مجلة العربى
2003-3
الأستاذ الدكتور: يحيى الرخاوى
وحديث مع الاستاذ: سيد المخزنجى
أما ضد تدريس الطب النفسى بغير اللغة العربية
مقدمة
د. يحيى الرخاوى شخصية مركبة بحق من الصعب أن ندرجها تحت تصنيف واحد. فهو لا يكتفى بدوره المهنى والعلمى كأستاذ للأمراض النفسية بكلية طب قصر العينى منذ عام 1974، ولكنه وسع من هذا الدور ليصبح مشاركاً مهماً فى الحياة الثقافية المصرية والعربية. وقد شغل، بجانب أسلوبه فى تطوير العلاج الجمعى، بقضايا الأدب والفن ووضعها تحت مجهر الطب النفسى، وكانت له فى ذلك آراء تتسم بالجراءة والصرامة والموضوعية فى الوقت نفسه. ورغم أنه يعد من الشخصيات العلمية البارزة ومن مفكرى مصر المعدودين فإنه طرق الشعر فأصدر عدة دواوين هى “سر اللعبة” 1978، و”البيت الزجاجى والثعبان” 1983، و”أغوار النفس” (شعر بالعامية المصرية)، وقد نالت روايته التى صدرت فى جزأين تحت عنوان “المشى على الصراط” جائزة الدولة التشجيعية للآداب عام 1979. وقد ولد الدكتور يحيى الرخاوى فى عام 1933 وعمل مدرسا بكلية طب قصر العينى منذ عام 1965. ومن أهم مؤلفاته فى مجال علم النفس: “علم النفس تحت المجهر” 1968، و”مبادئ الأمراض النفسية” 1977 و”عندما يتعرى الإنسان” 1979، و”دراسة فى علم السيكوباثولوجى” 1979. واصدر بجانب مؤلفاته الأدبية التى ذكرناها العديد من الكتب الأخرى أهمها “ترحالات الرخاوى” فى ثلاثة أجزاء وهى من أدب المكاشفة ما بين السيرة الذاتية وأدب الرحلات.
وقد أجرى الحوار معه السيد المخزنجى وهو صحفى وناقد أدبى بالقسم الثقافى بجريدة المساء القاهرة، وله العديد من الحوارات الصحفية والمؤلفات مثل “العلد والتسامح الإنسانى” 1987، و “تنمية القيم التربوية والنفسية للأبناء” 1993، وله كتاب “المرجع فى السرقات الفكرية المعاصرة”.
* مارأيكم فى التعليم الجامعى اليوم .. وبماذا تنصح لتطويره بالنسبة للكليات العملية كالطب، الهندسة، العلوم، الصيدلة …… إلخ؟
تعليم جامعى ماذا؟ إن ما يجرى فى التعليم قبل الجامعى ثم التعليم الجامعى هو إنذار بالدمار والضياع، التعليم عندنا يبدأ من الابتدائى بالحشر المفرط لعلوم ومعلومات لا قيمة لها، ويصطبغ طول الوقت بالغش الجماعى وأحياناً بالغش الرسمى والرشاوى للناس والإعلام بالامتحانات السهلة، بدعوى عدم الخروج عن المقرر، وهات يا مجاميع، وهات يا إحباط. إن الغش أصبح له جمعيات أهلية (جمعية الغش التعاونى الأهلى) يعاونها الحكم المحلى بتعليمات مركزية.
ثم ترى العجب ونحن ننتقل إلى جامعات المذكّرات دون الاطلاع الانتقائى. حلت الجمل المتقطعة محل الحوار الخلاق وتشغيل العقل،و حل الحفظ محل تدريب المهارات، إن أغلب الطلبة بالجامعة لا يعرفون مكان المكتبة، بل أنهم لا يعرفون فتح المعجم للكشف على كلمة جديدة. يا عم الله يسامحك، قال تعليم قال؟!
* وهل تسللت ظاهرة الدروس الخصوصية لرحاب الجامعة؟ وهل هى تمثل خطراً على الناحية التعليمية أم لا؟
الدروس الخصوصية أحسن من الغش الجماعى، وأحسن من الجهل المطلق، التدريس الجامعى لا يدرس، ولا يترك الدروس الخصوصية تدرّس، أنا ضد الدروس الخصوصية إذا كانت هناك دروس عمومية، لا يوجد فى أغلب الجامعات إلا مذكرات مهلهلة ليس فيها جمل مفيدة، بل شُرَطٌ أ,لا لأأسطر ترص بعدها بضع كلمات (قصّر ولمّ المتكسّر).
