الوفد: 26-2-2001
صورة للرئيس
ما هذه الضجة التى أثيرت حول اتهام صحيفة الناصريين للرئيس السادات بالخيانة؟ ماذا فى ذلك من جديد؟ ثم ما هذا التصالح الفاتر الضعيف بينها وبين أسرته الكريمة، (تِشتمنى فى شارع، وتصالحنى فى عطفة؟) ما الحكاية؟
شهادة السيدة جيهان على العصر، فى الجزيرة، ثم المسلسلات والأفلام والشهادات والوثائق الصادقة، والـمـُغرضة، والمذكرات والسير الذاتية، “التى هى” و”التى هى ليست هى”!!، وكثير مما يسمّى التاريخ، كل ذلك يحتاج منا وقفة مراجعة أمينة.
لماذا لا ننبرى للهجوم (أو الدفاع المضاد) على زعمائنا أو رؤسائنا، إلا بعد أن يقضى الله فيهم أمره؟؟ لماذا تصدر أحكامنا عليهم، ما ظهر منها وما خفى، بشكل مطلق، مدحا أوقدحا، الكل أو لا شى؟ لماذا نميل إلى تقديس من يحكمنا مع أن القرآن الكريم يعلّمنا كيف أن نبينا المعصوم [ حين عبس وتولى عن أعمى جاءه يسعى، وفضل أن يتصدّى لمن استغنى، نزل عليه الوحى ينبهه إلى أنها تذكره، فانتبه المعصوم [ إلى ما نبهه الله إليه.
هل موقفنا هذا خاص بمصر دون غيرها من بلاد الله، أم أنه موقف قَبَلىّ أصلا (من القبيلة)، لعله تعمّق أكثر من واقع تاريخنا المصري الفرعونى بشكل خاص ؟ هل يشير كل هذا إلى جذور حاجتنا إلى أن يكون الذى يحكمنا دائما أبدا هو فرعون صغير (أو كبير)؟
هل هو موقف يعلن طبيعة متأصلة (ليست سلبية بالضرورة) أننا نريد دائما أبدا أن يكون رئيسنا أو قائدنا: كبيرا جدا، لا يخطئ ولا يضعُف ولا ينطق عن الهوى.
هل هذا هو ما يفسر حماس الدكتور أنور عبد الملك وهو يلوّح لنا- فى حلمه المتكرر – بحكمة سيدنا كونفوشيوس، ويذكرنا بثورة الجدّ الولىّ الفقية “الخمينى”، كما أنه يثيرفى بعضنا(دون تصريح) احتمال أن نترحّم على المغفورله (إن أمكن) جوزيف ستالين؟ يفعل ذلك د.عبد الملك وهو يرسم لنا خريطة “طريق الحرير” من الصين إلى أوربا مرورا بإيران وروسيا
كل هذه الأسئلة تحتاج إلى إجابات لا بد وأن تستدرجنا إلى مناطق محظورة، فإذا نجحنا فى أن نحوم حول الحمى دون أن نقع فيه، حتى يمكن أن ننشر ما تبقّى مما كنا ننوى أن نقوله، فسوف نجد أنفسنا نناقش سمة محورية فى حياتنا السياسية المعاصرة: “صورة الرئيس”
إن صورة زعمائنا التى نستظل بظلها ليست هى هى زعماؤنا الذين خلقهم الله بكل الضعف والهوى، والقوة والبـطولة، والصبر والتخبط، إنها الصورة التى نرسمها (نلفّقها) لهم بعملية (قص ولصق) . شاعرنا العربى صرّح بذلك من قديم وهو يمدح ولى النعم قائلا:
“إقدام “عمرو”، فى سماحة “حاتم” فى حُـلم “أحنف” فى ذكاء “اياس” .
نحن نريد زعيما تفصيلاً فى إخلاص وذكاء”سعد زغلول” و”طيبة ووطنية” النحاس، و عناد “عبد الناصر”، ومغامرة “السادات”، وهدوء “مبارك”، وحماس “مصطفى كامل”… الخ.
أما الزعيم الفرد العادى الذى يناسب مرحلة أمته خيبةًً واجتهادا، خطأ وصوابا، انحرافا وإقداما، فهذا غير وارد فى وعينا، لأنه غير قادر على تلبية احتياجات اعتمادنا الطفلى على أب قادر على كل شىء،(واللى ما لوش كبير يشتريله كبير، واللى مش عاجبه الرئيس يرسم له رئيس).
بمجرد أن ُيذكر اسم السادات – غفر الله له وجزاه عنا خيرا – تتحفز الآذان وتلمع العيون ويستعد العقل والوجدان : إما للتمجيد والتحسر (والله خسارة، بدأنا نعرف فضله!!) أو للانقضاض والشماتة (لولا أنه تنازل وتراجع وخان وسمع كلام كسينجر المكير : ما قتلوا محمد الدرة … ولا احتدت أزمة السيولة ولا انهارت قيمة الجنيه ولا طفحت المجارى..إلخ!!).
