يحيى الرخاوى طبيب نفسى
عدد يوليو 1984
قبل أن يأتى الطوفان
د. رضا عطية
يا سيدنا…. الصبر تبدد
والليل تمدد
ياسيدنا
أما أن تدركنا قبل الرعب القادم
أو لن تدركنا بعد…
صلاح عبد الصبور
عن ( ليلى والمجنون)
انطباعات حول الواقع الثقافى فى مصر(1)
من الطبيعى أن يتصل الحديث بشأن الواقع الثقافى المصرى، ليس فقط لأن السنين الأخيرة تشهد تراجعالأهمية الفكر والثقافة أو المعرفة بشكل عام، وعزوف الكثيرين عن ولوج مثل تلك الطرق غير المأمونة، وعزوف الكثيرين أيضا عن الأبداع – حتى من يملكون أدواته وحساسيته -ليس لذلك فقط – بما له من مخاطر – ولكن لأن ثمة أهمية خاصة تجر أيدينا وعيوننا نحو مناقشة وضع المجتمع كاملا، لما بين القضايا من تداخل وتأثير.
وقد نميل قليلا للقول القديم أنه من علامات سقوط الحضارات أن تجتمع الأمة على تشخيص مواطن الداء وفق هذه المقولة واقع واضح نقابله ونشارك فيه جمهورا ومثفقين ،مهتمين. فما من عبارة غاضبة حول فساد ضمائر الخلق، أو انحلال الذمم والخلق، أو وكيل الاتهامات من جيل القدامى للشباب والعكس، أو التنبيه الى خروج المرأة للحياة وتعليمها، وتعليق أسباب الفساد على ذلك، أو تعليقه على الأسباب الاقتصادية والفقر، أو تحديد زمن الانهيار بابتلائنا بحكم الضابط منذ 52، أو منذ ابتعادنا عن التأثير الحضارى للغرب – بل وحتى الاتجليز الذين لم يكونوا مجرد استعمار بل حضارة وتقدم، أو منذ ابتعادنا عن جادة السبيل والتعقيد، أو منذ مجانية التعليم.. الى آخر ما لا حصر له ونسمعه فى كل مكان من محاولات للغوص وراء سبب الداء، وتشخيص ما نحن فيه من بلاء. وتنطوى ضمنا على محاولات للعلاج. تختلف جميعا. وكلها تمثل هى ومثيلاتها رصدا انطباعيا جزئيا لمايراه القائل أو الغاضب سببا مباشرا أو علاجها انطلاقا من ملاحظة جزئية مباشرة.
ورغم أن مثل هذه الملاحظات العفوية تعنى موقفا ضمنيا للناس، فأنها تعكس فى ذات الوقت أكثر الأفكار قرابة الى عقلها، ورغم ذلك فأن اجتهادات المهتمين فى رصد وتوصيف ومحاولة علاج ما يرونه أزمة، كانت تفتقد فعالية التغيير برغم ما يمكن أن تتمتع به محاولاته من قدر أوفر من المعرفة التاريخية بدرجة تسمح برؤية ظاهرة ما بدرجة أكثر شمولية واستشراقا لمسارها.. أكثرهم نفاذا يرى فى افتقاد الحريات والديمقراطية سببا أساسيا لكل آفات الوطن – وأكثرهم شؤما يرى أننا أمة جبلت على الخنوع وأدمنته، ويسوق على ذلك الأدلة(2)، سواء من فعل الأفراد أو الأنظمة مكررا ما يقال من أننا نصنع آلهتنا وأنبياءنا ومفكرينا لنقتلهم بعد حين أو من يرى أن حيودنا عن طريق الدين الحنيف الحق بنا ما نحن فيه،.. الخ. وبرغم محاولات النفاذ الى جذور المأساة، فان أيا منها كانت تفتقد فعالية التغيير، بحيث يظل شاخصا للعين فى النوم واليقظة خطر السقوط الحضارى سالف الذكر، وخطر الاندثار، وأشباح ديناصورات قديمة، بطيئة، بليدة، تزار من حين لآخر.
وحق للناس فى كل الحالات أن لا تلقى بالا الى كافة الاجتهادات التى تفتقد لقوى الفعل والتغيير،لأن أيا منا – جمهورا ومهتمين – لم يتمكن سوى من شئ صغير من الظاهرة، لنظل أشبه بقصة الفيل والعميان الشهيرة. ولايدعى أحد لنفسه شرف تملك ناصيتى الرصد الدقيق لمظاهر الأزمة والعلاج الناجح لها، بحيث تتجاوز المحاولة مسألة الكلام ويصبح لما تبقى من كلمات قوة تفتح الزهرة، وقوة الفعل.
