حالات وأحوال (دور المريض ومعنى الأعراض)
كيف تنعكس العملية الذهانية
فى اتجاه عملية إعادة بناء التوازن (الصحة)
مقدمة
بدأنا هذا الباب بوصف بعض الحالات بشكل شبه تقليدى من حيث تفاصيل الوصف المستعرض، ثم تاريخ الحياة، ثم عرضنا تتبع بعض الحالات كما تيسر.
ثم تقدمنا بعد ذلك خطوة حين قدمنا ما يسمى ألعاب علاجية” كنا قد سجلناها أثناء جلسات العلاج الجمعى، كان التسجيل بالكتابة يقوم به أحد الزملاء الأصغر، تحت التدريب وهو جالس -مشاهدا، بإذن المرضي- خارج المجموعة.
إلا أن فرصة لتطوير هذا الباب قد لاحت مؤخرا، حين نجحنا فى تسجيل مسار وأطوار مجموعة علاجية لمدة سنة كاملة بالصوت والصورة، بإذن المرضى وموافقتهم،ثم بدأنا فى عرض بعض المشاهد التى جرت أثناء العلاج وذلك بهدف التدريب والمناقشة جميعا. وذلك فى الندوات العلمية الشهرية التى تعقدها جمعية الطب النفسى التطورى والعمل الجماعى، بمستشفى دار المقطم للصحة النفسية. وقد تبينا من خلال المتابعة،والمناقشة المحدودة أن هذه الطريقة يمكن أن تعيد إلى الطب النفسى الوصفى حيويته القادرة على الكشف والعلاج جميعا.
وقد رأينا بعد عودة المجلة للظهور، أن نقدم العرض الأخير الذى قدمناه فى ندوة أول يونيو 2001،وهو عرض بعض “حالة” واحدة من مجموعة العلاج الجمعى الذى تم تسجيلها بالصوت والصورة خلال عام كامل. هذه الحالة كان قد سبق عرضها هى نفسها فى ندوات الجمعية السابقة،لتظهر ما أسميناه”اختيار الجنون ” أو بتعبير أدق اختيار الحل المرضى، أو بتعبير أكثر فأكثر دقة: الاضطرار إلى اختيار الحل المرضى. هذا ولا يمكن تلخيص ما سبق عرضه بأى درجة مفيدة، لهذا سوف نكتفى بتقديم معالم محدودة لتاريخ وتوصيف الحالة،ثم نقدم المقتطفات المحدودة التى عرضت فى الندوة المذكورة، لإثبات فرض “الاضطرار إلى اختيار المرض” فالصحة، مع التعليق .
نحن نأمل أن يصلنا من القارئ ما يطمئننا أنه وصله بعض ما أردنا، أو ما يعدلنا باقتراحاته وتعقيبه، حتى نصحح نفسنا فى الحلقات والأعداد القادمة.
تمهيد
أميرة فتاة فى السابعة والعشرين من عمرها، مريضة بفصام متفسخ، Hebephrenic Schizophrenia انتهى بها مطاف العلاج طوال سبع سنوات إلى أحد الزملاء الذين سبق تدريبهم فى نفس المعهد ( قسم الطب النفسى. كلية الطب. قصر العيني) على العلاج الجمعى. تتعاطى مؤخرا أحد المهدئات الأحدث، والمعروف عنها أنها أكثر فاعلية فى علاج حالات الفصام. وصلت الجرعة إلى 400 ملليجرام كلوزاريل (كلوزابين) يوميا، وهى جرعة، بالنسبة للمصريين، أعلى من المتوسط لمعظم الحالات. لم تستجب المريضة للعلاج بهذا العقار الفعال اللهم إلا فى تهدئة حالتها ظاهريا.
أميرة أصلها يمنى لكنها تقيم فى مصر منذ ولادتها، وهى تعيش مع أمها الأرملة وحيدتان، لا تعمل،،والدها فصامى ترك الأسرة وشرد من 7 سنوات ولا تعرف أسرته عنه شيئا. أمها كانت قد أصيبت بنوبات اكتئاب، ورهابات مختلفة، لكن لا يبدو عليها أنها تعانى من أمراض حاليا.
سبب تحويلها إلى العلاج الجمعى أن الزميل المعالج لاحظ عليها فى الفترة الأخيرة أنها لم تعد تتحسن بالعقاقير، وأن حياتها مع أمها مغلقة تماما، فاقترح أن تشارك فى العلاج الجمعى (الذى لا يشارك هو فيه) مع استمرار التفاهم والتتبع بينه وبين المعالجين.
ظلت أميرة تتردد على جلسات العــلاج النفسى الجمعى بانتظام نسبى طوال أربعين أسبوعا، وفى الفترة الأخيرة انقطعت لمدة خمس أسابيع متتالية، وقد أثير احتمال أن تكون الأم قد ساهمت فى تشجيعـها على الانقطاع، ربما لأن الأم كانت فى تلك الفترة غير مقتنعة بنتائج الجلسات بدرجة مشجعة، وربما لأن تحسن أميرة هدد ما تعودت عليه الأم من علاقة سيكوباثولوجية مع مرض ابنتها (انظر بعد).
بعد مرور حوالى خمسة أشهر. تم إنقاص جرعة الكلوزارين مع نجاح أميرة فى عمل علاقة مع المجموعة، مرضى ومعالجين، حيث وضعنا فرض أنها قد نجحت، جزئيا، فى عمل علاقات جعلت أفراد المجموعة يحلون محل الهلاوس والضلالات، وذلك باعتبار أن ظهور الهلاوس (الأصوات الغاضبة والمهددة ..) والضلالات (الاعتقادات الخاطئة بالمتابعة والتعرية والإضرار والاضطهاد)،كان بمثابة تعويض عن افتقارها إلى علاقة موضوعية حقيقية مع “آخرين” كموضوعات حقيقية تملأ وعيها، وتحافظ على تماسكها فى وحدة متفاعلة. ظل التقدم يتذبذب،لكن يزداد تدريجيا، حتى حضرت فى الجلسة الـ ( 30) تحكى عن خبرة نقلة علاجية تثبت فرض تحسنها، وطبيعته من حيث اكتساب البصيرة، واحتمال تحويل مسار اختيار المرض، إلى اختيار الصحة.
المقتطف والتعليق
فجأة،وفى بداية الجلسة رقم (30) أعلنت أميرة أنها تمر بخبرة “مختلفة” تجاه مرضها، وتجاه نفسها، وتجاه المجموعة، وبدلا من أن تذكر ماذا حدث للهلاوس والضلالات كما كانت العادة (بذكر أنها زادت، تغيرت، نقصت، كما هى ..إلخ) تحدثت فى بداية هذه الجلسة من منطلق آخر بشكل أخر (انظر بعد).
كانت الهلاوس تهاجم أميرة قبل ذلك طول الوقت بشكل يقينى، تسبها،أصوات متعددة المصادر، تهددها، وتقتحمها، وتعلن رفضها لها وغضبها منها، وعليها، كان ذلك يحدث بشكل خاص حين تخرج إلى الشارع، لكنها كانت تشعر بمشاعر مماثلة وتسمع أصواتا أيضا من الجيران أثناء تواجدها فى المنزل، وخاصة إذا تعرضت لضغط ما.
الخبرة الجديدة التى جاءت تحكيها هذه المرة، حدثت أيضا وهى فى الشارع، وبدلا من أن تعيش رعب الخوف من هجوم الناس وغضبهم ومطاردتهم ووعيدهم، شعرت من نفسها بنفسها “…أنها مجنونة” . هكذا فقط. واستمر هذا الشعور حوالى خمس دقائق،ثم اختفى.
هل كانت تلك الخبرة إعلانا عما وصلت إليه من تقييم لطبيعة أعراضها ومعنى استمرارها ؟ هل هى بصيرة سليمة منقضة، فى مقابل ما نعرفه عن بداية ظهور الضلالات منقضة (تسمى أحيانا: من سماء صافية Out of the blues ويقصد بها أنها تحدث فجأة دون منذرات أو إرهاصات) هذا ما سوف نناقشه تفصيلا .
أميرة هى التى بدأت الجلسة فى هذا اليوم، هى التى جاءت تتبرع بحكى ما مرت به من خبرة مؤخرا، تحكيها بتساؤل ودود، ودهشة مبدعة، دون أن تسارع بتفسيرها هى بمزيد من الضلالات كما كانت تفعل.
الفروض العامة قبل العرض
تم تقديم الحالة بإيجاز شديد،ثم انتقل العرض إلى طرح الفروض كما يلى:
(1) إن التعامل مع المرض كعملية جارية وهادفة، غير التعامل مع المرض كمجوعة أعراض طارئة حادثة واصفـة.
(2) إن فرض أن المرض هو نوع من الحل السلبى، يستلزم أن نقدم العلاج باعتباره محاولة لإيجاد حل إيجابى قادر على تحقيق غاية المرض من حيث المبدأ، دون الوقوع فى مسارات سلبية هى التى أدت إلى المرض. ليس معنى أن لغة المرض قد أدت إلى فشل غايته أن نتنكر لهذه الغاية دون أن نفحصها. إن واجب العلاج أن يحققها إن كانت جديرة بذلك، لكن بأسلوب إيجابى يحل محل الأسلوب المرضى الفاشل.
(3) كما أن المرض يبدأ فى أحيان كثيرة “فجأة” دون مبرر ظاهر، فإنه قد تظهر نقلات التغير النوعى أثناء العلاج فجأة دون مبرر ظاهر أيضا. بمعنى أن ما يتم ظهوره فى لحظة بذاتها من العلاج ما هو إلا نتيجة تراكمات لممارسات علاجية تجمعت نتائجها لتظهر فى صورة هذه النقلة النوعية، أو تلك، فى وقت بذاته أثناء العلاج.
(4) إن من أهم خطوات العلاج هو أن يحل الموضوع الحقيقى Real Object محل الهلاوس والضلالات، وأن يصبح الموضوع (الناس- الآخرين وهم من يمثلهم هنا أعضاء المجموعة، مرضى ومعالجين), يصبحون أقل تهديدا، وأكثر إثراء لوعى المريض بحيث “يستغني” المريض عن الحل المرضى المتمثل فى ابتداع أصوات، ومعتقدات بديلة،كان المرض يصورها له باعتبارها سوف تغنيه عن العلاقة بالآخر الحقيقى. إن “الآخر” يمثل للمريض عادة ما يبرر له هروبه واستبداله لتحل محله “موضوعات الداخل، أو الخيال”. إن الآخر الحقيقى لم ينجح أن يعطى المريض احيتاجه للعلاقة ذات المعنى. لم يكن يصل المريض منه إلا التهديد بالترك والإهمال والنسيان والخلاف غير القابل للحل. فإذا نجح العلاج أن يقدم له نموذجا للآخر لا يحمل كل هذا التلويح بالآلام والسحق والالتهام،فإنه يستطيع أن يحقق نقلة نوعية تغنى المريض عن الانسحاب إلى الداخل، وأيضا عن اختراع عالم الخيال البديل (الفاشل فى النهاية).
(4) إن استعادة المريض بصيرته لا تقتصر على اكتشافه أنه مريض يحتاج إلى العلاج ويتقبله، لكنها تمتد إلى امتلاك قدرة التعامل مع الأعراض بوعى قادر على التفاهم معها، ثم ترجمتها، ثم إبدالها، ليحل محلها ما هو أنفع وأقدر.
(5) إن البصيرة المستعادة ليست تصحيحا عقليا بحتا، لكنها وعيا ممارسا مسئولا تظهر نتائجه فى السلوك وتغيير المواقف، أكثرمما تظهر فى الاعتراف وقبول العلاج.
(6) إن الفرض القائل “إن المرض هو اختيار من مستوى معين من الوعي”, يعنى بالمقابل أن يتضمن العلاح تقديم فرص اختيار جديدة تسمح للمريض أن يختبرها المرة تلو المرة، حتى يطمئن إلى أفضليتها، ونجاحها، فيقــدم على اختيارها فى الوقت المناسب.
(7) إنه كما تتذبذب البداية، ويتذبذب المسار حتى يستتب المرض، فإن الخروج من المرض لا يحدث بشكل كلى لا رجعة فيه، وإنما يأخذ مسارا متذبذبا أيضا حتى يتعمق الاختيار البديل، ويختبر، وينجح، ويستقر.
(8) إن اشتراك الأهل (الأم فى هذه الحالة) فى قبول الحل المرضى، (لا شعوريا فى العادة) لا بد أن يوضع فى الاعتبار حتى لو لم يصل إلى درجة الجنون الـمقحم أو المشتــرك( Folie impose or Folie Simultane). .
(9) إنه بمكن مناقشة طبيعة تكوين الأعراض، وطريقة التخلص منها، بل إن ذلك يصبح مرحلة ضرورية فى الوقت المناسب، بغض النظر عن ثقافة المريض النفسية.
(10) إن التعامل مع المعالجين على قدم المساواة مع المرضى، فى حدود الالتزام المهنى، من حيث احترام المشاعر، والدعوة إلى خوض الخبرات هنا والآن، يقرب المسافات بين المرضى وبعضهم،وبينهم وبين أنفسهم، وبينهم وبين المعالجين، ومن ثم يخلق العلاقة بالمعالج كممثل للآخر (الموضوع) بشكل أكثر أمانا وأطول عمرا.
الحالة:
كانت هذه الجلسة هى الثانية التى تحضرها أميرة بعد غياب خمسة أسابيع، حتى حسبنا أن غيابها كان نكسة ساهمت فيها أمها – دون وعي- بشكل ما، بدون مقدمات بادرت أميرة المجموعة فى أول الجلسة قائلة:
أميرة: دكتورة رانيا، أنا من كام يوم كنت ماشية أنا ومامتى فى الشارع حسيت كده، حسيت إن أنا مجنونة.
د. يحيى: أول مرة ؟
أميرة: والله العظيم.
د. يحيى: ألف مبروك.
أميرة: حسيت أنى أنا مجنونة مجنونة. إحساس كده قعد خمس دقائق وبعدين راح. ده معناه إيه ؟ إن أنا مجنونة؟ ولا فى بداية الجنون؟
د. رانيا: إيه اللى خلاكى تحسى إنك مجنونة ؟
أميرة: مش عارفة، فجأة كده.
د. رانيا: مجنونة بتعملى إيه ؟
أميرة: مش باعمل حاجة أنا حسيت نفسى، مخى، مجنونة .
هذا الإحساس المفاجئ لم يكن مفاجئا للمعالجين، ولا ينبغى أن يؤخذ بألفاظه المعتادة، وإنما يتم البحث حتى نتبين حقيقة ما تعنى. نحن نلاحظ هنا:
(1) كيف أن المريضة قد جاءت متبرعة بتلقائية لتحكى عن خبرتها، مما يدل على توثق علاقتها بالمعالجين من جهة، وبالمجموعة من جهة أخرى.
(2) إنها تصف مشاعرها بدقة ودهشة معا.
(3) وأنها لا تعنى وصف أعراض الجنون، كما يعرفه الأطباء، أو حتى العامة، ولكنها تصف حالتها “حسيت نفسى، مخى، مجنونة”بما تيسر من ألفاظ.
(4) وأن تعبيرها فيه تساؤل جاد، يشير من البداية إلـى الاستعمال الخاص (5) وأن موقف التساؤل انتقل إلى المعالجين بشكل ما، مثلا حين سألت دكتورة رانيا”إيه اللى خلاكى تحسى إنك مجنونة ” أو ” مجنونة بتعملى إيه”؟”
ثم أخذت د. رانيا تواصل استفسارها، وهل هذا الإحساس متعلق بالأعراض التى كانت تعانى منها يوميا (بمعنى خبرات الضلالات والهلاوس وكراهية الناس فى الشارع خاصة ..إلخ) أم أن أميرة تعنى أمرا آخر.
د. رانيا: علشان اللى بيحصل كل يوم؟ ولا حاجة معينه حصلت وفكـرتى فيها.
أميرة: مش عارفة ؟
يشير الحوار هنا – بصفة عامة- إلى درجة الصدق التى تمارسها أميرة، كما يشير إلى أن سؤال المعالجين هو من باب التقصى لأمر جديد، أكثر منه من باب البحث عن دلالة أعراضية معينة. لم تترجم د. رانيا كلمة مجنونة إلى ما تعرف عن هذه الكلمة ودلالاتها التشخيصية مثلا، بل راحت تتعرف على المعنى الخاص فى هذا الموقف الخاص.
ونشير هنا إلى أنه مع وضع احتمال هذه اللغة الخاصة فى الاعتبار بالنسبة لكل مريض، ولكل مرحلة، يستحن أن نتجاوز التساؤل حول “التعريف” الجامع المانع للكلمة كما يقولون. إن المريض نفسه لا يعرف تعريفا مسبقا للخبرات الجديدة، وهو يستعمل أقرب كلمة يمكن أن تصف خبراته المنبثقة. فى هذه الأحوال، من الأنسب أن نعرف معنى الكلمات من السياق من جهة، ومن نتائج استعمالها من جهة أخرى.
