اليوم السابع
الاثنين: 14-10-2013
عادة الأكل “معا”: تـُُوثـِّق الوعىَ الجمْعىّ
ما أحوجنا هذه الأيام بشكل خاص إلى أن ننمِّى الوعى الجماعى (وليس فقط العقد الاجتماعى) بسلوك أصدق من الكلام والأحضان، هل هناك شك أن الأكل غريزة بقائية تحافظ على الحياة عند الحيوان والإنسان على حد سواء؟ امتُحن الإنسان بمحنة الوعى، (وبالعقل الحديث وبعض الإرادة)، فراح يتدخل فى عمل وإعادة تشكيل غرائزه وسلوكه سلبا وإيجابا، حتى جاوز الأكل وظيفته من سد حاجة الجوع، إلى وظائف أخرى انتبه إليها معظم من تناولوا النظر فى الطبيعة البشرية، لتنميتها إيجابيا..
اخترع الإنسان للأكل وظيفة أخرى، تكمل اكتسابه للوعى، وهو أن تكون عملية الأكل فرصة للتذكرة أن الإنسان لا يكون إنسانا إلا مع إنسان آخر، فالأكل ليس فقط لسد الجوع، وإنما أيضا للتواصل، طبعا علينا ألا ننسى أن هناك من لا يجد ما يأكله أصلا، ومع ذلك فأغلب هؤلاء الذين لا يجدون ما يأكلونه يمارسون “الأكل معا” أفضل كثيرا: تحت ظل شجرة فى عز الظهر، ينادى عم عبد الرحمن الواد عبد ربه وهو يتفصد عرقا، أن: “تعالى يادْ، وهات البصلة اللى معاك أنا عندى غموس جبنة نعمل غدّيوة”، وهات يا أكل معا، وهات يا كلام، وهات يا إنسان، ديننا الحنيف يكاد يحرِّم (أو على الأقل يكرِّه) أن تعمل وجبة ذات رائحة (من أول قلى الطعمية حتى شوى اللحمة) ولا ترسل منها طبقا لكل جار لك يمكنه أن تصله رائحتها.
تعلمت من السنة اليتيمة التى قضيتها فى فرنسا متنقلا بين ربوعها كلها لحوالى خمسين”نهاية أسبوع” معنى أوسع “للأكل” و”الأكل معا”، إذ أنه أيضا: “احتفالية اجتماعية”، وانه كثيرا ما يكون معدا خصيصا ليتم من خلاله وحوله إنجاز ما، حوار ما، كما نسمع أحيانا عن “عشاء عمل”، هذا على مستوى رجال الأعمال والساسة، لكن الفكرة تمتد لسائر الناس، فيما يسمى “عشاء للمناقشة” ويتعمد الداعى حينذاك أن تستغرق عملية الأكل وقتا طويلا يصل إلى أكثر من ساعتين أحيانا، بأن يقدم الأطباق ببطء شديد، مقصود، لتحقيق الغرض. فى إحدى الرحلات، فى جنوب فرنسا، فى قرية سكانها بضعة آلاف، دعانا العمدة إلى العشاء لنناقش مشكلة هامة جدا، هكذا أكّد ، كنا أربعين “ممنوحا” من اثنين وعشرين دولة أغلبنا من العالم الثالث، بالإضافة إلى من يهمه الأمر من أهل القرية!!، أى أمر هذا الذى يدعونا العمدة مع أهل القرية لنناقشه ؟؟ لا تتعجب من فضلك، كان الأمر هو: محو الأمية فى هضبة التبت، أى والله، نحن فى جنوب فرنسا، فى قرية هامشية، وكان العمدة متحمسا وكأن أطفال اللتبت هم أولاده من ظهره الذين لا يفكون الخط.
فى رمضان، تعود لعملية “الأكل معا” وظيفته الانسانية “كاحتفالية اجتماعية” بشكل أو بآخر، حين كنت أفطر فى الحسين (رحم الله تلك الأيام وأعادها على خير)، وأنظر حولى لأرى كيف يتحوطنى حوالى ربع الجالسين على الموائد فى الساحة من الأجانب، وهم ينتطرون مثلنا الأذان قبل أن يضعوا شيئا فى فمهم، أفرح جدا بالحوار الصامت، أفضل من مائة خطبة من أوباما، وعشرين توصية من الكونجرس.
وفى العيد الكبير تقوم الأضحية المسكينة بوظائف طيبة: فثلثها لصلة الرحم، وثلثها للفقراء، والثلث الباقى لأصحابها من الأثرياء مع دعواتى لهم أن يتعلموا الشبع فى الأكل وغير الأكل،. وكل عام والجميع بخير!!