخصياته بأنه لا أحد باق على وجه الأرض وكلنا زائلون، وتلك حقيقة غائرة يجب البداية منها وهى مفجرة لمزيد من المعرفة عن الحياة ومزيد من التعمق فى الحياة وغايتها. انظر قاسم الذى حطم الموت واقعه وخلقه خلقا جديدا (شخصية أحمد محمد ابراهيم) (لم يكن هذا الادراك للموت مثيرا للوعى والقلق بشكل مباشر لشخصيات هذه الرواية مثل ما كان فى الحرافيش مثلا فقد عاشت معظم شخصيات هذه الرواية – رغم هذا الادراك العميق للموت – حياة لا تنغصها فكرة الموت بشكل مباشر).
2- ظهر الموت كختام رائع لحياة رائعة لشخصيات كثيرة مثل عمرو سرور، عامر عمرو سرور، وكثيرين مثل راضي، وجليلة، ومعاوية .. إلخ (وإن كان لهم تشكيلات أخرى فى الموت).
ويرتبط بهذا المفهوم للموت مفهوم آخر بالعمل وهو أن الموت يعلن عدم تناسب الموجود مع الواقع الجديد وهو ما يصلك أيضا من النظر لختام الحياة الرائعة للأشخاص سالفة الذكر عندما اتسعت الحياة حولهم اتساعا عجزوا عن استيعابه.
3-تتدرج الرواية فتظهر لنا الموت فى شكل يجعلنا نقبله كجزء لا يتجزأ من الحياة ويكاد يكون صنوا لها. لا تتوقف من أجله فنرى :
أ- موت معاوية القليوبى : مسجى أمام زوجته ووصلت أثناء ذلك هديه عريس ابنتها ولخوف الأم من الفأل الشؤم من الوفاة على زواج ابنتها راضية تقوم باطلاق زغرودة احتفالا بالهدية ثم تعتذر لزوجها المسجى أمامها – لأن النواح فى هذه المناسبة فأل غير طيب – وتعود بعد ذلك لصريخها ونحيبها عليه (انظر كم كان الموت هنا جنب ضجيج الحياة وداخلها).
ب- وانظر أيضا كيف عرض وفاة والد مطرية كحدث ضمن أحداث الحياة ( مرض مرضا لم يمهله وتوفى فى الخمسين وورثت الأسرة البيت والمعاش ) ص 23
جـ – ويمكننا أن نكرر هذه المعانى من وفاة كثيرين مثل أحمد عطا المراكيبى وغيره … إلخ
4- على أن أهم المعانى المرتبطة بذلك كيف أنه عرض صوره أو احتمال أن يكون موت شخص ختام لمرحلة كاملة من الحياة، عرض نجيب – عندما عرض لوفاة حبيبة عرضا عبر به عن اختفاء مرحلة فى تاريخ حياة المصريين انظر ما قاله فى حياتها، وأن كان مكرر ومماتها قال أن يكن لميدان بيت القاضى والحوارى التى تصب فيه وأشجار البلخ السامقة أثر … إن يكن للمآذن والدراويش والفتوات والأفراح والمآتم آثر، إن يكن للحكايات والأساطير والعفاريت أثر، فهى تجرى مع الدم … فى قلب حبيبية.
لم يحب الأب والأم أحد كحبها لهما والأخوة والأخوات ولا أبناء العم حتى الجيران والقطط بكت كل راحل وراحلة حتى عرفت النائحة، حفظت الذكريات والعهود وثملت بالماضى وأيامه الحلوة. لاحظ هنا كيف أن حبيبة أصبحت تمثل العهد والزمن كله وبكل صفاته
وفى موتها كانت حبيبة آخر من مات من آل عمرو بكت الجميع بحرارتها المعروفة حتى صفيت عيناها ولما ماتت لم تجد من يبكى عليها.
ولم يبك عليها أحد لأنها كانت ختام العهد كله (أتذكر أنه قد انتابنى نفس الإحساس عند موت الفنانة ليلى مراد).
