الوفد : 12/12/2002
صحوة التيار الدينى وانحسار التيارالأخلاقى
هناك احتمالات ثلاثة للرد على هذا التساؤل:
الأول: يقول: ان التيار الدينى إنما تيقظ، نتيجة اإنحسار التيارالخلقى، أى ان وجود الظاهرتين معا هو وجود سبب ونتيجة، بمعنى أن الناس الطيبين حين أدركوا عمق الهوة التى انحدر اليها المستوى الخلقى، بدأوا يلملمون أنفسهم بتعويض مضاد، وهو الإلتزام الدينى، وهذا التفسير يبدو سهلا ومنطقيا، ولكنه يحتاج الى اثبات واثبات، فلابد أن نتأكد من أن الذى يقوم بهذا الغش هو غير المتدين دون المتدين، بل لابد أن نتأكد من أن المتدين يقوم بحركة شعبية للنهى عن هذا المنكر حقيقة وفعلا، ذلك لأن مجرد الإستشهاد بحديث شريف من دار فتوى، أو اعلان تحريم من مركز قيادة، لا يكفى لإثبات أن التيار الدينى ضد هذه الظاهرة إذ لابد من اختبار هذا الفرض فى الممارسة الفعلية.
أما الإحتمال الثانى فهو: انه لا توجد علاقة أصلا بين الظاهرتين (خحوة التيار الدينى.. وانحسار التيار الخلقى) ، بمعنى أن العالم ملئ بالخير والشر جنبا إلى جنب، وليس هناك مبرر للربط السببى أو غير السببى.
وهذا مهرب جيد ظاهرا، إلا انه لو تعمقنا الظاهرة فقدنكتشف انه مهرب ضعيف فعلا حيث أن كثيرا ممن قاموا بهذا الغش استعملوا كلمات دينية لها دلالتها مثل (حرام عليك) ، (كله بثوابه..) إلخ..
وأخيرا فإن ثمة احتمال ثالث يقول: ان بعض التيار الدينى – وليس كله – قد اشاع نوعا من الإلتزام الفكرى بالعقيدة على مستوى السياسة والملبس، وبعض السنن (العمرة) دون الإهتمام بدرجة كافية بالأخلاق الفردية الصلبة، التى تمثل اللبنات الأساسية لدور الدين الحضارى، حيث ان أغلب ما يشاع بين هذا الغريق من المتدينين هو نوع من الأخلاق الشكلية أو النفعية دون التقشف السلوكى والجدية.
***
ورغم ان لكل احتمال من هذه الاحتمالات مايشير الى إمكان صدقه إلا انى سوف أركز على الإحتمال الأخير، باعتباره أولى بالنقد، فالشجب حتى لو لم يكن أكثر الإحتمالات ترجيحا.
ولابد من التنبيه – ابتداء – إلى ان ثمة فرقا جوهريا بين الدين كما انزله رب العالمين: هداية للبشر، وتأصيلا للحق، وإنارة للعقل، وإرساء للعدل، وبين الدين كما انتهى بعضه إليه: صفقة خائفة، واستسلام ظاهر، وقشرة هشة.
ثم نتذكر أيضا انه كان رسول الله خلقه القرآن وحين يسير النبى فى سلوكه اليومى مثلا حيا لما أوحى اليه، فإن معنى ذلك ان الدين قد أصبح معلما مميزا ظاهرا فى الخلق والمعاملة، وليس مجرد اعلان عقيدة أو مناقشة وجهات نظر.