إن أوهام منع الدروس الخصوصية هى خدعة تستعمل للدعاية الرسمية، وما لم تتغير طبيعة الامتحانات، وما لم يعُد للجامعة معنى الجامعة، وما لم يأخذ عضو هيئة التدريس حقه من الحكومة، لن تتوقف الدروس الخصوصية ولا ينبغى أن تتوقف، إنه لا توجد قوة على الأ{ض يمكن أن توقف العرض والطلب لتحقيق أهداف اتفق الجميع على اغترابها، ومع ذلك فلا يوجد غيرها.
تعريب الطب
* بالمناسبة .. لماذا ترفض منذ عام 1984 دعوة بعض الأكاديميين تعريب العلوم والطب على نحو خاص؟
أنا لم أفهم السؤال ولا أعرف لماذا تحديد سنة 1984.
أنا لا ولم ولن أرفض تعريب العلوم والطب خاصة، بل أننى ضد تدريس أى حرف باللغة الإنجليزية وبالذات الطب النفسى وقد بلغ بى التحدى أن كتبت علم السيكوباثولوجى شعراً بالعامية (وليس رجزاً كألفية ابن مالك) ثم قمت بشرح هذا الديوان الذى أسميته سر اللعبة لأثبت قدرة العربية شعراً ونثراً فكان مؤلفى الأساسى ” دراسة فى علم السيكوباثولوجى” شرح ديوان سر اللعبة. إن مرضانا يمرضون بالعربية ويشكون بالعربية فكيف أعالجهم وأدرسهم وأشرح حالتهم إلا بالعربية. إن عدم استعمال العربية هو تنازل عن الهوية، وتشويه للعقل الوطنى والقومى وإجهاض للإبداع.
الجائزة الأدبية والعلمية
* حصلت على جائزة الدولة التشجيعية فى القصة الروائية عن روايتك “المشى على الصراط” وهى فى جزائين عام 1979 … مع أنك أستاذ فى الطب النفسى ولك العديد من المؤلفات فى هذا المجال سؤالى: أليست هذه مفارقة أن يحصل د. يحيى الرخاوى على جائزة الدولة التشجيعية فى مجال الآداب ويحرم منها فى مجال تخصصه العلمى بالذات؟
ليست مفارقة ولا يحزنون، إن موضوع الجوائز هذا موضوع حساس، وأنا لا أولم أحداً بشأنه، لأننى لم أتقدم لأى جائزة، ولم يرشحنى أحد لأى جائزة، هذه أمور لها خطوات معروفة، لا يصح أن يلام أحد على أنه لم يسلكها. ثم إن من لم يسلكها ليس من حقه أن يلوم أحدا على انه لم ينلها.
ثم إن حصولى على جائزة الدولة فى الأدب الروائى لها حكاية، فأنا لم أتقدم لها وإنما وقعت الرواية فى يد ناقد نبيل، فتقدم بها، فنالت الجائزة، وثار حول هذا الموضوع لغط كثير، أنا لا أنكر أننى أتمنى لو حصلت على جائزة وعشر جوائز، لكن لك إنسان طبعه وطموحاته، وليس من طبعى ولا من بين مارفى (إن كان لى معارف) أن أعرض نفسي أو أسوّقها. ثم إن الجائزة لا تدل على شئ أكثر نم تناسب ذوق وحكم من منحها مع قدرها وعطاء من أخذها. أما أنها تزيد من قيمة عمل ما أو شخص ما، فهذا أمر آخر، سيظل حكم الترايخ وحكم الجمال، وحكم الأصالة، وحكم ما ينفع الناس ويتحدى الفناء، هو الذى يقدّر الأعمال والرجال مهما تأخر التقييم.
أما مسألة حرمانى من جوائز فى تخصصى العلمى، فأنا أتبع المنهج الذى لا يرضى عنه العلماء عندنا (وربما هو ليس مقبولاً فى اماكن كثيرة أخرى من العالم) وهو ما يسمى بالمنهج الفينومينولوجى، وهو منهج غامض ومتهم بالشخصنة، وهو منهج لا يهم أغلب من يقوم بالتقييم ومنح الجوائز، كما لا يرحب به المحكمون فيجيزون نشر أ‘مال من يتبعه سواء فى الداخل أو فى الخارج، فكيف ألوم غيرى وأنا الذى اخرت ما ليس كذلك.
