علاج ذاتى بالفلسفة
د. يسرية أمين
استهلال
هذه قراءة فى كتاب أكثر منها مقال أو نقد، لكن الأمل أن تكون أكثر من هذا وذاك. الكتاب هوسThe Consolation of Philosophy ‘مواساة بالفلسفة’ والمؤلف هوBoethius بيثيوس. يقع زمان هذا العمل فى سجل الحضارة الرومانية، عند مراحل غروبها.
الموضوع – كما يشير العنوان – يبدو وكأنه أطروحة فلسفية، أو أمر يتعلق بالفلسفة بشكل أو بآخر، لكنه يخرج عن كونة مقالا فلسفيا تقليديا من حيث أنه يقدم محاولة لتطبيق الأفكار النظرية فى الفلسفة فى موقف معين من حياة الكاتب.
يعيش بيثيوس فى هذا العمل فى محنة وكرب وتقوم الفلسفة بدورالمعالج النفسى. والمعالجة تتضمن بحثا فى معانى الحياة والوجود، ويضرب الكاتب فى هذا العمل أشكال السعادة التقليدية بما تتضمنة من حب للسلطة والسيطرة والسعى اللانهائى وراء التملك والثراء والبحث عن الشهرة والانغماس فى الملذات ويقدم رؤية لطريق السعادة الحقيقية.ولما كان من الصعب فصل هذا العمل بوجه خاص عن المؤلف فلابد من تقديم موجز لسيرته.
سيرة الكاتب
ولد بيثيوس حوالى عام 480 ميلاديا فى أسرة عريقة، تحولت إلى الدين المسيحى فى القرن الرابع الميلادى وكانت الأسرة ذات مكانة وثراء، وكان من بين أعضائها من تقلد أعلى المناصب السياسية والدينية، فكان من بينهم بعض أباطرة الرومان ومنهم من رأس الكنيسة الكاثولكية.
فقد بيثيوس والده وهو صبي، وتولى تربيته رجل كريم ذاع صيته هو Symmachs سيماخس. تقلد هذا الرجل مناصب سياسية هامة فكان رئيسا لمجلس الشيوخ فى روما، وكان سيماخس هو الذى قدم بيثيوس إلى عالم الأدب والفلسفة، بل وزوجه أبنته، تميز بيثيوس منذ الصغر بالنبوغ، وظهرت عليه علامات الشغف بالمعرفة، وحصل على أعلى درجات العلم، وكغيره من العلماء فى الحضارات القديمة تنوعت معرفته وامتدت على مدى موضوعات مختلفة فتضمنت الفلسفة والمنطق، وعلم البيان، والفنون الحرة، بما فيها من حساب وهندسة وعلم الفلك والميكانيكا. وقد عرف بيثيوس ببلاغة الأسلوب وإجادة اللغة اليونانية. وصل صيته إلى ثيودوريك Theodoric إمبراطور الدولة الرومانية فى ذلك الوقت فاستعان به فى مهام فنية وسياسية وطلب منه بناء ساعة مائية وقلده مناصب سياسية مختلفة; كان من بينها رئاسة المجلس المدنى لروما وآخرها رئاسة البلاط. أما التميز الحقيقى لبيثيوس فقد ظهر فى مجال دراسته ومعالجته للفلسفة. فكان الدارس المتأنى للفلسفة حتى توسعت أماله فى هذا المجال فراح يأمل فى أن يترجم كل أعمال أرسطو، وكل محاورات أفلاطون، وقد اكتشف – من عمق معين -عدم التعارض بين أفكار كل من أفلاطون وأرسطو، لدرجة أنه رجح تكاملا ما بينهما. وكغيره لم يستطع أن يحقق كل آماله ولكنه أقدم على تفسير العديد من أعمال أرسطو وأفلاطون، ويبدو أن دأبه على دراسة وتحليل وتقديم أرسطو قد أدى إلى قيامه بدور هام فى تاريخ الحضارة الغربية. فالفضل يرجع إليه فى الحفاظ على منطق أرسطو ونقله للغرب.
ومن خلال الترجمات التى قام بها بيثيوس خلق مجموعة من المفرادات الفلسفية الهامة التى استعان بها الدارسون فى العصور الوسطى. ولهذا لقب بأنه ‘آخر الرومان وأول العلماء’. تلخص هذه المقولة دور بيثيوس فى تاريخ الحضارة الغربية. من خلال أعمال هذا العالم، لم تنتقل الفلسفة فقط من الشرق إلى الغرب ولكن تم هذا النقل من خلال إطار منظم من العصور القديمة إلى العصر الكلاسيكي، لذلك لقب هذا الرجل بـ’معلم الغرب’ ‘Master of the West . ولم يقف دورة عند تقديم الأعمال القديمة فى الفلسفة ولكن كانت له مؤلفاته الخاصة.