وما من شك أن شرط مثل هذه الفعالية هو تملك المنهج أو طريقة الفهم والمعالجة وكذلك المشاركة الاجتماعية – وفق هذا المنهج – فى التغيير، بحيث تصبح -أى المشاركة – الشكل العملى لوجهة نظر ما حول مسألة ما، ويتم الاختبار فى أرض الواقع بين مناهج مختلفة – بما يثرى له الأفكار عادة، والأهم أن ذلك سوف يرجح منهجا دون الآخر وفق درجة تفاعل الواقع معه.
ورغم كوننا لسنا بصدد تحديد قضية المنهج هذه – على الأقل الآن – فأن الاشارة تجدر الى أن قضيتى المنهج والممارسة هاتين ليستا ذات طابع فردى بالأساس. وآنما صراع مشترك لقوى وأحراب عديدة. أو مناهج عديدة.. من أجل انقاذ الوطن كله وليس قضية ما
ولكن.. ما لعمل؟… وسوف ننضم بهذا المقال وأشباهه الى طابور المشخصين والعور، ومحاولى العلاج، نقف فى الدور كى نتلقى لعنات التاريخ على من لم يصنع لوحا من الخشب قبل أن يأتى الطوفان – وهو يعلم بقدومه – أو لعجزنا عن الفعل عندما عز الذى يفعل.
ملاحظات لها أهمية ولماذا الثقافة؟
أولا: من هذا الأسم – الثقافة – وما يندرج تحته من عناوين(كالمعرفة العامة، والآداب، والفنون..) يتشكل حجم المعرفة العامة فى المجتمع، وكذلك يصاغ الضمير الاجتماعي، والوعى الجمعى للناس فى فترة ما، ويمكن استقرار قيم بنائية لدى الأفراد مثل المشاركة الجماعية، والاحساس بقيمة الآخرين واحترام الفرد وحريته… وكافة صور الزاد القيمى، هذا طبعا بافتراض رقى الوضع الثقافى- وهو لا يحدث بذاته أى بمعزل عن الرقى المراكب أو المسبب فى المستويات الاجتماعية الأخرى وعكسها جميعا عند انهيار أو تأزم هذه الوضعية.
ثانيا: أن لهذه القضية أهمية كمستوى خاص من مستويات أحداث التغيير الاجتماعى نحو المستقبل نظرا لتهرؤ البنية التحتية وتخلفها الشديد – ونقصد البنية الاقتصادية؟ والتى لا تتميز بالاستقلال حتى الآن..،هذا اذا اتقفنا أن ثمة علاقة تأثير متبادلة بين البناء الفوقى والتحتى لأى مجتمع. هذا فضلا عن أنه فى حالة رقى عناصر الثقافة والمعرفة، فان العزلة الفكرية فى المجتمع -الذى هو وسط الأفكار -تقل، وكذلك الفارق الهائل بين المهتمين بقضايا الوطن بشكل عام، وبين مجمل الناس(3) بحيث أن وجود لغة شبه مشتركة واستقرار المفاهيم والحس الاجتماعي، يقيمان جسرا هاما يسمح بالتأثير المتبادل بين جمهور عريض( له حاسة تاريخية فى التغيير) ومثقفين جادين يكونون أدواته على الأقل، فى التزود بالوعى والمشاعر، بل وفى الوقت ذاته فان وجود هذا النوع من الجمهور المتقدم يحد من أمراض المثقفين ويربيهم كيفما ينبغى فى وسط غير مغيب وراق نسبيا.
ثالثا: أن هناك سمة مميزة ربما ليس لمصر فقط، بل لأغلب شعوب الشرق، وهى تعاظم الدور القيادى للفرد فى التاريخ (الفرد المحرض، الفرد المبشر، أو الزعيم.. أو النبي.. الخ) وبغض النظر عن اعتبارها ميزة أو عيبا فهى حقيقة تاريخية تجلب اللعنة الى الشعب عندما يستخدمها مدع أو آفاق، فتكتوى بناره مرحلة كاملة من تاريخ شعب، ومشاعر جيل كامل منه، هذا ما لم تكلفها قطعة من أرض الوطن، أو ثقة فى التاريخ والمستقبل معا(4) وما يعنينا من هذه الحقيقة هو أنه برقى الوضع الثقافى وحجم المعرفة العامة فآن دور الفرد القبادى يتضاءل، فضلا عن تقلص امكانية التضليل وسوء استخدام ذلك.
