عدد يناير 1983
الافتتاحية
– 1 –
السنة الرابعة؟.
نعــــم !!.
العدد الثالث عشر، وما زلنا نحاول، وكنا نتمنى آن نتعرف على أبعاد محاولتنا من قرائنا الذين لا نعرفهم، الا أن صدور العددين الأخيرين متأخرين عن موعدهما بعض الشئ، وصعوبة المأزق الذى رضينا باختياره، جعلانا نتحسس طريقنا – رغم العام الرابع – بالانطباع والترجيح، وليس بالمعلومات والحوار الكافى مع القاعدة الأوسع (1).
لكن مبادرات فردية كادت تكفى وتنير، توضيحاً للمسار، والزاما بالاستمرار، فقد تقدم لنا محرر علمى متفتح – محمد فتحى عبد الفتاح – بمقال عن العبقرية والتربية كان قد قبل للنشر فعلا فى الزميلة العربى تقدم به مهرا(على حد قوله) لمجلتنا المتواضعة وجمعيتنا المحدودة، وحين ناقشته حول هذه التضحية المادية(نحن لا ندفع مليما لأى محرر بالمقارنة بما يزيد عن المائة جنيه على الأقل بالعملة الصعبة فى الزميلة العربية)، والتضحية الأدبية(ما يزيد عن ربع مليون قارئ -العربي- فى مقابل بضع مئات من قراء مجهولين) قال آنه يعرف ما يفعل، ويريد آن يسهم من حيث يستطيع وبما يستطيع، وكان قبل ذلك قد كتب لنا خطابا رقيقا يوضح فيه أنه وجدنا (المجلة) مثلما يجد المصرى المغترب مصريا مغتربا بلدياته فى أحد شوراع أوربا فيصيح الواحد لآخر “أهلا وسهلا،بلديات!!”، حدث فردى، الا أنه كاف .
***
أما المبادرة الثانية فكانت من الصديق عصمت دواستاشى، الفنان التشكيلى(السكندرى) الذى كان لهذه المجلة شرف استقباله منذ البداية فى سلسلة لوحات ‘الصمت’، والذى تفضل بذكر ذلك – شاكرا مشكورا – حين صدرت مجموعته أخيرا فى كتيب مخترق رائع، فهو من أهلنا رغم أننا لم نتلق قبلا أبدا، وقد أجاب على الأسئلة المطروحة بمنتهى الدقة والأمانة، ثم تفضل فقدم خدماته – تبرعا – فى الاسهام فى تطوير الشكل بما يناسب الرسالة والمحتوى.
فضل يأتى من أهله، فماذا نريد أكثر من ذلك؟.
***
ثم يكلمنى هاتفيا الشاب النابه رفعت لقوشة الذى يكمل دراسته( الزراعة) فى فرنسا ويتصل بى فى كل أجازة، ويقول لنا أحيانا كلمة طيبة، ويكتب لنا صفحة أو اثنتين من غربته، يكلمنى وهو مشفق علينا أن نكون قد توقفنا( لما لم تصل اليه الأعداد المنتظمة) وأقول له أننا لم نتوقف (بعد).
وهكذا: قد لا نتوقف أبدا.
- 2 -
وأدعو الأصدقاء الثلاثة لمشاركتنا فى الاجتماع الموسع من مجلس الادارة ولجنة المجلة، ويتم ذلك مساء الخميس السادس عشر من ديسمبر سنة 1982 ويدور حوار.