الأطروحة فى سياق الأحداث
لم يكن دخول بيثيوس إلى السياسة وظهوره فى الحياة العامة بدون ثمن، إذ تعرضت الدولة الرومانية للانقسام على يد قبائل جرمانية قامت بغزو الدولة الرومانية من جهة الشرق بين القرن الثالث والخامس الميلادى. وفى زمن بيثيوس، كان هذا الانقسام قائما من حيث أن الحكم فى الدولة الرومانية، منذ أواخر القرن الرابع الميلادي، أصبح مشاركة بين امبراطور فى ناحية الشرق وامبراطور آخر فى ناحية الغرب مركزه روما. وكان ثيودوريك Theodoric الذى قرب بيثيوس إليه هو إمبراطور الغرب فى أواخر القرن الخامس الميلادى. تعرضت الدولة الرومانية فى تلك المرحلة إلى انشقاق واضح بين حاكم الشرق وحاكم الغرب، وذلك بسبب الموقف العدائى المعلن من قبل حاكم الشرق تجاه رئيس الكنيسة الكاثوليكية، وبالطبع وجد ثيودوريك فى موقف حاكم الشرق تهديدا له، واستثارت هذه الأحداث قلق بعض رجال الدولة على تماسك وكيان الدولة الرومانية ويبدو أن كل من سيماخس وبيثيوس عبروا عن قلقهم على الدولة الرومانية أكثر من اللازم وبالرغم من أنه تم حل هذا الانشقاق فى عام 519 ميلادية إلا أن ثيودوريك رأى فى حرص بيثيوس على استمرار وحدة الشرق والغرب نوعا من الموالاة لحاكم الشرق مما استثار غضبه.
فى هذه المرحلة لا يمكن استبعاد تدخل أعداء بيثيوس والوشاية به، وهكذا انتهى الأمر بعزلة ونفية وأدانته، وفى الفترة بين إدانته وإعدامه قام بيثيوس بتأليف هذا العمل. وقد أضافت طبيعة الموقف لهذا العمل عمقا فى البحث وصدقا فى المواجهة.
الشكل والموضوع
المؤلـف يتضمن أساسا معالجة نفسية من خلال التأملات الفلسفية، ومن هنا فهو يرتبط بشكل ما بمحاورات أفلاطون، ويبدو أن فكرة العلاج عن طريق الفلسفة كانت من الأشكال المتكررة فى الأدب فى تلك الحقبة من الزمان ولكن العمل تميز عن غيره لأسباب عديدة.
يقوم بناء العمل على عقدتين، الأولى تتضمن سلسلة الأحداث التى انتهت ببيثيوس إلى السجن والمنفي، وكان تناول هذه الأحداث فى إيجاز دون الدخول فى التفاصيل من الطرق التى أضافت إلى تميز العمل حيث جعلته يحلق بعيدا عن القضايا الخاصة والشخصية وجعلت المدخل إلى القضايا العامة ميسرا. أما العقدة الثانية – وهى الأهم – فهى تقوم على حركة الأفكار لحل هذا الموقف بالإضافة إلى ما يقابلها من تغييرات فى موقف بيثيوس النفسى والمعنوى. وحركة الأفكار لا تأتى فى صورة مستمرة ولا تقع فى خط مستقيم ولكن الأفكار يتم نسجها وتقديمها من خلال مراحل مختلفة تتضمن دفع، واسترجاع، وعودة، وتحول، فى حالة بيثيوس النفسية . يحدث ذك بصورة تدريجية يتم فيها انسحاب الأفكار القليلة الأهمية، فهى تهن وتضعف وتغرق فى الأعماق، وفى نفس الوقت تحيا وتصعد أفكار جديدة إلى بصيرة ووعى بيثيوس. إن إرتباط الأفكار بالمشاعر فى حركتها وتطورها واضح الدينامية، فالمشاعر يمكن أن تتحرك من خلال تغيير الأفكار والعكس صحيح. ومن خلال متابعة محتوى الأفكار يبدو أن الكاتب يرتكز على علم غزير وتبرز هذه القدرة من خلال الأمثلة التى يستعين بها من التاريخ ومن الأساطير وغيره لشرح أفكاره، وتتجلى فى اللغة التى يستعملها فى الاستشهاد بأعمال الفلاسفة والأدباء الرومان واليونانيين. وبالرغم من غياب مصادر الكتب عنه إلا أن قدرته على استرجاع ما قرأ فى الماضى تبدو عالية .