يسارع د. يحيى إلى تحويل الاتجاه من التمادى فى التساؤل عن التعريف،إلى كشف موقف أميرة من إحساسها هذا، بغض النظر عما يعنى.
د. يحيى: معلش يا د. رانيا علشان مانضيعش الفرصة، (متجها إلى أميرة), دى حاجة كويسة ولا مش كويسة ؟
أميرة: حاجة كويسة.
هذا الإقرار المباشر دون تردد قد يشير إلى إيجابية الخبرة التى ينبغى رصدها بعد التأكد من توجهها حتى لو لم نصل إلى توضيح كامل لما تعنيه. لكن يبدو أن الدكتورة رانيا اتجهت نحو اعتبار هذه الرؤية لها علاقة باكتساب بصيرة ما فى أعراضها ومرضها، فسألت
د. رانيا: حاجة كويسة إنك تشوفى (إللى انت فيه).
هنا خاف د. يحيى من أن يقتصر الأمر على مسألة البصيرة فى الأعراض فسارع بتوضيح مباشر، ليقوم نقاش بين المعالجين:
د. يحيى: لأ هى مش شافت الأصوات والحاجات دى إنه جنون، لأ، ده إحساس تانى
د. رانيا: إنها تشوفه وتسميه دى شجاعة بصراحه.
د. يحيى: لأ أنا عاوز أوضح دى يا د. رانيا
د. أسامة: هى حست إحساس.
نلاحظ هنا أن المعالجين منتبهين إلى جدة الخبرة، فتعبير أميرة “حسيت إن أنا مجنونة” بعد سبع سنوات لم تعترف أثناءها أنها كانت مريضة أصلا، ناهيك عن أنها مجنونة، ينبه بالضروة إلى أخذ مثل هذه النقلات مأخذا مختلفا، ثم إن التركيز على “حسيت” دون “عرفت” يكاد يتفق عليه المعالجون الثلاثة.
يبين هذا المقتطف أيضا كيف أن الاختلاف بين الأطباء المعالجين يمكن طرحه ومناقشته أمام، وبحضور ومشاركة،المريض نفسه، بل وسائر أفراد المجموعة
إن الاختلاف لا يحسمه استشهادات نظرية، وإنما استمرار التقصى مع المريضة نفسها. ففى حين واصلت د. رانيا تساؤلاتها عن علاقة هذا الإحساس بما يحدث “كل يوم”, ركز د. يحيى على توضيح أنه أمر “مختلف” والسلام. إنه”إحساس ما”, إحساس يعلن أن ثمة أمرا جديدا “يتكون”, ثم راح د. يحيى يبحث عن ماهيته من خلال موقف المريضة منه، ومن خلال آثاره، دون حسم، أما د. أسامة فقد انتبه كيف أنه”إحساس”, وليس مجرد معرفة تدل على بصيرة فيما يعرف بأنه Hindsight .
لا نستطيع أن نستبعد درجة من الإيحاء يمكن أن تصل إلى المريضة من خلال المناقشة بين المعالجين بهذا الوضوح. هذا أمر لا يمكن تجنبه، بل يستحسن ألا نتجنبه تعسفا. إن المريض (وسائر المرضي) حين يعايش هذا الاختلاف المعلن، يتحرك فيه موقف الاستطلاع أكثر، ولا يعود يستسلم لرأى واحد منفرد. إن المطلوب لاختبار مدى التأثير لمثل هذا الإيحاء، وهذا الاختلاف هو إشراك المريض ومحاولة حفز تلقائيته، ويتوقف تقييم قدر ما وصله بشكل سلبى، وقدر ما هو مساهم فى استيعابه من موقعه، على تسلسل الحوار، وآثار النقاش.
فى هذا الموقف، راحت أميرة تنفى أولا أن هذه الخبرة قاصرة على النظر فيما كانت (وما زالت) تمر به من معاناة وأعراض، فهى تصف هذه المشاعر بهذه الصفة نظرا لجدتها، وهى تدرك أنها”خبرة خام” تحتاج استكشافا، بقدر ما تثير من تساؤلات. مثلا: عما إذا كانت “كويسة” أم لا؟ عما إذا كان هذا يعنى أنها مجنونة فعلا أم ماذا؟
إن التقاط هذا الوصف الذى تبرعت به المريضة فى بداية الجلسة، باعتباره أمرا جديدا يحتاج الفحص بالمعايشة، هو وظيفة العلاج على هذا المستوى، وهو يفيد المريض من حيث إدراكه كم يحاول المعالجون فهمه، بقدر ما يفيد المعالجين وهم يتقصون أين هم، وأين مريضهم، وكيف، لعل كل ذلك يهدى إلـى بعض حقيقة ما هو.
إن وصف المريض لخبرته، خصوصا بعد مثل هذه المرحلة من العلاج، لا بد أن يؤخذ بجدية باعتبار أنه قد يشير إلى احتمال نقلة ما، فى اتجاه ما، نتعرف عليه من هذه الخبرات”بما هي”, دون اختزالها إلى ما نعرف.
يستمر د. يحيى فى عرض فروضه، (وهى تحمل قدرا غير يسير من الإيحاء), كما تستمر المناقشة حولها، لاستقصاء مدى صحتها، وحقيقة تأثيرها.
د. يحيى (للدكتورة رانيا): الإحساس ده مستقل تماما ومالوش أى دعوه لا بالناس ولا بالأصوات ولا بالمؤامرات ولا بالكراهية، هى حست وهى ماشيه فى الشارع، إنها مجنونة، وراح الأحساس ده بعد 5 دقائق،،دى مش بصيرة فى اللى عندها إن”هذا هو الجنون .لأ”
د.رانيا: ملتفتة لـ (أميرة) صح كده يا أميرة ؟يعنى ده ملوش علاقة باللى بيحصل كل يوم؟
أميرة: ماهو اللى بيحصل كل يوم ماباحسش إنى أنا مجنونة، عادى يعنى، بس ساعتها حسيت إن أنا مجنونة. .
د. يحيى: ألف مبروك ..(سكتة). …. ليه بأه ألف مبروك؟
د. رانيا (ضاحكة): إحنا عاوزين إنها تحس أنها مجنونة على طول .
يتبين هنا، وبشكل مباشر، كيف ترى أميرة أن”اللى بيحصل كل يوم”(وهو -هنا إشارة إلي- الهلاوس والضلالات، وسوء التأويل، وغضب الناس، ومؤامرات الإيذاء، وخاصة فى الشارع) هو الـ “عادى يعني”،وبالتالى فــ أميرة لا تعتبر كل هذه الأعراض (إللى بتحصل كل يوم) دليلا على أنها مجنونة. تقول:” ما هو اللى بيحصل كل يوم، ما باحسش إنى أنا مجنونة”. أما هذه الخبرة الجديدة “ساعتها” (ساعة الخبرة التى استمرت خمس دقائق) “حسيت إن انا مجنونة”.
أنظر كيف يتضح هنا الاستعمال العكسى (الصحيح من عمق بذاته) للكلمة. ذلك أن أميرة حين تشعر بكل هذه المشاعر المريضة بتاعة كل يوم، تشعر أن هذا عادى، وحين تدخل خبرة ليس لها علاقة بهذه المشاعرالمريضة، والمعتقدات الخاطئة، تعلنها تحت اسم الجنون. من هنا كانت إشارتنا إلى التحذير من التسرع باستعمال التعامل مع المرضى بما شاع عن اللفظ عامة،أو حتى بالمعنى الذى سبق استعماله فى سياق آخر. إنه يلزم باستمرار الأخذ فى الاعتبار تنوع الاستعمالات الخاصة للمريض للفظ بذاته، مع النظر فى مرحلته، على طريق المرض، وعلى طريق العلاج على حد سواء.
ثم يبدو أن د. يحيى انتبه إلى ما استـدرجوا إليه من تنظير فراح يقولها صراحة:
د.يحيى: لولا أنها علاج كنت اتكلمت نظرى، أنا مش عايز اتكلم نظرى إلا فى الآخر. (يقصد عند المناقشة التى تجرى بصفة ملزمة بعد انتهاء كل جلسة، تجرى بين المعالج الأول وبين المعالجين المشاركين،وأيضا بحضور واشتراك المشاهدين).
ثم يوجه د. يحيى كلامه إلى أميرة .
يا أميرة الإحساس ده فعلا أنا فرحان بيه
أميرة: ده مؤشر حاجه كويسه ؟
د. يحيى: حافرح يعنى على حاجة وحشه؟ فاكرة لما مثـلنا الجنون وعملنا مش عارف إيه، يعنى هو (إحساسك) فى المنطقة دى كده. أظن أن ده قريب من قرار أشرف اللى هو مش شايفه قوى، إنك تكملى وإنك تخفى قريب، هوه حاجة يعنى فى المنطقه دي
الإشارة هنا إلى لعبة سابقة، سبق تمثيلها حين طـلب من أفراد المجموعة أن يمثل كل منهم أنه مجنون (بما فى ذلك المعالجين والذهانيين أيضا), ومثل هذه الألعاب التى تعتبر بمثابة سيكودراما متناهية الصغر Mini-drama، تسمى لعبة Game: فى هذه اللعبة كان المطلوب من كل واحد أن يمثل الجنون لا أن يصفه أو يعرفه. وقد لاحظنا أن اللعبة كانت أصعب من التوقعات المبدئية، لكن الجميع لعبوها بعد مقاومة مختلفة الدرجات، وقد ظهر من نتاجها أن كل واحد فى المجموعة له مفهوم عن الجنون مختلف عن الآخر، وعن حقيقة ما هو فيه (حتى لو كان ما فيه هو جنون حقيقي).
أظهرت هذه اللعبة بشكل خاص أن من يسمون مجانين كانوا يقومون بتمثيل الجنون على أنه “ما هو عادي” (عكس ما هم فيه). وبالتالى فالعكس صحيح. فجاءت التذكرة هنا بما قاله أشرف فى هذا السياق، وأنها إن “جنت شفيت” . هذا الاحتمال هو الذى يفسر إحساس أميرة أنها مجنونة، هكذا فجأة. فى الشارع، ثم ما تلى ذلك من دهشتها المختلطة بالفرح، ففرحة الطبيب،فهذا الحوار السابق بكل ما يعنيه. إن شعور أميرة أنها مجنونة،قد يعنى تماما أنها لم تعد مجنونة، لم تعد مستقرة على يقينها (الضلالي) مقارنة بذى قبل.
الجنون،من هذا المنطلق، هو ما ليس كذلك كلية وفجأة، وهو فى ذلك يتفق مع الإبداع فى بدايته، ولكن فى حين ينتهى الجنون إلى التدهور والسلب، ينتهى الإبداع إلى إعادة التركيب وخلق الجديد.
فجأة انتقلت أميرة إلى إعلان تخوفها من عدم إكمال المشوار، بمناسبة إشارة قالها المعالج وهو ينبه أفراد المجموعة إلى قرب انتهاء المجموعة (خلال ثلاثة أشهر تقريبا).
أميرة: يعنى وقت الجلسه دى أو الجروب ده. هايبدأ جلسه تانية يعنى أكمل الجروب اللى جاى يعنى
د. يحيى: قصدك الجروب كله؟
د.أسامة: إيه اللى جاب السؤال ده على بالـك دلوقتى يا أميرة،ولسه فاضل بتاع تلات شهور
أميرة: أنا كلمت ماما وقلت لها إزاى أنا هاخش الجروب اللى جاى، ولا كفاية لحد كده ؟
د. أسامة: إنتى عايزه إيه ؟
أميرة: مش عارفه، عايزه أكمل. (فترة صمت ثم:) أكمل؟ ولا كفايه كده ؟
أسامة: إنتى قلتى عايزه إيه.
أميرة: حضرتك موافق ؟؟
أسامة: لسه حانبحث الحكاية دى وحانشوف.
تعتبر هذه الإشارة من أميرة تأكيدا لما ذكرته من خبرة إحساسها بالجنون، باعتبار أنه نقلة نوعية لها دلالاتها القصوى فى اتجاه تحويل العملية الذهانية إلى العملية الشفائية، الأمر الذى جعلها -فجأة – تتساءل، ثم ماذا بعد؟ وهى ما زالت فى بداية النقلة المحتملة، ها هى تعلن حاجتها إلى ضمان يجعلها تقبل دلالات هذه الخبرة،وما يمكن أن يترتب عليها.
حين طلب د. أسامة منها أن تحدد موقفها أولا، وبعد أن أعلن د. يحيى أن مسألة إكمالها فى مجموعة جديدة هو موضوع مهم، كان هذا وذاك بمثابة اختبار لعلاقتها بالعلاج من ناحية، وبمدى إيجابية هذه الخبرة من ناحية أخرى.
لقد عادت المجموعة إلى مناقشة هذه النقطة طوال الثلاثة أشهر التالية. كان المعروف أنه غير مسموح، إلا فى حالات شديدة الندرة، وبمسئولية شديدة، أن يستثنى أحد من أن ينهى خبرته العلاجية فى العلاج الجماعى إلا مع سائر زملائه، إلا أنه فى هذه الحالة بوجه خاص، كان لزاما أن نحسن الإنصات إلى رأى أميرة، وأن نضع اختيارها ومرحلتها فى الاعتبار. كان يكفى فى هذه المرحلة أن نطمئن إلى حرصها أن تكمل الخبرة، وتعبيرها”عايزة اكمل”, الذى ألحقته بترددها المفهوم، والمهذب، يشير إلى أنها كونت علاقة حقيقية مع المجموعة، وأنها استشعرت احتمالا حقيقيا فى الشفاء، ومن ثم بدا أنها تحتاج أن تكمل ما بدأت، وهذا ما قررته بسرعة، لكنها عادت تتساءل، بل تسأل، إن كان هذا هو الصواب، وإن كان هذا مسموح.
ثم إنها تعرف أنها سوف تكمل- إن سمح لها أن تكمل- مع مرضى آخرين لا تعرفهم، وهذا يشير إلى أنها وصلت إلى درجة أدركت معها أن العلاقات أثناء العلاج الجمعى لا تقتصر على أفراد معينين، وإنما هى خبرة مفتوحة النهاية بغض النظر عن ارتباطها بشخص بذاته.
(ملحوظة: إن بقية المرضى،وخاصة أشرف اشتركوا فى هذه المناقشات حول تكملة العلاج، وذلك بدرجة محدودة، وسيرد ذكر أشرف وعزت فيما بعد، لكننا قصرنا الشرح والإيضاح على ما ورد فى عرض ندوة أول يونيو سنة 2001 تحديدا).
سرعان ما ينتبه د. يحيى إلى البعد عن الخبرة الأصلية، والتى بدأت بها أميرة الجلسة، والتى رحبت بها د. رانيا، وفرح لها د. يحيى، فهو يلتفت إلى د. أسامة قائلا:
د. يحيى: يا دكتور أسامة، أنا مش عارف أستغل اللى أنا قلت عليه فرحان بيه ده، طبعا مش عايز أتكلم نظرى دلوقتى، عايز أشتغل مع أميرة ومش عارف، ومع أشرف ونادية.(ثم ملتفتا لـ أميرة): بس الخبرة بتاعتك يا أميرة دى، تفسيرها حسب مخى يعنى ـ والله أعلم ـ إنها كويسة . زى ما انتى قلتى …. هوه دليل كويس. يبدو إنها صدق يعنى، صدق خالص، بس مش عارف أشتغل فيها هنا ودلوقتى، مش عايز أتكلم عنها (عايز أشتغل فيها).
أميرة: إيه هى ؟
د. يحيى: إنك إنت حسيتى إنك مجنونة، بغض النظر عن اللى بيقولوا عليه فى التقسيمات إللى بيحطها فى مخنا الأمريكان علشان مانفكـرش.
(ملحوظة: الجملة الأخيرة ليست بالنص، ولكنها قريبة جدا من النص، وقد تم التغيير لاختلاف وسيلة العرض من التلفزة إلى القراءة على الورق).
نلاحظ هنا كلا مما يلى:
(1) ثمة محاولة من المعالج الأساسى أن يعمق الخبرة التى لم تستغرق سوى خمس دقائق، وأن يحضرها “هنا والآن” بحجم يليق بدلالتها كما بدت، وليس باعتبارها خبرة عابرة يمكن تجاوزها- لقصرها مثلا.
(2) إن إعلان عجز المعالج عن مواصلة تطوير جزئية من التفاعل، أو وصفا لخبرة، رأى فيها ما يفيد، لا ينقص من قدرته أمام مرضاه، بل قد يقلل من تقديسهم له، لما يسمح بالإقلال من الاعتمادية عليه بشكل أو بآخر.