رابعا: وهو الأمر الأكثر التصاقا بموضوعنا، وهو الخطر الكامن فى فقدان الشخصية المصرية تحت وطأة ضغوط واحباطات عديدة ومستمرة، اذ مع فشل التطور الليبرالى الذى أطل من الحشا المصرى جنينه غريبة، أو التبشير بها ولاذى برغم ما فيه من فائدة كتمثل منهج علمي، وارساء أسس ديمقراطية وميل الى التغيير فى العقل الاجتماعى(5)الا أن به من المخاطر ما يمكن رصدها، لو أدراكنا الشكل الجديد للاخضاع والسيطرة الاستعماريين، ألا وهى استلاب الشعوب ثقافيا(أضافة الى تحقيق الاستلاب والتعبئة على المستويات الأخري). ولعل كثيرا من الدراسات التى يوليها الغرب أهمية -خاصة مؤسساته الاقتصادية أيا كانت مسمياتها ولافتاتها – ويمولها بلا حساب، لعلها تجسد رغبة فى فهم المارد المقيد الذى اسمه العالم الثالث- من أجل مزيد من اخضاعه وترويضه(6) ويساق الى هذا النوع من الدراسات ويهرول إليه من يهرول – سواء بحسن نية، أو بدافع احتياجات اقتصادية، أو بوعى وهز أكتاف فى آن واحد.
ومن ثم فان الوقوف على أرض ليست رخوة فى مجال الفهم والتشخيص، ومحاولة العلاج تمثل حاجزا هاما دون اعادة صياغة ضمير ووعى أمة بطريقة تقطع عليها سبل التطور. أمة قوامها خمسون مليونا، معطلة تار يخيا، ومهددة منذ وجدت.. فى مقتل.
تكرار ممل حول مظاهر الأزمة:
بالطبع لن نزيد على ترديد بعض ما قيل ويقال -ويكال – فى هذا الشأن، وما أكثره، ولذا سنكتفى بايجاز ما يتعلق بالملاحظة العامة من زاوية الرصد الاجتماعى(7)
بالنسبة لمجمل الناس -الجمهور – فهو كالعادة أصدق بكثير مما يتوقعه المثقفون، وأكثر صدقا حين(تجسد فيه الأزمة) متجلية فى وعيه الاعتيادى وكذا ممارسته. فما النقد الذى نسمعه والذى يتعلق غالبا بجزئيات ذات طابع يومى دائمة الاصطدام به الا الملمح الأساسى لروح عدم الرضى – أو روح الأزمة ـ أو تعكس حالة عامة من الضيق والاحباط فى شئ ما.. وهناك حقيقة ستجلب الاتهامات لكاتب هذا المقال، وهى رؤيته لطريقة تفاعل هذا الجمهور مع هذا الاحباط الواسع..أنها سلبية مخزية، ونسيان للتاريخ كأن لم تكن هناك جذور..، والتخلى – لنقل المؤقت – عن خبرات التاريخ المتراكمة، وشلل نفسى اجتماعى شديد الوطأة، حيث فقدان روح الجماعة والانتماء(8)، والتفرد الشديد هما الطابع العام لحالة الاحباط هذه، والتى صاغت كثيرا من مظاهر الحالة كالانتهازية، وفساد الذوق العام، والميل الاستهلاكي، ومحاولة تحقيق الذات من خلال معايير اجتماعية غير موضوعية..، وضارة، والتشرنق والعزوف آن اختيارا أو قسرا عن الاجتماعية – حتى فى أضيق الحدود – حتى فيما يتعلق بالقضايا والأمور التى تمسه شخصيا – من حيث هو فرد – والاستسلام لاستباحة مساحته الفردية من قبل المجتمع والأنظمة.
انحطاط نظرة المجتمع الى المرأة، وتحجيم دورها الاجتماعى خاصة فى مجالات العمل والحرية الشخصية، والتعامل معها كسلعة وربما تساعد النساء على تأكيد هذه الأفكار باستسلامهن، وقد يوافق بعضهن على مثل ذلك. الارتكان الى السهل من الأفكار مثل السلفية – أو لنقل المتخلف منها – برغم كونه عاجزا عن الحل فيما يتعلق بالمشاكل المعاشة والملموسة(9) فقدان قيمة العمل وكذلك العلم والرغبة فى تحقيق الذات من أقصر طريق هربا من المفرمة الاجتماعية البشعة، أو دخولا فيها.
تبادل سلاح الارهاب سواء الفكري (كالاتهامات الجزافية، وعدم تقبل الخلاف فى الرأى والعقيدة.. الخ) أو المادى (بداية من سن القوانين المكلبة للحريات والعقائد،ومرورا بالتشريد وقطع سبل الرزق، وانتهاء بالتصفية الجسدية). وتفيد هنا الاشارة الى أنهما سلاحان متبادلان من قبل كل من الحكومات والأفراد. أيضا الازدواجية العقلية والقيمية كاجتماع النقائض بشأن نفس الموضوع داخل البنية الواحداة سواء كانت فردا أم حكومة أم حزبا، وكذا ممارسة القيم المتناقضة – فيما يشبه لخبطه اجتماعية.. فيما يشبه حال الناس أثناء التحولات الاجتماعية الحادة والضخمة.