هناك من المعلقين من يؤكد عامة على ظاهرة تنشيط الذاكرة واتقادها فى العزلة، وهناك إضافة أخرى إلى الملاحظات فيما يخص محتوى الأفكار وهو أن مواجهة الفلسفة تتسم بالصراحة والصدق، فهى تتخطى ظواهر الأمور لتصل إلى الحقيقة العارية، ويأتى هذا الأمر كضرورة مكملة للموقف الذى يعيشة بيثيوس، ففى حالة الكرب وعند المحن لابد من المواجهة الصريحة، وأى بحث يبعد عن الحقيقة يزيد الموقف ألما وتعقيدا، وكأن العلاج فى هذه الحالات هو المواجهة فى صدق.
العمل يتضمن تناوبا بين النثر والشعر. يبدو أن هذا الشكل من الصياغة والأسلوب كان معروفا لدى الأدباء والفلاسفة فى تلك الحقبه من الزمان، مما يحتاج إلى تعليق:
إن الحركة بين الشعر والنثر فى هذا العمل خلقت نوعا من الانبساط والقبض فى عرض الأفكار فالأبيات تأتى مركزة فى معانيها، قوية ونافذة فى ألفاظها، غنية بصورها، حاضرة فى كمال أوصافها. ثم يأتى النثر حاملا معه نوعا من الانبساط، فهناك المزيد من الشرح، وهناك مجال للاستطراد وهناك تهدئة فى واقع الأمور وحدة مكاشافتها. ومسرح الحياة عند بيثيوس يضم الإنسان والطبيعة، لا يوجد فصل بينهما كأن هناك صلة تربط بينه وبين الكون لا تنقطع، فالظواهر النفسية ترتبط بحركة الكون ، والإنسان جزء من الكل ولا يمكن التركيز عليه دون الكون من حوله، ومكونات الطبيعة فى هذا الكون حية ومتحركة لها حضور يكمل ويماثل حضور الإنسان كأنها تلعب دورا لا يمكن تجاهله فى حركة الحياة. يقع الكتاب فى خمسة أجزاء يطلق على كل جزء منها كتاب وبالتالى فالعمل يتضمن خمسة كتب.
الكتاب الأول : الفحص والتشخيص
فى المنظر الأول يبدو بيثيوس غارقا فى أعماق اليأس، ويعانى من عتامة الرؤية فيما يخص أموره وهنا تجدر الإ شارة إلى العلاقة بين الاضطراب وتعطيل البصيرة، فالأفكار على لسان بيثيوس تأتى منحصرة فى تكرار الشكوي، فهو يندب حظه وينوح لمصيره ويرثى لأمجاده. هو هو الذى كان يخاطب العلى ويتأمل الشمس والقمر، ويبحث فى نظام الكون والكواكب والنجوم، وهو الذى كان يدرس أسباب الأعاصير وثورة البحار، وهو الذى كان يبحث فى روح العالم، يجد نفسه الآن منفيا معزولا منكسرا.
فى هذه الحالة من الأسي، تتمثل له الفلسفة فى صورة امرأة أتت لتمسح دموعه لتتضح الرؤية. من خلال هذا الفعل، يسترجع بيثيوس بعض الرؤى بالنظر مضافا إليه قليل من التركيز، ولكن الفلسفة فى حضورها لا تبحث عن البصر بالعين فقط. هى ترضى بمجرد القدرة على التركيز، فهى تبحث عن وجود شئ هام وجوهري، وهو ما يسمى بمرتكز العقل والتفكير، وهى تفشل فى الحصول عليه عند بيثيوس وهنا يأتى التشخيص أن هذا النوع من الميزان ومن المرتكز مفقود عند بيثيوس. إن هذا المرتكز فى التفكير هو الذى يمكن أن يعطى للفلسفة قدرها وقيمتها وفى غيابه يتعطل أثرها.