(3) إن إعلان العجز هكذا أيضا هو دعوة ضمنية من المسئول الأول لمساعديه أن يسهموا بتلقائية فى تحريك الموقف فى الاتجاه المفيد، وهذا الإعلان الذى تكرر فى هذه المجموعة، والذى يتكرر فى غيرها، ثبت أنه مفيد لأنه بقدر ما يحمل درجة من الصدق، هو يحمل دعوة للمشاركة فى الخروج من المأزق، وفى هذا فائدة ضمنية تسمح للمعالجين الأصغر باكتساب الثقة تدريجيا، وأيضا بالإقلال من الاعتمادية على المعالج الأكبر (علاقة الصبى بالمعلم فى أى حرفة).
(4) إن مثل هذا الإعلان، وما يليه من محاولات مشتركة يرتقى بالعلاج من مجرد الشرح والتأويل الجاهزين إلى التجريب والمراجعة باستمرار.
هذا، وقد بدا من كل ما سبق (ومما لحق من بعد فى المجموعة), أن هذه الخبرة القصيرة فعلا كان لها من الدلالات ما يبرر هذه الوقفة وهذه المحاولات.
جاءت استجابة أميرة لحيرة المعالج الأساسى وإعلانه عجزه المؤقت غير متوقعة، فقد انتقلت أميرة فجأة إلى موضوع آخر تماما، لم أتبين دلالته بهذا الوضوح إلا حالا، وأنا أكتب هذا التفسير، بمعنى أننى لم أتبين دلالته لا أثناء هذه الجلسة، ولا بعدها، ولا أثناء الندوة التى عرض فيها هذا المقتطف. قالت أميرة فجأة، بعد إعلان المعالج عجزه وحيرته، مع إصراره على تعميق نفس الخبرة:
أميرة: أنا مرة قلت لمامتى أنا حسيت كده، قلت ليه الناس يعنى والدنيا كلها ماتعملش زى شريط فيديو بيرجع، ناس ماشية بسرعة بسرعة كده كإن واحد بيرجع شريط فيديو؟ ماما قالت لى كده معناه إنك مجنونة.
د. يحيى: دى بأه اللى ماما قالت لك عليها إنك مجنونة ؟
هذه إضافة جديدة تؤكد ما ذهبنا إليه من اختلاف استعمال، ومعنى كلمة “مجنونة” أو “جنون” حسب السياق بشكل متنوع بلا حصر. إن ما يبدو كأنه استعادة (فلاش باك) شرحته أميرة بهذا الوضوح، بدا للأم على أنه هو الجنون ذاته.
إن ما ذكرته أميرة بهذه التلقائية لا ينبغى أن يعلى من شأن ما شاع عن العلاج بالتحليل النفسى، من أنه تفريغ واسترجاع لخبرات الماضى من خلال التداعى الحر، وما أشبه، إن أميرة تشرح، وكأنها ترى، كيف أن تحريك مستويات الدماغ فيما بينها بمرونة هى الوسيلة الأساسية فى حركية وجدلية العلاج الجمعى.
إن أميرة لا تقول إن هذه الخبرة التى تحكى عنها هى خبرة سابقة، بل إنها تحكى عن خبرة حالية،لها طزاجتها وجدتها.
إن جدة هذه الخبرة، ودلالاتها،ومصاحباتها إنما تؤكد الفرض المبنى عليه هذا النوع من العلاج الجمعى، وخاصة بالنسبة للذهانيين. إن هذا الفرض يقول:
إن الحل العلاجى، عملية العلاج، عملية إعادة البناء، إنما تشمل مرحلتين، الأولى: تفكيك ما كان من حل مرضى والرجوع إلى نقطة البدء (وليس مجرد تفريغ أو تنفيث كما يشاع عن التحليل النفسى، وهو ما نفيناه حالا).
والثانية: تنظيم فتركيب فى عملية إعادة البناء علاجيا.
من هذا المنطلق، يمكن أن نفهم هذه التحويلة من أميرة وهى تذكر تشبيه إرجاع شريط الفيديو بمعنى:
إن هذه الخبرة التى يدور حولها الحوار، هى بمثابة إعلان أن أميرة ترجع – كما شريط الفيديو – إلى سابق عهدها لتساهم فى إعادة تنظيم ذاتها.
لكن لماذا تعتبر أمها مثل هذا التفكير بمثابة الجنون؟
ذلك لأن أى خبرة غريبة علينا سرعان ما نلصق بها صفة الجنون.
هذا أمر لا يخلو من درجة من الصحة، شريطة أن نتفق على أن للجنون (بهذا التحديد) وجه إيجابى بشكل أو بآخر. ومن ثم يمكن القول: إنه لا يفل الجنون (السلبي) إلا الجنون (الإيجابي).
وأخيرا، فإننا سبق أن أشرنا بشكل عابر فى سياق تبرير غياب أميرة خمس جلسات، وأيضا بمناسبة تمسك الأم بجرعة العقاقير الجسيمة، وخوفها من أى إنقاص لها، أشرنا إلى احتمال أن الأم – على مستوى اللاشعور غالبا- تكاد تخشى ما سوف يترتب على شفاء ابنتها، ليس لأنها سعيدة بمرضها، ولكن لأسباب كثيرة،هى شائعة للأسف فى مجتمعاتنا، أكثر مما يحسب الناس، وأكثر مما هو معروف فى مجتمعات ينفصل فيها الإبن أو البنت عن الأهل مبكرا، وتماما . إن هذا ما يقال له أحيانا “المرض بالنيابة”, أو “المرض بالإسقاط – من آخر” (انظر بعد).
ربما هذا هو ما جعل الطبيب المسئول الأول يلتقط الخيط ليقول:
د. يحيى: تعرفى أنا بأفكر فى إيه دلوقتى (يا أميرة)،مادام جبتى سيرة ماما،هى لما هاتخفى ماما “حاتعمل” إيه؟
(الكلمة التى قيلت حرفيا بدلا من “حاتعمل” هى غير ذلك، وقد تجنبنا ذكرها لأنها قد تفهم خطأ، فهى لا تفهم بالمعنى الذى قيلت به، إلا إذا شوهدت وسمعت مباشرة فى السياق العام مع التعبير بالوجه، والضحك،والود،واحترام الأم).
أشرف: هاتيجى تقعد مكانها (يقصد الأم تجلس مكان ابنتها أميرة).
أميرة: طبعا لما أخف هاتفرح طبعا.
أشرف: (مصمما لتأكيد نفس المعنى الذى قاله):وبعد كده إنتى اللى هاتجيبى أمك.
د. يحيى: مش فاكره أنا قلت لها إيه المره اللى فاتت، الكلام ده متسجل. (قلت لمامتك:) ها تعملى إيه السبع سنين اللى جايين، حاجه كده. ما فهمتيش حاجة من الكلام ده (ياأميرة).!
أميرة: يعنى هى عايزانى أبقى عيانه، وكده ؟!
د. يحيى: إزاى عايزاكى، تبقى عيانة؟ حاشا لله، ما فيش أم فى الدنيا تبقى عايزه بنتها تبقى عيانه، بس يعنى، التعود حاجة تانية
هذه النقطة شديدة الحساسية وتحتاج إلى تكرار وإيضاح، حتى لا يتصور القارئ أننا نتهم الأمهات باستعمال أبنائهن وبناتهن لتحقيق توازن نفسى مريض، ورؤية كيفية تناولها تسجيلا مرئيا مسموعا تختلف عن مجرد كتابتها، وبالتالى عن قراءتها من شخص لم يباشر خبرة العلاج عن قرب، ومع ذلك فلا مفر من ذكر الفرض وراءها،وهو الذى يفترض أن بعض أفراد الأسرة من الكبار، يستعملون المريض نيابة عن مكنون اضطرابهم، يحدث هذا أكثرفى حالة المرضى الأطفال.
وعن هذه الخبرة نقول :
(1) إنها شديدة الشيوع فى مجتمعاتنا خاصة، فى كل الأعمار، وليس فقط فى الأطفال كما هو الحال فى مجتمعات أخرى.
(2) إنها تشير إلى أنه فى بعض الأحيان، لا بد أن يشمل العلاج التعامل مع الأسرة باعتبار أن الشخص المريض هو عـرض لمرض الأسرة، وليس مرضا مستقلا.
(3) ثم إنه إذا توجه العلاج ليس إلى التخلص من مرض وأعراض الابنة فحسب، بل إلى العناية بالأم لسد احتياجاتها من مصدر صحى، تصبح فى غنى عن استعمال مرض ابنتها لسد هذه الاحتياجات بطريقة إمراضية خفية.
(4) وأخيرا، فإنه لا بد من تحرى الحذر ونحن نتعامل مع هذا الاحتمال، وذلك حتى لا يصل إلى المريض أى سوء فهم ينشأ عنه عداء للأم أو الأب المساهم – دون أن يدرى – فى استمرار الحل المرضى. إن الحذق الحرفى، والمسئولية الإنسانية تقتضى أن يكون ما يصل المريض حافزا أن يشفى، ليس فقط ليصبح سليما هو فقط، وإنما لتعود سلامته عليه بالحرية، وعلى من حوله بالنضج حتى لا يضطروا إلى استعمال ذويهم.
من الجدير بالذكر الإشارة إلى موقف سابق يكمل هذه الصورة، وهو الموقف الذى جرى بعد أن تخلفت أميرة عن الحضور عدة جلسات، فحدثت مواجهة بين الطبيب الأول (د. يحيي) وبين الأم داخل المجموعة، وبشكل مباشر، حين عاتب د. يحى الأم على تقصيرها فى إحضار ابتنها للعلاج، وتضمن العتاب شبه اتهام بالمشاركة فى انقطاع أميرة خمس جلسات متتالية، وحين بدا أن د. يحيى سوف يزيد جرعة العقاقير لاحتمال أن يكون الانقطاع هو بسبب نكسة محتملة، فرحت الأم، فى حين اعترضت أميرة، وانتهى الموقف بالعدول عن زيادة الجرعة، كما وصلت للأم رسالة تطمئنها أننا لن ننسى احتياجها، وأيضا تنذرها أن اللعب بالتمادى فى المرض (لا شعوريا) له عواقب وخيمة.
وصلنا بذلك إلى موقف يعلن ترجيح احتمال أن هذا الشعور بالجنون (حاسة إنى مجنونة) هو إعلان عن بداية نقلة نوعية نحو استعادة التوازن الصحى، بديلا عن الحل الذهانى. نذكر، ونلاحظ أن أحدا (معالجا أو مريضا) لم يسأل أميرة بشكل مباشر عن ذهاب الأعراض، وبالذات الهلاوس والضلالات،من عدمه، لكن كان من الواضح أن هذه الأعراض قد أصبحت بعيدة، وأن هذه الخبرة التى وصفتها بالجنون هى خالية من الهلاوس والضلالات إن لم تكن ضدها.
فجأة ذكرت أميرة ما لم نكن نتوقعه، وإن كان يتفق تماما مع فرضنا القائل إن الضلالات والهلاوس قد اختفت مؤقتا، وقد تزامن ذلك مع خبرة الشعور المؤقت بهذا الجنون (الإيجابي). لم تعلن أميرة اختفاء الأعراض،, لكن ذلك ظهر أكثر وضوحا حين راحت تعلن، وبدون دعوة من أحد، أنها تفتقر إلى هذه الأعراض التى كانت قد تعودت عليها كل هذا الزمن، وأنها تريد أن تسترجعها، وكأنها مشتاقة إلى صديق غاب دون اعتذار. قالت أميرة،مبادئة أيضا:
أميرة: أنا ساعات باحس إنى نفسى ترجع الناس يكرهونى من تانى.
د. يحيى: الله !!! هم بطلوا يكرهوكى ؟
بدا واضحا هنا فى التسجيل، مما لا يمكن شرحه بالكلمات،أن المعالج (د. يحيي) “يستعبط”استدراجا، كما بدا تعجبه خليطا من الاستفهام التقريرى، وأيضا من المناوشة للتحدى، وكأنه يستدرجها إلى الاعتراف بإيجابية النقلة، وإلى ربط خبرة تنامى علاقتها بأفراد المجموعة، باختفاء الأعراض، بظهور هذا الإحساس التى أسمته “جنونا”.
فتضيف أميرة:
أميرة: يعنى يعملوا لى زى الأول، حاجات كبيرة كده، غيظ وحاجات وأفكار، بابقى فرحانه علشان كده.
د. يحيى: يعنى إيه؟ يعنى الناس لما يرجعوا يكرهوكى تانى ويعملوا حاجات كبيرة تبقى فرحانه ؟ الله أكبر
د. رانيا: هايل ده موضوع حلو قوى.
أميرة: لما،.. لما بألاقى نفسى مش زى الأول، بأحس بغربة يعنى حاجات ضايعه منى .
نرجع هنا إلى مسألة دور المريض فى إحداث المرض، وفى استرجاع الصحة. حين نقول إن المرض هو فعل، وليس مجرد رد فعل، نعنى بالضرورة أن الصحة كذلك. أى أنها فعل أيضا وليست منحة من طبيب أو سحر بعقاقير، إن المريض يستعمل الطبيب والعقاقير لتعينه على اختيار جديد، كما أنه لجأ إلى الهروب والتفكك تحت ضغط ظروف أعانته على اختيار الهرب،ومن ثم المرض.
حين تغيرت الظروف والعلاقات من خلال العلاج الجمعى، وحل أفراد المجموعة محل الأصوات والضلالات،واكتسبت أميرة درجة من الطمأنينة، اختفت الأصوات- ولو مـؤقتا- دليلا على أنها وجدت – ولو مؤقتا – البديل (الموضوع/الآخر، والمعني). استغنت بالموضوع (المجموعة) عن الهلاوس دون إعمال إرادة متشنجة.
لكن المسألة ليست سهلة كما تبدو، لا يوجد هناك زر للأصوات، وزر آخر للعلاقات الحقيقية بالناس (المجموعة)،تضغط على الأول تجلب الأصوات/الهلوسات فالمرض،وتصغط على الثانى فتجلب الصحة.
بهذه الأمانة الصريحة المباشرة تقرر أميرة أنها ليس فقط تتمنى رجوع الحل المرضى، بل أيضا إن ذلك “يفرحها”. فيبادر الطبيب يفسر لها المسألة
د. يحيى: الدكتورة رانيا أنتبهت إن ماما، ربنا يفرحها بيكى، بطريقتنا مش بطريقتها. اتعودت على مرضك، إنتى رخرة اتعودتى على الأصوات لدرجة إنها لما تغيب “تحسى بغربة”.
أميرة: …(تبدو موافقة بهزة من رأسها) .
د. يحيى: يعنى لا أصوات ولا كراهيه ولا مؤامرات (ياخسارة).
أميرة: لأ. مش مستغربة، متضايقة جدا .
مرة أخرى، تؤكد أميرة أن الخبرة التى ذكرتها نتيجة لاختفاء الأصوات والضلالات، والتى ينتج عنها الغربة (لا للاستغراب) تجعلها”متضايقة جدا”
د. يحيى: ماشى، متضايقه، شوفى د. رانيا انبسطت من الحكاية دى، شوفيها انبسطت ليه.
أميرة: حضرتك انبسطى ليه؟ أنا (دلوقتي) مش بأتـهم الناس، أنا عايزه كده .
نلاحظ هنا:
إن الضلالات كانت تحضر فى شكوى أميرة باعتبار أن الناس تكرهها، وتغضب منها، وتقتحمها، كانت تشكو من كل ذلك خصوصا فى الشارع، وهى الآن تنفى هذا الموقف، لتقرر أنها هى التى تريد ذلك !!
يجدر بنا هنا أن نترجم ضلالات أميرة إلى ماتعنى فى إطار الفرض الذى وجه العلاج هكذا.
الناس بتشاور على فى الشارع
– أريد أن يرانى الناس بعد أن أهملنى الجميع.
الناس غضبانة وعايزة تخنقني
– أنا موضع اهتمام الناس، بهذا أتأكد أنهم قد انتبهوا إلى وجودى، حتى بالرفض، حتى باعتبار أننى أهددهم، معنى تفاعلهم هكذا هو أننى من القوة والحضور بحيث أمارس حركة الكر- فر Fight Flight التى تؤكد وجودى.
نكرر أن العلاج الجمعى لا ينفى الأصوات من حيث المبدأ، بقدر ما يحل محلها بصورة ما، ويؤدى وظيفتها، ثم إن العلاج الجمعى يتحدث عن الأصوات باعتبارها حقائق ويناقش مدى لزومها من عدمه بعد المراحل المناسبة التى تسمح بذلك.
ننبه أيضا إلى السلاسة التى تقول بها أميرة عبارة:”أنا عايزة كدة”
كل هذا يشير إلى تطور عملية استعادة القدرة على النظر فى العملية الإمراضية، وليس فقط القدرة على اعتبار الأصوات من صنع الخيال مثلا. لهذا السبب فإن أميرة لا تخشى، وهى تعترف بحاجتها إلى اأصوات (أنا عايزة كدة) لا تخشى من أن يتهمها أى من المعالجين وأفراد المجموعة بالادعاء مثلا (قارن موقفها من والدتها فيما بعد).