زملائى واساتذتى المسئولون عن منح الجوائز عندهم كل الحق فيما يأتون وما يدعون، وأنا لا أشعر لا بالظلم ولا بالإنكار ولا بالإهمال، رغم احترامى للجوائز وفرحتى بها إن نلتها، لكننى لا اسعى لذلك، لا تعاليا، بل جهلاً بالطريق واحتراما لمقاييس لا تخصنى.
الشعر العامى
* لك بعض المؤلفات باللهجة العامية المصرية، فهل تعترف. سيادتك. بالعامية كلغة “كتابة وثقافة” معا، ولماذا؟ وبالمناسبة، وما رأيك فى مستوى الكتابات التى يطلقون عليها “شعر عامية” اليوم؟
أنا لا أميل للكتابة بالعامية، من حيث المبدأ، حتى حوارات قصصى ورواياتى أكتبها بالعربية، لكننى أوافق على ان الشعر بالعامية هو شعر بكل معنى الكلمة، واللغة العامية تتوافر لها كل مقومات اللغة، والشعر بالعامية غير الزجل، وأنا ليس لى مؤلفات بالعامية إلا ديوان كامل (أغوار النفس) شرحت فيه نقدا للعلاج النفسى والتحليل النفسى، واعتذرت فيه بالعامية للغة العربية باعتبارها حبيتى وباعتبار أن العامية هى ضرتها الشابة، وقد فسّرت اضطرارى للكتابة بالعامية قائلا فى مقدمة ديوانى أغوار النفس، مخاطبا اللغة العربية، قلت:
طب وحبيبتى، راح أقولها إيه
إللى ما عمرها قالت لأه ولا مش
قادرةّ. ولا فيها شئ يتعايب.
حلوةّ، وغنيةّ، وبنت أصول.
وأنا أعمل إيه؟
أصل العملية المرّادى كان كلها حِس
والحس طلعى بالبلدى بالعامى الحلو.
والقلم استعجل، مالحقشى يترجم، لا تفوتُة أيها همسةّ، أو لمسةّ، او فتوتة حس.
معلش النوبة، المرّادى سماح.
واهى لسه حبيبتى.
حتى لو ضرّتها غازيّة بتدق صاجات.
التفكير والمرض
* هل صحيح أنه يمكن أن ينقلب “التفكير” إلى مرض عند الإنسان؟
ما معنى أن ينقلب التفكير مرضا؟ التفكير هو أعظم ما يميز الإنسان، هو أرقى ما توصل إليه العقل البشرى، يمكن أن يختل التفكير، أو يعجز، أو يتفكك أويتناثر، ليصبح هو المصاب بالمرض، لكن التفكير فى ذاته لا يمكن أن يكون مرضاً.
أحياناً يغتر الإنسان باستعمال تفكيره بإفراط حتى يحل محل وجدانه وإيمانه، فيتصور أن التفكير هو كل شئ وهذا ليس عيباً فى التفكير ذاته، وإنما العيب فى عدم توازن القدرات مع بعضها البعض.
و احيانا توجد فكرة ملحة (تافهة أو لا لزوم لها فى غير موضعها) فتحل طول الوقت أو معظم الوقت محل التفكير الهادف، وهذال عيب مرضى عند من يصابون مثلا بوسواس التفكير الاجترارى.
* يقولون إن الفرق بين الجنون والعبقرية “شعرة”… فما هى هذه الشعرة فى رأيك؟ وهل من الممكن أن يخرج الإبداع من “لحظة الجنون”؟ وهل تعترف سيادتك بـ “الجنون” كمرض حقاً؟
أولاً: هذا قول سخيف، رغم أن فيه محاولة للتقريب بين الجنون والإبداع.
ثانياً: كلمة عبقرية هى كلمة ينبغى أن تزاح جانباً لأنها تشير إلى تميز شخص بذاته بقدرات فائقة غير مألوفة. وهذا النوع من التميز الخاص جداً لم يعد وصفاً مقبولاً ومطلوباً كما كان شائعا من قبل. فكل شخص هو مشروع عبقرى بشكل أو بآخر، لأنه مشروع مبدع.