تبدأ الفلسفة حديثها اللين إلى بيثيوس فهو ليس أول من يقع فى مثل هذا المأزق، وتذكره برجال عظام مروا بتجارب مشابهة، فمن قبل تم نفى ‘انكساجوراس’ من أثينا وتم إعدام ‘سقراط’ بالسم وتم تعذيب ‘زينو’. وبالرغم من محاولات الفلسفه فى جذب أنتباه بيثيوس فإنه يبقى غير مستجيب غارقا فى عزلته وجموده. هنا تحاول الفلسفة أن تدفع به خارج هذه الحالة فتشتد عليه وتذكره بمقولة ‘هومر’: ‘تكلم ولا تخف شيئا إذا أردت مساعدة الطبيب فلابد أن تكشف عن الجرح’، وبالرغم من النداء الأول والنداء الثانى يبقى بيثيوس غارقا فى أفكاره، وحينما يخرج عن سكونه، يندفع فى ثورة عارمة، وتأتى الكلمات على لسانه عنيفة مثل أمواج البحر الهائج، متصاعدة مثل اللهب المشتعل. فالألم كبير والرجل عزيز النفس، وبعد الانصات والاستماع فى صبر تعود الفلسفة إلى محاولة اختبار حالة العقل عند بيثيوس، وهنا تضع أمامه سؤالا عاما يقول: ‘هل تعتقد أن الحياة هى عبارة عن سلسلة من الأحداث العشوائية أما أن هناك عقلا مدبرا للأمور؟’وحينما تجد أن الأجابة عند بيثيوس يغيب عنها الصواب تأتى بالتشخيص. إنه يعانى من حالة النسيان، هذا النسيان ليس بسيطا ، إنه يتضمن نسيجا كاملا من المعرفة والوعى مما له دور محورى فى إدراك الأمور. إن ما يحتاجة الشخص فى هذه الحالة هو التذكرة(1)، وهذه التذكرة لا تقف عند حد استعادة مادة غابت عن ذاكرة الفرد ولكنها تتضمن نسيجا من المعرفة الذى يولـد حالة معينة من الوعي، ويمتد هذا الوعى ليخلق نوعا مختلفا من الوجود.
عند هذه المرحلة تدرك الفلسفة صعوبة الحالة، فمرتكز العقل يغيب عن الساحة، وتعلن هنا أن المنهج فى العلاج لابد أن يكون تدريجيا. وأول دعوة تقدمها لبيثيوس هى أن يدع الخوف من قلبه ويترك الأمل ويرمى الحزن ويسقط الابتهاج من مشاعره، كأنها تدعوه إلى التخلص من الانفعال بحثا عن الهدوء والسكينة، وهى ترى فى ذلك وسيلة لإجهاض أسباب الغضب والحنق من جانب أعدائه.
الكتاب الثانى : العلاج بين الجرعة وتوقيت المواجهة:
بعد تقديم النصيحة السابق ذكرها، تدخل الفلسفة فى حالة من السكون وعدم الكلام تاركة الزمان ليحرك الأمور فى الاتجاه الصحيح، وهنا يبدو من سلوكها القصد فى اختيار توقيت التدخل وضبط الجرعة فى محاولة دفع حركة العلاج. وهى تحاول تهيئة بيثيوس، فتبلغه أنها تعلم ما هو الداء، ثم تلجأ فى لطف إلى بث جرعات بسيطة من المكاشفة، وتتحدث من منطلق أنها حليف له، وتبلغه أنها تدرك إغراءات الحظ والقدر، وهى تدرى كيف أن التغيير المفاجيء والجسيم الذى أصابه، يـتـوقع أن يصاحبه حركة فى اتجاه اضطراب حالة عقله، وبداية تلجأ إلى استعمال الوسائل الطبيعية التى تعتمد على تنبيه الحس، وهنا تلجأ إلى الموسيقى تارة وإلى الغناء تارة أخرى.
ولما كان بيثيوس قليل الكلام فى هذه المرحلة، فهى تساعده وتحاول أن تجتهد فى البحث عن الحديث الذى يمكن أن يطرى حالته، وتستشف الأمور تارة عن طريق الحدس، وتارة بالافتراض، وكأنها تحاول أن تجد الكلمات المناسبة لوصف وتفسير حالته، وتشير أن بيثيوس لابد يعانى من وجود نوع من الفجعـة أو الصدمة التى أصابته، مما تسبب فى سقوطه فى أقصى درجات اليأس والقنوط، ثم تعرج إلى محاولة توضيح طبيعة الحظ أو القدر فى التغيير والتبديل، فعلى الانسان هنا أن يدرك ويتقبل هذا القانون، فالأمور فى الحياة لايمكن أن تبقى على حالها.