5- ويستمر محفوظ فى إظهار صور أخرى للموت من واقع الإدراك الإنسانى لحتم الموت ولكن عندما يسود هذا الإدراك الرضا والقبول بل يمتد ليصل إلى السعى إليه والرغبة فيه بل والنظر إليه كمخلص فنرى الموت – من وجهة نظر راضية وهى مقدمة عليه -نراه يعبر عن الرغبة فى الالتحام بالكل أو هو الرغبة فى الأنس الحقيقى أو الرغبة فى العودة إلى الرحم الكبير أو الرغبة فى التحرر من قيد الجسد والإحساس بكل ذلك . انظر حوار راضية مع ابنتها – قبل موت راضية بلحظات – يتحدث نجيب عن أن ابنتها تسمعها تغنى بصوت ضعيف قبل موتها بلحظات وتقول عودى ياليالى العز عودى فتسألها ابنتها : أتغنين يا نينه، فقالت راضية : كنت أغنى هذه الأغنية وأنا أرقص بين البئر والفرن، ومال رأسها الناحية اليسرى لائذا بالصمت الأبدى ….
ويمكن ضم هذا المعنى إلى وفاة بدرية حسين قابيل حينما قالت لأمها أنها رأت فى المنام أنها دعيت إلى نزهه بالقناطر فعرفت أنها ستموت وتوفيت عصر ذلك اليوم.
والقريب من هذا المعنى الذى يعطيه وفاة جليلة والدة راضية إلى أن كان نجيب قد ضمنه بعض الإيماءات الخاصة التى صوره كحدث جلل وغيب مجهول يقتحم فيقف الجميع له انتباه دون أكثر من ذلك وأن كان غير مكروه.
6- يتدرج محفوظ أكثر فيرينا الموت عندما لا يكون ختاما بل يأتى مقتحما حادثا فارضا نفسه على الجميع ضد كل التوقعات وكل الحسابات مفجرا لردود أفعال تبدأ من الدهشة لمحاولة المعرفة للتصوف للجنون وهو فى نفس الوقت عرضا لأدواره فى الحياة.
أ- انظر عرضه للموت وهو يحل مشكلة ما على طريقته الخاصة كموت سرور مثلا الذى مثلت حياته ونفسه سجل من الصراعات الإنسانية التى لم تحسم ولم يكن هناك فرصة لحسمها أو لتصالح أجزاء نفسه بعضها أوتتصالح نفسه مع الحياة , فجاء له الموت ليقول يكفى هذا وأغلق الستار على حياته . كأنه يغلق الستار على عرض إنسانى لم ينته بعد.
ب – ثم نرى الموت حينما يقتحم الحياة مهددا بالوحدة أو بغيرها . فنرى (دنانير) وهى تقول لأمها لا تتركينى وحدي.
جـ – ثم يتدرج أكثر فى وحشيته فيظهر الموت للناس وحشا مسعورا جبانا خطاف بلا منطق أقرب إلى العبث.
ولانعرف لماذا زخرت الرواية بكم هائل من هذه النوعية من الموت.
ويمكن أن تدرج تحت هذه النوعية كثيرين على سبيل المثال لا الحصر :
- جميلة سرور وأسرتها جميعها التى فنيت عن بكرة أبيها فى حوادث وحروب.
- مازن الشاب الجميل الذى غرق بالبحر.
- زينة خطفها الموت بنزلة معوية.
- حسن فى حادث.
- فهيمة وذريتها جميعا.
- أحمد محمد ابراهيم (طفل) بمرض غير مفهوم.