ويطلب رفعت لقوشة تحديد معنى اجرائى لمفهوم التطور الذى تتبناه المجلة، مذكرا ايانا بأنه قد شاع استعمال الكلمة( مثل كلمات أخرى) بدرجة اختلطت فيها المضامين وتداخلت حتى ضاعت معالم القضية التى يمكن آن تندرج تحت كلمة ما. ،نرد بأن هذه المجلة ليست مجلة عن التطور وأنما هى مجلة للتطور، وأن حرف العطف هنا(الواو) له أهمية خاصة، فقضيتنا هى الانسان، وغايتنا هى حفز التطور الذى بدونه لا يصبح الانسان آنسانا، ووسيلتنا الكلمة، الا أننا عنينا منذ البداية أن تقترب من افتراض محتمل وهى أن نتبنى ما يمكن أن يسمى الكلمة – الفعل، حتى لا نصبح مجرد مثقفين نغترب فى ألفاظنا عن واقعنا، أو ننفس عن توترنا برؤية آسمائنا مطبوعة، حاولنا ذلك ولا نعرف مدى نجاحنا، الا أن الصمت الذى يقابل به صدورنا من مجتمع المثقفين المعروف قد يؤكد أننا نجحنا وليس العكس، فالصمت قد يحمل الرفض مثلما يحمل التردد أو الانتظار أو التحدى، وكل هذا قد يشير الى نجاحنا فى تحقيق شئ مختلف، شئ ما لم يتضح بالدرجة الكافية، وقد لا يتضح أبدا هذا الشئ الذى يرفض الاغتراب فى الكلمة حتى لو كانت رائعة مصقولة كما يرفض التناثر فى التجريب ولو كان فجا مثيرا، وقد سبق أن أوضحنا أملنا الصعب – قبل المستحيل – اذ نبحث عن القارئ الذى يعيش القراءة فيرى الكلمات على الورق أحياء تنادى، وتتسابق وتتحدى، وتغيظ، وتعرى، وتصر، ،وتقلق، وتصاحب، وتطمئن، وتدفع، وتدمى، وتتلقى…..و…. وبالتالى تصبح المعرفة خطورة ابداعية وطاقة خلاقة لا تدع صاحبها حيث هو، حتى لو قالت له ما كان يظن أنه يعرف قبلها (افتتاحية عدد يوليو 1982: ص4) ولعل هذا بالذات هو ما يصرف المثقف التقليدى عنا، وهو هو ما يصورنا بشكل غامض اذ لا يحتوينا قالب جاهز من بين القوالب المعروفة، وقد كان هذا الغموض المقصود واللازم معا هو الرد على الصديق لقوشة ضد فكرة تحديد مفهوم للتطور نتفق عليه وندافع عنه ونتلقى نقده ونرد عليه، حيث أكدنا أن وظيفة المجلة هى التأكيد على أن: ثمة “سهما” يؤكد اتجاه المسيرة، وثمة تصعيدا يهيئ المزيد من اتساع الرؤية وتعميق الوعى وتأكيد فعل التكامل الجدلى المستمر، واذا فالتطور الذى نعنيه هو مسيرة الابداع وبمجرد آن نقول ابداعا فقد لزم عدم تحديد النتاج وأن كان قد تم تحديد الأصالة وتحمل الغموض واستمرار الحركة فى نفس اللحظة، فالتطور الذى تدعو اليه المجلة، أو بتعبير أدق الذى تمارسه الكلمة فى هذه المجلة هو فعل الابداع، ولابد أن نؤكد – ثانية – عدم الترادف بين الابداع والانتاج الفنى، فالابداع التطورى هو المسيرة العادية( ليس بالمعنى الاحصائى) لكل فرد يتجدد باستمرار لأنه باستمرار( من المهد الى اللحد كما يقولون بل بعد اللحد كما سنرى).
ويبادر الفنان عصمت دواستاشى – وهو يلتقى بنا لأول مرة – فيطمئننا الى أن موضوع استمرار المجلة ليس مطروحا للنقاش أصلا، فقد صدرت واستمرت ثلاث سنوات بالتمام، ولسوف تستمر حتما حتى ضد آرادة – وتعقل – من أصدروها، ويضيف بأن للمجلة حضورا فى المجتمع الثقافى حتى لو لم نعلم نحن به، وأن ثمة ارتباطا قد توثق بينها وبين العديد من ناسنا الذين يحالوون مثلنا فى تواز لا يسمح – حاليا – بالاتصال المباشر، ثم يشرح كيف أن شخصية المجلة قة تبلورت خلال عمرها القصير بحيث أصبحت ذات معالم ما وأن كانت دلالة هذه المعالم لم تكسب اسما معروفا أو تصنيفا شائعا، وأن المفروض فى المرحلة التالية أن يتواءم شكلها الاخراجى مع محتواها بحيث تستطيع أن تضغط على القارئ( على حد تعبيره) وهى تفرض نفسها على وعى المثقف المتلقى، الذى قد يغفلها دفاعا أو تهاونا أو تحديا رغم أنه فى مسيس الحاجة الى مثل هذا النوع من النشر الآخر.
يطمئننا فلا نملك الا أن نستمر.
ثم يأتى الدور على ضيفنا الثالث محمد فتحى عبد الفتاح وخبرته كمحرر علمى له تجربته التى تمرس بها خلال عشر سنوات: أن هذه المجلة تقول شيئا لا ينبغى أن يتوقف،( ملحوظة: نكتشف بعد قليل أنه أصلا مبدع أدبى لم يتفرغ، اقرأ قصته: أيضا!!) ونفهم أن هذا الشئ هو الذى دفعه الى المشاركة بهذا المهر، ويعود رفعت لقوشة بشرح وجهة نظره فى شرط التحديد المبدئى والاجرائى لما تمثله كلمة التطور ومن ثم المجلة، فنخاف من سور الأيديولوجية الذى يمكن أن يلتف حول حركة عقولنا دون أن ندرى، ورغم رفضه – كما يقول – لكل الأيديولوجيات المسبقة فقد بدى مصرا على أن هذا التحديد هو آجراء منهجى وليس التزاما مذهبيا، وحين يأتى الرد -ثانى – بأن التطور – الابداع هو تحريك الى أعلى مجهول بالضرورة، لا يقتنع رفعت تماما لدرجة أن يقترح أن يوجد ثمة كلمات قليلة تتصدر كل عدد تشير حتى الى هذه الفكرة عن التحريك / الابداع ونخاف الشعارات، والتعود، ونعتذز.