وماذا قدم المثقفون؟
وهو سؤال يفرض نفسه الآن وسط أصابع الاتهام المتعددة.. ماذا قدم المثقفون والمهتمون للناس، كى تشير أصبع الاتهام فى الاتجاه الصحيح؟؟…
غير خفى أن طرائق الناس فى التفاعل مع هذه الحالة الاحباطية أنما هى تجسيد لأزمة الوعى والثقافة لدى جمهور مغيب، لم يعد يدرى شيئا(10).
وعلى قدر الانسحاق الشامل وافتقاد الوعى الجمعي، كان التناسب طرديا مع طرائق فى الهروب بداية من السفر والهجرة، والـ(هججان) من أتون التيه والاحباط لنتطفل على آبار النفط، أو نيمم الوجه شطر حياة على هامش حضارة – كأوربا مثلا – لم نصنعها ،نريد أن نجنى ثمارها، ونرطن بما يجلب دهشة العيون.. تمارس الهرب فى صورته المباشرة. أو اللجوء الى تنويعات أخرى واعية أو لاوعية كالتشريق والعزوف الكئيب، أو تعمد البلاهة والبلادة فى التعامل مع الأمور فى ما يشبه طقس مازوكى جماعى بالقول المبري..(بدلا من أن تكره – وأنت لا تملك ذلك -عليك أن تحب وتعتاد ما تكرهه.. لأن فيه مصلحتك).
أو طبعا الهروب فى صورة الادمان وهو أيضا يمثل طقسا انتحاريا جماعيا مؤلما.. أو التعرض للسجن والتشريد والمطاردة لمن تأخذه نفسه – الأمارة بالسوء – الى تصرف نزوى فردى (طائش) فيصبح عبرة ومبررا لكل الخيارات السابقة عليه، وهى جميعا تعنى فى الرصد العام.. العجز عن اكتساب الوعى بعناصر هذا الانهيار، وفقدان روح التاريخ، وتعبر أيضا عن اليأس من أى تغيير أو انصلاح للأحوال على أى مستوي.
هل يمكن أن نقول: أن ثمة تحلل اجتماعى يحدث ؟
وعبارة التحلل الاجتماعى تساوى فكرة( سقوط الحضارة) سالفة الذكر. ولكى تصبح الاجابة منطقية علينا أن نرى وضع المثقفين – الذى هو ليس أحسن حالا من الجمهور – مع فروق فى بعض ردود الأفعال، والتى تأخذ من الجمهور هروبيته بأشكال عديدة، ثم تزيد عليه التلفيقية، والتبريرية، والتقولب.
- الجمهور له علة .
المثقفون لهم علل .
الحديث عن الأشجار يوشك أن يكون جريمة لأنه يعنى الصمت عن جرائم أشد هولا عن أحدى القصائد لـ ”بريخت”.
على أية حال اذا استثنينا الجزء الهارب من المثقفين – أن جازت الآن هذه التسمية – عن طريق الوسائل المألوفة – المباشرة – فى الهروب أو الوسائل المعدلة – مثل الارتداد الى مفاهيم رومانسية فى الفكر والابداع فأن التعمية والعجر قد يخلقان حيلا نفسية عديدة للتعامل مع هذا الواقع المؤلم والأفكار المهزومة. وثمة أمثلة عديدة لمثل هذه المناحي.. مثل مواجهة فشل الأفكار بالاتجاه نحو مزيد من الثقافة النظرية، والأغراق فى عوالم جزئية فى محاولة فهمها لفهم الواقع، أو التراجع- المستسلم – نحو تبنى أفكار وقيم الجمهور فى أقصى حالاته انهيارا، وهو ارتداد أشد سوءا من الجمهور ذاته – وأن أخذ نفس الصورة من زاوية عدم الثقة فى الأفكار أو التاريخ. أو الارتداد السلفى فى آحباط تاريخى بشع يحاول لى عنق المجتمع فى اتجاه الأفكار… أو الاحتماء فى كنف أفكار ينقصها الداب والاختبار – فيما يشبه المقولات الجاهزة – وهى حالة التقولب فى انتقائية أو تبريرية تعكس ثقة عمياء فى أفكار أسيرة الكتب أو الأدمغة – وهذه الحالة مع استمراريتها تبطل مفعول الدماغ تماما حيث أن أضخم المشاكل يمكن ابتسارها الى جملة أو جملتين قياسا على ظروف تاريخية أو خبرات تاريخية مشابهة… وهذه النمطية على درجة عالية من الضرر لأنها – كما يقال – تعنى القهر بالنموذج عوضا عن الاتحاد معه، وهى أقصى حالات الفصام الفكرى وأكثرها أسرار لديناميكية العقل والاكتشاف.