ثالثاً: أنا اصوغ هذه المسألة صياغة أخرى تقول:
إن الإبداع هو جنون استطاع أن يجاوز مرحلة التناثر إلى تخليق الجديد، فى حين أن الجنون هو إبداع مجهض.
فالذى يربط بين الجنون والإبداع هو اتفاق البدايات، بمعنى البدء برفض الأمر الواقع، ثم تفكيك التركيب الجامد لقصد إعادة ترتيبه، لكن هذه البداية المشتركة قد تنتهى إلى اتجاه إيجابى أو إلى عكس ذلك، ففى حين يعود المبدع يلملم نفسه ويلملم ما فكك من أجزاء فى تخليق ذاته أو تشكيل إبداع جديد فى بناء أصيل، نجد أن المجنون يتمادى تناثره حتى يتشظى إلى تدهور يفقده القديم والجديد معاً.
رابعاً: طبعاً أعترف بالجنون ونصف، ولكن ذلك لا يعنى أننى أحبذه أو أعتبره ثورة. إن اعترافى بالجنون هو احترام للمحاولة وليس تسليماً بنتائجها.
وهل يمكن أن امارس مهنتى دون الاعتراف بالجنون واحترام لغته لمحاولة ترجمته ثم تعديل مساره؟ أنا أرفض التسليم للجنون، أو وصم المجنون بما يهيمه أو يحتقره، وهذا وذاك يساعدانى على أن آخذ بيده إلى الناحية الأخرى.
الطبيب والمشعوذ
* يخلط البعض بين “دور” المعالج النفسى ودور المشعوذين والدجالين انطلاقا من أن كليهما يعتمد فى طريقة تعامله مع “الحالة” المرضية من نقطة “الإيحاء” النفسى المسبق الذى يجعل الشخص فى وضع استسلام وتسليم كاملين فى يد الطبيب المعالج أو المشعوذ!!
سؤالى: كيف يمكن لنا التفرقة بين هذين “الدورين” كأسلوب ممارسة فى علاج بعض المرضى النفسيين؟
وهل يستطيع أدعياء تسخير “الجن” أن ينجحوا فى إقناع المترددين عليهم بعلاجهم .. أم أن ذلك نوع من “الابتزاز” الذى يقع ضحيته كثير من أفراد الطبقات “الراقية” بل وعلماء واساذتة جامعة وبماذا تفسر ذلك؟
أولاً: أنا لا أوافق على ان كلا من المشعوذ والمعالج النفسى يعتمد أساساً على “الإيحاء”. ذلك أن الإيحاء لا يمثل إلا جزءاً يسيراً جداً من آليات الشفاء.
ثانياً: إن الذى جعل الناس تلجأ للمشعوذين والتعامل معهم من خلال فكرة المس بالجان ثم محاولة التصالح مع هذا الجان، أو إخراجه، وما إلى ذلك هو أن أغلب الأطباء قد اختزلوا الإنسان إلى تركيب كيميائى فحسب، فراحوا يكملون نقص الكيمياء أو يضيفون ما يتراءى لهم من مواد تعوض نقص هذه المادة الكيميائية أو تلك، وهم بالتمادى فى هذا الاتجاه الكيميائى لم ينتبهوا إلى مدارس أخرى تتحدث عن تعدد منظومات المخ، وبالتالى تعدد الشخوص فى الكيان الإنسانى الفرد، وهذا التعدد هو الذى يظهر فى الأحلام، وأيضا ثبت هذا التعدد بالتجربة، والملاحظة الظواهرية. حين نسى الأطباء والمعالجزن هذا التعدد تبناه المشعوذون وأسموا الذوات المتعددة جاناً، وهات يا ضرب، وهات يا تهريج، وهات يا نصب، حتى ضاع المرضى والخلق والعلم بين طبيب مختزل مُمَيكن، زمدّع يتمادى فى تشويه الفطرة والتركيب البشرى.