ثم تأتى نقطة الانتشار، ويقترح رفعت أن يكون لنا من يمثلنا فى كل جامعة وبالتالى يصبح هو بمثابة قناة اتصال مع مجتمع كامل من العقول الشابة والفكر المتميز، ونشك فى واقعية هذا الدور وامكان الاسهام فى رسالة المجلة من خلاله ويدور نقاش يذكرنا بعدم الترادف بين الجامعى والمثقف، ويحذرنا من الفكر التقليدى الذى كاد أن يصبح طاغيا على الفكر الجامعى، وخاصة بالنسبة للكوادر الأعلى، ويثار بديل طيب حين نكتشف أننا ننتمى أكثر وأكثر الى مجاميع المثقفين التجريبيين فى الأقاليم خاصة، أو الى ابداعات غير المختصين فى أى مكان، ونتفق على محاولة طرق هذه الأبواب الأكثر تواضعا والأكرم عطاء.
***
ثم يتطور النقاش حول الشكل فنكاد نتفق – بناء على اقتراحات دواستاشى – على ازالة الحواجز بين القسم الأول والقسم الثانى وآن ترتب المادة بلا تحديد خائف، وأن تزداد المادة المختصرة والمركزة بين المواد الدسمة المطولة بالاضافة الى تغيير فى شكل الغلاف وتفاصيل الترتيب، وافقنا ونحن نودع ما ألفنا فى ألم طيب مناسب.
***
– 3 –
وقد يكون محزنا ومفرحا معا، أن يتواكب صدور هذا العدد مع احتجاب مجلتين ثقافيتين(الجديد، الثقافة) وولادة مجلة جديدة ابداع، وأن صح ما بلعنا حول ما وصل اليه توزيع هاتين الشقيقتين فان الأمر يحتاج وقفه، وآن كان الألم فى اختفاء أى كلمة هادفة لابد آن يصاحبه تعلم أمين من التجربة، فالقارئ الحساس قد حكم بالافلاس على فكر نعتقد أنه كان له دور ما فى حياتنا الثقافية مهما اختلفنا حوله، وربما كان لاختلاط المواقف والافتقار الى الحوار الحقيقى دور فى عدم التجاوب الذى أدى لهذه النتيجة، أما الوليدة الجديدة فعلينا أن نأمل أن تتجنب ما تعلمناه من المرحلة السابقة، لتنبض باحتياجات هذه المرحلة وتسهم فى تطويرها، والاسم جد خطير”ابداع” فهل يكون المحتوى بنفس الشجاعة؟ أهلا وأملا.
***
هـذا العــدد
على ذلك فسوف يجدنا القارئ فى هذا العدد كما نحن بعد أن استوعبنا النقد الضرورى وحاولنا تنفيـذ بعض الاقتراحات دون أن تتغير الرسالة أو يتشتت الهدف.
فيبدأ العدد بما اعتاد أن تنتهى به الأعداد السابقة، يبدأ بالحوار الذى عاد يفرض نفسه بنشاط مبهر رغم كل المحاورين المحررين فى أن تكون لهم الكلمة الأخيرة، على أن هذه المزية الظالمة يتضاءل دورها حين نتذكر أن المقصود من هذا الباب ليس نصر فلان على فلان، ولكنها طريقة لتوضيح جوانب المسألة سعيا الى مزيد من الاضاءة فى سعينا الى الحقيقة، وبديهى أن أى رأى منتصر هو منهزم لو تجمد عند لحظته، فكل الآراء المنتصرة عادت فانهزمت عبر التاريخ، وما الصواب المؤقت الا بداية حسابات احتمالات جديدة تثبت خطأه لا محالة.
