عدد يوليو 1984
المخالسة
محمد المخزنجى
عندما فتحت له، فذكر اسمى، وذكر اسمه، وعرفنى نفسه: “شرطى سرى من مديرية الأمن”، اندهشت مضطربا، ومكثت مرتبكا للحظات فى حلق الباب دون أن أدعوه للدخول:” تفضل” فأنا رجل مسالم، لا أذكر أننى دخلت قسما للبوليس مرة، وأكاد أن أكون مخلصا حتى النخاع لكل حرف فى كلمات الحكم العظيمة من مثل:” دع ما ل قيصر لقيصر. ودع مال الله لـ الله”، و”لا تتدخل فيما لا يعنيك فتسمع – على الأقل – مالا يرضيك”: ولولا أننى أخاف افزاع طفلى الحبيين الوديعين واثارة استغراب الآخرين لعلقت فى كل أرجاء البيت والعيادة ومكتبى فى المستشفى صورا مكررة للقرود الثلاثة القاعدين القرفصاء: يغمى أولهم عينيه ويسد الثانى أذنيه ويكمم الثالث فمه، يدعون الى: لا أرى، لا أسمع، ولا أتكلم، ايثارا للسلامة. ثم أننى انسان لا أعداء له، بل ولا – حتى – أصدقاء، بالمعنى العميق لكلمتى: العداء، والصداقة. وقولى المأثور الأثير هو:” أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما”. لا أغوص أبدا فى أى شئ، ولا أحب الغوص لأننى أعتقد أن أى غواص مهما احترف معرض يوما للغرق. حتى فى عملى لا أحب الغوص، ولا أومن فى جداه. ولقد أثبت سجل عملى نجاحا باهرا لتطبيقى وجهه النظر التى أبداها البروفيسير “جا. واليس” فى مرجعه المختصر المفيد والتى أقدسها، وتقول:” بما أن السبب المنشئ للمرض النفسى – بالضبط، بالضبط – غير معروف، فعليك بالأعراض”، وفقط.
ومع ذلك، كنت مرعوبا من هذا التيه المفزع الذى رمانى المخبر الجالس فى صالون بيتى، يشرب الشاى، وأنا ألح عليه كى يقول لى لماذا أنا مطلوب للأمن؟ وهو، يهز رأسه اشارة عدم المعرفة، ويرتشف الشاى بصوت مرتفع أضحك طفلى، ولم تضحك له زوجتى التى وقفت شاحبة الى جوارى.. شاحبة خائفة ومع ذلك لم تفقد حساسية المرأة هذا الذكاء الأنثوى الذى يلتقط بريق الأنامل أدق الخيوط وأهمها فى أعقد نسيج كان، فبعد أن قدمت اليه” البمبونيره” ليأخذ واحدة من الشيكولاتة –لاكها فى فمه بسرعة – أصرت أن يأخذ المزيد، وسحبته: “عندك أولاد؟”، “خمسة”، فضربت الخمسة فى أربعة ولفت فى ثوان قليلة عشربن قطعة من الشيكولاتة الكبيرة بالبندق:” للأولاد”، فانشرح وتململ، وأطلق من فمه حمامة طمأنينتنا: “لا تقلقى يا هانم، الدكتور مطلوب لسؤاله عن زميل له مقبوض عليه للاشتباه”.
ماذا فعلت يا حسين يا منصورى؟ ظل السؤال يحاصرنى وأنا أرتدى ملابسى لأخرج، وأنا أهبط سلم بيتى، وأنا فى الطريق الى مديرية الأمن. وحسين المنصورى طيف يطالعنى فى كل خطوة، بوجهه المدهوش الذى يشبه وجه صبى ويوحى بوجه شيخ فى ذات اللحظة، يسبح حولى بجسمه الصغير وأراه شاردا رغم قلق العينين المغروقتين دائما. قلت لك يا حسين يا منصورى مالنا نحن وما للقلق عندما رحت تنبش وتحفر فى مواضيع متعبة: مرة عن علاقة الاحباط بالتطرف، ومرة عن اكتئاب النساء وسفر الرجال، ومرة عن جنون الأطفال فى غياب الأمهات.
