شطحات
د. عادل مصطفى
عفريت العلبة:
الإعلام تنين جديد يصوغنا ويحركنا دون أن نرى خيوطه الخفية أو ندرك دبيبه الخبيث. ولأنه لا يتوجه إلا إلى عامة الجمهور، ولا يخاطب إلا سواد الناس، فهو يطالعنا عن كل تخصص بوجوه مكرورة لا تتغير، يقدمهم لنا بوصفهم أهل ذلك التخصص وأحباره، مطمئنا إلى أننا خارج تخصصاتنا عوام أميون، وأغرار مفتونون، نصدق ما يقال، ونسأل أهل المجال.
غير أن ثبات الوجوه وتكرار الأسماء وإلحاح الظهور أمور تنطوى فى ذاتها على تناقض مريب. فمن طبيعة العالم الحق أنه كلما تعمق فى تخصصه وتبحر فى علمه، عشقه عشق الغناء، وتبتل له واكتفى به وغار عليه، فإذا به يكره فيه الأضواء ويضيق بالتسطيح ويستصعب التبسيط. فلا يظهر على عامة الجمهور إلا كارها مقلا.
آية العالم الحق أنه معتكف فى معمله، مستغرق فى دراساته، منكب على أبحاثه، مهموم بكشوفه، متوجه إلى أهل التخصص من خلال المؤتمرات والدوريات والمراسلات العلمية، لا إلى العامة والسواد خلال البرامج الترفيهية الرقيعة والجرائد اليومية المتبسطة والمجلات الأسبوعية المنظرانية.
تلك إمارات العالم ومواصفاته، وهى لا تأتلف بحال مع أصحاب الوجوه المكرورة الذين يطلعون علينا كل يوم لكى يقولوا لنا ما نعرفه وندريه، ويجيبوا على أسئلة سطحية تتأبط جوابها وتمليه، وفى النية والقصد أن يطبعوا فى أذهاننا أسماءهم وسحنتهم، لا علمهم وحكمتهم. ثم لا يفرغوا إلا وقد زادونا جهلا لا علما.
فليستخذ أصحاب الوجوه المكرورة الذين ينطون لنا كل يوم مثل ‘عفريت العلبة’ كأنهم رابضون فى دهاليز الإعلام لا فى معاملهم، متفرغون للظهور لا للبحث، مؤثرون للشهرة الرخيصة على العلم المبرح، ملتمسون المكانة عند العامة بعد أن يئسوا منها عند زملائهم، الذين يعرفونهم ويعرفون وزنهم الحقيقى بين أهل التخصص.
فليستخذ هؤلاء، وليعلموا أن الأضواء تحرق أيضا، وأنهم بظهورهم الملحاح يثبتون أنهم الأكثر انصرافا عن العلم لا انشغالا به، الأكثر هستيرية وصفاقة لا عمقا ومهارة، الأكثر نطقا لا الأكثر علما.
ترك نظرته
كان يجود بنفسه
لم يكن لدى وقت فأملأه أفعالا
ولا خيار فأحمل تبعة
فجعلت أبلل شفتيه وحلقه
على الأقل كنت أعينه على الموت
ولكنه ترك نظرته
شوكة مستقرة فى لحم المكان
هو ذاته سامحنى ومضي
لكن نظرته المقيمة
لها منطق آخر
بقاء الخرافة
الركود مأوى رغيد للطفيليات، والخرائب مستقر آمن لكل ذى أربع، وغيابات الجهل والعجز مرتع خصيب لأشباح الخرافة والعرافة.
ولقد أتى على الإنسان حين من الدهر كان متروكا وحده .. أعزل أمام طوفان الماجريات الوجودية والأحداث الكونية. فهو ضعيف عاجز تجاه تهديداتها من ناحية، وهو جاهل عم إزاء ألغازها من ناحية أخرى. فما عتم أن أسلم نفسه لأحضان السحر والتعزيم والأضاحى يلتمس لديها الأمان والسكينة، يشتريهما بمنطق لا يغنى وحجى لا يجدى. ولقد كانت مقايضة موفقة وصفقة رابحة فى حينها. غير أن هذه الطريقة فى مهادنة الملمات ومعاملة الحادثات وتفهم الماجريات، سرعان ما تزهق وتخسر مبرراتها كلما تمكن الإنسان من السيطرة والتسيد وتقليم أظافر الطبيعة وفك أحاجيها وحل ألغازها بالعلم الدقيق والمنطق النزيه.
غير أن الخرافة لا تتبدد بالسرعة التى تتبدد بها مبرراتها. فيبدو أن العرق يحفظ لها جميل خدماتها القديمة، فيبقى عليها ويطمرها فى قيعانه السفلية حقبة قد تطول وقد تقصر، فتبقى عقابيلها متململة فى سراديب النفس، البشرية بقاء الصورة البعدية after – image بعد زوال سببها الموضوعى. على أننا يجب أن نأخذ حذرا تجاه هذه التشبيهات التقريبية العفوية، فالحق أن بقاء الخرافة له قوانينه الخاصة وطرائقه الفريدة. فهى حيوية جدلية، تأخذ وتعطى وتسفر وتتنكر وتحاور وتناور وتتطور وتتحور وتتأقلم وتتكيف. بل إن لها القدرة على أن تولد من جديد فى تراكيب أكثر حيوية وقدرة على البقاء والصمود أمام دواعى الزهوق والغناء.
ما بعد العقل
لم نشبع عقلا بعد فنستمرئ القفز مع الغرب إلى ما بعد العقل.
فإذا كانت قفزتهم تخطيا وئيدا لما استوعبوه وقطعوا شوطه، وتجاوزا سديدا لما عركوه وخاضوا غماره، فإن قفزتنا المقلدة ليست تخطيا للعقل، بل حذفا وإغفالا وتفويتا، وضربا من الغش والتهرب، وبينما يقفزون بسلام إلى ما بعد العقل نتردى نحن بطيشنا وتهورنا فيما قبل العقل ونسقط بسلام فى حجر الخرافة.