لا يمكن إنكار نجاح بعض ما يسمى العلاج بتسخير الجن، لكن الأمر يمكن ترجمته إلى أنه علاج بالاعتراف بهذه الذوات الأخرى (التى لها ما يقابلها فى تركيب الدماغ) فهى ليست جناً ولا يحزنون، لكنها “نحن” فى حالات أخرى تسمح لهذه الذوات الأخرى بالحضور والتبادل (بعض هذه الذوات ما يقال عن الطفل فى داخلنا، أو الكهل فى تركيبنا، أو الأنثى فى داخل الرجل وبالعكس وهذا فكر عالم جليل هو كارل يونج قبل أن يكون فكر إريك بيرن، وما دام الأطباء المعالجون قد نسوا كل ذلك، فهم تركوه لمن حسبه جاناً واستغل به الناس وآذى المرضى).
* بالنسبة لجوائز الدولة … بالرغم من أنك حصلت على جائزة الدولة التشجيعية منذ أكثر من ربع قرن. وبالرغم من أنك ترأس مجلس إدارة جمعية الطب النفسى التطورى، إلى جانب كونك عضواً بالمجلس الأعلى للثقافة .. ناهيك من مؤلفاتك العديدة فى مجال الطب النفسى فإن جائزة الدولة التقديرية تأخرت عنك حتى اليوم، ما هو تقييمك لأسلوب “منح” جوائز الدولة من قبل المجلس الأعلى للثقافة .. وما ملاحظاتك على نظام “التصويت” ومن قبله تصعيد الأسماء المرشحة لنيل الجائزة من قبل “أمانة” المجلس الأعلى للثقافة؟
سبق الرد على هذا السؤال، واضيف هنا أننى لا أعرف نظام التصويت لهذه الجوائز، وليس عندى بالتالى اعرتاض عليه، لأن معظم من ينالون الجوائز هم من قادة الفكر والعلم فيما عدا استثناءات قليلة فكيف أشك فى نظام ينتقى هؤلاء الرواد؟
صحيح أن هناك من يستحق ذلك التكريم ويناله بالاتصالات والتربيط، لكننى أعتقد أنهم قلة، وليس معنى هذا أننى لم أحصل على ما أتصور أننى استحقه، أو تتصور أنت أننى أستحقه، ليس معنى ذلك أننى مظلوم أو منسى، لقد ذكرت من قبل أننى لا أستهين بمثل هذا التقدير، لكن إذا لم يصلنى فى الوقت المناسب فقد يرجع ذلك إلى أننى مخطئ فى تقييمى لنفسى (وأنت كذلك مخطئ فى تقييمى)، أو ربما السبب أننى أتكلم لغة أخرى لا تروق لمن بيده الأمر، (كما شرحت سابقاً)، أو لعل ما أعتبره إنجازاً يستأهل التقدير هو إنجاز ظهر فى غير أوانه، وبالتالى يُعتبر طرحه أمام حكام لا يدركون قيمته الآن هو من باب الوزن بالميزان غير المناسب فى الوقت غير المناسب، وهو سوف يستمر – إن كان أصيلاً – حتى يأتى أوان تقييمه بعد عام، أو مائة عام، أو لعله يثبت زيفه وتفاهته، من يدرى؟ الله أعلم.
هذا كل ما فى الأمر.
الإنسان والتطور
* بالنسبة لمجلة “الإنسان والتطور” التى ترأس تحريرها، وتصدر عن جميعة الطب النفسى التطورى يلاحظ المتابع للمجلة (وعندى 95% من أعدادها) منذ العدد الأول أنها مجلة لخاصة الخاصة وليست حتى لجمهرة المثقفين .. حتى أن البعض شبهها بمجلة “فصول” النقدية التى تصدرها هيئة الكتاب منذ عدة سنوات.. سؤالى: لماذا لا تفكرون فى “إعادة” النظر فى أسلوب المجلة اليوم حتى لا تتعرض مثلما تعرضت مجلة “فصول” للتوقف عن الصدور، خصوصاً أن “الإنسان والتطور” تعرضت لهذا التوقف منذ سنوات قليلة؟
أوافقك على ملاحظة تعثر صدور مجلة “الإنسان والتطور” ولكنى أعتقد أنها توقفت، ومتوقفة لأسباب مختلفة، ليس لأنها تصدر لخاصة الخاصة، ولكن لأنها لا تقبل الإعلانات، وبالتالى فالأسباب مادية أساساً، وأيضا لأنها مازالت وبعد عشرين عاماً مجلة الصوت الواحد (الذى هو صوت رئيس تحريرها، الذى هو أنا)، وهذا خطأ شنيع، وحين حاولنا أن نتلافى قصور التمويل وفتحنا الباب للإعلانات لم نستطع أن نكون عند حسن ظن شركات الأدوية التى حسبت أنها يمكن أن تشترينا على حساب المرضى ببضع عشرات أو مئات من الجنيهات.