وإن كان أهم ما لفت نظرى كردود أفعال
رد فعل قاسم على وفاة ابن أخته أحمد محمد ابراهيم الذى اعتبره توأم روحه وكانا الأثنين فى سن واحدة (الطفولة) قبل الكتاب كانا يتبعان بعضهما البعض كالظل وفجأة اختفى احمد فى رداء الموت بلا مناسبة ونتيجة ذلك حدث ما حدث لقاسم (تحطم واقعه وخلق خلقا جديدا) وقد تخيلت أكثرمن مرة أن وفاة أحمد مجازية وأن أحمد ابراهيم هو جزء لايتجزأ من قاسم وأن هذا الجزء قد مات داخله وخلق خلقا جديدا، ولكن تمشيا مع واقع الرواية يقول أن وفاة أحمد ابراهيم كانت سببا مطلقا لتفجر قاسم بمعرفة جديدة وشخصية جديدة تشمل الغيب والتصوف.
أيضا رد فعل حبيبة لموت زوجها عارف المنياوى بعد سنة من زواجها والذى أقرب إلى موقف الحداد على الحياة نفسها، وليس الحداد على زوجها فقط وكثيرين لا تسعف بهم الذاكرة.
د- ولا يتركنا نجيب هكذا فيقرر أنه رغم الموت بكل معانيه، إلا أن طريق الخلود الحقيقى مفتوح عبر الامتداد عبر الآخرين وعبر الأجيال سواء عن طريق موت الشخص دون الفكرة أو خلود المعانى .
وأنه بقدر انتماء الفرد لمعنى عام شامل فيه نفع الجماعة بقدر بقائه الحقيقى .
يشمل ذلك رفع الراية الحمراء فى وفاة أحمد سرور أو فى الأشخاص اللذين لم ينه حياتهم بالموت مثل باقى الشخصيات التى إبتدأ من ميلادها وانتهى بوفاتها مثل سليم حسن قابيل الذى أنهى قصته بأنه قد فقد الثقة فى كل شيء إلا حلمه فمن أجله يعمل ومن أجله يعيش بل أيضا هو يطرح فكرة أن أى حياة ثرية عاشت لنفسها والآخرين هى ممتدة بشكل ما، انظر فى وصفه وفاة عمرو عزيز ( وأمال رأسه وكأنه غفا) وكأنه واعدا بعوده أخري، ومثله أشخاص لا تسعف الذاكرة بهم، ولكن يطرح نجيب فكرته الأساسية عن الموت، وهو بقاء المعنى هو الممتد وهو الخلود الحقيقى ودورة الوجود الإنسانى من خلال آخرين.
(3) الإيمان والتدين فى هذه الرواية
أظهرت الرواية بعض النقاط الأساسية التى أرى من الواجب أن نناقشها ونستعرضها:
الأولى : أن ثمة مظلة إيمان تعم الجميع تشمل اعتقادا فى غيب مطلق يسيطر ويحكم هذا الكون وقد افترشت أرضية الرواية جميعها بذلك النوع من الأيمان الذى يختلط بالتربية وبالبيئة، بالعرف والتقاليد والأخلاق، شمل هذا الإيمان الجميع حتى المتشككين منهم مثل حسين قابيل . الذى عجز أن يؤمن ورفض أن يكفر .
الثانية: أن هذا الإيمان – فى جزء منه – يمكن تسميته الإيمان الطبيعى الفطرى الذى يكاد يكون موروثا وهو إيمان مجبولة عليه ومجبورة عليه أبطال الرواية وهو يشمل تسليما مطلقا بالقضاء فيه دون امكانيه لمراجعة أومهلة للتوقف أو للنظر .
الثالثة : أن هناك معرفة أخرى غير معلومة وسائلها – تؤثر فينا،ولا يمكننا تجاهلها أو نكرانها. (مثل ذلك معرفة ومنهج قاسم، الذى كانت معرفتة وتوقعاته تجرى أحكامها فوق المصائر وكذلك جليلة وراضية).
هذا عن الأرضية الإيمانية التى زخرت بها الرواية فى حين اختلفت التطبيقات والممارسات وتنوعات بين حضور الإيمان فيها وغيابه فيما يسمى التدين .
- فأول ما يمكن قوله عن التدين فى رواية نجيب محفوظ.