د. رانيا: طب أنا عاوزه أسألك سؤالين: تفتكرى ياأميرة إن مامتك هاتبقى فرحانه باللحظات اللى انتى حاسة فيها بالجنون.
(تشير د. رانيا إلى خبرة الخمس دقائق موضوع النقاش فى هذا الموقف)
أميرة: لأ طبعا
د. رانيا: ليه ؟
أميرة: كده، هاتستغرب . هاتقوللى إنتى فرحانه ؟!! مش إنتى بتقولى مش عايزه الناس يكلموكى وكده، طب إزاى إنتى فرحانه يبقى إنتى بتألـفى بقى !
نلاحظ الفرق بين ثقة أميرة فى نوع تقبل المعالجين والمرضى فى المجموعة لبصيرتها المنبثقة، ونوع تقبل أمها كما تتصوره هى (وهو تصور أقرب للحقيقة) . هذه نقطة غائبة عن أذهان كثيرين، وهى تتعلق بوعى المريض (عادة فى بداية المرض، وهنا فوجئنا أن الأمر مماثل قرب نهايته) بهذا الجزء الإرادى فى تكوين الأعراض وتوظيفها.
حين يعلن مريض ما دوره فى إحداث الأعراض، هذا لا يعنى أنه متمارض، أو أن الأعراض أقل دلالة مرضية مما إذا كان يشعر أنها مقحمة عليه، وأنه لا حول له ولا قوة إزاءها.
كثير من الأطباء (النفسيين وغير النفسيين) يمسكون هذه النقطة على المريض وكأنه يتصنع (متمارض). هم ينسون أن من السمات الأساسية للمتمارض أنه ينكر دوره فى حدوث المرض، هو متمارض أى أنه يدعى المرض لا يدعى إحداث المرض، فى حين أن المريض الذى يتحدث عن احتمال دور له فى الإمراض إنما يكشف هذا الدور تطوعا، فكيف نسميه متمارضا. إن رأى أميرة فى تقديرها لموقف أمها إذا ما أقرت لها أميرة بهذه اللحظات التى مرت بها، والتى استعادت فيها بصيرة جعلتها تعرف أن نقلة ما تحدث (أسمتها مجازا “مجنونة”), وأن هذه النقلة يصاحبها اختفاء الأصوات (الهلاوس) والضلالات، وأن هذا الاختفاء يشعر أميرة بالغربة، وأنها ـ إذ ذاك ـ تتمنى أن تعود إليها الأصوات. هو موقف يؤكد أن أميرة تستطيع أن تقدر من الذى يمكن أن يقدر موقفها هذا من غيره. كثير من المرضى لا يبوحون بهذه الرؤية (التى تكون موجودة أكثر فى بداية المرض كما ذكرنا) حتى للأطباء النفسيين التقليديين عند الفحص المبدئى، خوفا من اتهامهم بالادعاء (كما ذكرت أميرة بالضبط بالنسبة لأمها). لكن الأمر يختلف حين يطمئن المريض إلى حسن إنصات الطبيب، ومحاولته ترجمة هذا الموقف إلى ما يعين، فإذا كان الأمر جماعة، وكان هناك من يتفهم أكثر، بل وقد يكون هناك من مر أو يمر بمثل هذا،فإن الاعتراف يصبح أسهل،وبالتالى يفيد أكثر فأكثر فى العلاج.
د. رانيا:عايزه أسألك سؤال كمان: هاتحطى إيه مكان الفراغ الموجود بدل الاصوات؟
أميرة: مش عارفه !
نلاحظ كيف انتقل الحوار إلى محاولة توضيح البديل بشكل صريح، وبالألفاظ المباشرة . إن سؤال د. رانيا هكذا “بدل الأصوات” هو بمثابة طلب من أميرة أن تواصل تنمية روعة بصيرتها لتدرك كيف أن الموضوع (الآخر، بدءا بأعضاء المجموعة) هو البديل الممكن للهلاوس (الأصوات) والضلالات (الغضب، والكراهية، والمؤامرات).
ومن المتوقع أن تعترف أميرة أنها لا تعرف ما البديل، رغم أنها تتحسس الطريق إليه، بل إن الأصوات لم تختف، ولومؤقتا، وكذا مشاعر الاضطهاد والكراهية، إلا لأن بديلا (الموضوع الواقعي/ الآخر/ الناس بدءا بأفراد المجموعة) ظهر،وتوظف،وأدى اللازم بما جعل أميرة لا تحتاج إلى المرض فتستغنى عنه،(مرة أخرى: دون حزق إرادي).
يواصل د. يحيى ود. رانيا محاولة التبصرة أكثر فأكثر على الوجه التالى:
د. يحيى: مش عارفه برضه ؟
د. رانيا: هاتحطى ايه مكان الحاجات دى ؟
د. يحيى: باغششك (ويشير لأفراد المجموعة فى شكل دائري).
د. رانيا: فيه حاجه ينفع نحطها مكان الأصوات ؟
أميرة: أكيد، بس مش عارفه إيه هى .
لاحظ الاستجابة هنا بـ “أكيد”, ثم تلحقها بـ: “بس مش عارفة إيه هي”. إن هذا يؤكد أن الخبرة تتسحب وتؤثر قبل أن تسمى، أو تتحدد فى ظاهر الوعى، بل إنه غالبا ما يكون الأمر كذلك. الخبرة قبل معرفة طبيعتها (وبدون معرفة طبيعتها أحيانا) تظل فاعلة ومؤثرة وأصلا فى أى تغيير.
الخبرة هنا،التى تذكر الدكتورة رانيا بها أميرة،هى تطور علاقة أميرة بأفراد المجموعة لتصل إلى الدرجة التى أغنتها،ولو للحظات عن الهلاوس والضلالات، رغم أن حضور الناس الحقيقيين فى وعيها مازال ضعيفا بما يجعلها تفتقد الأصوات، وتعلن حاجتها إليها.
تكمل الدكتورة رانيا فى نفس الاتجاه:
د. رانيا: تعالى كده ندور سوا، ما عندكيش أى حاجة حلوه تـملاكى، زى الأفكار والأصوات ما هى ملياكى .
أميرة: مش هايملانى إلا الناس يرجعوا يعملوا الغضب اللى كانوا بيعملوه. ساعتها بأبقى كويسه، أنا خلاص اتعودت عليه، صعب أسيبه، من كتر ما اتعودت عليه وخلاص.
أتذكر الآن أنها بمجرد أن قالت،ما عنديش إلا الناس، تصورت شخصيا أنها تعنى الناس الحقيقيين، لكنها حين أردفت ” يرجعوا يعملوا الغضب اللى كانوا بيعملوه، ساعتها بابقى كويسة” انتبهت إلى أنها تفضل الناس الآخرين الذين هم من صنع مرضها،ناس الداخل، أوناس الخيال، أى الهلاوس والضلالات التى تملأ حياتها من سنين. الذين تقوم هى بشحنهم بضلالاتها وسوء تأويلها.
ثم لاحظ كيف تقولها صريحة ببساطة مفرطة “من كتر مانا اتعودت عليهم” إن هذه المشاعر الغاضبة، والتى ألفها المرض هى التى أصبحت تحدد كيانها،وهى الآن تتحدث عنها بشكل مختلف،تقول إنها “تملأها” إذن فهى حين اختفت بالعلاج، لم يكن ذلك لأنها كانت سيئة، ولكن لأنها أزيحت بما يحل محلها، لكن هذه الإزاحة لم تستقر بنفس الدرجة التى كانت تحدث نتيجة ملء الوعى بالغضب والاقتحام والملاحقة والسباب . الحضور الجديد (الناس/ المعني) يحتاج إلى تدعيم حتى تعتاده بنفس العمق والثبات، وحتى يؤدى نفس الوظيفة ولكن بطريقة صحية.
فتواصل الدكتورة رانيا:
د. رانيا: ما نفسكيش تدوقى حاجه تانية.
أميرة: آه ,إيه هى ؟!
د. رانيا: فكرى كده نفسك تدوقى إيه تاني؟
أميرة: مش عارفه، نفسى أدوق يرجعوا الناس تانى.
نلاحظ أن فى تعبيرها هذا،”نفسى أدوق يرجعوا الناس تاني”, ما يدل على أن الحل الصحى ما زال بعيدا،لأنها ما زالت تقصد بـ”الناس” أصوات الهلاوس والضلالات وفى نفس الوقت نلاحظ أن الحل المرضى اهتز حتى أصبح يحتاج إلى إعادة تقييم، فالتذوق (“نفسى أدوق”) لا يكون لما اعتدنا عليه، وكأنها تشير بذلك إلى أنها ترغب فى رجوع الأصوات،وفى نفس الوقت (“يرجعوا الناس تاني”) تريد أن تكون أصواتا مختلفة. هذا تفسير مبالغ فيه . المهم أن الخبرة التى أسمتها جنونا (الخمس دقائق) كانت مصاحبة باختفاء الأصوات والغضب (الهلاوس والضلالات) كما كانت طبيعية، وليست مقحمة ولا نتيجة إقناع عقلى (علاجي) لحوح. وأنها الآن تبذل جهدا يكاد يبدو إراديا لارجاع الهلاوس، وهى لا تنجح بنفس السهولة السابقة التى تخلقت بها الأصوات (على ما يبدو).
ما زالت الدكتورة رانيا تحاول توضيح البديل:
د. رانيا: ما نفسكيش تدوقى طعم طيبتى، ظرف د. يحيى، حلاوة د. يحيى كلها على بعض كده .
د. يحيى: (ضاحكا) قولى بس دكتور يحيى كفاية، وأنا هاجيب الصفات .
د. رانيا: شقاوة د. أسامة. كده يعنى.
……
الحاجات دى ما ينفعش كده نجربها .
أميرة: (موافقة، بابتسامة) نجربها .
د. رانيا: اختارى ليكى حاجه جربـيها.
د. يحيى: إنت عارفه ها تجربى إيه؟ إن (الناس) دول (يشير بيده إلى كل أفراد المجموعة) يبقوا بدل الأصوات، يونـسوكى بدل الأصوات.
أميرة: هو الاثنين ينفع ؟
د.يحيى: عايزه الاثنين ؟ تتسلى بالأصوات . وتعملينا إحنا ديكور؟ لأ، ما ينفعش .
أميرة: خلاص أفضل …. (تصمت قليلا)….
د. يحيى: تفضلى الأصوات ؟
أميرة: لأ أفضل الثانى …
د. رانيا: التانى أنهو ؟
أميرة: الطيبة كده، ويبقوا كويسين.
نلاحظ أنه حين سألتها د. رانيا فى البداية أن تتذوق بديلا،قالت إنها تريد الأصوات والغضب يحيطون بها حتى تأتنس، وحين تكرر عرض الاختيار، قالت بعد تردد إنها تفضل الطيبة، ويبقوا كويسين (تعنى الناس يبقوا كويسين). إن هذا يشير إلى أنه أثناء العودة من رحلة المرض قد يحدث نفس التردد المشهور “كعرض” أثناء الدخول إلى العملية المرضية. إن المسألة تكرر نفسها بخطوات معكوسة. ثم إن اختيار أميرة للطيبة بدا غير مطمئن بمعنى أنه يحمل ظل أنها اختارت معنى “مجردا”, وليس مواضيع، رغم أنها ألحقت بها تعبير ” والناس يبقوا كويسين”, هذا لا يكفى لاعتبار هؤلاء الناس المشروط فيهم أن يكونوا “كويسين” هم “مواضيع حقيقية”(أى آخرين لحما ودما) (انظر بعد).
يحاول د. يحيى بعد ذلك أن يختبر ويفرق بين المعنى المجرد (باعتباره ليس موضوعا – من لحم ودم،وحضور آنى – فى ذاته) وبين الناس اللحم الدم بما لهم وما عليهم:
د. يحيى: هى الطيبه دى بنى آدمين ؟ ولا الطيبه كلام
أميرة: لأ ده إحساس.
د. رانيا: الله ـ حلو قوى.
د. يحيى: إحساس بإيه ؟ إحساس بمين ؟
أميرة: إحساس بإن اللى حوالى إنهم كويسين معايا وطيبين.
د. يحيى: اللى هم مين ؟
أميرة: كل اللى هنا ودلوقتى .
د. يحيى: اللى هم مين ؟ لهم أسامى ولا مالهمش أسامي؟
أميرة: كل اللى قاعدين (تشير إلى أفراد المجموعة، وإلى الحضور المشاهدين خارج دائرة المجموعة).
د. يحيى: سيبك من اللى بره، دول ديكور علشان التصوير.
[ تكرر استعمال هذه الإشارة للمشاهدين، وهم من الأطباء المقيمين الأصغر عادة، والأطباء الامتياز، وأحيانا طالبات كلية التمريض العالى، وهم يتحوطون المجموعة العلاجية،للمشاهدة استعدادا للتدريب المشارك، يحدث ذلك دون حواجز (مثلا: دون زجاج يظهر ما وراءه من جانب واحد !), كما أنه يحدث بعلم وإذن المرضى، وأحيانا يشار إلى المشاهدين أثناء العلاج كخلفية تمثل المجتمع الخارجى، وأحيانا تصل الإشارة إلى ما يشبه السخرية، ربما لتذكرهم بأنهم كما يتفرجون ويحكمون من مقاعد المتفرجين، فإننا نبادلهم الفرجة، وقد لاحظنا أن مثل هذه الملاحظات، رغم قسوتها أحيانا، تقوم بالتخفيف عن المرضى بأنهم ليسوا فرجة، فإن جاز ذلك فهم متفرجون أيضا، بمعنى أن الأدوار متبادلة بطبيعتها].
أميرة: نادية ود. أسامه،وأشرف، وحضرتك و د. رانيا
د. يحيى: ثروة دى مش كده؟ أنا بأعتبرهم ثروة. ربنا سبحانه وتعالى يعنى بعتها لك، وبعتـها لنا، وبعتها لى طبعا.
أميرة: بس حضرتك تفضل إيه؟ أنى أحب أحسن الناس ولا الطيبة؟ مين أحسن يعني؟
د. يحيى: أنتى رأيك إيه ؟ الناس ولا الطيبة؟
أميرة: مش عارفه دى كويسة ودى كويسة؟
د. يحيى: هو ينفع نفصل الطيبه عن الناس يابنتى ؟ فيه طيبة من غير ناس.
أميرة: آه ينفع .
د. يحيى: فين ؟ وإزاي؟
أميرة: مش فاهمة الناس هم اللى بيعملوا طيبه وهم اللى بيعملوا كره.
د. يحيى: مش احنا ناس ؟ الطيبة اللى جت على بق د. رانيا كذا مرة، مش هى ناس؟ إنتى شايفه فيه طيبه من غير ناس ؟
أميرة: لأ
على الرغم من أن هذه القضية تبدو وكأنها قضية فلسفية، وعلى الرغم من توقع أن مريضة مثل أميرة، لن تستطيع أن تجارى هذا التفصيل الذى يبدو نظريا، إلا أنه لم يكن بد من الإقدام على إجراء الحوار على هذا المستوى. إن موضوعنا كان تدعيم ما هو “موضوع”, وليس ما هو “قيمة”. موضوع بمعنى آخر له حضور من لحم ودم، ماثل وعيانى للحواس. إن هذه القضية متعلقة بالفرض الأساسى من حيث أن المريض يمرض، ويؤلف الهلاوس والضلالات، لأنه يفتقد الناس اللحم والدم، بما لهم وما عليهم، وليس لأنه يفتقد معان مجردة، وبالتالى فإننا إذ نهيئ له طريق العودة، لا يكفى أن نقيم الشعارات ونتحدث عن القيم المجردة، حتى لو بدت حسنة السمعة مثل الحب، والغيرية،والعطاء،والتضحية . إنه ما لم تترجم هذه القيم إلى شخوص لهم أسماء يمارسونها، وهم يحضرون فى وعى المريض الممتلئ بهم بحيث يغنيه ذلك عن الحاجة إلى بدائل مرضية، أو تفكيك انهزامى منسحب، ما لم يحدث ذلك فإن الحديث عن القيم المجردة يصبح مهربا جديد يعطل العلاج الحقيقى. من هنا جاء التأكيد فى هذا الحوار على التمييز بين “الطيبة”،والناس “الطيبين”, بل إن الأمر تعدى ذلك، لأن المطلوب هو إحلال “الآخرين الحقيقيين”(طيبين وغير طيبين) محل الهلاوس والضلالات.
لو كانت أميرة قد مرضت لأنها افتقرت إلى طيبة الناس، أو إلى الطيبة عموما، لكانت ابتدعت هلاوس طيبة تعوضها ما افتقدته، لكن هلاوسها كانت كلها غضب واقتحام واضهطاد وملاحقة. هذه الهلاوس هى هى التى أعلنت أميرة منذ قليل أنها تفتقر إليها، ومن هنا بدا أن المعالجين فى هذه المرحلة منتبهون إلى أن المسألة لا ينفع أن تختزل إلى دعوة مثالية مسطحة، وأن إبدال الطيبة بالهلاوس الغاضبة والملاحقة هو عمل فاشل، فتواصل التأكيد على ما هو “ناس لحم ودم”،وليس فقط طيبة، ولا حتى ناس كلهم طيبة.