ثم تنتقل إلى مرحلة تالية تتضمن المزيد من المكاشفة والمواجهة، وهى تعلن هنا عن هدفها فى هذه المرحله فى تنقية وفرز الأفكار من المعتقدات الخاطئة التى تتسبب فى خلق نوع من التشويش فى عملية التفكير.
وهنا تعطى الكلمة للقدر كى يدافع عن نفسه، ودفاع القدر أو الحظ صريح ومباشر فهو يستذكر طمع وجشع الإنسان حيث يبقى دائما شاكيا، مهما أعطته الأقدار من عطايا، ويذكر القدر بيثيوس بقارورتى الخير والشر اللذين يسكنان بيت الله فى ملحمة الإلياذة، وأن هذا هو قانون الحياة، ويذكره أنه مثله مثل الآخرين، ويخرج به من دائرته الخاصة إلى الدائرة العامة التى تخص الإنسان، ثم تنقله إلى دائرة الكون الأوسع .وهو يشير أن التغيير هو سمة الحياة فى الكون، فالسموات تلد ضوء النهار، ثم تخلعه لتلبس لباس الليل، والأرض تتناوبها الفصول، فتغير من مظهرها وزينتها، والبحار تتحول من حالة الهدوء إلى الثورة والهياج.
هنا ولأول مرة يستجيب بيثيوس للعلاج فيشير أن الحديث يولد فيه نوعا من الراحة، ولكنه يضيف أنه حينما يتوقف عن سماع الحديث يهون الأثر وتثقل أحمال العقل ثانية بالحزن الغائر.
عند ظهور هذه الاستجابة النسبية، تبدأ الفلسفة فى مزيد من خطوات العلاج، فهى تحاول شرح التغير فى حالته باقتراح المبرارات لما يعانى من رد فعل شديد، فهى على علم بحساسيته الشديدة، وهى تدرك أنه فى حياته لم يتعرض لمثل هذه المحن، فقد كان محظيا بأفضال كثيرة من جانب القدر والحظ، فكان له المنصب والجاه والعلم والذرية. وتتمادى الفلسفة فى العلاج فتحاول أن تسرد بعض الحقائق التى غابت عن وعى بيثيوس ، وهنا تبدأ حديثها عن بحث الإنسان عن مصادر السعادة خارجه، وأنه فى ذلك يتعرض لفقدها، وتشير إلى أن أقنعة السعادة المتمثلة فى البحث عن الثراء أو المال أو السلطة أو التملك ليست إلا أشياء خارجية على الإنسان، فهى قيمة خارجية وتدعو الفلسفة إلى العودة إلى الطبيعة فى داخل الإنسان، ويبدو من الوصف أن تثق فى هذه الطبيعة وتجدها مباشرة وقوية وصريحة، وهنا تماثل بين الطبيعة فى خارج الأنسان وكيف أنها حكيمة فيما تأخذ وفيما تعطى وهى طبيعة لا تحتاج إلى الأقنعة كى تتجمل.
الكتاب الثالث: المزيد من المواجهة فى طريق البحث عن السعادة فى ذاتها
فى هذه المرحلة من العلاج يشعر بيثيوس ببعض التنشيط والتطرية لذاكرته، وهو يدرك ويبصر حالة الحزن التى يعانى منها ومع هذه الصحوة فى حالة بيثيوس، تستطرد الفلسفة فى مزيد من الشرح عن أشكال السعادة الحقيقية فهى ترى أن الإنسان من المهد إلى اللحد يبحث عن السعادة الحقيقية ومن خلال هذه الرؤية تبدو السعادة كغريزة مكملة لطبيعته. وتضيف الفلسفة أن الإنسان فى بحثة عن السعادة الحقيقية ينزلق إلى أهداف وغايات جانبية اعتقادا منه أن هذه الأهداف تحقق السعادة.
فالمال لا يغنى صاحبه عن القلق عليه والخوف من زواله، ويولد الثراء عموما نوعا من الجشع والطمع فى المزيد من المال.
والشهرة هى سجن لصاحبها حتى ينتهى به الأمر إلى الإنهاك فى محاولاته للحفاظ عليه.
