عدد يوليو 1984
قصة قصيرة
قارب الليل
د. نعيم عطية
لا زال الظلام دامسا، ولا شعاع نور يتسلل من خصائص النافذة آنفاس حبيبة فى هذه الغرفة تمسح وجنتيه وجبينه. أكانت قبلاتها، تطبعها شفتاها؟ ولكنها ألم تخرج من حياته منذ عهد يبدو الآن بعيدا؟ أحقا ثمة ما يخرج؟ ألا تستقر كل الأشياء فى الأعماق قابعة تنتظر مجرد اهتياجه؟ أنه الحلم الذى يأتى اليه كلما أحس الى تلك الأشياء حنينا. حاول جاهدا فى الأيام الخوالى أن يحتفظ بها. تجاه كبرياءه، وأمل أن يظفر بها. كان لا يأبه بالعراقيل التى تضعها – أو على الأصح التى تدفع الى وضعها – فى طريق اتحادها. كان على الدوام يثق فى أن على الشطئان الساجية تنسى دوامات الأغوار الموحشة، وأن صار من الآخرين لا ينتظر سوى أمواج تصفع، تغرق، تنحسر، ثم تعود لتصفع. يعرف الآن أن السعادة ليست جيشانا أو رعدة، بل هدوء بال ورضاء بالمقسوم وقناعة، جزيرة تنتظر قاربا، أن أتى فسوف يرسو مليا، ثم يضرب مجدافة لجة الماء مبتعدا، عائدا من حيث أتي. آنذاك راح يتناسى نصيحة أمه. خذ امرأة من ثوبك. ويجزع اذ يخطر بباله أنه لن يحصل عليها. يأرق. ينهض فى الصباح مشدود الأعصاب، وطوال النهار يتوتر. كان أبوها أستاذا له بالكلية. يدهش كيف يضحى الكبار عندما يهرمون فى يد الصغار لعبة. أحقا كان ذلك حبا، أم شهوة استحواذ، وعشق تملك؟ أكان وهو المعيد ضئيل القدر يطمع بدوره أن يصبح مثل أستاذه سليم ثابت رئيس قسم، فعميدا، فوزيرا، وينعم عليه بالألقاب الرسمية؟ تتعلم يوما بعد يوم أن تزهد، حتى تزهد فى النهاية العالم كله، ولكن تبقى رغم كل شئ تحت الرماد الجمرة التى أحترقت. نسى الآن – وكان يجب أن ينسى – الاهانات التى لقيها من منذر وأمير. من أذنيه ومن قلبه حيث التهديدات التى وجهاها اليه لو لم يقطع كل صلة بأختهما. يوم اعترفت له بحبها. لن ينساه.. سوف يراها على الدوام ممسكة بين يديها باناء بللورى كروي. قالت له مرتعبة أسماكى الملونة اختنقت أشار اليهما ناحية البحر وقال الدرافيل مخلوقات وديعة. لن تريد بك ضررا خرج من بيتها. سار على الكورنيش طويلا. كان على موعد فى محطة الرمل مع بعض الرفاق. عندما وصل الى السلسلة قفز على السور الحجرى العريض. ومضى يسير بمحاذاة الميناء الشرقية. كانت هبات الريح الخفيفة تهمس فى أذنيه بأمنيات. وعلى المياه الداكنة الزرقة مضت الأشرعة البيضاء تردد النغمات التى كانت شهيرة تعزفها. رفعت عينيها اليه وأبتسمت. أضاءت عيناها بشمس اسكندرية صحوة، وقالت له أنتظر ذلك اليوم، مثلك. عندما قابل الرفاق الجهمين لم يفهموا لماذا كان بادى الحبور. هل طرأ على مخططنا تغير؟ ثم جاءت أحداث المنشية، فانتزع من دفء فراشه فى الفجر. لا زالت عشرات السراطين البحرية تزحف على جلده.