وبالنظر فى ظاهرة الغش الجماعى – كما وصلت إلى وعيى = تصورت ان الدين قد اسيئ استعماله بشكل خطير، حتى كاد يصبح مبررا لعكس ما أنزل له. ذلك انه إذا صح الإحتمال الثالث السالف الذكر – بعضه أوكله – فلا بد أنه قدحدث انفصام حقيقى بين القيم الدينية والقيم الأخلاقية، وكأننا نسينا أنه إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وكان بعض المتحمسين المتعجلين قد اكتفوا بالملبس والزبيبة وتوظيف الأموال والدعوة الى تطبيق الشريعة فورا، اكتفوابذلك عن الموقف الخلقى والجوهر الحضارى لما هو دين، الذى هو حقيقة الإيمان وطريق التكامل، حيث: الكلمة مسئولية، والشرف الداخلى هو دفة الأخلاق، والعمل هو خير الناس، والأمانة هى يقظة الوعى، وكل ذلك يجعل قيمة العدل على صعوبتها، هى محور الوجود البشرى والإلهى، بما ل ينفع معه تقريب أو تسهيل أو تشهيل، نعم، لا يبدو فى الممارسة الفعلية ان ما يسم يبالتيار الدينى قد اهتم بالقدر الكافى بهذا البعد الحضارى والخلقى لما هو دين، ومن ثم فقد أسئ استعملا الدين لدرجة ان بعضهم قد يبرر هذه الظاهرة الكارثة الغش بتعبيرات دالة لما فيها من محتوى دينى بشكل أو بآخر.
ولتوضيح ذلك، فسوف أورد بعض أمثلة مباشرة، اعتذر عن طبيعتها الشخصية لكننى وجدت ذلك أقرب الى الواقع الحى، وبالتالى، قد يكون أصدق تصويرا:
* قالت مراقبة لإبنتى قى أول امتحان شهادة عامة (الإبتدائية) تحضره فى غير مدرستها: ياشيخه ماتبقيش انانية، حرام عليكى، ساعدى اللى جنبك ينوبك ثواب.
* أبلغنى أحدهم انه سمع بأذنه مراقبا لزميله بعد أن أتم إملاء الإمتحان بأنه: كثر الله خيرك، وربنا يبقيه لك ولأولادك.. ويوقف لهم أولاد الحلال أمثالك
وغير ذلك كثير مما يدل على أن هذا السلوك لم يعد مسموحا به فحسب، بل لقد أصبح مطلوبا، وكأنه فضيلة يثاب عليها.
ومثل ذلك يحدث فى مجالات أخرى مثل ان تطلب زميلة أو زميل منى أو من غيرى إضافة اسمها أو اسمه، الى بحث علمى لله، وكأن ذلك صدقة جارية.. إلخ.
ثم انتقل خطوة تالية فى محاولة لتفسير كيف انتهينا إلى نهذه النهاية الناقضة اكل ما هو دين حق، فأحاول أن أقرأ لغة تبريرية كامنة فى هذا السلوك، إن لمتكن على مستوى الشعور فهى لابد قابعة جاهزة على مستوى اللاشعور.
هل نقبل هذا التفسير ؟
وسوف تكون استشهاداتى شبه اسلامية أملا فى زن أساهم فى تنقية دينى من سوء الفهم المحتمل هذا:
1- إن هذا الغش (التعاونى) لم يرد فيه نص وان الذى يستشهد بالحديث الشريف من غشنا (غش امتى) فليس منا لا يحسن فهم الحديث أو تفسيره، اأنه حديث قيل فى البيع والشراء، وهذا ليس بيعاولا شراء، ثم من قال ان هذا التعاون هو غش أصلا لأمة المسلمين، إنه تعاون واجب ورحمة بأولاد المسلمين (وغير المسلمين) ، وكله بثوابه.
2- بما ان الإثم هو ما حاك فى الصدر وخشيت ان يطلع عليه الناس، فهذا الذى يجرى (التعاون !!) إنما يجرى جهارا نهارا، ويعلن فى الميكروفونات، ولا نخشى أحدا ان يطلع عليه، ناسا أو حكومة، وبالتالى فهو ليس إثما أصلا.
3- اننا لا نسرق ملكا خاصا بأحد، فهذه المعلومات:
ا- إما انها لا صاحب لها، فهى مثل الكلأ والماء ن، يغترف منها من يشاء كيف يشاء ن، فلماذا سوء التأويل هذا ؟
ب- أو انها ملك الدولة، وثمة فتوى قديمة والعياذ بالله تقول إن سارق المال العام لاحد عليه، لأن له نصيبا فيما سرق، وبالقياس، فهذه المعلومات (المقتبسة) هى حلال لمن يأخذها.. إلخ.
