نشرت فى جريدة الأخبار
4/12/1979
صيحة .. نذير انتبهوا للحمر .. بعد أن لبسوا العمائم
لم يعد الأمر يحتاج الى اعادة التذكرة بأن الله سبحانه قد كتب على نفسه الرحمة، وأن الدين – كل دين – جاء ليرسى قواعد العدل ويطلق عنان الحرية.. العدل الحقيقى لا المساواة المائعة، والحرية الإرادة المسئولية.. حرية تكريم العقل، وحرية اطلاق الفكر، وحرية احترام لآخر، ومهما اختلفت السبل وتنوعت الكتب التى نزلت من السماء حسب كل حقبة من الزمان، وكل مناخ، وكل لغة فإن هذه الحقائق الأولية هى ةوهر الدين والإيمان فى كل زمان ومكان.
وها نحن أولاء فى العصر الحديث نمر بأصعب تحديات واجههاالإنسان، فأما أن ننجح، وهذا أمر لاتبدو له بشائر قريبة، وأمكا أن نفشل، وهذا أمر لايجرؤ أحد على مجرد التفكير فيه، وقد عاد الدين يعرض خدماته كمنقذ حقيقى سبق أن نجح فى هداية البشرية وتوجيه مسارها الى الخير المتتصاعد، والدفع بها خطوات حضارية عملاقه، الا أن البعض يتعجل الأمر ويقلب الأمور ضد التطور ووضد الاصالة، وبدلا من أن يتداوى بهذا الدواء (الذى سبق ثبات مفعوله) بجرعات حديثه مضمونة، تتصور أن المسألة هانت وأن الحل الأسهلل هوالغاء العقل، وأن الدين العظيم سوف يوفر عليه معاناة التفكير الحر، وسوف نخفى تحت خيمة حقيقة نواياه الخبيثة والمتحرفة والمعطلة. ولكم هيهات هيهات.
فعصرنا اليوم هو عصر كسر الحواجز بين الأجناس والأوطان واللغات، يتم ذلك بالقمر الصناعى – الذى أكاد أتصوره وهو يخرة لسانه لكل منغلق متعصب – كما يتم بالطائرات الأسرع من الصوت تلهث لنلحق يهدهد سليمان عليه السلام وهذه الثورة التوصيلية والتواصلية تضع انسان العصر أمام مسئوليات جديدة، فتلزم ضمنا أهل كل دين أن تتفتح أفاق سماحتهم لأخوة لهم على أرض الله لا يعرفونهم ولا يتكلمون لغتهم، ولا يستتطيعون من واقع العدل استيعاب لغة العصر أن نحرموهم أجرهم أو أن يتدخاوا فى رحمة ربنا بهم ..، تغيرت الأمور ولا سبيل لوقفها قسرا..، ولكم هناك سبيل للإفادة منها عقلا وحين بصيرة.. وكل من خالفقانون العصر أو أعاق عجلة التفتح وكرامة العقل وشرف نبض وجدان الإيمان، سنلفظه دوائر التآلف الكونى المتسقه، فإذابه جسم غريت يلف حول نفسه حتى يفقد قوة دفعه ويسقط كتلة من الظلام البارد لتستمر الحياة أقوى وأنقي.
الحمر.. لبسوا العمائم
وقد مر على الدين عهد قريب كان فيه مطية من يديد أن يستغ آخاه الإنسان، والدين منه براء، وان كان ذلك قد نجح لفترة طويلة فى القرون الوسطى فأن حظه أقل وعمره أقصر فى العصر الحديث والحمد لله، حيث أصبح تسمية الأحزاب السياسية بأسماء دينية (مثل ايطاليا والمانيا الغربية وغيرها) لاتكفى لاعلان الانضمام لمعسكر العالم الذى يسمى حرا، وكادت تنتهى تلك الفترة من الزمان التى استقطب فيها الدين ضد الحركات التقدمية الصادقة والمطية معا، ولم يعد يطمئن أهل الحرية – بمعانيها الصادقة والمستترة – الى هذا السلاح الجاهز أهله، ذلك أن الأحداث الإقرب قد هزت هذا الإستقطاب من جذوره، فمنذ الحرب الأهلية فى لبنان اقترن اسم الدين (الإسلامى خاصة) بالثورية والتقدمية واليسارية فى بعض الأحيان، وأكدت ذلك أحداث ايران وبدأت الإنظمة المحافظة تراجع نفسها حنى فسر البعض أحداث الحرم المكى الشريف فى نفس الإتجاه.
