عدد يوليو 1984
الحصار
وفـاء
تكاسلت عن رفع بقايا العشاء لمتابعة سهرة التليفزيون دفعا للملل وجلبا للنعاس. راقبته وهو يرفع عنها بقايا العشاء على خلاف العادة.
كان تعبير وجهه يفصح عما يريد. ولما لم يجد أى رد فعل ظهر ارتباكه وبنفاد صبر أخبرها أنه سيسبقها الى الفراش فردت بأنها ستتبعه بعد قليل. فى الحمام ضحكت بسخرية مريرة حين تصورت ما ينتظرها. وباستسلام يائس تمددت بجواره.
بعد جولة فى الأسواق لشراء طلبات الصغار، عادت بأقل من نصف ما يحتاجون اليه بسبب جنون الأسعار. وفى أثناء العودة تذكرت فجأة الجلاد الأحمر الذى طلبته الصغيرة حتى لا تعاقبها المدرسة. بحثت فى الشارع الذى كان يعج بالمكتبات عن واحدة بدون جدوي. كان الشارع مكتظا بالبوتيكات ومحال قطع الغيار بديلا. بعد طول بحث وجدت مكتبة عتيقة توشك أن تغلق أبوابها فقد بلغت الساعة الثامنة تماما. كان البائع قد أغلق نصف الباب فدلفت من النصف المفتوح بسرعة وألحت عليه أن يبيعها فرخ جلاد أحمر. خطفته من يده بسرعة وأسرعت لتلحق بالأولاد قبل أن يغلبهم النعاس. لاحقها صوت، كان لجندى فى الخدمة العسكرية ببزته الكاكى الكالحة المتغضنة والتى تهدلت على جسده الضيئل الجاف. كان منظره مثيرا للرثاء بضحكته البلهاء ومشيته غير المتزنة لعدم تناسب قياس حذائه الميرى مع حجم قدميه. غص حلقها بالمرارة حين تصورته محاربا. ذكرتها تلك المرارة برئيسها فى عملها السابق الذى كان يثور عليها، كانت تدرك أن هذا هو اخر يوم لها فى العمل تحت رئاسته.
فى المساء وعلى الفراش أحست بحاجتها للاقتراب من زوجها، ولكنها استدارت وأعطته ظهرها حين أدركت أنه فهم شيئا آخر.
استيقظت صباحا على صوت ضجيج أطفال المدرسة المجاورة فهرولت الى غرفة الصغار لايقاظهم، وفى أثناء اعدادها طعام الافطار تذكرت حلم أمس، وتعجبت لأنها مرة تحلم أن زوجها يخونها برغم ادراكها أن الخيانة فى الحلم تعنى شيئا آخر.
وقفت فى الشرفة تودع الصغار للمدرسة. كان الشارع مكتظا بالناس على اختلاف أعمارهم وهم يهرولون فى اتجاه واحد وكآنهم الى هدف مشترك يسيرون. بعد ابتعاد الصغار استدارت لتغلق الشرفة وتنتظر وحيدة بلا هدف.
آدرات مفتاح الراديو لتبحث عن شئ يشدها، وحين فشلت أغنيتها العاطفية المفضلة فى تحريك مشاعرها أصابها الجزع من فكرة توقفها عن الاحساس بنبض الأشياء.
جلست لتتابع حلقات المسلسل التليفزيونى الفرنسي. كان صيادو سيبيريا يشقون طبقة الجليد المكثف التى غطت سطح البحيرة بحرابهم الخاصة لجلب السمك. كان منظر السمكة الحية فى يد الصياد وسط هذا الجمود والجفاف غنيا عن كل تعبير. تذكرت فى تلك اللحظة أنها قرأت لكاتب لا تذكر اسمه أن الانسان هو أكثر المخلوقات بعدا عن الطبيعة وأن هذا البعد عن الطبيعة يزداد يوما بعد يوم، وقد علل كاتب هذا الكلام شقاء الانسان هذا العصر وافتقاده الدافع والهدف ببعده عن الطبيعة.
نظرت حولها فاذا بالزرع الذى كانت تعنى به يكاد يذبل من العطش والاهمال. وبحماس مفاجئ بدأت تروى الزرع وتعيد ترتيب الأصص.
وفى أثناء اعدادها طعام الغذاء وجدت براعم صغيرة قد نبتت لاحدى حبات البطاطس من تأثير الرطوبة. أخذت الحبة ووضعتها فى أناء انتقته بعناية وروتها بالماء ومن يومها وهى تنتظر شروق الشمس كل صباح لتغير الماء وترقب النمو البطئ للفرع الأخضر.