وهذه الحالات تعنى نصيب المثقفين من تهرؤ الواقع.. والعجز، ومن حيث أن الهروبية هى مظهره الرئيسي، يلى ذلك تصدير هذه الأنماط وطرق الفهم للجمهور باعتبار النموذجية المثقف. الى هنا وهذه الأنماط – خلافا للذى سيلى – تعكس درجة من الصدق – الصدق الخائب – فى التعامل مع الأزمة – أى التعامل مع الأزمة بروح الأزمة- روح التورط – وليس روح النهوض. أما الذى يستحق الارتياب من جانبنا – وجانب الجمهور عندما يدرك ذلك، فهم هؤلاء المفكرين – خاصة الذى بلغ مبلغ الرمز الاجتماعى – وهو ما يعلو على صفته كأديب أو حتى مفكر – أى رمز للتطور الاجتماعى لمرحلة ما، ليفاجئونا بما لم نعد العدة له من تأهيل نفسى كى نستقبل ما سوف يلقونه على وجوهنا من أحماض الأفكار.
سواء منهم من يجهر بأحلامه حول مد جسور الصداقة والبراءة والشفافية بين مصر واسرائيل.. وينظر لذلك مقيما الجمعيات والموائد لتفتيت الحواجز النفسية وابتداع مسميات ومصطلحات لا قبل لنا بها مسقطين عمدا حقائق التاريخ وكأن هذه الحقائق وجهات نظر فى لحظة( تجلي).
سواء هذا النوع من المثقفين أو هؤلاء الذين يمارسون الوعى وفقدانه بسهولة لا يحسدون عليها أيضا وكأن التاريخ دوار العمدة يروح المرء فيه ويجئ وفق حالته الخاصة.
أو هؤلاء الذين غرقوا حتى الركبتين فى مستنقع الواقع بجماله ،تدنيه الخاصين وجسدوه فنيا – أو هكذا أوحوا الينا – عبر عشرات الأعمال الأدبية والمقالات لينتهى بهم الحال فجأة الى علاقة ما مع خصم استهدف عالمهم روحا وعقلا قبل سنين وللآن طبعا.
خصم يشخص نفسه للعيون فى صورة بشعة تتجاوز أقصى قدرة انسانية على القتل والذبح، لم نجد لها وصفا فى التاريخ.
أو هؤلاء الذين يشغلون أنفسهم – حين يجد الجد – بالحديث حول القضايا التجزئية والتركيبية وعلاقة الزمان المكان بالنهائى والمحدود والتجريد والمنطقة…. الخ.
أو هؤلاء الذين يرون غاية الدين فى قص الشارب أو وجوب التطهر من ظل الكلب وظل القطة….
أو هؤلاء الذين ينطقون واضح القول حين يومئون الينا برءوسهم، ويشيرون بأصابعهم نحو الهاوية.. مثل هذه الرموز تشكل الآن تيارا اجتماعيا فكريا ذا ايديولوجية واضحة المعالم تتسق وجديد الأمور.. ومن ثم فيمكن أن نقول أنه قد توفرت لها قصدية الفعل، ومن غير المعقول أن يوصم رمز فكرى بالتضليل – أى أنه مضلل – أو بحسن النية التى يمتلئ الجحيم بأصحابها.. ولكن يمكن التأكد من أنهم يحاولون تعطيل التاريخ – وسوقنا نحو الهاوية.
ولنعد الآن بالحديث الى ما أسميناهم أصحاب الصدق الخائب. وسوف.. يهمنا ما قدمه البعض على المستوى الفنى ومجالات الابداع باعتباره التجسيد التلقائى لعوالم متعددة فى الضمير الفني.. فن أدواته – حتى فى حال الأزمة – هى الناس بحلوهم ومرهم، فضلا عن دوره فى زاوية أنه استمرار رغم الأزمة – أو لنقل أنه أستمرار حين توقف الآخرون.
الحديث عن الأشجار والتمزق وانسان القرن العشرين.
قلنا أن غالب الابداعات خاصة فى السنين التى أعقبت النكسة – و أنهيار الحلم الاجتماعى – وحتى الآن، باستثناءات قليلة ولفترات محدودة – كانت تعكس بصدق رد الفعل العام – لدى أكثر المبدعين حساسية وصدقا – وقلنا أيضا بغض النظر عن كون هذا الصدق خطأ أم صواب فى انسجامه مع الدور الاجتماعى للفنان، ونقصد أنها أخذت جميعا ملمحا – ليس مستهجنا فى حد ذاته – وهو تجسيد المعاناة والقهر الواقعين على روح الانسان – المصرى بالطبع – وقد أطلت بالرءوس فعلا تنويعات لم تكن للواقع المصرى خبرة بها – على المستويين الفنى والفكرى – سواء تلك الفوضوية، أو العبثية، أو العدمية.. كأصداء لحالات مشابهة فى الواقع الأوريى عطل الحلم الاجتماعى الضخم – تسربها قبل سقوطه. ولأن السقطات الاجتماعية – أو لنقل القومية – أو الاجهاضات الكبرى تكون عادة الظرف المهيئ لمثل هذه الاتجاهات فأن استمرارها يعنى فى الوقت ذاته استمرار لحالة الاجهاض القومى هذه.