ثم إن أميرة ما زالت فى أغلب الأحوال تطلق لفظ”الناس” على الهلاوس دون الناس الحقيقيين، والمعالج هنا يحاول أن يملأ لفظ الناس بما هو ناس، لا أن يقصره على الأصوات، يقول
د. يحيى: طيب يعنى إنت بتختارى الناس بدال الأصوات ؟! الناس الطيبين والناس الشقاى (فى نفس الوقت).
أميرة: صح،فهمت
د. يحيى: إنتى إخترت ده.
أميرة: آه.
د. يحيى: دا اختيار ثمنه غالى يا أميرة الأصوات بتقعدى تستفردى بيها وتستفرد بيكى، (وتعمليها زى مانت عايزة) لكن الناس ما تعرفيهمش، هاتعاملى ازاى واحد زى أشرف، مره سايب دقنه ومرة مشمر دراعاته،الأصوات على طول عماله تشتم وتلبخ وانتى عارفاها، إنما أشرف مرة كده ومره كده، مرة قريب ومره بعيد، مره مطنشنا، واحنا بنتكلم (إشارة إلى فقرة سابقة فى نفس الجلسة كانت مع أشرف) وانت كنت مطنشانى أنا وهو، لما تعملى دلوقتى معاه علاقة، دا أصعب من لما تعملى علاقه مع الأصوات.
أميرة: أصعب ؟
د. يحيى: آه أصعب.
أميرة: طيب أزاى.
يلاحظ هنا أن المعالج يريد أن يوضح لـ أميرة طبيعة البديل الذى يـقدم لها، البديل الذى اكتشفته من خلال خبرة العلاج الجمعى، وليس من خلال مناقشات معقلنة سابقة. إن مثل هذه الحوارات تدعم ما تم، لكنها فى ذاتها لا توصل إلى شيء له عمق، شيء ذى فائدة علاجية. إن أميرة وهى تعيش هذه اللحظات تعلن شيئا تم، من أول قولها “حاسة إنى مجنونة”, حتى محاولة تفضيل الناس الحقيقيين عن الأصوات (التى تطلق هى عليها لفظ “الناس” أحيانا، بل غالبا، فالأمر معكوس لديها “الناس” تعنى بهم من يغضبون عليها، ويكادون يهاجمونها فى الشارع، والناس الحقيقيين هم مشروع مشكوك فى استمراره حتى هذه المرحلة).
إن التمادى فى تعميق هذه الخبرة هو إجراء علاجى بقصد ألا يختزل هذا “الإحلال العلاجي” إلى إملاء قيم مثالية ليس لها عمر . هذا الإملاء التجريدى هو أمر أشبه بالنصح والإرشاد منه بالعلاج الحقيقى.. إن المرضى (والإنسان عموما) فى حاجة إلى “ناس”, وليس إلى قيم مجردة، وشرط الناس أن يكونوا “كما هم”. إن هذه الحقيقة تغيب عادة عن غير ذوى الخبرة، بما فى ذلك جمهرة من المطببين والمعالجين والمحيطين من كل جانب.
إن “الآخر” هو الإنسان بكلية وجوده، وليس بشروط المريد. والتأكيد على صعوبة هذا البديل (الناس/الآخر الحقيقي) له وظيفة وقائية حقيقية، حتى لا تكون المسألة مجرد إقناع وخداع وطـمأنة لا عمر لها،.
إن موقف أميرة هنا يختلف عن موقفها البصيرى السابق، فهى تكرر السؤال تلو السؤال، وكأنها تلميذ يتعلم (لا يطيع أو يتبع), هنا تصبح المعرفة مفيدة لأنها ليست مجرد تلقين، لكنها تسمية لخبرات تمت وتحتاج إلى تدعيم، أو تتم وتحتاج إلى تنقية وحذر ومواجهة.
يبين كل هذا ما تم فى الفقرة التالية مباشرة:
د. يحيى: عايزين نقايس، هى صعبة زى ما أى حاجه فى الدنيا صعبة، اللى ما يعرفش يكتب، ييجى يكتب يلاقيها صعبه ولما يكتب يحمد ربنا.
لما نمارس العلاقة فعلا مع الناس، يمكن ما نلاقيهاش صعبه قوى زى ما احنا متصورين.
انتى بتمارسى العلاقة دى فعلا يا أميرة بالانتباه، بالمحاولة، بالمغامرة. زى ما بنعمل كده
حاولى تعملى علاقة مع الناس اللى انتى بتقولى عليهم (هنا ودلوقتي) يمكن يكونوا طيبين، أنا رأيى إنها صعبه عليكى، إنتى ما أخدتيش فرصه حقيقية فى الحكاية دى، إنك تعملى علاقه مع واحد لحم ودم، وتستحملى، مع واحد أو مع واحدة، ولا حتى مع أمك.
تبدو هذه الفقرة الطويلة نسبيا كأنها تحمل جرعة تنظير مفرطة فى وضوحها ومباشرتها،ومع ذلك فيبدو أنها وصلت أميرة بشكل أو بآخر، ذلك لأنها بدلا من أن تواصل استفساراتها عن الصعوبة، وعن الفروق، وعن كيفية تنفيذ ما يطرح عليها، تذكرت فجأة بداية المرض.
هو حادث لم تذكره فى المشاهدة الأولى، كذلك هى لم تشر إليه حتى لطبيبها الأول الذى حولها إلى العلاج الجماعى أصلا، وقد حكت هذه الخبرة بعد الحوار السابق بشكل تلقائى ومفصل. يبدو أن ذلك قد حدث حين وصلتها إشارة أنها لم تأخذ فرصة حقيقية فى عمل علاقة حقيقية مع ناس بلحمهم ودمهم، كما هم.هكذا تذكرت أميرة بداية المرض كالتالى:
أميرة: بداية المرض ده كنت داخله تالتة إعدادى وكنت فى الطابور، مع البنات وكده وفيه ولد كان قاعد يغنى وكده، ولكن أنا مش عارفه، وبعد ما طلعنا من الطابور، وقعدنا واحده قالت لى إنتى بتحبى الولد ده ؟ صح ؟. أنا بقى خلاص، حسيت الدنيا دى كلها اتفجرت، وابتديت بعد كده حسيت إن الناس كلهم بيبصوا على ويقولوا…, فأنا بقى خلاص، حسيت إنى .. اتفجرت، وبعدين إيه، إبتديت أحس إن الناس بيقولوا إنت بتحبى الواد ده، فكنت باوطـى راسى وأعمل كده خوف من الناس، حاسه إن هم شايفنى، وحاسه إنى مش هاقدر أواجه حد، شوية شوية، بعد ما أخذت الإجازة… حسيت إن ربنا قال بنى آدم، وحسيت إحساس غريب ما عرفش إيه هو ده ـ حاجة وحشه ما عرفش إيه، وكنت طبعا متضايقه وبالوم نفسى، إيه ده إيه ده!!وبعدين فى الآخر جالى كـفر، يقول لو لعبت بالعروسه دى مثلا، إنت كافره، لو حاطيتى مانيكير إنت كافره، لو عملتى كده إنت كافره، وفعلا بارمى كل الحاجات وباسيبها، وفى الآخر بقه جت اللى هيه التحويل والناس وده كله.
د. يحيى: دلوقتى بقى، أولا: أنا سيبتك تبعدى عن”هنا ودلوقتي” لأنه ده مهم إنه يظهر فى اللحظة دى بالترتيب ده، خصوصا وأنا باكلمك عن صعوبة علاقتك بالناس، وإنك إنت فضلتى الطيبه عن الناس، ولحمناهم، إحنا بالعافية، دلوقتى نستفيد من الخبرة دى كلها من ساعة ثالثة إعدادى لحد ليبونكس 400, لحد غيابك عن الجروب الأربع أسابيع خمسة، لحد اللحظة دى نستفيد إزاى بقه من الحدوته دى كلها. أنا رأيى إن ممكن جدا رغم إنه صعب ولو حتى خطوة، نستفيد إزاى بقي؟
أميرة: مش عارفه أصل فيه ……. استفيد ازاي؟
هذا المقطع يحمل مبادئ حرفـيـة. وتـقنيات علاجية، وأسس تنظيرية، قد تتجاوز النقطة الأساسية المراد التركيز عليها، وهي”إحلال الآخر الموضوعى، محل الهلاوس والضلالات، دون الوقوع فى مصيدة القيم والمثاليات قصيرة العمر، ومع ذلك فسوف نشير إلى بعض هذه المبادئ فى إيجاز على الوجه التالى:
(1) إن ظهور مثل هذه الذكريات فى العلاج الجمعى تتوقف أهميته على توقيت ظهورها، أكثر من طبيعة محتواها، فالنقاش هنا كان يدور حول عمل علاقة بالموضوع، وهذا الحادث هو عمل علاقة، وإن كان من الصعب أن نعتبر هذا الشاب الذى يغنى أغنية وطنية هو موضوع حقيقى. الأغلب أنه موضوع داخلى مسقط،وفى كلا الحالين هو “موضوع” ذو دلالة. إن الإشكال ليس فى أن علاقة قامت، ولكن فى أن احتياج أميرة جعلها وكأنها تعرت أمام نفسها أولا، ثم أمام الآخرين. إن إعلانها أنها تعرت أمام زميلاتها يشير إلى أنها بمجرد أن سمحت بإطلاق رغبات، وموضوعات الداخل أن تقترب من الوعى، سارعت بإطفائها بشكل قهرى فاشل، حيث يبدو أنها سببت قدرا هائلا من الرعب، والتعرية التى تجاوزت ما أثارها.
وهنا نغامر فنعرض وجهة نظر هامة لم توصف بهذا الشكل من قبل، وهو ما نود تسميته”تخثر الوعي”. ذلك أن الكبت حين يتخلخل، ثم يحل محله آليات ميكانزمات أعجز وأقل تماسكا، فإن ما نسميه واحدية الوعى المصاحبة بدرجات مرنة من الوصل، قادرة على تحقيق التوازن المتناغم بين الداخل والخارج، هذه الواحدية التوازنية تختل، ومن ثم يحدث ما نسميه تخثر الوعى، الذى نرجح أنه السبب فى هذا العرض الغريب الذى ذكرته لما أحست أن الله بنى آدم. إن مفهوم الله سبحانه هو أنه ليس كمثله شيء،ليس بمعنى الاغتراب والتجاوز، ولكن بمعنى الكلية والتوازن المطلق غير محدود النهاية، والعلاقة الفطرية مع هذا التوازن الأكبر، لا تسمح بأى تعيين مختزل للذات الإلهية، وبالتالى فإنه مع تخثر الوعى، يمكن أن تختل كل من الواحدية والهارمونى، بما يترتب عليه هذه الجسدنة للذات الإلهية،الأمر الذى سرعان ما لحقه نوع من الوساوس القهرية الدالة على محاولات ترميمية لهذا الشطح المجسدن الدال بدوره على ما أسميناه”تخثـر الوعي”.
لقد عرجنا إلى هذا التفسير مضطرين، لأنها ذكرت ما استدعاه من ناحية، ولأن هذه الظاهرة “تخثر الوعي”هى من أهم الظواهر التى تميز مرض الفصام، الذى نكاد نجزم بأنه لا يشفى بالمعنى المتكامل إلا إذا استعاد هارمونيته وكليته.
النقطة الثانية فى هذا المقطع، هو التنبيه على عدم المغالاة فى تقدير مثل هذه الخبرات المراهقة فى ذاتها، إنها ليست قصة وإحباط وندم وهجر وجرح وما إلى ذلك. إنها علامة دالة، فى وقت نمو حرج.
ومع ذلك فقد نوقشت هذه الحادثة فى محاولة ربطها بالمرض، وبالاحتياج، وبالعقاقير وجرعتها، حتى اللحظة الراهنة. إن هذا يظهر أيضا كيف أنه فى العلاج الجمعى نعمد إلى إحياء الخبرات السابقة فى الهنا والآن، بأى قدر ممكن. والهدف من ذلك هو إظهار أكبر قدر من السماح والإحاطة معا أثناء إعادة بناء الشخصية، بحيث يصبح التدريب على إعادة عمل علاقة بالآخر (الموضوع) أقل شحنا بخبرات مخيفة، أو مشوهة أو مريضة، وهذا ما حاوله المعالج بشكل عابر نسبيا.
د. يحيى: الواد اللى كان بيغنى ده مش شبه حد من الناس اللى قاعدين (هنا – دلوقتي).
أميرة: لأه.
د. يحيى: بس افتكرى بس. إللى حصلك ده. إللى إنت قولتيه ينفع نستفيد منه دلوقتى.
أميرة: استفيد إن أنا ما أعقدهاش قوى.
د. يحيى:لأه، إنت عندك مشاعر تجاه شاب، ومشاعر بسيطه طيبه وعاديه وإعجاب و…..
أميرة: لأه خلاص.
د. يحيى: إستنى بس.
أميرة: خلاص إيه شاب، شكله إندونيسى وشعره إسود وبيغنى وصوته حلو.
د. يحيى: كان بيغنى إيه؟
أميرة: بلادى بلادى.
د. يحيى: بلادى بلادى ؟ سهله دى.
…………
بعد ذلك،حدثت محاولة أن نختبر صعوبة عمل علاقة مع بعضنا البعض (أفراد المجموعة), بالمعنى الذى اشتغلنا فيه مع أميرة، أى أن يكون الآخر حاضرا بما هو، وليس بما نرسمه لأنفسنا، حاضرا من لحم ودم، بخيره وشره، بقربه وبعده، وقد قام بالمحاولة كل أفراد المجموعة بما فى ذلك الأطباء الثلاثة، ولا مجال لتفصيل تقنيات المحاولة، فهذا له موضوع آخر، لكن يكفى أن نشير أن الجميع قد اكتشفوا صعوبة ما نعرضه على أميرة وعلى أنفسنا، وكان الاكتشاف أكثر دلالة بالنسبة للأطباء، وقد كانت د.رانيا واضحة وصادقة، وأقرت بشكل سافر كم هى صعبة أن نرى الناس كما هم، ونواصل علاقتنا معهم، بما هم، دون أن نشكلهم، أو نجتزئهم.
انتهز الدكتور يحيى فرصة تعميم المحاولة (اختبار القدرة على عمل علاقة بالآخر من الجميع دون استثناء) ليرجع إلى أميرة يكمل معها مشوار عرض البدائل، واختبار الاختيار بين الهلاوس، وبين الموضوعات الحقيقية.
د. يحيى: شوفتى الحكاية صعبة إزاي!! أنا رأيى تخلى الأصوات بلا وجع دماغ .
أميرة: إزاي؟
د. يحيى: الأصوات والشتيمه وبتاع ده أسهل، شوفى العلاقة مع الناس اللى بحق وحقيق صعبه إزاى. حتى على الدكتورة رانيا صعبه، حتى على أى حد صعبه، طب خلى الاصوات بقى وخلاص.
أميرة: إزاي؟
د. يحيى: أمك تفرح وتزود الأقراص، وإنت تتخمدى ما تقوميش.
هذا الأسلوب فى المواجهة فى العلاج، ليس مألوفا إلا لذى خبر ة خاصة بهذا النوع من العلاج، وهو يعتمد أيضا على شخصية المعالج. إنه أسلوب فى المواجهة التى تحمل قدرا من التحدى بغية الاستثارة،بهدف أن يتعمق الاختيار. بديهى أن ما يعرضه المعالج ليس هو ما يريده فى النهاية، لكن أيضا من غير المألوف أن يعرض المعالج عرضا بهذا الوضوح مع مخاطرة أن يصدقه المريض.
إنها محاولة (أو حتى مناورة) لتعميق الاختيار الصحى، وحتى لو جاءت بأثر عكسى، وفضل المريض الاختيار السلبى، فإن ثمة فائدة فى ذلك وهى تعرية الاختيار الإيجابى الهش، وهذا نادرا ما يحدث لو كان التغيير حقيقيا. إن مثل هذا التلويح يعتبر نوعا من اختبار متانة الاختيار بشكل أو بآخر.