ولا يعنينى هنا تحليل أن كان هذا صوابا أم خطأ، ولكنى أخشى الأولين حين يفرح بالمطية السهلة الجاهز أهلها مدفوعا بنار الحرمان والشوق الى العرل، وإذا بهم مثل الفرق الإستطلاعية المعدة للابادة لصالح فكر آخر ولعبة سياسية أخرى، وأن كنت فى نفس الوقت لاأستطيع أن أنكر ارتياحى (الذى يصل أحيانا الى حد الشماته) فى الفريق الأول الذى بدأ يتجرع نفس الكأس الذى سقاه خصومه كذبا وخداعا، الا أن خطأ فريق لايبرر تكراره من الفريق الآخر، ولا بد أن ننتبه للحمر وقد لبسوا العمائم وأطلقوا اللحى ليرتكوا نفس الخطأ الذى ارتكته البيض من قبل، اذ يستعمل هؤلاء وأولئك الدين تكتيكا لاستراتيجية سياسية طويلة المدى سواء كانت هذه السياسة إستغلالية رافعة شعار الحرية أو قمعية رافعة شعار التقدمية، ولا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم .
غاية .. لا وسيلة
ونخرج من كل هذه المقدمات بحقائق خطيرة ينبغى أن ينتبه اليها كل حريص على دينه، فهور بإنسانيته، منمسك بشرف تفكيره، وبحتمية استمراره إنسانا.
(1) أن أهمية الدين المتزايدة تؤكد عجز العلم المادى المسطح عن الوفاء بحاجات الإنسان، ولكنها لاتفتح الباب للخرافة ولا للتسليم الأعمى ولا للتعصب، ولا للإرهاب
(2) ان إنسياق العامة وراء الصيحات الدينيه هو انسياق واع وثورى، وهو ذو دلالة أعمق مما يتصور من أراد استغلاله لأغراض خاصة، وأن كان فى بادئ الأمر يستحيل أن تتحكم الموجة الجارفة فى اتجاهها المساقة اليه، وهنا يكمن الخطر ويلزم التنويه.
(3) أن الذين يلعبون بورقة الدين اذ يعتبرونه وسيلة الى غايتهم السياسيه أو الإستغلالية يخطئون فى الحساب ويعكسون الآية، لأنه اذاكانت غاية الإنسان هى العمل المؤدى الى التكامل، وكان التكامل باللغة العلمية الأحدث هو تناسق الكون الأوسط مع الكون الأعظم (الإنسان فى طريعه الى الله سبحانه): فإن الدين هو الغاية لا الوسيلة، وهو يستعمل ذكاء الساسة المخلصين، وكفاح الإقتتصاديين وعدل القوانين كلها كوسائ لتحقيق التناسق الذى نزلت الأديان تسهم فى تحقيقه.. وليس العكس (يا أيها الإنسان أنك كادح الى ربك فملاقيه)، ومهما نجح اللعب بالدين حقبة من الزمان فإن الزمن والممارسة سيلحقان الفشل بالمختبئين فيه والمدلسين به والمنحرفين مساره، هربا من حقيقة أنفسهم الانقى، أو أرضاء لأهداف عاجلة مشكوك فى اصالتها (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض)
(4) أن قضية مالله لله وما لقيصر لقيصر لم تعد تصلح حلا مبسطا يؤجل (ضرورة الدين) إسهاما إيجابيا وفعلا. يوميا على مسار الإنسان الأرقى، فلا مفر من الأعتراف بأن ما لله لله وما لقيصر لله أيضا شريطة الا نسلم مفتاح مخازن الله تما فيها مفاتيح رحمته الواسعة.
صيحة.. نذير
خلاصة القول أن كل من تسول له نفسه ظاهرا أو باطنا أن يتخذ الدين مطية لأغراض خاصة – شخصية، أو فئوية أو مذهبية – هو خاسر لا محالة بحساب التطور الأبعى وماينفع الناس، سواء فى ذلك المستغلون المتطاولون فى التنيان أم الأدعياء المثيرون للفتن، وسوف يفشل هؤلا وهؤلا جميعا حتى لا يبقى الا أصالة السعى الى وجه الله الأرعى، الأمر الذى يترجم بلغة الممارسة الى العمل الانسانى الحضارى الممتد تحو الخلود وعبر الحدود.
ولابد أن أعلن فى النهاية أنى لم أطرح حلا واضح المعالم فأنا لست أهلا لذلك بقدر ما تقتتصر كلمتى على صيحة نذير، ولكن ذلك العجز لا يلغى أملا أعيشه وأكاد أوقن بإحتمال تحقيقه، وهو أن يكون السلام الذى امتحننا الله به والأمان الذى نسعى اليه، هو الحقل الحضارى الذى يسهم كل منا فى أن يترعرع فيه انسان يتكلم بأحدث لغات الرقى دون أن يلغى جوهر ايمانه، ويستعمل أدق أدوات العصر دون أن يمنهن إنسانيته، ليصبح وجه الله – والتكامل هو هدف الوجود، يتحقق من خلال عدل البشر وشرف العمل ويعين التناغم بين الأكوان: الذرة – الإنسان ـ الله .
يا أهل مصر..
نحن أهل حضارة تتغلل فى كل خلية من وجودنا وليست فقط تعلق ديكورا للتاريخ البشرى، ونحن قادرون على وصل ما اتقطع بإذن الله.