وما من شك أن الخبرة النظرية بشأن هذه التنويعات لم تقدم حتى الآن – بمعنى صياغة الأفكار – نظرا لقصر الفترة التاريخية – الا أن صورتها الفنية سرت – سريان النار فى الهشيم – كما يقولون، الهشيم الذى هو خواء الواقع، وليس جديدا أن نذكر بالروح العامة للمنتوج الفنى والابداعى الزاعقة بأدانة الحياة، الاحساس بالغربة والوحشة، الايغال فى عوالم الماضي، أو الارتداد النكوصى الى عوالم الطفولة، أو خوض غمار عوالم داخلية ذاتية فى منحى سريالي، وأن نذكر أيضا بانتشار الاهتمام النقدى والمعرفى بابداعات كافكا، سارتر، دالي، ووايلد، واليوت.. الخ ذلك فى وقت كان المفترض فيه أن تنشأ عوالم خاصة حتى بروح المعاناة والتمزق على مستوى قهر الانسان المصري، والتى تختلف مثلا عن معاناة انسان طحنته الآلة الرأسمالية الجبارة، وتحولت لديه كل الشعارات الليبرالية الى شبح كاذب عندما تعمد حكوماته الى احتلال شعوب أخرى فقيرة.. وتقتل منها على سبيل المثال مليون مواطن كما حدث للجزائر.
ومن ثم استقرت لدى مثل هذه الشعوب تنويعات كالسابقة، وكاتجاهات – ليس فقط فى الفن والابداع -بل نمط حياة – صار له منظروه وفلاسفته الذين أفرزتهم أزمات مجتمع متطورة تاريخيا – أمتلك فيه الفرد – عبر كفاح طويل – حقوقا نحلم بعشرها، فنصبح فى عرف الطب مرضى بالوهم.. والأهم من ذلك أن كل تنويعه مما سلف كانت تعنى ضمن نمطيتها الحياتية موقفا اجتماعيا بل وسياسيا – بدرجة أو بأخرى – من قضايا المجتمع وليس بعيدا عن الذاكرة من حمل منهم لواء الكفاح ضد النازى – سارتر مثلا -، أو اسقاط جمهورية ديجول العظيم على أيدى الحركة الطلابية الفرنسية – رغم معرفتهم بما يدينون به وتدين به فرنسا لديجول .
عدمية الجوع …. والألم المقيم
مثل ما سبق هى تنويعات لم تضرب الجذر بعد فى الواقع المصرى وتعنى أصلا طريقة حياة وابداع خاصة بالمثقفين لم تمتد جذورها بعد لدى المواطن العادى – ولا حتى بحكم أنموذجية المثقف. لماذا؟.
لأن كان بها من التجاوز الفج عن وضعية خاصة لمجموعة من البشر – الكثير… مجموعة من البشر فى وطن تكمن معاناته فى تبعيته الاقتصادية والثقافية، وفى تحولات هائلة تقطع عليه سبل التطور التاريخي. وطن يموت فيه الآف الأطفال من الجفاف وسوء التغذية، وطن يعنى توفير أوتوبيس فيه ما يعينه اجراء تفجير نووى لدى شعب آخر – وطن يبلغ متوسط دخل الفرد الرسمى فيه ما لا يكفى لاطعام طفل. وطن ثلاثة أرباع أبنائه لا يعرفون الفرق – كما يقال – بين الألف وكوز الذرة. وطن يعنى فتح مدرسة أو مستشفى فى أحد قراه، ما يعينه النجاح فى أرسال سفينة آليه بلا بشر صول أجواز الفضاء، لدى شعب أوربي.
ألا يجوز أن نقول أن من يساوون بين نوعى المعاناة -لدينا ولدى الغرب – ويستعيرون أشكالا من الممارسات الاجتماعية لا تملك مقوماتها فى بنية مجتمعنا – والذين يتحدثون عن معاناه انسان القرن العشرين – أينما وجد -.. ألا يجور أن نقول أنهم يوسعون( يبهوقون) الموضوع أكثر مما يجب؟ وأنهم آثروا أن يعيشوا بأجسادهم فى الوطن، وبقلوبهم – وربما بعقولهم أيضا – فى مجتمعات تعنى لهم الحلم اليقظ، والنيرفانا التى لا تتحقق أبدا برغم عدد الضحايا؟ أن الفن بهذه الطريقة – وكذا الأفكار – لا يجسد كل الحقيقة، ولا يملك حتى قدرة على دفع الناس نحو فهم صحيح لهذه المعاناة، وهذا القهر، ولن نزيد (نحو التخلص منها بطريقة المشاركة الفعالة فى تغيير الواقع).