والسلطة تولد الخوف فى قلب صاحبها فهو فى هذه الحالة يصبح عرضة للمؤامرات وعليه فى كثير من الأحيان أن يعرض نفسه للذل والمهانة من أجل الحفاظ عليها. والاندماج فى اللذة تجعل الشخص محتقرا ومنبوذا من الآخرين، وبالرغم من أن هذه الأشكال يمكن أن تحقق بعض السعادة، ولكن المحصلة النهائية تكون خلق نوع من الاضطراب داخل الإنسان، وشكل السعادة الحقيقية كما يرد على لسان الفلسفة تلبس لباس الفكر اليوناني، فهى حالة يتم كمالها بوجود كل شيء طيب وجميل وهى هدف كل إنسان لأن الميل إلى الجمال والخير موجود فى طبيعة الإنسان، وعند بلوغ هذه الحالة يكف الإنسان عن البحث عن أى شيء آخر، ويعيش فى حالة من الاكتفاء الذاتي، وتبدو عليه علامات البهجة، وتغيب عنه أسباب الكدر والخوف وهو فى ذلك يمكن أن ينعم بالعظمة والقوة والاحترام.
ابتداء من هذا الفصل تصبح قضية بيثيوس هى قضية الإنسان فى الوجود . وفى نهاية الفصل تربط الفلسفة مرة أخرى بين الإنسان والكون من حوله، فتنتقل من الإنسان إلى الكون فى امتداده، ومن خلال التأمل تتعدى الفوضى والتضارب والاختلاف والتعدد فى الكون لتصل إلى النظام والتناغم .
وتنتهى إلى الوحدة ممثلة فى خالق الكون فهو يمثل الخير الكامل وجوهر السعادة وتصبح السعادة هى الخير فى ذاته والإنسان فى سعيه للسعادة يهدف إلى الخير الأعظم وتصبح السعادة هى الخير.
الكتاب الرابع: تطبيق للأفكار فى قضايا الوجود
هنا تتعرض الفلسفة إلى قضايا هامة فى رحلة الحياة. أهمها الصراع بين الخير والشر، وموقف الفلسفة هنا يشير إلى أن كلا من الإنسان الشرير والإنسان الخير يسعى نحو السعادة. ولكن الأول فى سعيه نحو السعادة يلجأ إلى طرق ملتوية تتنافى مع فطرة الإنسان وطبيعته، وتمثل هنا بحث الشرير عن السعادة بمن يمشى على يديه بدلا من استعمال قدميه، وتعرج إلى الثواب والعقاب والعدالة الالهية. وتشير الفلسفة إلى أن الظالم -فى رؤيتها- يعانى فى نفسه أكثر من المظلوم وأن مرتكب الجريمة أكثر تعاسة من الضحية والأشرار مثلهم مثل المرضى الذين يعانون من علة فى أجسامهم ولكن العلة هنا تقع فى عقولهم
وتتعرض الفلسفة إلى العناية الالهية. وكيف أنها لا تتعارض مع القدر ولا تتنافى مع حرية الإنسان، وهنا يدخل بيثيوس فى جدل رائع بحثا فى هذه المفاهيم، ويرى أنه لا يرى خرقا للعدالة الإنسانية فى حالة وقوع ظلم معين فى وقت معين، فهناك تدبير إلهى للأمور لا يمكن لبصيرة الإنسان المحدودة فى زمن عمره أن تدرك كل الحقائق التى تخص العدل.
الكتاب الخامس: اختبار الأفكار من خلال التطبيق
فى هذا الجزء تختبر الفلسفة الأفكار التى عرضتها على بيثيوس فى الكتاب السابق، وكأن تحريك الأفكار من مجرد عرضها إلى مرحلة تطبيقها على مشكلات معينه هو نوع من التوكيد على صحتها، وبالتالى فهى تختبر مفاهيم تخص العناية الإلهية، والعدل الإلهي، والحرية الإنسانية، وهل هناك ما يسمى بالحظ، وأين يقع الحظ بالنسبة للعناية الإلهية.
أود التعليق بالذات على الكتاب الرابع والخامس، حيث يدخل المؤلف على لسان الفلسفة فى ملحمة رائعة من الجدل تأخذ القارئ إلى آفاق جديدة من الوجود والرؤية، وبالرغم من تقديم هذه الأفكار فى صورة منطقية، إلا أن الحديث لا يخاطب العقل فقط ولكنه يؤثر فى المشاعر، وفى هذه المرحلة من القراءة يصعد القاريء من خلال الكلمات والأفكار إلى محراب الخير فى ذاته، والجمال فى ذاته وفى هذه الحالة يتعلق القلب بالجمال، وتتحقق له حالة من الوجود وربما التصوف.
وربما يكون هذا هو العلاج الذى تقدمه الفلسفة لبيثيوس لمواجهة محنته.
[1] – ويذكرنى هذا المفهوم بالتذكرة فى القرآن الكريم فهى تأتى بصورة متكررة كوسيلة للعودة للإيمان.