عدد يوليو 1984
الليلة تواتينى الرغبة
السيد أحمد زرد
كوبا من الشاى تم غليه عديد من المرات، أحس بطعم الدنيا. مشاعرى فى هذه اللحظة تكاد أن تكون هادئة، بل تقترب من التبلد.. وهدا يجعلنى أشمئز.
الليلة، رأسى خفيف لا يثقله الصداع المعتاد.. كل الأشياء من حولى تبدو مألوفة.. مألوفة الى حد الذى يدفع بحواسى نحو الشلل، بسبب عدم الاحتياج اليها فى التعرف على الأشياء، فهى معروفة سلفا. لم يبق لدى سوى احساس واحد، على أن استقطره وأمتصه حتى النهاية.. أنه الاحساس بأنى زائد.. فائض عن الحاجة.. ليس لوجودى أهمية ولا جدوي.. أستحلب هذا الاحساس المراهق الى حد ابتذاله، فأشمئز وأكاد أتقيا.
استنفذ العالم كل الحماقات الممكنة تجاهي، لم يبق سوى درب العقل البارد على أن أقطعه دون امكان الهرب والاختباء فى أزقة الوهم الحنونة… دائما كنت أنزع الى الفرار.. لقد عشت الحياة فرارا، دون أن أستطيع تحديد مم والأم أفر!
الآن، أعلم أن الزمن الأفعى قد فر، ومضت مواسم الانبهار، وكلمة السر العجيبة لم تنطق… فأحاول أن أرسم على الجدار وجه محبوبتى الذى نسيته… وأرتجف.
لم يبق فى شيئا لم يهزم.. طعنات الرماح والسيوف والخناجر والبصاق لن تترك فى روحى جزءا غير مدمي.
فتشت خلف كل الأبواب.. نبشت مسطورات الأسلاف.. دسست أنفى فى صور الحياة.. علنى أصل الى حقيقة .. علنى أحصل على ملء قبضة من السعادة.. لكن ها أنا ممدد على فراشي.. الحزن ينكأ جراحي، فتنبثق الخيبة والمرارة.
الليلة، تواتينى الرغبة فى مكاشفتك بالسر ومطارحتك الحزن.. فهل تقبلين؟
ها أنا أتهيأ للحدث.. فأرسم صورتك على ورقة صفراء وأحرقها، ملتذا برؤيتك تتلوين، ولا يبق منك سوى رماد هش أذروه مرددا تعويذتي: أحبك… أحبك.. أحبك.. فهل نبدأ؟
طفولتى طالت.. سقطت من ذاكرتى ولكنها تركت فى نفسى أثرا لا أعرف مداه.. مزخرا عن المألوف بدأت أتعرف العالم.. جدران بيتنا القديم كانت تفصل عالمين.. أحضان أمى كانت شرنقتي… الى أن وجدت نفسى مضيعا فى الخلاء، فبدأت أتعرف العالم، لكن احساسا بالمرارة كان قد ترسب.. لما اكتويت بالنار صرخت: منذ الذى يشفع لى عنده؟ ولما زاد الاكتواء عرفت، فمنذا الذى يشفع له عندي؟
لم أبك أمى الا بعد موتها بثلاث ليال.. تمسحت بعتبات بيوت الاله.. تضرعت اليه أن تدخل وأفعل شيئا،لأننى لم أتحمل.. أنها أمى التى كانت تبكى فى صمت، وتركتنى دون أن تبادلنى الكلام.. أنها أمى التى حين يخذلها الزمان كانت تحتضني، وحين يبزغ الهلال – أول كل شهر – تتلو الدعاء وتلثم جبهتي.
قالت التى كنت أحبها أحبها بالزمن الأول: لم أنت دوما حزين؟.. فأشرت الى السماء مرة والى الأرض مرة، وأدرت وجهي.. من علم الرأس التدحرج حين يهوى السيف؟!
كانت قصيرة.. وأنا الآخر قصير.. لم تكن بالنحفية ولا بالمترهلة… كانت بيضاء.. بيضاء، وصوتها عذب وكنت أحبها وهى لم تكن أنت، لأن ذلك كان بالزمن الأول.
لم يكن الاله قد مات بعد، والسزم لم يكن قد سكن روحي.. أما الحزن فقد كان دوما هناك.
قالت: أتعلم أننى انتظرت قدومك عند الفجر، رغم أننى أوقن أنه من المستحيل أن تجئ؟.. وشم الفتى الذى كنته التراب بعلامة استفهام، وحدق طويلا فى الشمس المشرقة على الأفول.. وأدرك – على نحو مبهم – أن الانسان هو حامل السر العظيم، وأنه يمكنه التجلى فى ألفى صورة.
من جاع يوما، يظل أبد الدهر جائعا.. من قرصت نحلة الشك روحه، يظل يعذبه التساؤل.. نظرت الي.. ألقت بطرف عينيها السؤال.. طأطأت رأسي، ونزعت من دفترى ورقة صنعت منها مركبا لا يصلح للسفر.
الليلة، ليست لدى رغبة ولا قدرة على محاكمتك والحكم عليك… فدعينى أتأمل عينيك ونتصارح.. أيبرر الحزن البكاء، أم الحزن يبرره البكاء؟.. فمن يمتلئ بضحك رنان أجوف.. سأضحك وأضحك واضحك، حتى أميت قلبى الملعون، وأكف عن الحب. تنفجر فى سماء رأسى الصواريخ الكرنفالية بألوانها المتعددة، وتضج الجماهير المحتشدة فى قاع الجمجمة بالهتاف.. حين كشفت اليد الرحيمة عنى الغطاء.. رأيتك، وكنت تتخلقين أمامي، حتى استويت سنديانة عجوز تخرج من قلبى العاشق.. فجعلت أتآمل وأحلم.. أتأمل وأحلم.. حتى رأيت نفسى اخضرارا، وعادت الريح تعزف اللحن القديم.
يامن لك طعم ترنيمة عتيقة، صمتك المغناج كان شهرة بالرأس وفرحة تعدل كل سنوات الجفاف.
الليلة، ليست لدى رغبة ولا قدرة على محاكمتك والحكم عليك.. فدعينى أتامل عينيك ونتصارح.. هاهى أزمنة الرعب جاءت تحيل حبنا ارتعابا وغنائنا ارتعابا، والتبسم ارتعابا.. ها هى الأيام لا تصعد، بل تستدير على نفسها.. لذا فالبحث عن البدء حماقة، والسعى للمنتهى عبث.
ها أنا أكتشف الحقيقة، ولا أستطيع البوح.. قد محى اله الشعر – من صدرى – العروض، فكيف أنظم القصيد؟!
ها أنا مفرد فى زمن التثنية، أحاول مكاشفة صورة باهتة بالسر ومطارحتها الحزن .. فأسقط فى مملكة الصوت المتماوج أبدا.