الوفد: 27/6/2002
صبرُ المصرى!!
بعد أن أنهيت مقالى السابق “..واحد ديمقراطية وصلّحها، شعرت أنه المقال الأخير فى هذه السلسلة من محاولات النقد والتنبيه والاقتراح والمشاركة، حتى أننى كتبت للمسئولين في هذه الصحيفة المضياف بهذا الخاطر ، وأننى لا أعرف له سببا. هل قلت كل ما عندي؟ هل تسرّب اليأس إلى قلمي قبل أن أقرر أنا فى ذلك أمرا؟ فعلا لم أكن ساعتها أدرى لماذا، ولا أنا صدّقت نفسى أننى أستطيع، بدليل أننى أكتب هذا المقال. كيف أوفِّـق بين يقين اللاجدوى، وقهر الالـتزام؟ هذا الشعور قد مرّ علىّ عدة مرات سابقة، الشعور بأن ما قلته يكفى، وأن عندى من أسباب ما أشغل به وقتى ما قد يكون أبقى وأنفع. على مدى أكثر من عام
فى إفاقة ضرورية – ليست جديدة على أى حال- وجدت أن مجرد الاستمرار فى مثل هذه الكتابات قد يكون تورطا بالقصور الذاتى، وأن ما أكتب، وما يكتب غيرى أفضل منى، قد يكون نوعا من الفضفضة لا أكثر. تبيّنت أيضا-خصوصا فى المقال الأخير- أننى أُغضب الجميع : التنويريين والإسلاميين، والعلمانيين، والمسئولين دون استثناء، حتى الحزبيين شعرت أننى أكاد أثبط سعيهم بالتذكرة باستحالة الزعم القائل بتداول السلطة. ليس عندى مانع مادمت أقول ما أرى، أخطئ وأصيب، لكن ما فائدة أن نظل ننعى حالنا، ونذكر أنفسنا أن الخير راح، والغش زاد، والقيم اهتزت، والفن بهت، والفساد استشرى، والوفاء قل، والحكومة “طناش”، وخلاص؟
الجانب الآخر للقضية
تذكرت فجأة أن ما نعانى منه ليس جديدا تماما، بما فى ذلك ما ندعيه من انهيار القيم ، وضياع التعاون، وغلبة الوصولية، تذكرت بردية كتبها المصرى القديم يعدد فيها مثل ما آلت حالنا إليه الآن بالحرف الواحد، تذكرت فى نفس الوقت أن كتابته تلك لم تمنع ناسه من مواصلة العمل طول الوقت . بل لعلها حفزتهم. لم يتوقف المصرى عن إسهامه الحضارى وإن اختفى المستوى الظاهر. إن وعى هذا الشعب الكريم هو الذى ينبهنا ألا يحول استشراء الفساد وصعوبة إزالته دون مواصلة النقد والكشف، ينبهنا أن علينا أن نقول ما نرى ولا ننتظر النتائج العاجلة. إنها إن لم تأت الآن، فهى سوف تأتى حتما. يقول أهلنا الطيبون ” إعمل الطيب وارميه فى البحر” هذا الطيب قد يكون عملا طيب ، وقد تكون كلمة طيبة تحرّك الوعى الآن ، أو حين يحين أوان تفعيلها خيرا لأصحابها. يقول الحق سبحانه وتعالى فى مثل ذلك ما أنسانا استعجالنا إياه. يذكرنا سبحانه كيف ضرب مثلا “… كلمةً طيبة كشجرة طيبة ، أصلها ثابت وفرعها فى السماء، تؤتى أكلها كل حين بإذن ربّها” فنتعلم كيف نواصل ضرب الأمثال ونحن ننتظر آملين فى أن يأذن ربنا لها أن تؤتى أكلها كل حين. يبدو أن المصرى حتى حين ييأس ويعلن يأسه المرة تلو الأخرى لا يفعل ذلك ليبرر توقفه، ولكن ليصبّر نفسه على الاستمرار، مثل أغانى العمل عندنا حتى الآن.
البردية التى أشرت إليها حالا هى “بردية برلين” والعنوان: “شجار بين إنسان سئم الحياة وبين روحه”. حين ننصت لما دبّج هذا المصرى القديم وتركه لنا نكاد نتصور أنه إنما يصف كل السلبيات الحالية، لكننا لا نشعر مع تكرار ذكرها أن هذا الإنسان قد سئم الحياة، (كما جاء فى العنوان) كل هذه المرارة التى راح يعدد أسبابها لم تجعله يصمت، ولم تبرر له أن ينسحب هربا، أو أن ينتحر، إنه وهو يردد أنه لا فائدة من الكلام. لا يكف عن الكلام، لو صحّ ما ذكروه عن سعد باشا زغلول (وهو غير صحيح فى الأغلب) من أنه قال قبل رحيله “مفيش فايدة” فلا بد أنه كان يريد الحفز لا التسليم. هذا هو نفس ما كان يريده المصرى القديم حين كتب ما كتب وتركه لنا مسجلا، قال: ” .. لمن أتكلم اليوم ؟ الناس شرهون. وكل إنسان يغتال متاع جاره. لمن أتكلم اليوم؟ فالرجل المهذب مات والصفيق الوجه يذهب فى كل مكان لمن أتكلم اليوم؟ فإن من كان ذو وجه طلق أصبح خبيثا وأصبح الخير ممقوتا فى كل مكان….إلخ.
إن المصرى حين يصف أحوال ناسه حتى يبدو يائسا من أى إصلاح، لايفعل ذلك يأسا أو داعيا إلى اليأس، بل إنه يصرخ ألما منتظرا الفرج وهو يتصور أن الكلمات تتجمع لتصير وقودا قادرا أن يحرّك وعى الناس وفعلهم، يوما ما.
هذا المصرى نفسه هو الذى واصل حياته متحديا يصنع الحضارة، ويصدّرها، ويطيع فراعينه حتى يستوعبهم أو يتجاوزهم، ويتحمل مستعمريه ويمصّرهم، ويصبر على الحاكم الظالم حتى يرحل أو تأتى له مصيبه تأخذه. لا أظن أن صبر هذا المصرى بكل هذه الرؤية كان استسلاما، أو خنوعا، أو هزيمة داخلية، وإلا كيف استمر يصنع الحضارة، ويضع الحجر فوق الحجر حتى لو كان لا يبنى إلا قبرا لفرعون. إن الذى بقى هو القبر (الهرم) الذى صنعه الناس، لا جثة الفرعون الذى أراد الخلود فسخّر الناس يبنون له قبرا.
أرجوزة/حدوتة سياسية
الذى يتابع النشاط السياسى الجارى حاليا حول مصيبتنا السوداء لا بد أن يلاحظ كيف يحاولون أن يضحكوا علينا بالتخابث باستعمال لغة فاسدة مضللة، وهم يصورون أنفسهم وكأنهم قد انقسموا إلى قسمين مختلفين أو أكثر، هذا الحديث عن الحمائم والصقور- مثلا – ، سواء فى إسرائيل أو فى الإدارة الأمريكية هو خدعة مفضوحة . لا فرق إلا فى التوقيت أو اللهجة أو القدرة على المناورة. فى نفس الوقت نحن لا نمارس فى مواجهة ما يجرى إلا فيضا من التصريحات، والتلويحات والبيانات والقرارات الواعدة ، دون أن نملك أدوات التنفيذ أو القدرة على التفعيل.
هل تصدّق أنه توجد أرجوزة/حدوتة مصرية تنبه إلى هذا وذاك معا؟ هى أرجوزة شفاهية قديمة، إنها تجسّد خدعة تقسيم جماعات العدو إلى فرقاء، كما تعرّى ما نقوم به من تصريحات مع وقف التنفيذ. إن ما يلوح به السيد شارون والسيد بوش والسادة قمم أوربا من مؤتمر جديد هو ليس إلا دعوة إلى تضييع الوقت فى مزيد من حوار الطرشان. نحن ننتقل من الفترة الانتقالية إلى المفاوضات التمهيدية، ومن الترتيبات الأمنية إلى التسهيلات التفاوضية، ومن الإجراءات الاستعدادية إلى الاستعدادات الإجرائية، ليكون هذا هو هدفنا طول العمر كل الوقت.
شرح تمهيدى
لأن الأرجوزة قديمة (منذ أن كانت العملة تلاتة فضة لا ثلاثة قروش ) ولأنها مهجورة وشفاهية، لابد من تقدمة شارحة : الأرجوزة تحكى عن ثلاثة من الحِبش (حين تضيق السبل بالمصرى يزيح سخريته إلى رمز خارجى، الأحباش هنا، مثلما يلعن أحدنا اليوم الحكومة بأنها كذا أو بنت كيت، فإذا سئل أجاب أننى أقصد حكومة بوركينا فاسو) هؤلاء الأحباش كانوا واقفين على تل لبش (اللبش: ربما إشارة إلى لبشة القصب، وقد يكون التل رمزا للوطن) ثم تصنفهم الأرجوزة تصنيفها الساخر الذى يعرى التلاعب بالألفاظ، وخدعة تمثيلية الفرقاء، ، لتنتهى الأرجوزة بأن يعلن كل واحد من الحراس ما يناقض عجزه وهم يهمون بالهرب ويطمعون فى الغنائم فى نفس الوقت، تقول الأرجوزة القديمة بالنص ما يلى:
كانْ فيهْ تلاتـَـهْ حِـبْـشْ
واقفين على تــل لِــبْشْ
اتْـنِينْ عُمْـى، وِوَاحِدْ ما بـيْشُوفشْ
إللي ما بيشٌوفشِ لَــقَى تلاتهْ فضّــةْ
اثنــين ما سحـِيــنْ، وِوَاحِدْ ما بِيْروحشْ
إللى ما بِيْروحشْ اشتروا بيه تلاتْ قراريط،
اثنين باروا، وِوَاحِدْ ما طلعشْ
إللى ماطلعش وقّـفوا عليه أربعْ حـُـرّاس
أطرشْ، وأعمى، ومكسَّح، وعِـريان.
الأطرش قال: “حسّ خيلٍ دبى”
الأعمى قال: “بايِنّـهُـم سبعة ثمانية”
المكسح قال: ياللا بْنَا نجرى
العريان قال: وكل إللى تجيبوه هاتوه فى حجرى
نـلاحظ فى نهاية الحدوتة/ الأرجوزة أن الأطرش هو الذى سمع دبيب وقع أقدام خيل العدو، وأن الأعمى هو الذى رآهم حتى عدّهم عدّا، وأن الكسيح هو الذى أشار عليهم بالعدو هربا، أما العريان فهو يدعوهم أن يضعوا مكاسبهم فى حجره !!!! أليس هذا ما يفعله زعماؤنا طول الوقت؟
من فرط ما تأثرتُ بما أرادته هذه الأرجوزة قمت بتحديثها وأنا أتابع مؤتمرات ومفاوضات تحصيل الحاصل، كان ذلك فى مجلة الإنسان والتطور منذ حوالى ربع قرن (أكتوبر العدد 4/1980) كتبت ما عدّلته مؤخرا إلى ما يلى:
كان فيه ثلاثةْ هِبْل، ماشيين عالحبْل
اتنين خابُوا، وِوَاحِدْ مانفعشْ.
إللى مانفعش قال تلات خُطَبْ
اتنين أى كلام ، وواحدة ما مِشْيِتْـشْ.
إللى ما ما مِشْيِتْـشْ سجّلوها على تلات شرايط:
اتنين اتمسحوا وواحد ما دارْشْ.
اللى ما دارشى أعلـن تلات قرارات :
اتنين اتأجّلوا، وِوَاحِدْ ما نْفـِـعـشْ.
كنت أحسب أننا بعد ربع قرن قد تغيرنا. وإذا بى أتذكر نفس الموقف الدائرى ونحن نساق مكرهين، وعلى استحياء إلى ذلك “المؤتمر الجديد”، فأكملت الآن:
كان فيه تلاته لـَبَـطْ، سايقين الـعـبطْ.
اتنين قتّالين قٌـتَـلَى، وواحد ما تابشْ
اللى ما تابش شار بتلاتْ مؤتمراتْ :
اتنين باظوا، وواحد ما نـْفِعـْشْ
إللى ما نفعشِى عمل تلات لجانْ :
اتنين اتلـغُـوا، وواحدةْ ما اجتَـمَعِـتشْ.
إللى ما اجتمعتش وافقت على تحرير تلات مناطقْ :
اتنين زى ما همّه، وواحدة ما اتحررتشْ.
إللى ما اتحررتشِ قرروا لها تلات مراحلْ:
اتنين مالهومشى آخرْ، وواحدة ما بدأتشْ.
أليس هذا هو التهريج الحاصل بالله عليكم حول فلسطين وفى عموم البلاد العربية ؟ نحن لا نتعلم.
تاريخ قديم
إذا كان الوعى الشعبى، والتاريخ المصرى القديم ، قد عرّى هذه المناورات وذلك التزييف منذ هذا القدم، فماذا يمكن أن نضيف نحن بما نكتب الآن؟ هل تصدّق أن مصريا قديما وصف حال الفلاح المصرى، وخرابه الاقتصادى، وظلم جباية الضرائب منه من المنبع، وصفا يصلح تماما لتقرير ما يجرى الآن. تعالوا نقرأ معا من بردية أنسطاسى ، وبردية سالييه، وما بعدهما، ذلك الوصف الذى يكاد ينطبق على حال فلاحنا اليوم بالحرف الواحد، جاء فىها ما يلى:
“…ألم تفكر فى حال الفلاح عندما يسجل المحصول (أى عندما تخصم منه الضرائب) لقد أكل الدود نصف القمح، والتهم فرس النهر ما تبقى، وامتلأت الحقول بالفيران، ونزلت فيها أسراب الجراد. وها هو الكاتب يرسو على الشاطئ ليسجل المحصول (ليحصل على الضرائب) ومعه العمال يحملون عصيا، والزنوج الحراس يحملون جريد النخل ويقولون “أحضِـر القمح” و”لا قمح هناك”
هل هناك فرق بين هذا المنظر وبين ما قاله بيرم التونسى فى قصيدته الرائعة “المجلس البلدى” ، وكأنه ينبئنا بضريبة المبيعات اليوم، يقول بيرم : “”إذا الرغيف أتى فالنصف آكُلُه، والنصف أتركُهُ للمجلس البلدى”، “وما كسوت عيالى فى الشتاِء وََلاَ، فى الصيف إلا كسوْتُ المجلس البلدى” إلى أن قال: “يا بائَع الفجلِ بالمليمِ واحدةً، كمْ للعيالِ وكمْ للمجلس البلدى”
ما معنى تسجيل كل ذلك ؟ معناه ألا نكف عن القول، أو عن الأمل مهما اسودّت الدنيا. معناه ألا ننتظر نتاج ما نقول فى وقت بذاته، فإذا لم نجده انسحبنا وصمتنا، وكأننا راضون عمّا يجرى. معناه أن هذا الشعب يدرك كل ما يجرى حوله طول عمره، وهو يعلن موقفه، ويسخر ، ويعيد ويزيد، ولا يتردد فى إعلان ما يعرف . فى نفس الوقت إننا نمارس دون كلل ما نعرف أنه صحيح، دون أن يعجّزه ما يجرى عن مواصلة ما ينبغى. (أو هذا ما لا بد منه ).
د.أحمد مستجير
هذا مصرى معاصر، يفعل ذلك تماما. حين نال أ.د.أحمد مستجير جائزة مبارك مؤخرا فرحت لمصر وللجائزة، أكثر مما فرحت له. حين أبلغته ذلك (وأنا أروّض حقدي الطيب) اكتشفت أننى فرحت به أكثر مما فرحت له. برغم معرفتى أغلب مواهب هذا المصرى: عالما ومترجما ومبدعا، إلا أننى تصورت أن الجائزة الحقيقية التى نالها هذا الإنسان الجميل هو ما اكتشفه من إمكان استنبات قمح يروى بماء البحر المالح فننتج خبزنا ونحفظ كرامتنا. تذكرت مقاله فى مجلة “العربى الكويتية، وهو يحكى فيه كيف جاءته الفكرة وهو فى الطريق الصحراوى، وكيف تعهدها، ثم جربها ثم نجحت. لم يعقه ما يعرفه عن حالنا المتدهور، ولا ما ييئسه من صلاحنا ، ولا ما يصله من خيبتنا وقلة ديمقراطيتنا، لـم ييئسه أى من ذلك. راح يواصل إبداعه صابرا أمِلا طول الوقت . هذا مصرى لا يكف عن الرؤية، وعن الألم معا. مع أن الأرجح أنهم لم ينفذوا مشروعه على نطاق واسع.
سمعت عن تجربة أخرى رائدة وموازية لم يبلغنى منها إلا خطوطها العريضة، تجربة قامت بها مصرية تعشق أرضها وتاريخ أجدادها، هى د. زينب الديب، وبعد أن بدأت التجربة تُحقق على أرض الواقع ما تصورته صاحبتها على الورق ، توقفت وحوربت حتى يقال أن صاحبة المحاولة تعاق، وتطارد، وأنها فى خطر إلخ. مهما كانت الإعاقة ، ومهما بلغ الإنكار، فإن المصرى لا ييأس ولا يتراجع.
إذن ماذا؟
إذن لن نكف عن الكتابة إذا كان عندنا ما نضيفه، ولن نكف عن الكشف حتى لو لم يسمع لنا أحد، ولن يكف من يستطيع منا عن الإبداع حتى لو ظل وحده .
نحن نواصل الحياة برغم كل ما نرى ، وما نعلم، وما يحيط بنا، وما يحاك لنا. نقول ما نعتقد، ونفعل ما نستطيع، وهو ليس قليلا.
حتى لو لم يبد أن أحدا منهم يسمعنا ، فإن الكلمات/الفعل /الإبداع سوف تتجمع ليس فى مصر وحدها ولكن من كل أنحاء العالم لتؤتى أكلها كل حين بإذن ربها.
أصبح ذلك التعاون العالمى ممكنا بين كل الناس. العامّة يستغنون الآن عن وصاية المؤسسات والسلطات بفضل تكنولوجيا التواصل ليتحاوروا، ويتعاونوا، ويبدعوا مباشرة دون استئذان.
ولسوف نصلح ما أفسده الطغاة عبر التاريخ.!!!!