ج- أو ان هذه معلومات غريبة المصدر (أو حتى كافرة) والإستيلاء عليها هو نوع من الغنائم، أو حتى هو سبى لبنات أفكارهم، ونحن فى حالة حرب مع الغرنجة، فمعلوماتهم حلال لمن ينهبها !! د- أو ان هذه المعلومات هابطة تافهة لا نفع، ولا سرقة إلا لذى قيمة، فنحن لا ترتكب إثما بأخذ هذه القشور الزائفة.
وهذا هو أقرب التبريرات قبولا بالنسبة لى ن، بعد الإستغفار.
4- ان هذا التعاون (الغش) يحقق مفعة للمسلمين (وغير المسلمين) ولا يضر أحدا (!!) فلا ضرر ولا ضرار.
5- ثم إن بعدا آخر قد ظهر فى بعض كليات الجامعة، حين أشيع ان ثمة تفرقة بين الطلبة بحسب دينهم، فتشيع كل أهل دين لفريقه، من باب الرد، أو الوقاية.. ثم تفاقم الأمر حتى أصبح هذا التعاون هو نوع من العدل التعويضى بشكل أو بآخر !!
الدين يرفض هذه التبريرات
ثم أسارع لأؤكد أن كل هذه التبريرات ليست من الدين فى شئ، وإنما هى أخطاء سوء فهمه وسوء استعماله، وقد يكون مناسبا أن أعرض صورتين (شخصيتين أيضا 0 بعد الإعتذار) أرى انهما تقعان فى الجانب المقابل، وأنهما أحق ان يمثلا البعد الأخلاقى للدين الحضارى، حتى ولو لم نعلق فوقهما لا فتة دينية.
* أكلف بعض طلبتى – على مستوى الركتوراه خاصة – ان يعوموا بالإجابة على امتحان تجربة فى خلال وقت محدد، فى منزلهم، والكتاب فى متناولهم، ولا أحد معهم، ونحضرون لى نموذج الإجابة، وأصدقهم، ونتحاور، ويتأكد حسن ظنى ن، ونعاود المحاولة أكثر التزاما وأكثر ثوابا، وتنجح التجربة تماما.
* يمر أحد مدرسى ابنى (طالب بالجامعة) عليه أثناء الإمتحان، وهو يعرفه ويعرف مستواه، فيجده مرتبكا أمام جزئية من سؤال بذاتها، وهو (المدرس) يعرف مستوى الطالب تماما، فيشير عليه بما يذكره بها لثقته بمستواه، فيقع اتنى فى ضيق ليس له حل، فإذا كتب ماسمع فقد غش، وإذا حرم نفسه من هذه الفرصة ظلم نفسه إذ لعله كان سيتذكرها بنفسه، ويشتد الصراع، ويخرج ابنى – علم الله – وقد أبى أن يكتب ماسمع، ولا يصدقه أحد، لكنه فى نهاية النهاية يرضى بما فعل، فأدعو له الله أن يجزيه خيرا كثيرا.
ولا أظن أن هذين المثالين هم الشذوذ (إلا من باب الندرة) بل إنى اعتقد انه إذا انتصر الدين الحق، لا الدين الشكل، فلسوف يكون مثل ذلك هو الطبيعى، والبديهى، والفطرى، بلا أدنى تفكير أو خطابة أو اثبات.
إذن فالدين براء مماقد يفسرونه به، أو يستعملونه له، وهذه التبريرات يعرف الله زيفها، وتعرف فطرتنا السليمة كذبها، وخليق بنا ان نتجه الى تنمية عمق التيار الدينى: موقفا حضاريا أخلاقيا، وسلوكا فرديا ملتزما، ثم يعم الجميع، وبهذا فقط يمكن ان نقوم حياتنا على كل مستوى، خاصة بالنسبة للمجالات الأخفى والأخطر، حيث الغش يصعب تحديده رغم التأكد من وجوده.
وقد آن الأوان أن نتقدم خطوة أخرى، تليها خطوات، لتعرية صور الغش الأخفى، بادذين بالشبهات الحائمة حول حياتنا التعليمية والعلمية، نعم لابد من المبادرة الآن وليس بعد، حتى لا نفاجأ إن آجلا أو عاجلا بما لا يمكن تداركه أيضا، إذن فحديثنا القادم يطرق مجالات تبدو مقدسة، ولكن ما باليد حيلة ذلك انه ماخفى كان أعظم.