وقلت لك ستروح فى داهية عندما أثرت قضية ضرورة أن يكون للطب النفسى رأى فى كل المشاكل الاجتماعية وفى الصلاحية النفسية لشخصيات الكبار. وقلت لك لا تعرض نفسك للحرج والخطر عندما تلبثك العناد أن تذهب بعيدا فى بحث جوانب موضوع حالات التحول الهستيرى المتكررة وسط المنقبات اذا كن يجئن بالعمى، والخرس،والغيبوبة، وفقد الاحساس، والشلل – الهستيرى جميعا. تظل تناقشهن طويلا بعد أن يشفين، وهن يقاومن، تتكلم عن ابن كثير وابن حزم والألبانى ومن لا أعرف أسماءهم، تقرأ عليهن آيات فتقول” لا نص فى آيات وتقول.. هناك أحاديث كثيرة أقرت السفور ولم تطلب من المرأة لا تغطية عين ولاعينين. وأراك بعد أن ينصرفن متوترا تروح وتجئ، تردد: اختيار أم انقهار؟ انصياع أم اقتناع. ثم تبادرنى وأنا لا شأن لى بذلك: لماذا يخترن الأعسر الأعسر والأعنت الأعنت والأغلظ الأغلظ. تسألنى بماذا أفسر تناقض التركيبة النفسية الهشة للهستيريات مع ما يبدين من قوة فى التعصب. وعندما حاولت أن اكفك بالهذر عن الايغال قائلا: سل نفسك وجدتك تستسلم بسهولة أدهشتنى وأنت تقول: بكونك قالوا قف على حافة الجرف يرى ما وراءه من بسطة الأرض أن استدار، ويبصر حقيقة الهوة أن أطل على أسفل. فأمسكت أنا. وظلت تشغلك حالات المنقبات الهستيريات فتغرق فى البحث عما تسميه “سيكلوجية التخفى”. وصرت أضيق باسئلتك الحيرى: ماهى سيكولوجية انسان يراقب العالم ثقبين وهو مختف؟
ماهى سيكلوجية انسان يضل يرى العالم من وراء منظار وهو يعلم ان أحدا لا يراه؟ ماهى سيكلوجية من ينظر خلال عين الباب السحرية طوال الوقت وهو عارف أن احدا لا ينتبه اليه؟ وعندما عرفت أنك أبلغت تطلب أجازة، وانقطعت عن المجئ، وانقطعت عنى أخبارك منذ شهرين، ذهبت الى شقتك الصغيرة ولفت نظرى التماع العين السحرية فى دكنة خشب الباب، فهل كنت هناك طوال الوقت وأنا أضرب الجرس وأطرق دون مجيب؟ أم ماذا؟ ما شأنى انا؟.
وما ذنبى يا حسين يامنصورى لتضعنى فى هذا القلق، والخوف يزايلنى أدخل المبنى الرهيب.. ردهات جهمة وعساكر متيبسون أمام الأبواب، ومخبرون يروحون ويجيئون بسرعة وملامحهم توحى بالتكتم الأصم. ووقفت برعبى من خطر غامض ثم أخلونى أمام رهبة السلطة وبريق النسور والنجوم المخيف، لكن جنابه دعانى الى الجلوس بلطف زائد” تفضل يادكتور”، وسألنى عما اشرب، فشكرته لاهجا بالثناء، وكدت أهب لتقبيله.
***
قال جنابة لى أنهم ضبطوه متخف فى زى امرأة منقبة يتجول فى الشوراع بين الناس، وقال لى أنهم عندما قبضوا عليه وأزاحوا عن وجهه النقاب كان يخفى وجهه بيديه مضطربا كطفل خجلان أو كمن يبهره النور بعد ظلمة، وظل يخفى وجهه ولميتكلم. وعندما فتشوا فى جيب بنطلونه الرجالى الذى أبقاه تحت الجلبات النسائى الضافى وجدوا بطاقته وكرنيه النقابة وبطاقة عضوية جمعية “الطب النفس” وقال لى أنهم عندما تحروا عنه عرفوا أنه وحيد وليس له أقارب أو اصدقاء بالمدينة، ويعمل معى، ومن ثم لم يجدوا غيرى يعرفه. وقال لى أنهم آسفون لازعاجى وقد اضطروا للاستعانة بى لعله يتكلم، ونهض وقادنى خلال ردهات كان يعبرها فيتشنج كل شئ بالتحية العسكرية ثم نزلنا درجا يفضى الى بدروم معتم ودهاليز مضاءة بمصابيخ كابية وصلصلت بوابة حديدية تتفتح فرأيت صفا من الغرف الموصدة أبوابها السوداء، وجاء عساكر يحمل أحدهم كشافا ينير فى العتمة، وفتحوا بابا ودخلوا ودخلت ونادى جنابه بصوت رهيب: أظن ستتكلم يا حسين يا منصورى، وضربوا بضوء الكشاف فى الركن، ولولا أنى أخبرت سلفا بأنى ذاهب اليه لما عرفته فقد كان فى الركن قاعد القرفصاء مخيما على نفسه ببطانية رمادية يطل من شق بين طرفيها. كان واضحا أنهم يطلبون منى محادثته فانحنيت عليه أناديه: “دكتور حسين يا دكتور حسين”، وكنت أزيح عن وجهه أطراف البطانية فيعيدها بشكل آلى، “دكتور حسين”…. حسين”، لكن وجهه المحايد التساحب لم يرد النداء، ثم أنه انسحب داخلا فى مكمنه الرمادى، وأنا أستوى واقفا لا أكرر المحاولة.