أن تدين المصريين هو تدين خاص خليط حى من الإيمان المطلق والتسليم بالغيب والكرامات والأولياء والجن والعفاريت والدروايش والتصوف والموروث الشعبي، والأخلاق والأعراف، خليط من كل ذلك مثلته جليلة وقاسم وراضية وعمرو … إلخ .
ننظر مثلا فيما قاله عن جليلة كممثلة لكل ذلك قال (كانت موسوعة فى الغيبيات والكرامات والطب الشعبي، وكأنما أخذت من كل ملة بطرف بدء من العصر الفرعونى والعصور الوسطى (لاحظ كلمة ملة) وقد حاول الشيخ معاوية (زوجها شيخ الأزهر) أن يلقنها أصول دينها، ولكنه أخذ منها أكثر مما أعطاها).
(ونلاحظ هنا أيضا مدى قوة هذا التدين ومدى تغلغله فى النفوس وتأثيره على الغير حتى عالم الأزهر الذى حاول أن يعلمها أصول دينها فأخذ منها أكثر مما أعطاها).
هذا النوع من التدين المصرى هو أحد اسرار الوجود المصرى الصلب القوى الباقى .
1- تتبقى تنويعات واستجابات كثيرة للتدين والتى تتنوع حتى يمكننا القول بأن نجيب محفوظ يقرر أن لكل منا دينا خاص به .
أ- فنجد من يحافظ على صلاته وصومه محافظته على كأسه، ويرتل القرآن ويداعب البنات والصبيان (بليغ معاوية القليوني).
ب- من قنع بأداء الفرائض لا يتجاوزها إلى أحلام دينية أعمق (داود يزيد المصري).
جـ – من نشأ مؤمنا بلا قيود .
د- من ترفض أداء الفرائض وتجاهر بفطارها فى رمضان قائلة الواصل مش فى حاجة لفريضة تقربه من الله (شهيرة).
هـ – من قال حسبى القلب وهو أضعف الإيمان (صالح حامد).
و- لا يعرف من الدين إلا اسمه.
ز – من يكاد لرقة دينة أن يكون بلا دين عن غير إلحاد.
ى – من لم تعرف من الدين إلا دين امها الشعبى (حبيبة).
2- تتبقى إشارة محفوظ لادوار أخرى اجتماعية يستعمل فيها التدين .
أ- فنجد الدين بديلا وعزاء عندما تهجرك الحياة: مثل دنانير التى تخلت عنها الحياه كلها بعد وفاة أهلها وعدم زواجها وبقائها وحدها بالمنزل فقد اتخذت التدين بديلا لكل ذلك مقررا إنه (لم يعد لها عزاء فى هذه الدنيا سوى العبادة وتلاوة القرآن) ص 89 .
ب – ويقارب هذا تدين الونس مثل تدين شكيرة التى (فى وحدتها استغرقها التدين).
جـ – يتدرج نجيب فيرينا اختلاط التدين بالحياة حتى يصبح تقاليد ونظام نشأة يترعرع فيه الشخص، ويكون هذا النظام – رغم أنه دينى – إلا انه أصبح عرف وتقاليد بعيدا عن محتواه، فنراه يصف تدين مطرية مثلا (رغم أنها ترعرعت فى عبير الدين والدروشة إلا أن السر لم ينفذ إلى أعماقها ) ص 201 .
د- يتدرج أكثر نجيب فيرينا التدين الذى يستعمل اكمالا للزينة والتزين والظهور بأحسن صورة مثل عطا المراكيبى الذى فضح ثرائه كل صفاته السيئة رغم محاولة تغطيتها بكل طريقة ومنها التدين .
وهكذا ننتبه مع محفوظ على معانى ومفاهيم واستعمالات وفروق بين الإيمان والتدين تجعلنا نظل ننظر أين نحن وإلى أين ونواصل التحقق والنظر .
(4) الوصف عند محفوظ
كما ذكرنا سابقا فإن الوصف عند نجيب محفوظ هو كشف وليس وصفا خارجيا يعنى بظاهر الأمور والظواهر والأماكن والأشخاص أو غير ذلك .
فالوصف عند نجيب هو كشف يحل للقاريء أمور استعصت على الفهم وربط ظواهر وعلاقات غير متصور ربطها ببعضها البعض، وتفسير لغموض التبس بظاهرة ما، ثم هو تعبير موجز ومخترق فى نفس الوقت يلخص المعنى الحقيقى – وليس الظاهر – للأمر المراد التعبير عنه .
وسأتناول هنا بعض من تعبيرات محفوظ محاولا التعرف على بعض من ذلك كله.
1- ننظر فى وصفه لتكوين غامض رآه – ونراه جميعا ولكن لانستطيع التعبير عنه- فى طفلة من شخصيات العمل رأها نجيب تعد بشيء مجهول فنرى نجيب يقول فى وصفها ( هذه الفتاه هى جميلة سرور) (سبقت زمانها لا بالتعليم ولكن بالتحرر التلقائى المنطلق بقوة نضج مبكر ونداء الأشواق المبهم).
نتساءل كم منا رأى مثل هذه الشخصيات مجسدة أمامه – تضج بما وصفه محفوظ – ولكن لم يسطع التعبير عن ذلك .
2- لننظر أيضا فى تعبيره الرائع فى أدق المعانى تأثيرا وأعظمها إخفاء وهو يعبر عن ما يمكن تسميته بالصدمة والحزن لمشاعر أحد الأطفال عند بداية الانتقال من هناءة اللانظام فى الطفولة وغفوة الحرية ونعمة التحرر، إلى النظام وقيوده الحديدية، فنراه يعبر عن مشاعر الحزن عند الصبى قاسم الذى اقتاده أهله إلى الكتاب – حينما بلغ سنة سن الكتاب – بقوله (لأول مرة دخل سجنا يتلقى فيه المباديء الإلهية تحت تهديد المقرعة) ص 3 .
3- وفى تعبيره – وكشفه فى ذات الوقت – عن حدث يظهر ويسيطر عليهم ويملك قلوبهم ويغمرهم كطوفان لاينجو منه أحد وذلك فى وصفه لثورة 1919 ودخول أحمد المراكيبى فيها وتبرعه لها بعشرة الاف جنيه فى هذا الوقت رغم أنه كان من كبار الاقطاعيين ولا علاقة له بالسياسة من بعيد أو قريب فنراه يصف مشاعره ومشاعر الناس تحت تأثير الحدث وقتها فيقول (كان المد أقوى من أن يفلت منه إنسان) ص 15 .
4- كذلك روعة ما وصف به تدين أحد أبطال العمل عندما تخلو نفس الإنسان وتصرفاته من أى أثر لإيمان أو تدين أو عند فقدان الثقة فى شيء وكل شيء (أدهم حازم) (حين قال إنه يكاد لرقة دينه أن يكون بلا دين عن غير الحاد).
5- ننظر فى روعه ما وصف به مشاعر الإنسان عندما يتحسس لأول مرة تجربة تغمره بمشاعر مبهحة ومخيفة وحذرة وجذابة إلى درجة الجنون والسقوط ويكون فى نفس الوقت غيرمدرك – لصغره أو لغير ذلك من الأسباب – بكل تفاصيل ما يحدث له، فى وصفه علاقة قاسم وهو صغير ببهيجة فيقول (توقظه من براءته، فتبعها بحيرة ثملة ممتعة كرؤية الفجر لأول مرة).
ويكمل فيقول (ولما قارب الثالثة عشر سقط فى الشهد قبل الأوان . وأخلد بكل عذوبة إلى نفثات صدرها المضطرم).
6- ثم ننظر فى تحليله وكشفه لأعمق الظواهر والتراكيب فيما يقول فى وصف ما يحدث عندما يرتفع الإنسان – كذبا- عن الحدث فى حين أن الحقيقة بداخله أمر آخر، وهو أحد أبطال الرواية عندما يصفه بأنه “كان يترك أحزانه تنعقد فى أعماقه كالعكارة فى جوف الوعاء” حكيم حسين قابيل ص 71 .