أما حين يُـُذكر اسم عبد الناصر، فالأمر أقل تناقضا، حيث يمكن أن تصنّف موقف المتلقى حسب متغيرات كثيرة: من أهمها السن، والمكسب والخسارة، والعلاقة بالحلم والواقع. …إلخ
سوف أكتفى بأن أقدّم متغيّرا واحدا أبيّن من خلاله الفروق الدالة التى تساهم فى رسم صورة الرئيس (نرسمها فى هذا المثال بأثر رجعى) . ننظر فى المرحلة العمرية “السن” مثلا:
(1) الشباب الأصغر، لا يهتمون أصلا، وقد ينبّهوننا أننا بـإصرارنا على اجترار هذه السيرة (على العمّال على البطال) إنما نجرّهم إلى ما لا يعنيهم، وقد يستعمل بعضهم (إذا كان “رِوِشاً”) فِـعْــل الأمر الجميل الذى تمّ تحديثه فأصبح ينطلق من أفواهم صاروخا وهم يقولون “إنْـسَ”،(إنسى)، وقد ينبّهك واحد منهم أكثر طلاقة، واحد من الذين يقال عنهم”اللى هوّا” أن عليك أن “تكبّر عقلك”، أو قد يطلب منك “أن تحلّ عن نافوخه”
(هل لاحظتَ- عزيزى القارئ-أنها لغة سياسية وليست علامة تدهور وانحطاط الشباب).
(2) الذين في منتصف العمر يترجّح موقعهم بين الترحم على أيام عبد الناصر العظيم، وبين لصق أخطائه على مراكز القوى دونه، إذْ لا بد أن مجهولا قد كلف شاغليها بشغل مناصبهم دون علمه، أو أن أحدا كان يسقيه باستمرار، حاجة أصفرا” حتى يتركهم فى مناصبهم كل هذه السنين، حتى يخربوها- ثم ينسحبوا – من وراء ظهره، ثم يقوم هو بشهامة الأب يتحمّل عنهم المسئولية .
لكن بعض من فى منتصف العمر أيضا لا ينسى فضله حقيقية، ومع ذلك فهو يقر بحسابات ذكية أن “قلّته كانت أحسن”. (قلة عبد الناصر).
البعض الثالث (ما زلنا فى منتصف العمر)، وهم قلّة عموما، يعرف ويعترف بأخطاء عبد الناصر الجوهرية من أول تثبيت إسرائيل فى موقعها بفتح العالم الجنوبى لها بتمريرها من مضايق تيران (1956) حتى الأمر بالانسحا ب ( 1967)، ليحمى أولادنا (باصطيادهم في العراء عزّلا دون سلاح أو قتال) !! رغم ذلك فهذا البعض لا ينكر فضل ناصر فى تثوير اجتماعى، أو حماس قومى.
(3) أما الأكبر سنا (فوق الستين) فهم عادة ما يركزون على الترحم على العهد الذى يرفضون تسميته “بائدا”، (فكثير منهم يتصوّرون أنه لم ينته بعد، أو أنه إلى رجعة)، وهات يا تمجيد فى ديمقراطية زمان، وصحافة زمان، وحرية زمان …إلخ.
في نفس الفئة العمرية (فوق الستين)ء من شارك عبد الناصر باكرا أو لاحقا، فهو ينبري يدافع عنه بلا تردد، هذا الفريق معذور، فهو إما مسئول ضمنا عن صنع هذه القرارات التي يدافع عنه، وإما أنه قد أزيح إلى غير ما يرجو من بعده. تبرير تصرف هذا الفريق الكبير-سنا ومقاما- أنه إذا أدان عبد الناصر فهو يدين نفسه، ونحن لم نتعلّم بعد كيف ندين أنفسنا بمسئولية حقيقية. صحيح أن عبد الناصر أدان نفسه، لكن هؤلاء الشركاء ليسوا عبد الناصر. هم لا يضمنون أن تحميهم غفلتنا عن المعنى القانوني للاعتراف. إن ما حدث منذ يوم 5 وحتى يومى 9،10 يونيو 1967 من تقصير، فهزيمة، فاعتراف، ثم محاكمة شعبية، (هكذا صوّروها)، ثم إصدار حكم بالبراءة خلال ساعات، هو خاص بعبد الناصر دون غيره. !!!! يومها: أنسانى ألم عبد الناصر (الحقيقى) واندفاع الشارع (الحقيقى أو المرتب) للتمسك به ليحمل مسئوليته، أنسان ىهذا وذاك أن الاعتراف كما يقول القانونيون هو سيد الأدلة. حين يعترف المتهم بخطئة (ما دام لم يثبت أن ثم إكراها قد أدّى إليه) فإن الحكم بالإدانة، لا بالبراءة يكون جاهزا ما لم تحدث معجزة. فى ذلك اليوم الكئيب ( 9 يونيو)، أحببتُ عبد الناصر، وأنا فى عز غيظى منه، أشفقتُ عليه وأنا ألعنه وأدعو له بالرحمة، وانتظرتُ كلمة زكريا محيى الدين التى وعدتنا الإذاعة بها ساعة بعد ساعة، وكنت أحسب – مثل أى ساذج يفهم فى القانون – أن أول قرار سيصدره الرئيس الجديد زكريا محيى الدين، هو القبض على الرئيس السابق عبد الناصر وتقديمه للمحاكمة، من واقع اعترافه، ودعوتُ الله أن تثبت المحاكمة براءته (إن أمكن).