فوضى الأشياء
وبين شقى الرحى متمثلا فى أسباب خارج المثقفين مثل:
- وضع لا ديمقراطى وتعسف شديد فى التعامل معهم، وتحجيم دورهم الاجتماعى من قبل الحكومة والأجهزة، وعزلة الجمهور عنهم، ووقوعه تحت تأثير مقومات استلابه…
هذا من جانب، ومن جانب آخر تقبع أسباب داخلية مثل:
- العجز عن تملك فهم ما يمكنه تفسير التحولات الاجتماعية، ورؤية التاريخ، ومثل الوقوع فى شرك عدم ممارسة الأفكار – أيا كانت – واختبارها.
وبين هذا وذاك انتفت الفعالية المتبادلة بين المثقف والجمهور، وصارت العزلة الثقافية شاملة بصورة جعلت الدائرة مطردة نحو تحلل اجتماعى خطير.. لتصبح فوضى الأشياء عامة، والتغريب عاما.
لنقل الآن أن التجاوز عن فهم الحقائق التى تتعلق بالتطور التاريخى والمتمثلة أصلا فى الاحباط الليبرالى والتبعية، قد فرض نتائجه على مجمل ملامح الوطن.
ولنقل أيضا – ومؤقتا- أن الخلاص عن طريق أية اجتهادات خارج فهم هذه الحقيقة سوف يفتقد لشروط فعاليته، بقدر ما سيستمد خصومها -أى هذه الحقيقة – ودعاة التبعية وحماتها سميتهم من فهم الحقيقة ذاتها، واخضاع كل الأبنية الاجتماعية باتجاههم .
قلة منحرفة – نحو طريق الحقيقة
وسط هذا الركام الصعب، كان هناك قطاع من المثقفين لهم نفس مشاعر الأزمة، ولكن اختلفت ردود الفعل، سواء بتلمس جذور الأشياء فى الاجتهاد نحو فهم الواقع، والتغيرات التى تحدث فيه، أو حتى بالصمود الصوفى مولين الوجوه شطر بصيص من شعاع يرفض مغادرة الوطن الى حيث السلامة وعبق النفط، أو باستسهال ممارسة الهروب والعجز والتغنى بهما.بل وفى مواضع كثيرة بمحاولة تقديم رؤى فى مجال الثقافة، وربما أيضا فى أغلب قضايا الواقع، وتقديم ابداعات فنية بما يتفق مع رقى السبل التى ارتضوها. وفى بعض الأحيان خلقوها خلقا، مقتطعين من قروشهم القليلة ليقدموا عالما متصلا مع الجمهور – المدير لهم ظهره وربما قلبه -، عازفين عن دنيا النشر الحكومى والحصار البوليسي، متحملين تبعة ذلك من قوتهم، وربما بضع شهور من عمرهم فى السجن، بكل مصائبه وجماليته ورذائله – مصدر الابداع الحقيقي، ماضين فى طريق ملئ بالأحراش على جانبيه، يحاصرون فيه كما يحاصر الدرن والبلهارسيا – أو كما يجب أن يحاصر – مفضلين السعى نحو الغوص فى هذا الوعاء الملئ بالألوان والقاذورات وكائنات الالهام السحرية، الا وهو الجمهور العادى.
وليس خافيا عن الأعين – أو لعله يكون خافيا – ما يقدمه فنانو وأدباء المجلات والكتب ذات الألف نسخة توزيع والخسائر المتراكمة، ككتاب الماستر والفصليات والغير دوريات.
يحزنون.. ويفكرون.. ويعطون، يتلخبطون، ويحبطون، فلا يهربون ولا يرمون الكرسى فى الكلوب.. ويواصلون.. ويرون فعلا فى الحديث عن الأشجار، وطيور السنونو، معاناة انسان القرن العشرين – يرون فى مثل هذا الحديث، جريمة، لأنه يعنى الصمت عن جرائم أشد هولا…
[1] – أثناء الطبع حضر الى المجلة الشاب الثائر كاتب هذا المقال وكاد يبدى تحفظا على بعض اندفاعاته، لا ترابطه، وهو نفس ما أبداه بعض زملاء التحرير، والواقع أننا سعدنا بالمراجعة لا التراجع، ورجحنا أن الأفضل نشر الجرعة الفجة، ثم السماح بالنقد، والنقد الذاتى، حتى يمكن أن يكون حوارا يتجاوز ذلك الذى تم بين يوسف أدريس ووزير الثقافة!
ملحوظة: وصلنا هذا المقال قبل نشر مقال يوسف أدريس بزمن طويل.