بعد ثلاث سنوات انفتح الكهف الحديدى الثقيل الصدئ، وقفذف به الى ضوء من جديد. كان الوقت ظهرا، والشمس حارقة الوهج. لم يستطيع أن يفتح عينيه تماما. بدا له النهار مختلفا. كل شئ صار مختلفا. ماتت أمه، وماتت أيضا أشياء أخري. فقد وظيفته. سأل عن شهيرة. فقدها هى الأخري. كانت أضعف من أن تقاوم، فأذعنت لمشيئة غيرها. تقدم اليها دبلوماسى شاب. أسرعت الأسرة فى اتمام الاجراءات الرسمية. من أين لها الصلابة وهى لا تعصى لأخويها أمرا؟ ،ماذا كانت تستطيع أن تفعل؟ يحاصرانها ويضيقان الخناق عليها، لم يكونا خارجها فحسب بل داخلها أيضا، ملتصقين بأنفاسها وخلجاتها، ومتحكمين فى أخص شئون حياتها. ماذا بوسعها اذن أن تفعل؟ تنتحر أم تهرب؟ والى أين تذهب، هذه المدللة التى لم تتخذ قرارا ايجابيا يوما؟ فى بعض الأحيان يقول كانت نعمة أن يساق الى موة السراطين السوداء، وهى ليست على ذمته. كان ذلك سيجعل ألمه مضاعفا. يسهل على الرجل أن يشرب الكأس التى تعطى له وحده، ويشق عليه آذ يجرعها معه غيره. أحدثت به جرحا غائرا، لكنه شفى منه الآن – أشفى حقا؟ – ولم يحدث ذلك بين يوم وليلة. خفف من بلواها عليه أن أخاه نفسه طلب منه توكيلا وهو فى السجن. وعندما خرج وجده قد باع نصف البيت، وبدد نصبيه فى الميراث.اذا كان الذى هو من دمه يفعل به ذلك، فليس بمستغرب اذن فى هذا العالم الكئيب الغريب الشرس أن تتزوج البنت الصغيرة المرفهة بآخر. هناك، وراء القضبان عرف نوعا آخر من الانسان، بأمل من أخوانه البشر فهما أكثر، كانت حميدة تأتى أيام الزيارات، وتقف وراء حائط السلك، تحادث مسعودا، فى الزنزانة أراه صورة لهما. أخرجها من دره خلسة. لاحظ وضع يد الرجل رغم خشونتها على كتف الشريكة الحبيبة. كانا يقفان متجاورين، وكأنهما شط وبحر. قال لا تطلب الحياة الرغدة والفراش الوثير والثياب الناعمة، بل هناك الحياة بكل خشونتها وفظاظتها وضراوتها تحيط بهما، ومع ذلك فهما متحدان كصخرة فى وجه العاصفة التقت اليه بعد هنيهة، قال العدو قد نال منا. أغرى نساءنا بالرفاهية. لو أحس الرجل أن من وراءه ليس طحلبا رخوا، لانطلق فى وجه العدو اعصارا أغمض مسعود عينيه، وتمتم مبتسما متى تصبح الحياة عالما نقيا رطيبا مثل اسكندريتنا الأولي
أمتد الشاطئ الرملى أمام ناظريه ناصع البياض فسيحا خاويا أملس، يصغى فى هدوء الظهيرة الى همسات المرح، رتيبة بطيئة، مترقرقة فى بحر ساج آزرق. يجب كى تستريح أن تتلمس الأعذار للناس لم يرفع على أخيه دعوي. تشاتما فحسب، وارتضى الهزيمة، المرارة. طعم نسيته شفتاه، ولفظه كيانه.
صار الآن لا يكثرث بوجود شهيرة، وماعاد يؤرقه غيابها عن أيامه المشحونة بالمسئوليات والانشغالات. بقليل من العزيمة، أنت تقطع علاقتك بهذا العالم، تدافع عن نفسك. ليس العالم بالنسبة اليك سوى علاقة. الغ هذه العلاقة لا يكون للعالم – ومن ثم للألم – وجود، ولكنها كانت تتسلل الى نومه، تتسرب الى أحلامه – وأنى له أن يرفض ذلك أو بقاومه؟ تطل عليه بعينيها الواسعتين، ونظرتها المعذبة، وقامتها السامقة النحيلة. لم يكن أحد غيره يرى جمالها. وكان يعتبره فريدا، بللوريا رائقا. حتى بعد أن فقدها ظل متعلقا – ولكن فى اتزان وقناعة – بطيفها.
بدأ النور الفيروزى الباهت الآن يتسلل الى الغرفة. كان يسميها عروس القمر وكانت فى ثيابها الحريرية ذات الألوان الفاتحة- وما كانت تحب الألوان الداكنة – تبدو فعلا كضياء القمر،الذى كان يحلو لهما أن يتابعاه يصعد قبة السماء، ويظل حزينا من عليائه الى دنيا البشر. وقد كان للبدر فى ليالى الاسكندرية تلك وقع خاص. والليلة كان القمر بدرا قبل أن يدخل، ويغلق الشرفة.
وجاءت اليه قبيل الفجر فى غرفته، تضئ ظلمته. تقدمت منه بخطى بطيئة. يسبقها أريح خفيف، آريح طحالب البحر التى تغسلها الأمواج صباح مساء. جلست الى جواره على الأريكة ذات المساند الزرقاء. أمسكت بيديه فى راحتيها. ضغطت عليهما وتشبثت أصابعها بهما.
سألها يصوت وافد من كهوف العمر الخوالي:
- ألا زلت تأتين؟
نكست رأسها. انسدلت غدائرها الشقراء على كتفيها، ولم يكن لغير جدائلها من كيانها وجود، فقد اندمج بظلمة الليل سائر جسمها.