ونلاحظ أن ما عرضه الطبيب انتهى بسخرية واضحة تنبه أميرة إلى معنى التحدى فى العرض،وذلك فى قوله ” أمك تفرح،وتزود الأقراص، وإنت تتخمدى ما تقوميش” مع التذكرة بأن أميرة هى التى أصرت على عدم الرجوع إلى الجرعة السابقة، حتى بعد انقطاعها لمدة خمسة أسابيع متتالية. وبالرغم من السخرية للتنبيه التى انتهى بها الحوار، فإن أميرة بدا عليها موافقة اقتراح الرجوع إلى الأصوات، حتى أن د. أسامة راح ينبهها:
أسامه: إنت ما صدقتى ياأميرة ؟
فتأكد استسلامها قائلة:
أميرة: هامنعهم إزاي؟ خلاص خليهم بقى. هاعمل إيه ؟
د.أسامه: ما إنت بتحاولى تختارى حاجة تانية أهه، إنت تـملى مكان الفضاء اللى موجود ده لو كان راح ـ مش يمكن فيه حاجه تانيه أسهل ؟
أميرة: لأه.
د.أسامه: الأصوات والأفكار دى مش سهلة ؟
أميرة: أسهل من إنى أقعد فاضيه كده ؟
د. يحيى: ماهو فيه حل ثالث. الحل اللى د. رانيا بتكلمك عليه وانت شفتيه ودقتيه.
أميرة: مش فاكره.
د. يحيى: يا بنت الحلال نسيتى ولا إيه؟ الحاجات دى مابتتناساش.(على كل حال) مايهمكيش.
د. رانيا: حاولى افتكرى معايا احنا كنا بنقول إيه من شويه.
أميرة: مش فاكره
د. يحيى: شوفى عايزه تهربى من الزنقة ازاي؟ خلى بالك.
أميرة: لا والله .
نلاحظ فى هذه الفقرة كيف تتضفر جهود المعالجين الثلاثة فى توضيح البديل، دون فرضه، وأيضا كيف تبدو بعض آراء المعالجين متناقضة لأول وهلة، فى حين أنها تكمل بعضها بعضا، فبعد أن عرض د. يحيى الرجوع إلى الحل الأسهل(= المرض/الأصوات/المواضيع الخيالية التى يشكلها الخيال، من محتوى العالم الداخلى، دون حيرة أو تناقض), ينبه الدكتور أسامة أميرة إلى أن المسألة ليست بهذه البساطة، وأن عمل علاقة مع”آخر”حقيقى يمكن ألا يكون بالصعوبة التى صور بها، وربما ثبت أنه أسهل، وبتراجع الدكتور يحيى، يتأكد أن ما اقترحه لم يكن اقتراحا بقدر ما كان اختبارا، كما أشرنا.
وتـكمل الدكتورة رانيا محاولتها فى اختبار العلاقة الحالية مع الموجودين “هنا- الآن ” من أفراد المجموعة.
د. رانيا: طب أنا هاكلمـك ياأميرة فى الحكاية دى دلوقتى: من شويه أنا قلتلك إيه فى الأوقات اللى انت بتحس فيها بالغربة عشان ما فيش اصوات ومافيش فيها كلام وعنف وحاجات كده،قلتلك ينفع نـملا الغربة دى بإيه؟ إديتك كذا اختيار كده: طيبة، نادية د.يحيى د. اسامه، أشرف،كده مثلا.
أميرة: ماشى.
د. رانيا: وقلتلـك يعنى لو فاكرة، عن الفرق بين الحاجات دى والطيبة، يعنى الأصوات دى أحلى ولا الطيبة ؟
أميرة: طبعا الطيبة.
د. يحيى: الطيبة ولا الناس.
أميرة: لأنه ساعات برضه…
د. يحيى (مقاطعا): الطيبة ولا الناس.
أميرة: الطيبة.
د. يحيى: والناس لأ، ما احنا الناس.
أميرة: آه ـ لأه ـ يعنى الناس مع الطيبة.
د. يحيى: الناس مع الطيبة – ولا هى الطيبة هى الناس، يعنى فيه ناس. والناس طيبين، هوه فيه طيبه من غير ناس يا أميرة؟
يلاحظ إصرار الدكتور يحيى على التنبيه على عدم التسليم للقيم المجردة بإحلال”الطيبة”محل الناس (طيبين وغير ذلك). لكن يبدو أن هذا الإصرار قد أتى بعكس نتائجه حيث كانت استجابة أميرة سريعة،وحادة،وفى الاتجاه الآخر:
أميرة: مافيش ناس طيبين أصلا خالص.
د. يحيى: يعنى د. أسامه ايه مش ناس؟ أشرف مش ناس/ نادية مش ناس؟ أمال مفيش ناس طيبين ليه؟ شوفى إنت بتعملى إيه يا أميرة؟ هيه صعبه أنا عارف صعبه، لكن..
أميرة: مع إنه ساعات برضه لما بابقى قاعدة، الناس بيعملوا وبيغضبوا على باحس برضه ساعات بألم.
للمرة الأولى فى هذه المرحلة تعلن أميرة أن حضور الأصوات ليس مجانيا، وأنها على الرغم من إعلانها أنها تفتقد الأصوات والمشاعر الغاضبة إذا اختفت، وأنها تحس بفراغ نتيجة هذا الاختفاء، وأنها تريد الأصوات (كحل أسهل), إلا أنها تعلن هنا لأول مرة أنها تحس”بألم برضه”. هكذا تصبح الصفقة أوضح وهى تسير فى اتجاه وزن ألم مقابل ألم، و حسبة صعوبة مقابل صعوبة.
[ينتهز د. أسامة فرصة حديثها عن ألم الأعراض فينبهها إلى اختيارها السابق:]
د.أسامه: إنت اللى عايزه كده.
أميرة: عايزه إيه ؟
د.أسامه: عايزه الناس تغضب عليكى.
أميرة: آه، مش عارفه ليه.
د.أسامه: أميرة،بس أنا عايزك تفكرى فى الحل ده، يعنى حتى لو الأفكار والأصوات كحـل يبان أسهل، بس فى الحقيقة تمنها غالى.
أميرة: تمنها إيه بقي؟
أسامه: انت عارفاه وعايشه فيه .
د. يحيى: يعنى يا أميرة يابنتى، كنت أنا باقول للدكتورة رانيا زميلتى: يا دكتوره المسألة صعب ………
(هنا حكى الدكتور يحيى عن الصعوبات التى ظهرت للجميع أثناء محاولة د. رانيا و بقية أفراد المجموعة عمل اختبار علاقة متحملة، مع بعضهم البعض)
د. يحيى: (هى صعب ) حتى على الناس اللى مش عيانين،كنت عايز أوريكى ده.
أميرة: إيه هوه ده بقى اللى صعب على الناس ؟
د. يحيى: اسأليهم.
أميرة: الناس وكلام الناس وكده ؟
د. رانيا: لأه.
أميرة: إمال إيه ؟
د. رانيا: إن أنا أقرب منك، وانت تقربى منى.
أميرة: صعب ؟
د. رانيا: انت شايفه إيه ؟
أميرة: هو أنا ممكن أقرب منكم يعنى ومازعلكـمـش وكده ؟
يتناول نفس الموضوع (العلاقة بالأخر) بلغة أخرى، لغة المسافة والقرب والابتعاد، بدلا من لغة القيم مثل استقطاب الشر مقابل الطيبة، وهكذا، ومع دعوة الدكتورة رانيا لـ أميرة أن تجرب القرب، ظهر عليها خوف شديد من هذه المحاولة باعتبار أن القرب من أى شخص سوف يجعله “يزعل”منها، وبالتالى يهجرها، فتفقده.
إن هذا الموقف لا يدركه بهذه الدقة إلا ذهانى أو مبدع. إن الخوف من فقد الآخر، هو الذى يجعل المريض يحرص على الاحتفاظ بمسافة بينه وبين أى آخر، والذى يحافظ على هذه المسافة هو أمران: فرط الحساسية، وفى نفس الوقت المبالغة فى تصوير المشاعر العدائية. الخوف من القرب هو الخوف من العلاقة، وبالتالى فإن تبرير الابتعاد بتصوير الآخر باعتباره معتديا ومؤذيا هو نفسه دليل الرغبة فى القرب.
حين يكون الآخر مصدر اعتداء وتهديد، فذا يحقق أمرين: الأول: أن ثمة آخر، والثانى، أنه خطر وبالتالى وجب إبعاده دون إلغائه.
[تواصل د. رانيا محاولاتها:]
د. رانيا: يعنى مش أنا باكلمك أهه،أنا باكلمك وأنا حاسه إن إنت محرومه منى
أميرة: يعنى مابتحبنيش؟
د. رانيا: لأه يعنى انت كده،بعيدة، زى ماحرمتى نفسك (من مجرد الإعجاب بـ) الولد الأندونيسى ده (كانت قد شبهت طالب تالتة إعدادى اللى “غنى بلادى بلادي” بأنه مثل الأندونيسى لكثافة شعره الأسود)
د. يحيى: هاتحرم نفسها،يعنى ايه؟ …تحرم إيه وبتاع ايه؟ هى كانت قصة حب؟ (موجها كلامه للدكتورة رانيا) إنت حاتعملى زى الناس اللى افتكروا إنها بتحب الولد ده، ومش عارف ايه.
د. رانيا: ما هى كانت بتحبه.
د. يحيى: انت كنت بتحبيه؟ يا أميرة؟
أميرة: أنا كنت يعنى،….. شكله كويس وكده.
…….
د. رانيا: يعنى لو واحده صاحبتـك جت قالت لك إنت بتحبى ده، (تشير إلى أحد أفراد المجموعة) حاتتعبى يعنى زى اللى حصل مع زميلك ده .
أميرة: لأ طبعا، دى حاجة ودى حاجة، أنا ماباحبش الحاجات دى، ماباحبش حد يقول كده حتى لو أنا كده، إنت لو بتحبينى أنا هازعل ليه.
د. رانيا: مش هاتبعدى عني؟
أميرة: لأه.
د.أسامه: هى اللى بتحبك ولا انت اللى بتحبيها ؟
أميرة: هى اللى بتحبنى
د.أسامه: وانت ؟
أميرة: آه برضه.
د. رانيا: لأ، أنا عايزه اسمعها منك .
أسامه: قوليها لها فى وشها .
أميرة: أنا باحبك قوى يادكتوره رانيا باطمن لك، حاسه إنك يعنى قريبه منى،مش زى بقية الناس كده .
د. رانيا: دى مسئولية .
د. يحيى: إنت بتحبى الدكتورة رانيا مش كده ؟
أميرة: آه.
د. يحيى: وهى ؟؟
أميرة: بتحبنى .
د. يحيى: أكـدى عليها إنها بتحبك .
أميرة: بتحبينى ؟
د. يحيى: ماتسأليهاش . قولى إنت جملة مفيدة.
أميرة: آه .
د. يحيى:“إنت بتحبيني”. مش سؤال.”قولى لها:أنا واثقة إنك انت بتحبيني”
أميرة: أنا واثقة إنك انت بتحبينى.
د. يحيى: غصبن عن حبة عينى وعين الأصوات ـ قولى لها.
أميرة: إزاى يعني؟
د. يحيى: قولى لها إنها بتحبك ـ غصب عن حبة عينك، وعين الأصوات .
لا تـستعمل كلمة”الحب” كقيمة إيجابية أثناء هذا العلاج الجمعى إلا نادرا، وبحذر شديد، وذلك تجنبا لاختلاف مفهومها، وارتباطها عادة بالغرام كما هو شائع، بشكل يشير إلى الاحتياج الخفى والمعلن، والملكية أيضا، وليس إلى المعية وتبادل التحمل والرعاية والمسئولية، ومع ذلك فإنها هى هى نفس الكلمة التى يمكن أن تؤدى المعانى الناضجة التى أشرنا إليها حالا، والتى تدل على وجود”الآخر”فى الوعى، الأمر الذى نحاوله مع أميرة.
وقد حاولت د. رانيا، ود. يحيى فى هذا الموقف أن يصيغوا المشاعر التى تمر بها أميرة فى ألفاظ (يضعونها فى ألفاظ محددة تعلنها وتؤكدها), وذلك حتى تتعمق النقلة الجديدة، وهى تنتقل من الأصوات المهلوسة والضلالات الغاضبة والكارهة، إلى محاولة إرساء علاقة بالآخر، وبالذات من حيث قدرتها على تلقى مشاعر الآخرين (وليس مجرد إعلان حبهم)،إن الأصعب عليها (وعموما) هو الاعتراف بـ”إنت بتحبيني”. أصعب من إعلان المبادأة بـ”أنا باحبك”.
نلاحظ هنا أن أميرة تستجيب بشكل يكاد يكون تلقائيا، وكأنها تردد ما يقال لها والسلام، وهذا صحيح ولكن بدرجة نسبية فحسب، لأن تعبير وجهها وترددها المتقطع، وتفريقها بين”…أنا باحبك قوى يادكتوره رانيا باطمن لك” وبين صعوبة الاعتراف بـ”إنت بتحبيني”, كل ذلك يدل على أن المسألة ليست مجرد ترديد، بل إنها حين أضافت من عندها”باطمن لك”, ثم “حاسه إنك يعنى قريبه منى،مش زى بقية الناس كده ” فإنها تجاوزت لفظ الحب إلى الطمأنينة،ثم تجاوزت هذا وذاك إلى وصف قرب المسافة، ثم أضافت مقارنة تميز العلاقة”مش زى بقية الناس كده”.
لكن هذا أيضا لا يكفى، فكان”وضع كلمات أخري” تشير إلى الذات الأخرى التى ترفض الطمأنينة،وإلى وظيفة الأصوات التى تعد منافسة لما نحاوله من تكوين علاقة بالموضوع (الآخر حقيقة وفعلا), كانت هذه الجزئية بمثابة التذكرة بأن ثمة جزءا ينتمى إلى الحل المرضى، هذا الجزء لا يقر هذه الثقة، وهذا القرب، وهذا التبديل. إن هذا الأسلوب مهم إذ أنه يسمح باستحضار سائر الذوات فى مواجهة مع بعضها فى رحاب المجموعة، حتى إذا نجحنا فى إحلال البديل الصحى محل الحل المرضى، كان للموضوع أساسه الخبراتى القادر على الاستمرار لمدة مفيدة.
هذه المحاولات العلاجية تواصلت بهذا الإلحاح ,انتهازا لفرصة أن أميرة بإعلانها هذه النقلة النوعية فى بداية الجلسة، وما صاحبها من اختفاء الأصوات، قد أصبحت تتعامل مع أعراضها بشكل مختلف، ليس فقط باعتبارها مرضية أو بعيدة عن الحقيقة، وإنما ظهرت قدرة أميرة على الاستغناء عنها، ليس بالمقاومة والعناد والإرادة،ولكن بالترجيح على مستوى معين من الوعى.
تقول أميرة فى ذلك:
أميرة: يعنى ماما من كتر ماقعدت أقول لها الناس، يعنى بيقولوا لى ويكلمونى ويكرهونى، فأنا قلت بقى لنفسى، وأقنع نفسى، أقول الناس ما بيعملوش كده، وفعلا بتروح فعلا، يعنى ما باسمعش أصوات ناس ولا أفكار، ولا حاجه.
الدكتور يحيى: الله.!!
أميرة: يعنى أنا بـإيدى الحاجة دى. اكتشفت الحاجة دى،بس مش قوى قوى يعنى.
الدكتور يحيى: (ضاحكا) يعنى خفيتى من ورانا ؟
نلاحظ هنا استعمال أميرة لألفاظ تدل على نقلة فى الاقتناع وليس على ما يسمونه الإيحاء الذاتى، والفرق شديد. النقلة فى الاقتناع تشير إلى مجرد إظهار ما تم إنجازه فى ألفاظ واعية، أما الإيحاء الذاتى فقد يكون مفروضا بشكل ليس بالضرورة متفقا مع الداخل. الذى تمارسه أميرة هنا، إنها “تكتشف الحاجة دي” (أنها بيدها أن تسمع أو لا تسمع), ثم تعلن هذا الاكتشاف بأن “تقوله” فتزداد اقتناعا. وفى نفس الوقت هى حريصة على ألا تبالغ فى قيمة أو ثبات هذا الاكتشاف (بس مش قوى قوى يعني).
أما التعليق،”يعنى خفيتى من ورانا”, فهو محاولة لإرجاع الفضل فى هذه النقلة إلى اجتهادها فى أخذ الفرصة الجديدة لإعادة الاختيار، فالمسألة ليست نتيجة مباشرة لجهد العلاج، أو حذق المعالج، وإنما أميرة هى التى “اكتشفت الحاجة دي”،بمعنى أنها وجدت نفسها، من خلال الفرصة المتاحة، وجدت أنها صارت تستطيع أن تعيد النظر، وتميز الحقيقة من الخيال.
[إن التفرقة بين الإقناع من خارج بإقحام أفكار “صحية”, وبين الاكتشاف أثناء العملية العلاجية، ثم إعلان الاكتشاف لتثبيته جاءت واضحة فى الفقرة التالية:]
أميرة: لأ،(صحيح) أنا بحاول أخفف نفسى. لما با أقول: لأ الناس مابتقولش كده بتروح خالص عادى وطبيعى، مافيش فكره ولا حاجة، يعنى أنا المفروض أضغط على نفسى.