والحوار الأول يدور بين الضيف المثابر أ.د. محمد شعلان ورئيس التحرير حول إعادة رؤية المسألة الإسرائيلية، وهو لا يرفع هذه المرة تلك اللافتة المشبوهة(الطب النفسى السياسى) رغم الصفة المهنية لطرفى الحوار، والحوار يكاد يعمق الخلاف بين التسامح والتحفز، بين التجاوز والتحدى، وقد تعمدنا نشر أصل المقالين موضوع الحوار وملحق متعلق بالمسألة حتى يتابع القارئ أصل الحكاية وتفريعاتها، ولعل فى هذا الاصرار على الحوار بحروف مكتوبة ما يؤكد استمرار حيوية الحركة، وحتى لو تخبطت الخطى مرحليا فهو أفضل من الصمت المتفرج أو الانتظار المدعى الحكمة.
ويأتى الحوار الثانى المؤجل من العدد الماضى ليدور حول الحل الصوفى التقليدى لأزمة الابداع المتناثر حتى الاجهاض، ويمثل المحاور الضيف أحمد المدثر عيسى وهو بطل قصة الوجه الماسح التى نشرت لعبد الحميد الكاشف فى العدد قبل الماضى، وقد بعث حيا لينير قضية علاقة الواقع بخيال القاص، ثم الأهم قضية ” ألم الابداع فى مقابل دعة الاعتماد” أو نور اليقين أيهما ترى يا قارئنا العزيز.
أما الحوار الثالث فهو مصارعة ثلاثية حول موضوع اضطراد الطبيعة الذى سبق نشر مقالين حوله، ويحتد العراك بين د. السماحى البادئ والزميل ابراهيم عادل الراد ثم وفاء خليل المشارك، ونشهد معمعة ضاربة نرجو أن تثير فينا ما يليق بنارها ونورها جميعا.
ويتقدم الفنان عصمت دواستاشى بمقتطف من حديث حول عزلة جابرييل جارثيا يجسد لنا روعة ما هو العناد الفردى المتواضع فنحس بالأمل ونحن نرى صورة لما يمكن أن يكون عليه الايمان بالحقيقة المبدعة فيؤكد لنا استحالة اليأس الا لمن لا يستحق شرف مثل هذا الموقف.
ثم يأتى مقال الصديق محمد فتحى عبد الفتاح فنجد له طعما خاصا لم يعتده ذواق كلمات هذه المجلة، الا أننا نأمل أننا بذلك قد نكتشف أذواقا أرق أو غير ذلك فيتسع جسر العبور بيننا وبين قارئنا، ورغم تحفظات التحرير التى تصدرت المقال الا أننا وجدناها فرصة جديدة يكفى أنها تذكرنا بما يجرى فى ما أسماه الكاتب ” مجزرة التربية التقليدية التى تقتل الابداع بتشكل منظم تحت عناوين كاذبة من بينها الالتزام الزائف والنظام الشكلى”.
ولكن نفس الكاتب يتحفنا بقصة قصيرة (مرزوق والنور والمرآة) لها نفس مذاق ما تعودنا فيؤنسنا مرتين مع الفرق.
وتعود الدكتورة هناء سليمان فى دقتها المتأنية لتقدم لنا الفروق الوظيفية بين النصفين الكرويين للمخ، فتفتح ملف الغاء كل الثنائيات، واعادة النظر فى منافذ المعرفة وتكامل الابداع، من واقع التضافر الجديد بين المعلومات الفسيولوجية والسلوكية من ناحية وبين النتاج الابداعى.
ثم نرحب بضيوف جدد يكتبون القصة القصيرة( محمد عبد المطلب) والشعر الخالق(سامى عبد القوى) فى الاتجاه الذى نأمل أن يقول ويضيف.
وفى محاولتنا مواكبة النشاط الفنى حضورا ونقدا يعيش لنا – بنا – الصديق وفاء خليل فيلم حدوتة مصرية (يوسف شاهين) فيعفى رئيس التحرير (هذا العدد) من وعده بمواصلة باب التفسير الأدبى للنفس الذى قطعه على نفسه فى العدد الماضى، ويلف بنا وفاء فى دورات مكثفة متلاحقة منطلقا من بؤرة الوجود الكلى إلى كل أشكال صور الحيوات الساعية لإعادة صياغة الوجود، ونلهث بجواره فى جو صوفى تاريخى نفسى فنى متداخل يؤكد أننا يمكن الا نيأس أبدا، نعم !! رغم أن الحال كما هو الحال!!.
وبعــد ….
فنحن مازلنا فى مسيس الحاجة الى كلمتك يا قارئنا العزيز وخاصة بعد هذا التعديل، فبغيرها… تزيد المسيرة صعوبة مهما حاولنا.
[1] – لم يصلنا سوى يضع رسائل ترد على الاستبار الذى ظهر فى العدد الأخير( يطلب من القارئ رأيه فيما نفعل ونقول)، فأجلنا التعليق الشامل لوقت لاحق أن أتيحت الفرصة بقدر كاف.