سأله الصوت:
- ألا زلت تنتظرني؟
أشاح بوجهه، وتشاغل بالنظر من الشباك الى البحر، تومض فى رحابة المظلمة بين الفينة والفينة أنوار من سفين فى الأغوار بعيد. كز على أسنانه حتى يكتم لواعج قديمة، ويكبت فى صدره تنهيدة حنين.
سأله الصوت:
- أما زلت تفكر في؟
أجاب:
- كلا، ليس بالضبط فيك.
رفعت اليه نظرتها المعذبة:
- أعرف لست بالنسبة لك سوى ذكري.
نهض يحكم أغلاق الشباك. ما عادت عظامه تحتمل برودة الليل فى أخرياته.
-أجل، ذكرى من أيامى بعيدة.
تقف وراءه. تحيط منكبيه بذراعيها مثل طحلب متسلق، وتسند خدها على كتفه.
- ألم تفكر يوما أن نعيش معا؟
موج البحر يغمر الغرفة، وهديره يبدد صوتها. يصفعه بصخرة عاتية، فتنكسر فى أذنيه كلماتها كهسيس رذاذ متطاير. ألم تفكر يوما؟
صعدت الى حلقة غصة. انتابته رغبة ملحة أن يسأل. لم تنجب ربما احتجاجا من جسدها على الزواج القسري. استدار نحوها. وجدها فى الطرف القصى من الأريكة منكمشة. مدت اليه ذراعها. كادت أصابعها تلمس وجهه، حجبت عنه هيأتها.
- لا تسأل. كفاك تعذيبا لى ولنفسك.
- ولكن….
ابتدرته:
- كان الأمر كله خطأ.
انحسر البحر عن الغرفة. ظلت أرضيتها مغطاة برمال صفراء لامعة. ،تناثرت فى أرجائها طحالب بنية وخضراء.
- فقط، وددت أن أعرف.
- الأوراق كلها على مكتبك. لم تقرأها؟
نهضت، دست قدميها الحافيتين فى محارتين. وقفت. تمطت. وجالت فى الغرفة.
على الدوام ثمة يد خفية تكلبه، وتحول بينه وبين أن ينالها. لكنه ما عاد بقادر أن يستسلم للأغلال. سوف ينالها الليلة. هل تراه فراقهما الثانى والأخير؟ يعرف أن فى هذا خرابه. الصوت العجوز بداخله يقول ما دمت قد جرعت الكأس حتى الثمالة، لملم أشلاءك، وأمض بلا رغبة بلا أمل، فالرغبة على الدوام اخفاق، والأمل فى النهاية عذاب
بسطت شباكها، ورتقت ما تمزق فى نسيجها من خيوط.
- مفيد لم يحبنى قط. ولا أنا أحببته. بثروته أعتقد أنه سيشترينى ويروضني. كان مغرورا منشغلا عني، أما أنا فهنا، دائما كنت هنا.
مضت الى المكتبة، وأخرجت ديوانا، وأخذت تقرأ.
قال لنفسه:
- ما كنت أعرف أن شهيرة تهوى الشعر.
أجابه الصوت:
- بل أنت الذى تهواه. ألا تعرف صوت من هذا؟
قال لنفسه :
- أنه صوت الأحلام.
قال الصوت:
- أتذكر عندما دعوتنى الى المسرح. كانت المرة الأولى والأخيرة .
ابتسم.
- تذكرتان مجانيتان من صديق ثري.
- لا يهم. المهم أنك دعوتني، وخرجنا معا تلك الليلة، سمح لنا أبى بذلك، بعد أن أخذ عليك الصارم من التعهدات، وكنت قد عينت حديثا فى القسم الذى يرأسه، لا تنكر كان يحبك.
هز رأسه مصدقا.
- ذهبنا وشاهدنا “باليه الأميرة النائمة”
- بهرنى المدلول العاطفى للقبلة التى أيقظت الأميرة، فحدثتنى عن مدلول أعمق للقبلة، المدلول الاجتماعى للقبلة التى توقظ، عن الحب الذى يعيد إلى الحياة، وحدثتنى أيضا ونحن سائران جنبا إلى جنب، عائدان إلى بيتي، عن مئات القبل الأخرى التى تقتل، وعن الصياد الذى يقف فى قاربه حائرا بين الجنية القابعة تحت الماء تناديه، وزوجته وأولاده فى الكوخ ينتظرونه.