د. يحيى: لأ ماتضغطيش على نفسك ولا حاجة، واحده واحده،إنت “بتقولي” مش بتضغطى فيه فرق . بتقولى ؟ ولا بتضغطى ؟
أميرة: لأ باقول.
د. يحيى: فيه فرق فظيع جدا، إنت بتقولى لنفسك:”الله !! دا الناس مابتقولشى حاجة” تروح رايحة. دا غير الضغط والإقناع (والحزق) وينفع وما ينفعش.(تقولى،يروحوا…), وإحنا نحل محلهم. ممكن؟ يعنى انت قد كده بقت الحكايه ف إيدك وجايه وفاكراها، وفاكره مين فينا اللى بييجى ومايجيش ,وانت تقدرى تطردى الأفكار بكلمة.
……..
شوفتى بقى يعنى قد كده انت اللى ماسكه الدفة، برافوا عليكى .
……….
أنا عارف إن أنت قوية، وإن أنت وأمك طلعتوا كويسيين ومازوتوش الأقراص من ورانا.
[يتكرر مثل هذا التدعيم بين الحين والحين دون مبالغة، وأيضا تتكرر التذكرة بالتناسب العكسى بين جرعة العقاقير، وبين التقدم فى العلاج]
بعد ذلك دخل إلى الجلسة عزت متأخرا، وهو غير منتظم أبدا، على الرغم من ذلك فهو يتحسن بطريقة جيدة نوعيا، وإن كانت بطيئة، وحين دخل جلس على أول كرسى فجاءت جلسته تكمل نصف الدائرة التى كلها ذكور، فأصبح الإناث فى ناحية والذكور فى ناحية، وهذا غير مستحب عادة إذ يفضل عدم التجانس للسماح بحركية أكبر، وبالتنبيه على عزت أنه بهذا يكون قد ساعد فيما لم نعتده، طلب من أميرة أن تغير مكانها، وتجلس بين الرجال، وإذا بها فجأة ترفض، وتقاوم، ثم يظهر على وجهها تغير نوعى فى اتجاه التوجس، والشعور بالعدوان، ومن ثم تقاوم وتكاد تتنكر لكل ما حققته من تصور أمان، واكتشاف، وطمأنينة .
……………
(عزت يقترح على أميرة تغيير مجلسها والانتقال بجواره)
عزت: تعالى ماتنكسفيش، تعالى يا أميرة .
أميرة: مش عايزه،آه،بدأ الزق .
عزت: تعالى.
د.أسامه: عملت فيها ايه (يا عزت)؟.
أميرة: بس بقى لو،لو.
د.أسامه: بس لو لو إيه،عملت فيها ايه دلوقتى يا عزت
أميرة: يعنى مش عايزه أروح علشان يمكن يكون فيه فكرة ولا حاجة.
…….
…بسرعة تمت مناقشة شكوكها، وأنه حتى لو كان فى تصرف عزت أو تصرفها، قبولا أو رفضا،خطأ ما، فإنه مقبول، لكن الملاحظ فى ظهور مقاومتها فجأة أن ذلك كان بناء على دعوة عزت لها بتغيير مكانها، بالاقتراب فعلا فى المسافة، ويستمر عزت فى تشجيعها ذكرا إياها أن الغلط من أى منهما مسموح به.
عزت: يعنى د. يحيى بيحب اللى بيغلط.
أميرة: ماعرفش، هو فيه حاجة كده يعنى.
د. يحيى: ماحصلشى، ماانت عرفتى سكتك، …. بقيتى عفريته (بعد ماتخفى تمام) تيجى تعلمى الناس اللى عندهم مرض زيك، وبيفكروا فى الأصوات والوساوس …
أميرة: آ.. أنا اللى حاعلمهم مش هما اللى هايعلمونى ,
د. يحيى: تعلميهم إيه.
أميرة: الجنان.
د. يحيى: الجنان، والتحكم فى الجنان.
أميرة: آه.
د. يحيى: وصلتى لمرحلتين: مرحله الجنان وأخدتى حقك، وبعدين دلوقتى بنتحكم فى الجنان.
رغم ظهور التوجس فجأة، وانقلاب تعبير الوجه، بمجرد أن طلب منها عزت تغيير موضع جلستها، فإن المعالج حاول أن يسترجع ما اختفى من قدرتها على التحكم فى الأعراض، ولم يكتف بأن يؤكد اكتشافها الجديد، لكنه تمادى للتأكيد على قدرتها، بزعم أن هذا الكشف أصبح فى متناولها حتى تستطيع أن تعلمه للآخرين من واقع خبرتها، ولما وافقت على ذلك أضاف تذكرة بالمراحل التى أوصلتها إلى ذلك، وأن الذى يستطيع بكلمة (وليس بالضرورة بضغط) أن يطرد الأفكار والهلاوس والضلالات، هو الذى كان مسئولا عن الاستسلام لها كحل، وحين أتيحت فرصة إعادة الاختيار، حصلت النقلة النوعية .
أما تعبير”أخذت حقك”(يقصد فى الجنون)،فإنه يتضمن الاعتراف بأنه فى ظروف ظهور الحل المرضى، كان اختيار المرض (حتى الجنون) أشبه بحق الانسحاب أو الاحتجاج، وبالتالى فمن حق المريض أن يجرب.
و لما كان الحل المرضى فاشل بطبيعته، فإن وظيفة العلاج على هذا المستوى:
(1) أن يسرع بإفشاله.
(2) أن يحول دون التعود عليه.
(3) أن يطرح البدائل.
(4) أن يتيح فرصة التراجع عنه.
(5) أن يدعم الاختيار الجديد (التراجع إلى الصحة، ثم تجاوز مستوى الصحة السابق إلى ما يحقق بعض الوقاية).
يحدث ذلك دون التنكر للاختيار المرضى السابق، أو اعتباره خطأ يحاسب عليه المريض، أو الانزلاق إلى لوم المريض على استمراره. إن الذى يساعد على ذلك كله هوالتركيز على هنا الآن، وأن المسألة ليست “محاسبة وعقابا”, وإنما هى كالتالى:
إذا كان المرض قد طرح نفسه حلا فى ظروف سابقة أخرى، ثم إنه ثبت أنه ليس حلا كما لوح ووعد، ثبت ذلك من خلال المراجعة فى “هنا والآن”, ثم اكتساب البصيرة فالتحكم، فإن العلاج يعطى فرصة باختيارات أخرى، ولا يفرض الرجوع قسرا إلى سابق الظروف التى طرحت المرض حلا.
وحين تطور الحوار حتى سئلت أميرة عما غيرها هكذا 180 درجة، بمجرد أن دعاها عزت إلى تغيير مكانها، فبدأت تشك فى عزت، ثم فى كل الحاضرين. أجابت:
أميرة: حسيت إن كل الجروب اتقلب على، وافتكروا حاجات زعلتنى، إيه، ومش عارفه إيه، قلت حايتقلبوا على، بقى حاتموتونى.
تقوم المجموعة العلاجية بإعطاء فرصة لممارسة المشاعر بطريقة مختلفة تسمح بعمل علاقة بـ”موضوع كامل”, يحتاج درجة من التحمل، فلا تقتصر العلاقة به على التقديس، أو الاعتمادية، أو التوقى من شره، نعنى بذلك أن المبالغة فى تقسيم الناس إلى خير وشرير، ليس موقفا صحيا تماما، حتى يعتبر استقطابا دفاعيا، حيث يعفى صاحبه من مواجهة الحيرة، التى إذا استوعبها انتقل إلى مرحلة”تحمل الغموض”, التى هى من علامات النضج .
حين أرست أميرة علاقة مع المجموعة، وبدأت تطمئن إلى أفرادها: مرضى ومعالجين، ظلت فترة طويلة تؤكد التفرقة على الوجه التالى:
إنها تحس بالطمأنية فقط داخل المجموعة، أما فى الشارع، ومع كل الناس الآخرين، فهى تحس بمشاعر الكراهية والاضطهاد والتربص والاقتحام ..إلخ. ولم يفرح المعالج بهذا الحل، وإن كان لم يرفضه حتى تتدعم العلاقة، وحين استعادت أميرة قدرتها على التحكم فى مشاعرها وأفكارها، سمحت لنفسها أن تستجيب لأفراد المجموعة مثلهم مثل غيرهم، فتبدى الحذر، والتوجس،مثلما يحدث لها فى الشارع، واعتبر المعالج أن هذه نقلة فى اتجاه” تجاوز الاستقطاب” إلى خيرين وأشرار، (المجموعة خيرة، والناس أشرار).
وقد نوقش هذا الموضوع فى جلسة سابقة، مما أتاح هذه المرة أن يشرح المعالج الأول كيف أن الفرصة أصبحت متاحة الآن لتمارس أميرة مشاعر الكراهية، ثم مشاعر الطمأنينة مع نفس المصدر، نفس الشخص،داخل المجموعة.
بهذا تكون قد انتقلت فى اتجاه إمكانية عمل علاقة بموضوع حقيقى “له، وعليه”فى نفس الوقت. وفى هذه الجلسة شرح لها المعالج معنى أن يكون الموضوع (الآخر)”فيه وفيه”. راح المعالج يستثمر تغيرها المفاجئ إلى الشك فالرفض بمجرد أن طلب منها عزت تغيير مكانها، قال تعقيبا على اعترافها بأنها توجست فجأة من أفراد المجموعة:
د. يحيى: …..أيوه حصل، أنا فرحت باللى حصل، حتى (احنا) اتناقشنا فى الحكاية بعدما انت مشيتى (المرة اللى فاتت), إنت كنت بتقسمى الناس: اللى برة وحشين واللى هنا حلوين. دلوقتى بدل ماكنت بتقسمى الناس، بقيتى تمارسى ده معانا، قدرتى تشوفى إن احنا ممكن نبقى وحشين، وبعدين تشوفى و تكتشفى ان احنا مش وحشين قوى، ولا كويسين قوى، وإن الأفكار دى عندك إنت لوحدك، يعنى احنا مصدر الوحاشه لحد ماتشوفى الحقيقة، (إننا برضه مصدر الطيبة).
بدت أميرة بعيدة نسبيا مقارنة بما كانت عليه أول الجلسة، فنبهها المعالج أنها ليست منتبهة تماما، فأقرت قائلة
أميرة: أنا حاسة برضه إنى النهاردة نص نص.
د. يحيى: و ربع . ربع، رضا
أميرة: يعنى عايزه أعرف: انا تعبانه، ولا حقيقى ؟
د. يحيى: تعبانه .
أميرة: الحمد لله، يالله علشان ما احاولش أطرد الافكار من دماغي
د. يحيى: ليه تطرديها؟ أصل الطرد خناقه
أميرة: أنا عايزه أرميها وأكسر وراها قله
بعد كل هذه البصيرة،أو بسبب كل هذه البصيرة، لما اكتشف أميرة أنها تستطيع أن تتحكم فى الأعراض بدأت تشك أنها تدعى (وهذا ما أشرنا إليه فى البداية), فراحت تسأل الطبيب هل معنى أنها تتحكم فى الأعراض أنها ليست مريضة، وحين أجابها الطبيب بأنها مريضة حمدت الله.
قد يخطر على البال لأول وهلة أن يكون هذا الحمد لأنها مريضة، وشفيت مثلا، أو لأنها مريضة استعادت قدرتها على قيادة داخلها وخارجها، لكن الذى تلى الحمد مباشرة بدا وكأنه سماح بالمرض، بمعنى: إنه ما دامت قد أخذت شهادة من المعالج الأول أنها مريضة، فمن حقها ألا تحاول أن تطرد الأفكار من دماغها.
إن هذا التناقض جيد، لأنه يظهر أن المسألة لا تحسب بحساب المنطق البسيط، بل إن إعطاءها حق المرض، هو هو الذى يعطيها حق الشفاء، فنلاحظ أنها بمجرد ربط “حمد الله”, بأنها لن تطرد الأفكار، سارع المعالج بتوضيح أن المسألة ليست مسألة”طرد”(أو إرادة، أو ضغط..). هى ليست خناقة،ولكنها رؤية فاختيار، (أو بتعبير أدق، تغيير فى الظروف، وإتاحة الفرصة،فممارسة الخبرة، فإعادة الاختيار), بمجرد أن نبهها المعالج أنه ليس مطلوبا منها أن” تطرد”, استجابت قائلة “علشان ما احاولشى أطرد الأفكار من دماغي”, وحين بادر المعالج بتفويت فرصة سوء فهم موقفه باعتباره موافقا على ترجيح كفة الأعراض، عادت أميرة بسرعة للتراجع معلنة أنها تريد أن “تكسر وراءها- وراء الأفكار والأصوات – قلة”, هذا تعبير مميز الدلالة على أنها تريد أن تتخلص من المرض فعلا.
نلاحظ أن الطبيب قد رفض موقف الطرد، وتحفظ ضمنا على فكرة الانتصار على الأفكار، وهذا ضد ما هو شائع عند العامة، وعند غالبية الأطباء النفسيين أيضا. إن أغلب الناس العاديين، بما فى ذلك جمهرة الأطباء النفسيين، يمارسون هواية النصح والإرشاد، وأهم النصائح الشائعة ذات السمعة الحسنة (للأسف) هو ما يتعلق باستعمال الإرادة. والطرد هنا يشير إلى مثل ذلك، لكن هذا النوع من العلاج “لا يطرد قسرا” (بالإرادة أوالإقناع) ولكنه يصالح ما تنافر من أجزاء ليستعيد “الكل فى واحد”.
إن ما نسميه جنونا لا يكون كذلك إلا إذا انفصل الجزء النافر عن “الكل”, إذن فالمرض بمظاهره واغتراب أعراضه، هو جزء من الكل، وإن كانت منفصلة، وبالتالى ففكرة التخلص من الأعراض طردا أو قهرا ينبغى ألا تكون الفكرة المفضلة الأولى، أو الوحيدة. إن هذا النوع من العلاج الجمعى، هكذا يهدف أن يعيد الجزء الشارد إلى مدار الكل المتصدع، نتيجة شرود هذا الجزء، إن الهدف هو التصالح والتمثل لاستعادة التوازن المفتوح النهاية. لهذا سارع الطبيب ينبه أميرة إلى أن موقف الطرد، ثم “تكسر وراءها قلة” ليس هو المطلوب، رغم ظاهر فائدته.
وانتقل الطبيب بشكل مباشر إلى توضيح فكرته دون تردد.
د. يحيى: بس هى جزء منك (يقصد الأصوات التى نصح ألا تطردها)
أميرة: جزء مني؟ بس ده مرض.
د. يحيى: لأ… بس بيبقاله شكل تانى. مادام فى إيدك خلاص.
بقولك إيه: أول ماتفتكرى إن واحد وحش (يعنى شرير) فكرى تلاقيه إنه يعنى فيه وفيه، زى ما الدكتورة رانيا بتقول…
أميرة: مش فاهمه.
د. يحيى: كل الناس فيهم حاجة وحشه وحاجة كويسة.
أميرة: لأ كلهم وحشين .
د. يحيى: ازاي؟ ما كانوا كلهم كويسين دلوقت .
أميرة: لأ أنا بقول لو يعنى ده الكره معناه حب طبعا مش معقول. الناس بيحبونى خالص؟ دا مش معقول .
هذا الموقف أيضا هو موقف صعب خصوصا فى ثقافتنا التى يغلب فيها الاستقطاب إلى “خير” و “شرير”, “حلال” و “حرام”, “أبيض” و “أسود”, هو موقف صعب على معظم الناس العاديين، بل لعله أكثر صعوبة على الإنسان العادى منه على المريض، وخاصة المريض الذهانى. يبدو أن المريض الذهانى قادر على التخلص من هذا الموقف الاستقطابى، يظهر ذلك فى صورة مرضية فى عرض يسمى ” ثنائية الوجدان”, حين يحب المريض ويكره نفس الموضوع فى نفس الوقت. لكن الذى يدعو إليه العلاج هنا هو أن تنقلب هذه الثنائية المحيرة إلى تحمل الغموض.
الفرق بين “ثنائية الوجدان” و”تحمل الغموض” فرق هائل رغم أنهما يتفقان فى أن الموضوع واحد،نفس الموضوع الذى نحبه ونعتبره موضوعا حسنا، هو هو الذى يمكن أن نكرهه ونعتبره موضوعا سيئا. لكن فى ثنائية الوجدان تتقلب العواطف، أو تتصادم تجاه “كل” الشخص،دون تمييز مانحب، مما نكره. أما فى تحمل الغموض فإن العاطفة تجاه الموضوع تكون متوازنة بحيث تسمح أن “تحب بالرغم من كذا وكيت”, ” وأن “تكره مع أن به من الميزات كذا وكيت”, وحتى الكره فى الحالة الأخيرة تكون له وظيفة تحديد الموقف بما يسمح بتبادل متوازن بين الكره والحب.
إن الذهانى وهو ينتقل من ثنائية الوجدان Ambivalence إلى تحمل الغموض Tolerance of Ambiguity،إنما ينتقل من كيان متعدد متباعد، إلى كيان متعدد متناول ضام. فهو قادر عليه، إذا أتيحت فرصة علاجية حقيقية أن يتفهم هذا التضارب ربما أكثر من الشخص العادى المتشنج فى وضع الحكم المطلق فى صيغة “إما …..أو”.
نلاحظ هنا ربكة أميرة وهى تعلن أنه “مش معقول”, وقد أضافت ما يفيد أن قبول التناقض، أو تحمل الغموض، وصل إليها بمعني” يعنى ..الكره معناه حب طبعا”, مش معقول”, فهى تضيف فورا”. طبعا مش معقول”.
ثم إنها سرعان ما تهرب من الموقف، بأن تلجأ إلى التعميم المستقطب فى تساؤلها: هل يمكن أن: “الناس يحبونى خالص”, مع أن هذا الاحتمال لم يطرح هكذا بهذه الطريقة التعميمية المطلقة. إن هذا يظهر كيف أن عدم تحمل الغموض، يدفع الشخص إلى الاستقطاب “أن الناس يحبونى خالص”, الأمر الذى لا يمكن أن يدوم عند الاختبار، فيكون مبررا للقفز إلى النقيض يحل محله وهو “: إذن الناس تكرهنى خالص” (تعبير لم تقله فى هذه الفقرة، لكنه جاهز).،فهى أعراض الغضب والرفض والاقتحام من الأصوات.
[يدرك د. أسامة الصعوبة فيتطوع شارحا:]
د. أسامه: خليكى معايا يا أميرة هنا ودلوقت
أميرة: آه، لأ،طبعا…
يعرض د. أسامة أن تواجه أميرة أفراد المجموعة واحدا واحدا، وأن تتبين كمية الكره الذى يصلها من كل واحد، جنبا إلى جنب مع كمية الحب الذى يصلها من نفس الشخص، وإذ تحاول أن تعمم الاستجابة على المجموعة ككل (إنتم .. إنتم…)، ينبهها د. يحيى:
د.يحيى: واحد واحد، وبالإسم
أميرة: أيوه هى دى. هى دى إللى أنا عايزاها، أقول مين اللى جامد قوى، ومين اللى يستحمل قوى
د. يحيى: اتوكلى على الله
أميرة: حضرتــك 75%
د. يحيى: 75% إيه ؟
أميرة: كــره،أنا حاسة كده .
د. يحيى: ماشى ماشى، الــ 25 % دول عندى رضا
د. أسامه: يعنى كويس؟ ده بيتهيأ لى يعنى
د. يحيى: استنى بس خلينا دلوقت كده، مظبوط، إنت ماشية مظبوط، 25 % إيه ؟
أميرة: بتحبنى …. يعنى ماتكرهنيش
د. يحيى: 25% إيه
أميرة: بتكرهنى
د. رانيا: إنت قولتى إيه الأول ؟
د. يحيى: 75 % ماباطيقش خلقتك،و25% إيه ؟
أميرة: مش طايقنى خالص.
د. رانيا: انت قولتى بتحبنى ورحت واكلاها كده.
أميرة: آه.
د. يحيى: آه؟
أميرة: أنا قلت كده ؟
د. أسامه: قوليها تانى 75% إيه و25% إيه
أميرة: 75% عايز تــخنقنى
د. يحيى: ماشى، و 25% ؟؟؟؟
أميرة: مش عارفة.
د. يحيى: إشمعنى دى اللى مش عارفة.
د. أسامه: 75 % دول أنت عارفاهم،طيب والـ 25 % التانيين …؟؟؟
نلاحظ هنا (1) صعوبة أن تستقبل أميرة الحب والكره من نفس المصدر، و(2) أنها لا تكاد تقر بنسبة معينة حتى تتراجع. وأيضا(3) يلاحظ أنه من الأسهل عليها أن تعبر عن الكراهية التى تصل إليها أكثر من أن تسمح لنفسها باستقبال مشاعر الآخرين نحوها، وأخيرا (4) نلاحظ ترددها الواضح السريع.
إن كل هذه الملاحظات لا يحكم عليها بالخطأ والصواب، لأن المسألة ليست مسألة حساب وتحديد جازم، فمن حقها أن تتراجع عن تقييماتها،وأن تتذبذب، وأن تخاف من الإعلان عن أى قدر من عواطفها، وأن تجد صعوبة فى تلقى عواطف الغير نحوها. كل هذا أفضل من الاستقطاب “إما …أو”, ومن المثالية الزائفة: من “هنا الطيبون… وهناك الأشرار”.
[على المعالج أن يستثمر هذه “التفكيكة نحو الواحدية”،بعد رفضه للتفكيكة نحو التناثر. وهذا بعض ما يجرى، ومزيد من العينات اللاحقة مباشرة تكمل الصورة]:
………
أميرة: طب أقول إيه طيب؟
د. يحيى: قولى الموجود .
أميرة: أصل كلمة الحب دى مش موجوده أصلا.
د. يحيى: وأنا أعمل إيه إذا كنت إنت اللى قلتيها .
أميرة: طب خلاص هى طلعت كده .
د. يحيى: وطب طلعت كده ليه؟ غلط يعني؟
أميرة: آه، حظى كده، مخى غلط.
د. أسامه: طب قولى حاجة تانيه بلاش حب أى حاجة تانية، مش شرط كلمة حب يعنى.
د. يحيى: لأ بس هى عارفه …. .
أميرة: مهما يحصل قدامى إن الناس كويسين، ومعايا، ومابيكرهونيش وكل العالم برضه عارفه …..
د. يحيى: أنا، أسامه،أشرف،نادية، إمسكيهم واحد واحد
أميرة: بتكرهونى بتكرهونى بتكرهوني
د. يحيى: إمسكى واحد واحد. كويس يا أميرة،كتر خيرك، إمسكى واحد واحد ياللا.
أميرة: أنا لو ماسكتش هاتغضبوا على بقى.
د. يحيى: ماشى ماشى، برضه، إمسكى واحد واحد يا بنتى.
أميرة (للدكتورة رانيا): طيب إنت غضبانه على . بتكرهينى وتدى أفكار لبره على، ونـفسك أموت خالص
د. يحيى: طيب، غيره
أميرة: يا مراد انت بتكرهنى ومش طايقنى، وعايز تعذبنى وعايز تنتقم منى. كده من غير سبب
د. أسامه: ده 100%،كله ؟
د. يحيى: ماشى هانخليها فى الأول 100%
أميرة: يعنى هاينقص من الــ 100 إيه،ده فوق الــ 100،ده مليون فى المية
د. يحيى: كملى ..
أميرة: عزت، بتكرهنى، وبتحقد على، وعايز تديهم يعنى أى فكره وحشة عنى، وتفرحوا بيها وعايزين تنفذوها فى ساعتها
د. يحيى: ماشى
عزت: مين اللى قال لك كده ؟
أميرة (للدكتور يحيى): حضرتك بقى خلاااااص، بتكرهنى بدرجة فظيعة،كلكم بتكرهونى بدرجة واحدة
د. يحيى: مافيش كلكم . واحد واحد
أميرة: حضرتك نفس الدرجة، بتكرهنى، وبتدى أفكار على، ونفسك تدينى بالقلم
د. يحيى: هه وإيه غير القلم
أميرة: كل حاجة
د. يحيى: أشرف،أشرف
أميرة: أشرف عايز يضربنى بالقلم، ده عايز يخنقنى، أنا عايزه أطبـق زمارة رقبته، أنت بتكرهنى مش طايقنى وبتستهين بى، وخلاص
أشرف: طب ما تيجى تخنقينى
د. يحيى:(مشيرا أن الدور على د. أسامة) أسامة
أميرة (للدكتور أسامة): حضرتك برضه بتكرهنى، ومش طايقنى وبتدى افكار على. وخلاص، أى كلام، انت بتكرهنى .
يبدو هذا الموقف التعميمى متناقضا مع ما بدأت به الجلسة. إن هذا التناقض بهذا الترحيب الواضح هو جزء لا يتجزأ من تقنيات العلاج الأعمق، حيث أنه تناقض مسموح به، بل هو مدعو إليه. إن تعميق أحد شقى الموقف، باعتباره “شكلا”Figure يتميز من أرضية Background نقيضة، إنما يسمح بالتبادل بين الشكل والأرضية، ولهذا سمى هذا الجانب من العلاج بـ “العلاج الجشتالتي”.
إن ظهور الكراهية بهذه الصورة، لا ينفى جدية النقلة التى انتقلتها أميرة، ولا يشكك فى قدرتها على إزاحة الهلاوس والضلالات بكلمة، ثم إنه موقف ينقل الكره من مصادر مرضية (الهلاوس والضلالات), إلى مصادر واقعية (أفراد المجموعة), الأمر الذى يسمح للمريض أن يتعامل مع مصدر الكره بشكل مباشر.
لاحظنا أيضا كيف أفرغت أميرة كل هذه الطاقة، دون أن يبدو على وجهها أو جسدها أى تعبير يدل على أنها فعلا تتلقى الكراهية من أى من أفراد المجموعة، فقد كانت تضحك فى حياء حقيقى، وهى تمارس التعبير عما يصلها من كراهية تتراوح بين 100% و مليون % حسب نص كلامها، وكأنها تشارك المجموعة فى رفض خفى لتصديق نفسها . كما كانت المجموعة كلها تشاركها الضحك الطيب، وهى تخفى وجهها بين يديها بعد كل مواجهة مع أحد أفراد المجموعة.
بعد أن أفرغت أميرة طاقة هذا التلقى للكراهية بهذا الوضوح، انتهز المعالج الفرصة ليذهب بها الناحية الأخرى،وهذا من أسس ما يسمى بـ” العلاج الجشتالتي” قال:
د. يحيى: طيب انت عارفه يا أميرة ان احنا ساعات بنمثل
أميرة: آه
د. يحيى: والتمثيل يعنى إيه ؟ يعنى عكس الحقيقة. مش كده ؟
أميرة: ممكن يكون الحقيقة .
د. يحيى: معلش بس، الله يخليك، عندنا هنا اعتبريه عكس الحقيقة. مش الحقيقة، دلوقت إن احنا كلنا بنكرهك ؟
أميرة: آه
د. يحيى: مثلى بقى عكسها.
أميرة: بتحبونى ؟ ؟؟؟
د. يحيى: مثـلى مثـلى، تمثيل بقى (ولا يهمك).
أميرة: وأنا أمثل دى إزاى بقي؟
د. يحيى: زى أى واحد ممثل بيمثل دور حرامى، وهو مش حرامى .
أميرة: وهو الحب بيتقال بالكلام.
د. يحيى: مثلى بالكلام .” أنت بتحبنى حب ما حصلش، مفيش بعد كده ونـفسـك عينك تتقلع وأخف”, وكده يعنى.
أميرة: طب ده معناه إيه؟ إنى أنا إللى باقوله ؟
د. يحيى: هاغششك السيناريو والحوار، ما تنسيش إن اللى جاى ده تمثيل، دكهه بقى (الكره) كان حقيقى، التمثيل المطلوب هوه مثلا:” يا فلان انت بتحبنى،….” وتزودى كلام تقوليه زى بتوع السيما كده أو المسلسلات .
أميرة: ما أعرفش أقول الحاجات دى
د. يحيى: هاعلــمك
أميرة: علمنى
د. يحيى: “يا د. رانيا . ايه الحب ده كله؟ يا د. رانيا بقى أنا أستاهل ده كله ؟ مثليها بقى، يلا يا أميرة
أميرة: أنا نسيت أصلا الكلام كان إيه
د. يحيى: نـفـس الكلام،زائد: مش ماعقـوووول !!!
أميرة:“يا د. رانيا . ايه الحب ده كله ؟ يا د. رانيا أنا استاهل ده كله”؟ مش ماعقـوووول (تعملها بتعبير شديد الإتقان مثلما علمها الدكتور، وأكثر).
د.يحيى: أديكى عرفت السكة، يا للا مراد بقى، مش نفس الكلمات قولى انت بنفسك بقى.
أميرة: اشكرك يا مراد إنك انت حبتنى
د. يحيى: الله يفتح عليكى، أيوه كده صح
أميرة (للدكتور يحيى): أنا عارفه إنك بتعزنى، أنا باحبك قوى يا دكتور زى ما انت بتحبنى
د. يحيى: ده تمثيل ولا جد؟
…………….
أميرة: أشرف ده هايحبنى إزاى ! طب مش عارفه أقول له إيه
د. يحيى: طب خليه للآخر . ياللا: د. أسامه
وهكذا استمر الموقف يتبين حتى ظهر للمجموعة،ثم لـ أميرة،أن ما أقرته من وصول كم هائل من الكراهية من كل فرد من أفراد المجموعة على حدة، لم يكن متناقضا مع احتمال أن يكون هناك جانب آخر محب، ومن نفس المصدر، ويلاحظ هنا أن ما نسميه تمثيلا ليس كذلك تماما، لأن الكلمات تجر وراءها المشاعر التى تحتويها عادة، وبالتالى يظهر للمريض (الممثل) الجانب الذى أخفاه وهو يبالغ فى الاتجاه الآخر.
وقد انتهت هذه الجلسة، والأمور أكثر وضوحا لـ أميرة وللمجموعة من حيث
أولا: إن ثمة نقلة نوعية حدثت، وتحدث.
ثانيا: إن استعادة البصيرة، يصاحبها تردد شديد فى التمادى فى تحمل مسئوليتها.
ثالثا: إن اختيار المرض ليس على الإطلاق نوعا من ادعاء المرض.
رابعا: إن توضيح مسألة الاختيار هذه (للمريض، ومن حيث المبدأ), ليس مقصودا به اتهام المريض، بل بالعكس. المقصود به احترام اضطرار المريض لهذا الاختيار فى مرحلة بذاتها، فى ظروف بذاتها، وبتغير الظروف من خلال العلاج، يعطى المريض فرصة أن يعيد اختياره.
خامسا: إن تذبذب المريض بعد البصيرة لا يعنى تراجعه، أو انتكاسه بقدر ما هو أمر طبيعى ينبغى قبوله، بل وتعميقه حتى يتأكد الاختيار الجديد.
سادسا: إن تحويل المشاعر(المرضية) التى كانت تتلقاها المريضة من هلاوسها، وضلالاتها،والناس فى الشارع أساسا، تحويلها إلى أفراد المجموعة، هو أمر يجعلها فى متناول التعامل، ومن ثم احتمال إعادة النظر،فالتمثل.
سابعا: إن ما يسرى على المريض، يكاد يسرى على المعالجين مع اختلاف موقع المسئولية.
ثامنا: إن التخلص من الأعراض بالإرادة (والحزق), أو بالتثبيط والكبت (بالعقاقير وبدونها), ليس هو المطلوب فى كل الأحوال، إذا كانت ثمة فرصة لاستيعابها.
تاسعا: إن ما يسمى الجنون، هو جزء لا يتجزأ من وجودنا من ناحية، وهو ليس كذلك إلا إذا انفصل عن “الكل” من ناحية أخرى.
عاشرا: إن عمل علاقة بالموضوع (بالآخر) بشكل يمثل وقاية حقيقية هو أمر صعب، وهو ليس متواترا بصورته الإيجابية فعلا (حتى فى الحياة العادية).
حادى عشر: إن المريض الفصامى من خلال هذا العلاج (وأحيانا بدونه), ليس كيانا متفسخا،غير مفهوم، ولا هو مغترب شاذ. إن الأمر يتوقف إلى درجة ما على نوع الحوار، ومساحة السماح، وقدرات الطبيب (والمعالج) على ترجمة أعراضه بهدوء ومراجعة ومثابرة طول الوقت.
تنويهات لازمة
(1) بعد الانتهاء من كتابة هذا النص والتعليق عليه، تبين للكاتب استحالة توصيل ما حدث بحرارته، وحركيته كما وصل أثناء العرض التلفزى، بالإضافة إلى الفرق البين بين ما عرض تليفزيونيا وما حدث فعلا.
(2) هذا النص الذى ورد هنا، هو منقول حرفيا من التسجيل الذى عرض فى ندوة يونيو 2001, بعد حذف بعض الفقرات التى وجدنا أنها خارج سياق الأفكار الأساسية، التى قصد عرضها بهذا التقديم. وقد وضعت نقط على السطر لبيان ذلك.كما أن ما بداخل الأقواس هو غالبا إضافة لنص الحوار بقصد توضيح ما وصل من خلال الصورة، ولم يمكن توصيله كتابة.
(3) أغلب النص مأخوذ من جلسة واحدة مدعمة بلقطات محدودة من جلسات أخرى كانت لازمة لتوضيح المراد.
(4) نحن فى أشد الحاجة إلى رأى القراء بالنسبة لطريقة العرض وطريقة التعقيب، حتى نصحح أنفسنا فى الأعداد القادمة، أو نعدل عن مثل هذا العرض تماما.