[2] – ومن طريف الأمر أن أحد الأصدقاء ينوى اعداد كتاب بييلوجرافيا لمفكرينا الذين قتلناهم نحن الناس أو الحكام، أو طاردناهم.ضاربا عقله فى التاريخ منذ العصر العباسى الأول( والذى شهد ازدهارا فكريا وحضاريا عن عصره الثانى) مسبقاً الأمثله على ذلك من ابن مقفع الذى مات مقتولا، وبشار الذى اصطف الناس لرؤية حفل جلده، الى ابن المعتز الذى قتل، وعبد الحميد الكاتب الذى وضع عبد الجبار(صاحب الشرطة) راسه فى طست به زيت محمى حتى فطس، الى بديع الدين الهمذانى الذى مات مسموما ودفن نصف حى، الى أبن العلاء الذى طورد وشرد.. الى آخر ما سوف يضعه الصديق فى كتابه حتى مفكرينا المحدثين الذين دفعناهم نحو ممارسة الموت أو الجنون أو قتلهم كنجيب سرور أو محمود دياب أو أمل دنقل….. الخ، والى آخر ما سوف يملأ باقى صفحات الكتاب.
[3]– ذلك أنه برغم كون البشر هم مصدر الفكر الحقيقى ومنبع العطاء الفنى كذلك، فأنه أيضا صحيح دور الطليعة التى يفرزها ويغذيها الناس أنفسهم، ولكنها تمثل بالنسبة لهم دورا رياديا، خاصة فى مجتمعات العالم الثالث، وأكثر خصوصية تلك التى فى حالة تبعية اقتصادية وفكرية.
[4] – ولعلها شاخصة لنا العديد من التجارب التاريخية. ومن طريف القول ومؤلمة أن نذكر كم كلفت هذه الحقيقة شعبنا – الذى بفضل ذلك – وعلى سبيل المثال –غير لغته ثلاث مرات، وغير دينه أكثر من خمس مرات، وحمدا لله أن لم تصل الينا دعوة( سليمان المرشد) الذى أدعى الربوبية فى أوائل هذا القرن حتى صار عدد أتباعه – فى جبال العلويين بسوريا – أربعون ألفا بين قوم مسلمين تنص ديانتهم على أن لا نبى بعد محمد.
[5] – بالطبع لا يوجد مجال للحديث حول عقل واحد لأمة طبقية، ولكننا نستخدم التعبير مجازا.
[6]– وليس بعيدا عن آذننا وأعيننا هذا النوع من الدراسات التى تطلبها هيئات اقتصادية أمريكية من اساتذة وجامعيين مصريين، وتعلن عنها فى شكل مسابقات بحثية فى موضوعات من مثل: الميول الخاصة للشعب المصرى ومدى تأثر ذلك بالموروث، الملامح السوسيولوجية لمصر فى فترة معينة، أو خلال موقف تاريخى معين، طرق ممارسة الشعب للحياة وعلاقة ذلك بصعوبة تنفيذ برامج التنمية.، دراسات فىا للغة العامية، إيقاعها، دلالاتها الصوتية، وطرق استخدام الناس لهذه اللغة…. الخ.
[7] – وسوف لا تكون هذه المظاهر وقفا على توصيف انعكاسات أزمة الثقافة فقط، بقدر ما تعنى الأزمة العامة على أغلب المستويات –أزمة مجتمع كاملة – وما يتعلق يالثقافة هو أشكال ردود الفعل الاجتماعى تجاه الأزمة العامة.. بطريقة تشبه الى حد ما سلوك الفرد.
[8]– الكل فى كل اتجاه تايه، وكانه لم كانت بداية، ماعادت لشئ نهاية، الفقر صار سرمدى، والفزع أبدى. الشاعر أحمد عقل
[9] – من المفيد أن نذكر أن بعث الفكر السلفى بل وأغلب مظاهر الأزمة لدى الجمهور أنما هو تنشيط لموروث اقطاعى من القيم لازال متغلغلا فى بنية المجتمع الفوقية – مما هيا حتى لترتيب البنية التحتية لما آلت إليه أخيرا من تبعية اقتصادية، وهو ما سيتصل الحديث فيه حول الجذور التاريخية لأزمة الثقافة.
[10]– قد يكون من الطريف أن اروى فكاهة ذات دلالة( اذ فاجأنا مرة الطبيب الأقدم فى العمل- عند فحصه لأحد المرضى بقوله: ماحدش يكتب درجة حرارة المريض فى التذكرة، وقبل أن نسأله ليه؟ قال لأنه لا درجة حرارة غير التى تعلنها الحكومة فى الجرنال .. ماتودوناش فى داهية. وهى توجز بالطبع احساسا ما بأزمة افتقاد الديمقراطية هذه، وتعكس طريقة كوميدية للاستسلام – التى برغم كونها دعابة فهى تعنى جزءا من الحقيقة- حقيقة الاستسلام- على أى حال.