أما إعادة النظر فى شكل المجلة ومستوى خطابها ولغتها، ومحاولة تعدد الأصوات فيها، فهذا كله وارد طول الوقت، ربنا يسهل، ادع لنا.
مستقبل الطب النفسى
* مستقبل الطب النفسى فى مصر، كيف يراه د. يحيى الرخاوى الآن؟ وهل تؤمن بالعلاج بالقرآن خصوصاً أن هناك من يفسر قوله تعالى: (وننزل من القرآن ما فيه شفاء لما فى الصدور) فى هذا الاتجاه؟
الطب النفسى فى مصر أفضل كثيراً من بلاد أكثر تقدماً، فاثقة بين المريض والطبيب تسمح للطبيب بمساحة من الحركة يستطيع من خلالها أن يساعد مرضاه دون تدخل المحامين ودون قيود القانون الأعمى، أما مستقبل الطب النفسى فالأرجح أننا سنتبع خطاهم فى الغرب دون أن تكون عندنا إمكاناتهم، يقول أحد زملائى الذىين هاجروا إلى فرنسا إن الأطباء هناك (وفى أمريكا) لم يعودوا أطباء. هم موظفون لدى شركات التأمين، هم أقرب إلى مستخدمين فى “إدارة شئون المرضى” يملأون الأوراق أساساً ويحمون أنفسهم من المساءلة القانونية، ثم يأتى العلاج أو لا يأتى هذا أمر آخر، فالمريض يبدو وكأن همه الأول أن يأخذ المعونة المقررة له من شركات التأمين أو من الدولة، والطبيب يحاسب هذه الشركات وينفع شركات الدواء ودمتنم،وقد يشفى المريض أثناء ذلك، أما الطب الحقيقى الذى يكون هَمّ الطبيب الأول والأخير هو شفاء مريضه، فهو يتراجع بشكل مخز.
هناك أمل بعيد أن تظل مصر محتفظة بالعلاقة الوثيقة بين الطبيب والمريض دون تدخل ثالث، وأن تتوثق أكثر فأكثر قيمة الأعراف والأخلاق والتقاليد فلا يحولون بينا وبين علاج مرضانا خاصة أنه ليس عندنا تأمين ولا غيره.
أما عن القرآن الكريم، فلا شك أنه شفاء يمعنى أنه من أكبر ما يساعد الإنسان على استعادة توازنه، لكنه ليس شفاء بأن يقرأه آخر وهو يملس على جبهة مريض، او أن يكتب مأجوراً بعض آياته فى حجاب، هو شفاء حين يستوعب المريض (والسليم) نبض إيحاءاته. حين يسمح لمستويات وعيه بأن تصّاعد إليه، حين يصبح خلقا يمشى على الأرض، فيتصاعد بنا إلى أرقى مراتب الصحة.
* هل ترى أن تراجع حجم الإيمان بالله فى نفس الإنسان المعاصر، مع سيطرة النزعة المادية يؤثران سلبياً فى زيادة نسبة المرضى النفسيين اليوم؟
طبعا، الإيمان الحقيقى هو أعلى مراتب التوازن على كل المستويات، ونقص هذا التوازن يخل بهارمونية الوجود لكننى أحذر من اختزال الإيمان إلى نوع من لتخدير المطمئن.
إن الإفراط فى استعمال الآية الكريمة عن النفس المطمئنة يساء فهمه باعتبار أن الصحة النفسية هى نوع من الرضا المتبلد.
إن الآيات اللاحقة لهذه الآية الكريمة تنبه إلى أن النفس المطمئنة تدخل فى “عباد الله” وأنها تكون كذلك (مطمئنة) وهى فى نهاية المطاف، وهى راجعة إلى ربها راضية مرضية.
لكن، الإيمان الذى يلوّح بالاطمئنان الإيجابى هو الإيمان الذى يشمل الكدح إلى وجه الله تعالى كدحاً لنلاقيه، وأيضا أن نحمل الأمانة، وأن نحمل القول الثقيل، وأن نواصل الجهاد الأكبر.
وكل هذا فيه ما فيه من شرف الألم وعمق الحوار، وليس الطمأنينة السلبية.