ليس هذا هو موضوع مقال اليوم أيضا. موضوع المقال ّ هو : كيف نحكم على رؤسائنا البشر، أصحاب الفضل حتما، بما هُمْ وليس من خلال الصورة التى نرسمها لهم. الآن وليس بعد حكم طويل. أعنى بعد عمر طويل.
حتى نحكم على أحد بشكل موضوعى لا بد أن ننضج حتى نتمتع بسمات النضج، ومن أهمها ما يسمّى “تحمل الغموض”، و”الصبر على التناقض “الحتمى فى تركيب البشر، الأمر الذى قد يساعدنا على أن نرى الناس كما خلقهم الله لا كما نحب، وأن نشهد لهم فيما نجحوا فيه إذا انتصروا على أنفسهم بما حوت، كما نشهد عليهم حين يفشلون فى السيطرة على شهواتهم التى تتضاعف داخليا بالوحدة والمعاناة ومن ثَمَّ يمكن أن نحترم “ذكاء المناوِر”، وأن نقبل “شجاعة الأنانى”، وأن نفهم “وطنية الطاغى”، وأن نستفيد من “حماس المغرور” (= نفهم كل ذلك دون تسليم أو استسلام).
هذا هو السبيل الناضج كى نكف عن رؤية العالم أبيض أو أسود، كى نتجاوز أسئلتنا الغبية لأطفالنا : تحب “بابا” أم “ماما”؟، “تحب عبد الناصر أو السادات؟” وحتى الأطفال يسخرون من هذا السؤال السمج، فيجيبون عليه ببلاهة ذكية (لا خطأ فى التعبير) :”أحب الاثنين”، وكأنهم يخرجون لسانهم لغبائنا.
لماذا كنا نغنى لناصر: ” كلّنا بنحبّك ” ناصر”. (إن بعضنا يحبه والبعض لا يطيقه)
لماذا راح أطفالنا يرددون ردحا من الزمن مع نشيد الصباح أنه” “والفضل كله لبابا سادات”. صحيح أنه صاحب فضل، لكنه ليس صاحب الفضل كله. الفضل كله لله سبحانه يجريه من خلال ما نعمل ونحمل من مسئولية، والله تعالى يعيننا على اختيارنا إذ يبارك فى إنجازنا.
كثير من رؤسائنا الأفاضل (خصوصا في البداية) قد يرفضون حتى بينهم وبين أنفسهم تلك الصورة التي نبالغ فى رسمها لهم، حين نُفَرْعِنُهُمْ (من الفرعون) أو نؤلّهُم (من التأليه) إنهم يرفضونها تواضعا واحتراما، أو خوفا من مسئولية أن يكلفهم هذا التقديس ما ليس فى وسعهم ولا فى وسع أى بشر. ولكن أغلبهم يستستلمون – إنْ عاجلا أو آجلا – إلى تلك الصورة نفسها التى رفضوها فى البداية. عادة تكون الصورة شديدة البريق زاهية الألوان. ثم إنهم بعد أن يصدقونا فيصدقوها، يدافعون عنها (عن الصورة) وكأنها هم، ثم يصبح الاقتراب منها بأى شكل بمثابة محاولة لقلب النظام، مع أن كثيرا من ذلك هو محاولة لعدْل صورة الحاكم، وليس قلب نظام الحكم.
في هذه الصحيفة الغراء “الوفد” وجهتُ خطابى للرئيس مبارك مباشرة ثلاث مرات: بعد نجاته من حادث أثيوبيا، وبعد حادث الأقصر، وأثناء إعادة انتخابه للدورة الثالثة، وقلت له وفيه ما جعل كثيرا ممن التقيتهم بعد ذلك يتعجب أننى ما زلت حرا طليقا، ومع ذلك فأنا أطمع فى أكثر من ذلك، فقد عجزت عن نشر رأيى فى التغيير الوزارى الأخير فى “الوفد”، ثم في”الأهالى” على حد سواء مع أنه كان فى شكل “مقال فى قصة”. بعنوان “دبّرنى يا وزير” فـنشرتُـه ضمن مجموعة قصص منسية.
كل هذا كوم، ومسئولية الفن والإبداع فى تلفيق الأحداث وصور والزعماء كوم. يتم التلفيق حسب مزاج المخرج، السيناريست، أو المؤلف، أو حسب التوجيهات، أو الرضا السامى) ولكن هذا حديث آخر.