نشرت فى جريدة الأخبار
16/1/1980
عجز المنطق السليم عن متابعة الأحداث
من حق الإنسان العادى، بل من واجبه أن يتابع الأحداث من حوله سواء فى وطنه أو فى العالم المترامى – الوطن الأكبر. وقد مر علينا حين من الدهر شاع بيننا فيه أنه لا لزوم لقراءة الصحف اليومية بإعتبارها تحصيل حاصل وأكلشيهات معادة ثم تحركت الأمور. ولو ببطء شديد ولكم بأمل متجدد. والقارئ العادى ليس محللا سياسيا بالضرورة، فوسيلته الأولى فى مسايرة زمنه هى استعمال المنطق العادى السليم، فإلى أى مدى يسعفه ذلك فى هذه الأيام؟
الثنائية والإستقطاب
ولقد اعتاد العقل البشرى أن يرى الأشياء فى تقابلات ثنانية فى الأغلب كما اعتاد – ربما لذلك – أن يقرب الأمور الى أقرب واحد صحيح أو شكل كامل، ويسهل هذا وذاك عليه الحكم على الأمور حتى وأن جانب الحقيقة، فإذا سمع الواحد منا كلمة شيوعية قفزت الى رأسه فى مقابلها كلمة رأسمالية مثلا، واذا قيل يسار فهو ضد اليمين، واذا كان ثمة ثورة ففى الطرف الآخر المحافظة وأحيانا الفساد والركود … وهكذا .
الا ان الأمور اختلطت ببعضها اختلاطا كاد يشل هذا العقل العادى اذ نعجز عن متابعة الأحداث، ولن أتطرق فى حديثى هذا عن جذور الخلط والخلل اللغوى الذى أصاب أغلى الكلمات (ميل أن تستعمل الفرق المتنازعة والدول المتضادة نفس الألفاظ لتؤدى عكس المعانى، فالدول الشيوعية يسمى أغلبها نفسه بأسم الجمهوريات الديمقراطية، والديممقراطية هى شعار العالم الغربى العالى، فضلا عن استعمال الفاظ الحرية وحكم الشعب وما اليها على الجانبين)، وسوف اقتصر على مثال بسيط غريب وحدد من خلاله أزمة المنطف السليم، وذلك هو ما يتعلق بهذه المفاجأة المؤلمة المسماه حرب الخليج.
الثوريون على الجانبين
والقارئ العادى قد يعرف – أو يتصور أو يأمل أن العراق بلد اشتراكى مجتهد يسعى الى مزيدمن هذا الذى يعلنه مدعما بما يسمى المعسكر الإشتراكى حتى ليلجأ اليه بعض اخواننا من المصريين الآملين أو المتألمين أو المتعجلين ليطلقوا أقلامهم من هناك بسلامة قصد أو باستسهال حماسى يخطئون ويصيبون وننفس القارئ اليقظ فى تتبعه للثورة الإسلامية فى ايران لابد وأنه اطلق لحلمه العنان فى دلالتها وما تحمله من بشائر العدل وحق العيش وتعديل الكون من موقع يمكن أن يدرج تحت اسم اليسار الدينى الجديد وما الى ذلك، وفجأة اذا بالحرب تقوم بين الثوار اليساريين على الجابنين، وكأن الزعماء قد تنازلوا فجأة عن حق استعمال الكلمة والمنطق والحوار فى التفاهم وتعديل المسار ويجد الإنسان العادى نفسه فى موقف المشدوه يتذكر مواقف مشابهة بين الصين والإتحاد السوفيتى أو فيتنام وكمبوديا، أو الصين وفيتنام الخ، وهو أن كان قد صبر وتلهى عن الصدام المسلح البعيد عن داره وعقيدته، فهو لا يستطيع أن يتغاضى أو يطنبل عن ما يجرى بين ذوى الدين الواحد، وربما الأمل الثورى الواحد من جيرته وأخوته، الا ان المنطق السليم لايسعفه فى ذلك لأنه يعجز عن تبين: من يحارب من وكذلك: من يساند من موسكو تنفى أنها مع أحد، والأسلحة السوفيتية تنطلق من الجانبين، وأمريكا تغازل ايران وطز فى الرهائن .. وكل شئ وله أوان، وباكستان الحرة تسهل الطيران لأمدادات ايران، والصين الشيوعيه كذلك، وسوريا – وحبر المعاهدة السوفيتية لم يجف – تؤيد ايران، وكذلك ليبيا بإذن والسعودية تهدهد سرا أو علنا الشقيق العربى ضد ابن العم المسلم .. والشاطر من يستطيع أن يواصل الحسابات أن كان ثمة حسابات .. ويقف العقل البسيط عن الحركة، أذ يختلط عليه الأمر، فأين اليمين وأين اليسار، أين الثورة وأين الرجعية، أين الشيوعية، وأين الإمبريالية .. الخ .