7- يستمر فى الكشف والتوغل داخلنا ويعرى كل حيلنا وألاعيبنا، فنراه ينظر داخل شخص نضحت حياته كلها بالأنانية والغلظة وهو قد تزوج زوجته لأغراض أخرى مع العيشة نراه يصف عاطفته تجاه زوجته والتى اتسمت بعاطفة حارة – لم يغتر بها نجيب – وانتهت إلى فراق سريع، يصفها (أن عاطفته كانت نهما عابرا) فهى نهمة أى طاغية فى وقتها ولكنها عابرة سرعان ما يشملها الفتور.
8- ننظر مرة أخرى روعة كشفه وربطه الظواهر ببعضها البعض حينما يتحدث عن عطا المراكيبى حينما إصابه الثراء أنه يمكن أن يكون هناك سبب مطلق يفضح ما خبأه الإنسان عن نفسه طول الوقت فقال عنه إصابته الثروة (كشفت – الثروة – عن مواهب كامنة وقوة شخصية، كما هتكت حرصه وشحه وجشعه اللانهائى للثراء).
9- لننظر أخيرا حين وصف مشاعر قاسم أنه (يستوى معه الحزن والسرور).
والتعليق الأساسى على ما يفعله نجيب هنا هو أن ذلك ليس وصفا وإنما هو ربط ظواهر ببعضها البعض ولكنه ليس ربط نمطى سببى وإنما هو ربط إبداعى لأشياء تبدو بعيدة عن بعضها للوهلة الأولى ولكنها ليست بعيدة عن ذهن المبدع. كما أنه رصد فيها أدق التفاصيل وأدق المشاعر، ثم هو أخيرا وحقيقة يقوم بإرجاع الشيء لأصلة الخفى الداخلى سواء فى النفس الإنسانية أو فى الكون وهذا الأصل دائما عميق غائر لا تصله إلا يد المبدعين.
نبذة عن قضية الانتماء فى الرواية
ذكرت سابقا أن الانتماء عند محفوظ لا يعنى به وجوب انتماء الإنسان – فذلك أمر بديهى – وإنما مايهتم ببيانه محفوظ هو موقف الإنسان إزاء انتمائه، وإزاء الحقيقة إلى يراها، وإزاء فكرته أيا كانت غرابتها، وإزاء مجتمعه، وإزاء التعبير عن كل ذلك، وتراوحت الاستجابات فى قصصه، وذلك بين من يترك فكرته وانتمائه عند أول اختيار سواء كان الاختيار مالا أو سلطة أو جنسا، إلى من يتركها علنا دون السر، إلى من يكتفى بالمشاهدة، إلى من يبيع كل شيء فى سبيلها، إلى من يضحى بحياته من أجلها.
وسنسرد هنا بعض الاستجابات التى زخرت بها الرواية ابتداء من:
1- من لم يأذن لهموم الوطن بالتسلل إلى قلبه (أحمد عطا المراكيبي)
2- من لا ينتمى إلا لأحلام التفوق والثراء (أدهم حازم).
3- من أراد الانتماء ولم يستطع إذ تفشى الشك فى خلاياه.
4- من عاش لفكرته ومات بها (سليم حسين قابيل)
5- من انتمى للمال وجمعه فقط بدون أى غاية بل وهو عالم أنه لن ينفقه.
وقد تراوحت الاستجابات فى التعبير عن الرأى بداية ممن مات من أجلها (أمير سرور) إلى من كان يغلق الباب على نفسه ويرقص فى نكسة يونيو إلى من ظل معلقا و رفض أن يؤمن ورفض أن يكفر.
وهكذا يختتم نجيب عمله الرائع الذى حاولت أن ألقى الضوء على بعض من جوانبه ما استطعت , ويأتى عنوان عمله حديث الصباح والمساء متوجا لما يرغب فى أن يقول أنه حديث الحياه المكرر دائما أبدا وليس حديث الحياة المكررة لأنها لا تتكرر أبدا.