نداء بعيد، من أين يفد؟ أغنية حب حزينة، ولوعة فراق قديم متصل. وجوه حبيبة من وراء الضباب تبزغ، تترنح، وتمضى غائصة. خيالات معتمة تنمو فى أغوار سحيقة تكسرت فيها الأشكال، وفقدت نظاميتها العادية، وأن شحنت بمنطق خاص به. وإمرأة من البحر تأتي، تسير على الرمال الهوينا، تجلس تتطلع إلى الموج. على جنبها تتقلب، ثم إليه تنظر، تبتسم، وبصوت لا صوت له تقول “ هل جئت؟” فى كل الأحياء إمرأة واحدة، شابة أحيانا، وعجوز أحيانا، ولكنها على الدوام شهيرة. أهى التى تشتاق إليه فتأتي، أم هو دائب الشوق إليها فيناديها زخر الحيز بالأسماك وبكل نوارس الفضاء. عالم ساكن مغلف بجو رائق صاف متقد، كل شيء فيه معزول متداخل شديد الشفافية والاعتام معا.
ركع، وراح يصلح قاربا. استغرق فى عمله، لم يكن بالإمكان أن يخذلها. جاءت بعد كل هذه السنين إلى مكتبة تستنجد به. كان أبوها يقول، وهو يدرس لهم “آداب المرافعة”: “إذا جاءك عدوك يطلب منك الدفاع عنه، لا ترده خائبا”
انحنت، وسألته:
- ماذا قررت بشأنى وشأنك؟
لم يجب
- ألم تفكر يوما أن تقترن بي؟
نهض ببطء. وانتصبت هامته كشراع بالريح أمتلأ.
غمر الآن البحر الغرفة كلها، ولكن الثريا لا زالت تتدلى مضيئة، من أين يأتى هذا الدفق الصامت؟ أصبح الحيز كله رجما مائيا يحتويه. السقف من فوقه قبة لا زوردية. من أين جاءت كل هذه الأسماك الفوسفورية الجرم المائى حوله محكم الإغلاق. الموج شاهق من فوقه، ويكاد يحطم صدره، وهو راقد على ظهره. اضطرب قاربه. ضرب بمجدافة اللجة. انساب القارب القارب مخترقا الغرفة. البساط الأزرق من تحته التف حوله، وصار يطويه. تشبثت شهيرة بحافة القارب. أمه تهمس اليه بصوتها الحنون.لا تفتح عينيك. أنت فى حضنى تنام. أنت فى رحمى ترقد. من هذا الماء السيال أرضعتك. هذا الجسم الهلامى الرجراج جسمي. لست عظاما ملقاة فى قبر. أنها أنفاسى التى تلمس حفنيك وجبينك. لن أترك غيرى يمسك. نم ناعم البال، يا بني. هذا المجداف الذى بين يديك هو عظمة من ساق أبيك. آتذكز كم ظللت وفية له، طيعة وأبيه،؟ أنت مني. لا وراءك. لا تلق بالا الى أى استغاثة، وهل ألقى أليك أحد بالا عندما استغثت؟
أسراب السراطين تنساب، وتفلت من شقوق فى الحيز غير مرئية، وعروس القمر معها. جرى الماء لجيا معتما، هادرا، مكتسحا إلاف المخلوقات البحرية، تفتح أفواهها فى صمت، بينما تدور فى محاجرها عيونها مذعورة. أحس أنه بفقدها يتردى فى بئر لا قرار له. تمنى ألا يكون لها فى خياله قائمة. قضى الأمر. دبر، وأمل، واشتاق كثيرا، وهوى كل شئ على صخرة العناد وتحطم. لم يأت أى سعى بنتيجة. تحشرج الصوت وقال:
- أنت ترحل. للمرة الثانية ترحل، أذن.
تشبثت بيديه. لمعت دمعة فى عينيها.
- أخشى أن تضيع منى مرة أخري.
سحب يديه من راحتيها الباردتين بهدوء. رفع الخطاف، والى الباب انساب قاربه بلا جلبة. عروس القمر فى الأعماق، أسفل القارب تدعوه أن تنضم اليها، وفى سماواتها الزرقاء البنفسجية يلحق لها.
ظللت نظراته المنهكة تحدق مليا – وآثار التعاس عالقة بها – فى الأريكة الخالية، وشبح المكتبة المفتوحة، وديوان الشعر الملقي. ثم نهض فى تثاقل. ارتدى الروب. فتح باب الشرفة المطلة على البحر. عاليا فى أديم السماء نورسان ناصعا البياض. يسبحان ويتبادلان بمنقاريهما القبل.
جرجر خفيه الى المطبخ يعد لنفسه قدح القهوة والأفطار، ولازال فى خواء البيت ينفث حلم الليلة الماضية أنفاسه. تناول رشفة ساخنة، وذهب الى مكتبة يلقى نظرة أخيرة على ملف قضية اليوم: دعوى السيدة شهيرة سليم ثابت ضد مفيد شوقى شديد. الطلبات: التطليق للضرر.