استغلال الموقف
ومن السهل أن يستغل بعض الحللين السياسيين الشطار الموقف ليدافع كل عن وجهة نظره من منطلق بعض الأحداث ومثال ذلك بعض الإستنتاجات القائلة مثلا (1) هكذا نفذنا بجلدنا وليزكلوا بعضهم البعض (2) هذه الحرب دليل على فساد كل ماخلف ما أعتقده والحق مع من لم يدخلها (3) هذه هى ايران بعد أفغانستان ولكم من البوابة الغربية (4) ان أصابع أمريكا وراء العراق ( ولو بالأسلحة السوفيتية ) ووراء ايران بالمره – بالتسهيلات الباكستانية (5) انها مكيدة صليبية لتشويه الإسلام والمسلمين خوفا من المد الثورى الإسلامى، (6) انها لعبة اسرائيلية لإجهاض القوى النامية فى وجهها (7) انها مناورة بترولية أوبكية تمهيرا لجنون الأسعار من جديد، وتستمر التعليقات والتحليلات الى ما لا نهاية، ونجهد المنطق السليم وراءها، والخطر الذى يعنينى ايضاحه هنا هو ما يترتب على انهاك العقل العادى من مضاعفات، نتيجة لهذا الخلط، فالعقل لا يستطيع ان يتحمل الغموض والتضارب مدة طويلة ولذلك (1) فقد يفقد الثقة فى القيم النقية التى تعود أن يستند اليها – أو حتى نحلم بها – فى معيه اليومى (2) وقد تهتز عنده معان مقدسة مثل الثورة، والإسلام، واليسار والحرية الخ (3) وقد يتطور الأمر ليبرر له موقفا عدميا مادام النتس كلهم وحوش وما دام كله محصل بعضه فاليأس خير وقاية، (4) وقد يبرر الخلط له موقفا ساديا مليئا بالسخرية بل وبالشماتة سواء عبر عنه بالرسم الكاريكاتيرى أو بالكلمة أو بالنكته حتى ليكاد يقول طوبة على طوبة تخلى العركة مقلوبة أو اختلاف الحمارة فى مصلحة الركيب وكل ذلك خطر أى خطر ..
وعلى سبيل الوقاية من مثل هذه المضاعفات يمكن أن نتدارس سويا بعض الإستنتاجات العامة المتواضعة التى قد تمثل ترياقا مؤقتا يحمينا من الإستسلام للإنسحاب السلبى فكرا أو فعلا أو وحدانا، ومن ذلك نقول:
(1) يبدو أن الدنيا يحكمها الأن عوامل شديدة التداخل لا يكفى لفهمها هذا الإستقطاب الثنائى: الابيض فى مقابل الأسود أو اليسار فى مقابل اليمين، أو الغنى فى مقابل الفقير .. الخ
(2) أنه ينبغى التمييز بين تحقيق الثورة وتطبيق الثورة، اذ يظهر ان الأعداد للثورات – رغم ما يحيط به من شرف القصد والأخذ بالمخاطر – أهون على النفوس والشعوب من مسئولية الإستمرار للمعانى على أرض الواقع والمحافظة على الإتجاه.
(3) يبدوا أن الحرب – بهذه الصورة البدائية البشعة – مازالت قدر الإنسان المعاصر، والإستعداد لها بهذا الكم الهائل من المخزون من السلاح لا يقل جريمة عن اشعالها، وهذا وذاك اعلن منذر للمرحلة المختلفة من وجودنا للأسف .
(4) أن العجز عن اتخاذ موقف أو فهم مشكل لا ينبغى ان يترك الإنسحاب أو يشرع للشماتة، أو يؤكد العدمية، كما لا ينبغى اذ يفرح الشطار المتفرجين الجاهزين للتعليق على كل موقف لصالح دفاعاتهم و مصالحهم .
وأخيرا .. فكلما زادت الأمور تعقيدا وأرهق المنطق السليم متابعة زاد الألم ايقاظا والوعى الزاما والعمل التزاما .. أو هذا ما ينبغى أن يكون .
ولا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم ..